محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

الوجه الثاني

قد استدلّ بعضهم على أنّ الأمر بشيء يقتضي النهي عن ضدّه : بأنّ وجود الضد ملازم لترك الضدّ الآخر ، والمتلازمان لا يمكن اختلافهما في الحكم بأن يكون أحدهما واجباً والآخر محرّماً ، وعليه فإذا كان أحد الضدّين واجباً فلا محالة يكون ترك الآخر أيضاً واجباً ، وإلاّ لكان المتلازمان مختلفين في الحكم وهو غير جائز.

أقول : هذا الدليل أيضاً مركب من مقدمتين :

الاولى : صغرى القياس ، وهي ثبوت الملازمة بين وجود شيء وعدم ضدّه.

الثانية : كبراه وهي عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

أمّا المقدمة الاولى : فلا إشكال فيها.

وأمّا المقدمة الثانية : فقد ذكروا أنّ المتلازمين لا بدّ أن يكونا متوافقين في الحكم ، فإذا كانت الازالة مثلاً واجبة فترك الصلاة الذي هو ملازم لفعل الازالة لا محالة يكون واجباً ، لأنّه يمتنع أن يكون محرّماً لاستلزامه التكليف بالمحال ، ولا فرق في ذلك بين الضدّين اللّذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شاكلهما ، والضدّين اللّذين لهما ثالث كالسواد والبياض والقيام والجلوس ونحوهما ، غاية الأمر أنّه على الفرض الأوّل كان الاستلزام من الطرفين ، فكما أنّ وجود كل منهما يستلزم عدم الآخر ، كذلك عدم كل منهما يستلزم وجود الآخر. وأمّا على الفرض الثاني فوجود كل واحد منهما يستلزم عدم الآخر دون العكس ، إذ يمكن انتفاؤهما معاً ، وذلك لأنّ ملاك دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده

٣٢١

هو استلزام وجود ذلك الشيء لعدم ضدّه ، وهو أمر يشترك فيه جميع الأضداد. وأمّا استلزام عدم الشيء لوجود ضدّه فهو وإن كان مختصاً بالضدّين اللذين لا ثالث لهما ، إلاّ أنّه أجنبي عن ملاك الدلالة تماماً.

وعلى ذلك يظهر أنّه لا وجه لما يراه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من التفرقة بين ما إذا لم يكن للضدين ثالث ، وما إذا كان لهما ثالث ، فسلّم الدلالة في الفرض الأوّل دون الثاني ، فان ملاك الدلالة كما عرفت واحد ، إذن فالتفصيل في غير موضعه كما سنتعرض إلى ذلك إن شاء الله تعالى.

والجواب عن ذلك : أنّ الذي لايمكن الالتزام به هو كون المتلازمين مختلفين في الحكم ، بأن يكون أحدهما متعلقاً للأمر ، والآخر متعلقاً للنهي ، لاستلزام ذلك التكليف بما لا يطاق ، فلا يمكن أن يأمر الشارع باستقبال القبلة مثلاً في بلدنا هذا أو ما يقربه من البلاد في الطول والعرض ، وينهى عن استدبار الجدي ، لأنّ هذا تكليف بغير المقدور ، بل لا يمكن النهي التنزيهي عنه لكونه لغواً ، فلا يترتب عليه أيّ أثر بعد فرض وجوب الاستقبال. وأمّا لزوم كونهما محكومين بحكم واحد ومتوافقين فيه فلا موجب له أصلاً ، فانّ المحذور المتقدم ـ وهو لزوم التكليف بما لا يطاق ـ كما يندفع بالالتزام بكونهما متوافقين في الحكم ، كذلك يندفع بكون أحدهما غير محكوم بحكم من الأحكام. وعليه فلا مقتضي لدفع المحذور بالفرض الأوّل دون الفرض الثاني ، فانّ الالتزام بالتوافق في الحكم يحتاج إلى دليل يدل عليه ، ولا دليل في المقام ، بل قام الدليل على خلافه ، وذلك لأنّ الشارع إذا أمر بأحد المتلازمين فالأمر بالملازم الآخر لغو ، فإذا أمر باستقبال القبلة مثلاً ، فالأمر باستدبار الجدي ، أو كون اليمين على طرف المغرب واليسار على طرف المشرق بلا فائدة ، فان تلك الامور من ملازمات وجود

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٨.

٣٢٢

المأمور به في الخارج ، سواء أكانت متعلقة للأمر أم لم تكن ، وما كان كذلك فلا يمكن تعلّق الأمر به.

نعم ، لو توقف ترك الحرام خارجاً على الاتيان بفعل ما ، للملازمة بين ترك هذا الفعل والوقوع في الحرام وجب الاتيان به عقلاً ، وأمّا شرعاً فلا ، لعدم الدليل على سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الخارجية. ونظير ذلك ما تقدّم في بحث مقدمة الواجب (١) من أنّ الاتيان بالمقدمة إذا كان علة تامة للوقوع في الحرام من دون أن يتوسط بين المقدمة وذيها إرادة واختيار للفاعل ، وجب تركها عقلاً لا شرعاً ، لعدم الدليل على حرمة تلك المقدمة لا حرمة نفسية ولا حرمة غيرية.

أمّا الحرمة النفسية ، فلأنّ المتصف بها إنّما هو المسبب ، لأنّه مقدور للمكلف بواسطة القدرة على مقدمته ، ومن الظاهر أنّه لا فرق في المقدور بين كونه بلا واسطة أو معها. ووجوب وجوده وضرورته من قبل الاتيان بمقدمته لا يضر بتعلق التكليف به ، لأنّه وجوب بالاختيار فلا ينافي الاختيار. إذن لا وجه لصرف النهي المتعلق بالمعلول إلى علته كما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) بدعوى أنّ العلة مقدورة دون المعلول ، ضرورة أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، والمعلول وإن لم يكن مقدوراً ابتداءً ، إلاّ أنّه مقدور بواسطة القدرة على علته وهذا يكفي في صحة تعلّق النهي به.

وأمّا الحرمة الغيرية ، فقد تقدّم (٣) أنّه لا دليل عليها ، لأنّ ثبوتها يبتني على ثبوت الملازمة ، وقد سبق أنّ الملازمة لم تثبت.

__________________

(١) في ص ٢٨٤.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٦٢.

(٣) في ص ٢٨٤.

٣٢٣

وبتعبير آخر : لا شبهة في أنّ مراد القائل بأنّ المتلازمين لا بدّ أن يكونا متوافقين في الحكم ، ليس توافقهما في الارادة بمعنى الشوق المؤكد ، ولا بمعنى إعمال القدرة ، فانّ الارادة بالمعنى الأوّل من الصفات النفسانية ، وليست من سنخ الأحكام في شيء ، وبالمعنى الثاني وهو إعمال القدرة في شيء يستحيل أن يتعلق بفعل الغير ، لأنّه ليس واقعاً تحت اختيار المولى وإرادته ، بل مراده من ذلك أنّ اعتبار المولى أحد المتلازمين في ذمة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز يستلزم اعتبار الآخر في ذمته أيضاً.

ولكن من الواضح جداً أنّه لا ملازمة بين الاعتبارين أصلاً. مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الاعتبار الثاني لغو.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر : أنّ الأمر كذلك في النقيضين ، والمتقابلين بتقابل العدم والملكة كالتكلم والسكوت ، فان اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف لا يستلزم النهي عن نقيضه واعتبار عدمه ، كما أنّ اعتبار الملكة في ذمة المكلف لا يستلزم النهي عن عدمها ، فالأمر بالازالة مثلاً كما لا يستلزم النهي عن الصلاة المضادة لها ، كذلك لا يستلزم النهي عن نقيضها وهو العدم البديل لها ، ضرورة أنّ المتفاهم منه عرفاً ليس إلاّوجوب الازالة في الخارج ، لا حرمة تركها ، ولذلك قلنا إنّ كل حكم شرعي متعلق بشيء لا ينحل إلى حكمين : أحدهما متعلق به ، والآخر بنقيضه.

أو فقل : إنّ النهي عن أحد النقيضين مع الأمر بالنقيض الآخر لغو فلا يترتب عليه أثر.

وبذلك يظهر فساد ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الالتزام بأنّ الأمر بأحد النقيضين يستلزم النهي عن الآخر باللزوم البيّن بالمعنى الأخص. والأمر بأحد المتقابلين بتقابل العدم والملكة كالتكلم والسكوت مثلاً يستلزم

٣٢٤

النهي عن الآخر باللزوم البيّن بالمعنى الأخص أيضاً ، بل الأمر بأحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون يستلزم النهي عن الضدّ الآخر ولكن باللزوم البيّن بالمعنى الأعم.

ووجه الظهور هو : ما قد سبق من أنّه لا دلالة على الملازمة في شيء من تلك الموارد حتّى باللزوم البيّن بالمعنى الأعم ، فضلاً عن البيّن بالمعنى الأخص ، وأنّ الأمر لا يدل إلاّعلى اعتبار متعلقه في ذمة المكلف ، ولا يدل على النهي عن تركه ، بل قد عرفت أنّ النهي عنه لغو.

أضف إلى ذلك : ما ذكرناه سابقاً من أنّ ملاك الدلالة في المقام هو استلزام فعل الضد لترك الضدّ الآخر ، وهو أمر مشترك فيه بين الجميع ، فلا يختص بالنقيضين ولا بالمتقابلين بتقابل العدم والملكة ولا بالضدين اللذين لا ثالث لهما ، بل يعمّ الضدّين اللّذين لهما ثالث أيضاً ، لأنّ فعل أحدهما يستلزم ترك الآخر لا محالة. وأمّا استلزام ترك الشيء لفعل ضدّه فهو أجنبي عن ملاك الدلالة تماماً.

فالنتيجة : أنّ ما هو ملاك الدلالة على تقدير تسليمه يشترك فيه الجميع ، ولا يختص بغير الضدّين اللّذين لهما ثالث. فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفرقة لا يرجع إلى معنى محصّل.

٣٢٥

شبهة الكعبي بانتفاء المباح

وهذه الشبهة ترتكز على ركيزتين :

الاولى : أنّ ترك الحرام في الخارج يتوقف على فعل من الأفعال الوجودية ، لاستحالة خلوّ المكلف من فعلٍ ما ، وكونٍ من الأكوان الاختيارية ، وعليه فإذا لم يشتغل بغير الحرام وقع في الحرام لا محالة. إذن كان الاشتغال بغير الحرام واجباً مقدمة لترك الحرام.

الثانية : أنّ الفعل الاختياري يحتاج في حدوثه وبقائه إلى المؤثر ، فلا يستغني الحادث في بقائه عن المؤثر كما لا يستغني عنه في حدوثه ، فالنتيجة على ضوء هاتين الركيزتين هي أنّ ترك الحرام حدوثاً وبقاءً متوقف على إيجاد غيره من الأفعال الاختيارية في الخارج. وبما أنّ إيجاده مقدمة لترك الحرام فيكون واجباً بوجوب مقدّمي ، إذن لا يمكن فرض مباح في الخارج. وهذا معنى القول بانتفاء المباح وانحصار الأفعال بالواجب والحرام.

ويرد عليه : أنّ الركيزة الثانية وإن كانت في غاية الصحة والمتانة كما سبق ، إلاّ أنّ الاولى منهما واضحة البطلان ، والوجه في ذلك : هو أنّ ما ذكره الكعبي في هذه الركيزة إمّا مبتنٍ على مانعية وجود أحد الضدّين عن الضدّ الآخر ، بدعوى أنّ فعل الحرام بما أنّه مضاد لغيره من الأفعال الوجودية ، فلا محالة يتوقف تركه على فعل ما من تلك الأفعال من باب توقف عدم الشيء على وجود مانعه.

وإمّا مبتنٍ على دعوى الملازمة بين حرمة شيء ووجوب ضدّه.

ولكن كلا الأمرين واضح الفساد.

٣٢٦

أمّا الأمر الأوّل : فقد تقدمت استحالة مانعية وجود أحد الضدّين عن الضدّ الآخر بصورة مفصّلة ، فلا يكون عدم الضد مستنداً إلى وجود ضدّه ، بل هو إما مستند إلى عدم مقتضيه ، أو إلى وجود المقتضي للضدّ الآخر. وعلى هذا فلا يكون ترك الحرام متوقفاً على فعلٍ ما غير الحرام من الأفعال الوجودية ، بل يكفي في عدمه عدم إرادته وعدم الداعي إليه ، أو إرادة ايجاد فعل آخر. وكيف كان ، فلا يتوقف ترك الحرام على أحد تلك الأفعال. على أنّ الكبرى أيضاً غير ثابتة ، وهي وجوب مقدمة الواجب كما سبق.

وأمّا الأمر الثاني : فلما عرفت من أنّه لا دليل على سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.

نعم ، ربّما يمكن أن يعلم المكلف بأ نّه لو لم يأت بفعلٍ ما غير الحرام لوقع في الحرام باختياره وإرادته ، فحينئذ وإن وجب الاتيان به فراراً عن الوقوع في الحرام ، إلاّ أنّ وجوبه عقلي لا شرعي كما تقدّم ، إذن فما أفاده الكعبي من انحصار الأفعال الاختيارية بالواجب والحرام لا يرجع إلى معنى محصّل. هذا تمام كلامنا في الضدّ الخاص.

ونتيجة جميع ما ذكرناه عدّة نقاط :

الاولى : أنّ هذه المسألة من المسائل الاصولية العقلية وليست من المسائل الفقهية ، ولا من المبادئ كما تقدّم.

الثانية : أنّ العلة التامة مركبة من أجزاء ثلاثة ، وهذه الأجزاء تختلف من ناحية استناد وجود المعلول إليها واستناد عدمه إلى تلك الأجزاء ، فان وجوده مستند إلى الجميع في مرتبة واحدة فلا يمكن أن يستند إلى بعضها دون بعضها الآخر ، وهذا بخلاف عدمه ، فانّه عند عدم المقتضي أو الشرط لا يستند إلى وجود المانع كما عرفت.

٣٢٧

الثالثة : أنّ كبرى كون عدم المانع من المقدمات مسلّمة ، إلاّ أنّ عدم أحد الضدّين ليس مقدمة لوجود الضدّ الآخر ، لما تقدّم من استحالة مانعية وجود أحد الضدّين للضدّ الآخر بالوجهين السابقين : الدور والتفتيش عن حال المقتضيات ، وعدم إمكان فرض صورة يستند عدم الضد في تلك الصورة إلى وجود الضدّ الآخر.

الرابعة : أنّ المانع إنّما يكون متصفاً بالمانعية عند ثبوت المقتضي مع بقية الشرائط ، ليزاحم المقتضي في تأثيره. وهذا معنى دخل عدمه في وجود المعلول.

الخامسة : إمكان ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في نفسه مع قطع النظر عن الآخر ، وقد عرفت أنّ هذا غير داخل في الكبرى المتسالم عليها ، وهي أنّ اقتضاء المحال محال ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث إنّه قد أصرّ على استحالة ثبوت المقتضي لكل منهما ، وأنّ ذلك من مصاديق تلك الكبرى ، ولكن قد سبق أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ تلك الكبرى إنّما تتحقق في أحد موردين : ١ ـ اقتضاء شيء واحد بذاته أمرين متنافيين في الوجود. ٢ ـ فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدّين بقيد الاجتماع والتقارن. والمقام ليس منهما في شيء.

السادسة : أنّ التقدم أو التأخر الرتبي يحتاج إلى ملاك وجودي كامن في صميم ذات الشيء لا في أمر خارج عنه ، دون المعية في الرتبة ، فانّه يكفي في تحققها عدم تحقق ملاك التقدم أو التأخر ، خلافاً لشيخنا المحقق قدس‌سره حيث قال : إنّ المعية في الرتبة أيضاً تحتاج إلى ملاك وجودي. وقد تقدّم فساده فلاحظ.

السابعة : أنّه لا مقتضي لكون المتلازمين متوافقين في الحكم ، بل قد سبق أنّ ذلك لغو فلا يترتب عليه أثر شرعي أصلاً. نعم ، الذي لا يمكن هو اختلافهما

٣٢٨

في الحكم كما مرّ.

الثامنة : أنّ قياس المساواة إنّما ينتج في المتقدم والمتأخر بالزمان ، فانّ ما كان متحداً مع المتقدم أو المتأخر زماناً متقدم أو متأخر لا محالة ، لا في المتقدم والمتأخر بالرتبة والطبع ، وسرّ ذلك : أنّ ملاك التقدم والتأخر في الأوّلين أمر خارج عن مقتضى ذاتهما ، وهو وقوعهما في الزمان المتقدم والمتأخر ، ومع قطع النظر عن ذلك فلايقتضي أحدهما بذاته التقدم على شيء آخر ولا الآخر التأخر ، فانّ المتقدم والمتأخر بالذات نفس أجزاء الزمان وما يشبهها كالحركة ونحوها ، والحوادث الاخر إنّما تتصف بهما بالعرض لا بالذات. ونتيجة ذلك : هي أنّ كل ما كان واقعاً في الزمان المتقدم واجد لملاك التقدم ، وكل ما كان واقعاً في الزمان المتأخر واجد لملاك التأخر ، وكل ما كان واقعاً في الزمان المقارن واجد لملاك التقارن من دون اختصاص بحادث دون آخر. وملاك التقدم والتأخر في الأخيرين أمر راجع إلى مقتضى ذاتهما ، فكل ما كان في صميم ذاته من الوجود أو العدم اقتضاء التقدم على شيء أو التأخر متقدّم عليه أو متأخر لا محالة ، وكل ما لم يكن فيه اقتضاء كذلك فلا يعقل فيه التقدم أو التأخر ولو كان في رتبة ما فيه الاقتضاء.

التاسعة : بطلان التفصيل بين الضدّ المعدوم والضدّ الموجود ، بتوقف وجود الأوّل على ارتفاع الثاني دون العكس. وقد عرفت أنّ منشأ هذا التفصيل توهم استغناء الباقي عن المؤثر. وقد تقدّم الكلام فيه مفصلاً فراجع.

العاشرة : بطلان ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من تسليم الدلالة على الملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضدّه في النقيضين ، والمتقابلين بتقابل العدم والملكة ، بل في الضدّين اللذين لا ثالث لهما. وقد عرفت عدم الدلالة في الجميع.

٣٢٩

الحادية عشرة : قد تقدّم أنّه على تقدير تسليم الملازمة فيما إذا لم يكن للضدّين ثالث ، فلا بدّ من تسليمها فيما إذا كان لهما ثالث أيضاً ، لأنّ ملاك الدلالة كما مرّ وهو استلزام فعل الشيء لترك ضدّه ، أمر يشترك فيه جميع الأضداد ، فلا وجه للتفصيل بينهما كما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

الثانية عشرة : أنّ ما ذهب إليه الكعبي من القول بانتفاء المباح لا يرجع إلى معنى محصّل كما سبق.

٣٣٠

الضدّ العام

وأمّا الكلام في المقام الثاني وهو الضدّ العام ، فقد اختلفت كلماتهم في كيفية دلالة الأمر بالشيء على النهي عنه بعد الفراغ عن أصل الدلالة إلى ثلاثة أقوال :

الأوّل : أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العام ، فالأمر بالصلاة مثلاً عين النهي عن تركها ، فقولنا : صلّ ، عين قولنا : لا تترك الصلاة.

الثاني : أنّ الأمر بالشيء يدل على النهي عنه بالتضمن ، بدعوى أنّه مركب من طلب الفعل والمنع من الترك ، فالمنع من الترك مأخوذ في مفهوم الأمر ، فيكون دالاً عليه بالتضمن.

الثالث : أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عنه بالدلالة الالتزامية باللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، أو البيّن بالمعنى الأعم.

أمّا القول الأوّل : فان اريد من العينية في مقام الاثبات والدلالة ـ أعني بها أنّ الأمر بشيء والنهي عن تركه يدلاّن على معنى واحد ، وإنّما الاختلاف بينهما في التعبير فقط ـ فهذا ممّا لا إشكال فيه ، إذ من الواضح أنّه لا مانع من إبراز معنى واحد بعبارات متعددة وألفاظ مختلفة ، فيبرزه تارةً بلفظ واخرى بلفظ آخر وهكذا ، مثلاً يمكن إبراز كون الصلاة على ذمة المكلف مرّة بكلمة صلّ ، ومرّة اخرى بكلمة : لاتترك الصلاة ، بأن يكون المقصود من كلتا الكلمتين إبراز وجوبها وثبوتها في ذمة المكلف ، لا أنّ المقصود من الكلمة الاولى إبراز وجوب فعلها ومن الكلمة الثانية إبراز حرمة تركها لئلاّ تكون إحدى الكلمتين عين الاخرى في الدلالة والكشف.

٣٣١

وهذا هو المقصود من الروايات الناهية عن ترك الصلاة. وليس المراد من النهي فيها النهي الحقيقي الناشئ من مفسدة إلزامية في متعلقه ، ولذلك لم يتوهم أحد حرمة ترك الصلاة وأنّ تاركها يستحق عقابين ، عقاباً لتركه الواجب ، وعقاباً لارتكابه الحرام.

وهذا التعبير ـ أعني به التعبير عن طلب شيء بالنهي عن تركه ـ أمر متعارف في الروايات في باب الواجبات والمستحبات وفي كلمات الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) فترى أنّهم يعبّرون عن الاحتياط الواجب بقولهم : لا يترك الاحتياط. وعليه فمعنى أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه ، هو أنّهما متحدان في جهة الدلالة والحكاية عن المعنى ، في مقابل ما إذا كانا متغايرين في تلك الجهة.

وعلى ضوء ذلك صحّ أن يقال : إنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه العام بحسب المعنى والدلالة عليه. فان اريد من العينية العينية بهذا المعنى ، فهي صحيحة ولا بأس بها ، ولكنّ الظاهر أنّ العينية بذلك المعنى ليست مراداً للقائل بها كما لا يخفى.

وإن اريد بها العينية في مقام الثبوت والواقع ـ أعني بها كون الأمر بشيء عين النهي عن تركه في ذلك المقام وبالعكس ـ فيرد عليه أنّه إن اريد من النهي عن الترك ، طلب تركه المنطبق على الفعل ، إذ قد يراد من النهي عن الشيء طلب تركه كما هو الحال في تروك الاحرام والصوم ، حيث يراد من النهي عن الأكل والشرب ومجامعة النساء والارتماس في الماء ولمس المرأة ولبس المخيط للرجال والتكحل والنظر إلى المرآة والمجادلة ، وغيرها ممّا يعتبر عدمه في صحة الاحرام ، طلب ترك هذه الامور ، فانّ هذا النهي لم ينشأ عن مبغوضية تلك الامور وقيام مفسدة إلزامية بها ، بل نشأ عن محبوبية تركها وقيام مصلحة إلزامية به ، وعليه لم يكن مثل هذا النهي نهياً حقيقياً ناشئاً عن مفسدة ملزمة

٣٣٢

في متعلقه ، بل هو في الواقع أمر ولكن ابرز بصورة النهي في الخارج.

إن اريد ذلك ، فلا معنى له أصلاً ، وذلك لأنّ ترك الترك وإن كان مغايراً للفعل مفهوماً ، إلاّ أنّه عينه مصداقاً وخارجاً ، لأنّه عنوان انتزاعي له ، وليس له ما بازاء في الخارج ما عداه.

أو فقل : إنّ في عالم التحقق والوجود أحد شيئين لا ثالث لهما ، أحدهما الوجود ، والثاني العدم البديل له. وأمّا عدم العدم فهو لا يتجاوز حدّ الفرض والتقدير ، وليس له واقع في قبالهما وإلاّ لأمكن أن يكون في الواقع أعدام غير متناهية ، فانّ لكل شي عدماً ، ولعدمه عدم ، وهكذا إلى أن يذهب إلى ما لا نهاية له. نعم ، إنّه عنوان انتزاعي منطبق على الوجود ، وعليه فالقول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه في قوة القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي الأمر بذلك الشيء ، وهو قول لا معنى له أصلاً.

فالنتيجة : أنّه لا يمكن أن يراد من النهي عن الترك طلب تركه ، لاستلزام ذلك النزاع في أنّ الأمر بالشيء يقتضي نفسه ، وهذا النزاع لا محصّل له أبداً.

وإن اريد بالنهي عن الترك النهي الحقيقي الناشئ عن مبغوضية متعلقه ، وقيام مفسدة ملزمة به ، فالنهي بهذا المعنى وإن كان أمراً معقولاً في نفسه ، إلاّ أنّه لا يمكن أن يراد فيما نحن فيه ، وذلك لاستحالة أن يكون بغض الترك متحداً مع حبّ الفعل أو جزئه ، وذلك لاستحالة اتحاد الصفتين المتضادتين في الخارج.

وبعبارة واضحة : أنّه لا شبهة في أنّ الأمر الحقيقي يباين النهي الحقيقي تبايناً ذاتياً ، فلا اشتراك بينهما لا في ناحية المبدأ ولا في ناحية الاعتبار ولا في ناحية المنتهى. أمّا من ناحية المبدأ ، فلأنّ الأمر تابع للمصلحة الإلزامية في متعلقه ، والنهي تابع للمفسدة الإلزامية فيه. وأمّا من ناحية الاعتبار ، فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ حقيقة الأمر ليست إلاّ اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف وإبرازه

٣٣٣

في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو نحوها. وحقيقة النهي ليست إلاّ اعتبار المولى حرمة الفعل عليه وجعله محروماً عنه ، وإبرازه في الخارج بمبرز من صيغة النهي أو ما شاكلها ، ومن الواضح أنّ أحد الاعتبارين أجنبي عن الاعتبار الآخر بالكلية. وأمّا من ناحية المنتهى ، فلأنّ الأمر يمتثل باتيان متعلقه والنهي يمتثل بترك متعلقه.

وعلى هذا الضوء فكيف يمكن القول بأنّ الأمر عين النهي ، فهل هو عينه في ناحية المبدأ أو في ناحية المنتهى أو في ناحية الاعتبار ، كل ذلك غير معقول. فالنتيجة إذن هي أنّ القول بالعينية قول لا محصّل له. ومن ذلك يظهر بطلان :

القول الثاني أيضاً ، وهو القول بأنّ النهي جزء من الأمر ، فانّ القول بالجزئية أيضاً غير معقول ، ضرورة أنّه كما لا يمكن أن يكون النهي متحداً مع الأمر في المراحل المتقدمة ، كذلك لا يمكن أن يكون جزأه في تلك المراحل. وما قيل في تعريف الوجوب من أنّه عبارة عن طلب الفعل مع المنع من الترك لا يخلو عن ضرب مسامحة ، ولعلّ الغرض منه الاشارة إلى مفهوم الوجوب في مقام تقريبه إلى الأذهان ، لا أنّه تعريف له على التحقيق ، وإلاّ فمن الواضح جداً أنّ المنع من الترك لم يؤخذ في حقيقة الوجوب بأيّ معنى من المعاني الذي فرضناه ، سواء أكان إرادة نفسانية ، أم كان حكماً عقلياً ، أو مجعولاً شرعياً.

فانّه على الأوّل من الأعراض وهي من البسائط الخارجية ، وعلى الثاني فهو من الامور الانتزاعية العقلية ، بمعنى أنّ العقل يحكم باللزوم عند اعتبار المولى فعلاً ما على ذمة المكلف مع عدم نصبه قرينة على الترخيص في تركه. ومن الظاهر أنّه أشدّ بساطة من الأعراض فلا يعقل له جنس ولا فصل. وعلى الثالث فهو من المجعولات الشرعية ، ومن الواضح أنّها في غاية البساطة ولا يعقل لها جنس وفصل ، نعم المنع من الترك لازم للوجوب لا أنّه جزؤه.

٣٣٤

وعلى تقدير كون الوجوب مركباً فلا يعقل أن يكون مركباً من المنع من الترك ، لما عرفت من أنّ بغض الترك كما لا يمكن أن يكون عين حبّ الفعل ، كذلك لا يمكن أن يكون جزأه.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ النزاع في عينية الأمر بشيء للنهي عن ضدّه أو جزئيته له ، لا يرجع إلى النزاع في معنى معقول.

وأمّا القول الثالث : وهو القول بأنّ الأمر بشيء يستلزم النهي عن ضدّه العام ، فقد ذهب إليه جماعة ، ولكنهم اختلفوا في أنّ الاقتضاء هل هو على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، بأن يكون نفس تصور الوجوب كافياً في تصور المنع من الترك ، من دون حاجة إلى أمر زائد ، أو أنّه على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعم على قولين.

فقد قرب شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) القول الأوّل ، وقال : إنّه لا يبعد أن تكون دلالته على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص ، وعلى تقدير التنزل عن ذلك فالدلالة الالتزامية بنحو اللزوم البيّن بالمعنى الأعم ممّا لا إشكال فيه ولا كلام.

والتحقيق : هو عدم الاقتضاء ، والوجه في ذلك : هو أنّ دعوى استلزام الأمر بشيء النهي عن تركه باللزوم البيّن بالمعنى الأخص واضحة الفساد ، ضرورة أنّ الآمر ربّما يأمر بشيء ويغفل عن تركه ولا يلتفت إليه أصلاً ليكون كارهاً له ، فلو كانت الدلالة على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص لم يتصور غفلة الآمر عن الترك وعدم التفاته إليه في مورد من الموارد ، ومن هنا قد اعترف هو قدس‌سره أيضاً ببداهة إمكان غفلة الآمر بشيء عن ترك تركه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧.

٣٣٥

فضلاً عن أن يتعلق به طلبه ، وهذا منه يناقض ما أفاده من نفي البعد عن اللزوم البيّن بالمعنى الأخص.

وأمّا دعوى الدلالة الالتزامية باللزوم البيّن بالمعنى الأعم ، فهي أيضاً لايمكن تصديقها ، وذلك لعدم الدليل عليها لا من العقل ولا من الشرع.

أمّا من ناحية العقل : فلأ نّه لا يحكم بالملازمة بين اعتبار الشارع وجوب شيء واعتباره حرمة تركه ، فانّ كلاً من الوجوب والحرمة يحتاج إلى اعتبار مستقل ، والتفكيك بينهما في مقام الاعتبار بمكان من الامكان ، وكذا لا يحكم العقل بالملازمة بين إرادة شيء وكراهة نقيضه ، إذ قد يريد الانسان شيئاً غافلاً عن تركه وغير ملتفت إليه ، فكيف يكون كارهاً له.

وإن شئت فقل : إنّ القائل باستلزام وجوب شيء لحرمة تركه ، إمّا أن يدعي الحرمة النفسية ، أو يدعي الحرمة الغيرية. وكلتا الدعويين فاسدة :

أمّا الدعوى الأولى : فلأنّ الحرمة النفسية إنّما تنشأ من مفسدة إلزامية في متعلقها ، ومن الواضح أنّه لا مفسدة في ترك الواجب ، فتركه ترك ما فيه المصلحة لا فعل ما فيه المفسدة. فلو سلّمنا وجود المفسدة في ترك الواجب أحياناً فلا كلية لذلك بالبداهة. إذن لا مجال لدعوى الملازمة بين وجوب شيء وحرمة تركه ، بل الوجدان حاكم بعدم ثبوتها.

وأمّا الدعوى الثانية : فلعدم ملاك الحرمة الغيرية فيه أوّلاً ، لانتفاء المقدمية ، وكونها لغواً ثانياً ، لعدم ترتب أثر عليها من العقاب أو نحوه. وعليه فلا موضوع لدعوى الملازمة أصلاً.

وأمّا من ناحية الشرع : فلأنّ ما دلّ على وجوب شيء لا يدل على حرمة تركه ، بداهة أنّ الحكم الواحد وهو الوجوب في المقام لا ينحل إلى حكمين أحدهما يتعلق بالفعل والآخر بالترك ، ليكون تاركه مستحقاً لعقابين من جهة

٣٣٦

تركه الواجب وارتكابه الحرام ، ومن هنا قلنا إنّه لا مفسدة في ترك الواجب ليكون تركه محرّماً ، كما أنّه لا مصلحة في ترك الحرام ليكون واجباً.

وعلى الجملة : فمن الواضح جداً أنّ الأمر بشيء لا يدل إلاّعلى اعتباره في ذمة المكلف بلا دلالة له على اعتبار حرمة تركه ، فالأمر بالصلاة مثلاً لا يدل إلاّ على اعتبار فعلها في ذمة المكلف ، دون حرمة تركها وهكذا. وأمّا إطلاق المبغوض على ترك الواجب فهو بضرب من العناية والمسامحة ، كما أنّ إطلاق المحبوب على ترك الحرام كذلك.

وقد تحصّل من ذلك بشكل واضح : أنّه لا ملازمة بين اعتبار شيء في ذمة المكلف واعتبار حرمة نقيضه ، لا عقلاً ولا شرعاً.

ونتيجة مجموع ما ذكرناه نقطتان : الاولى : أنّ الأمر بشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العام لا بنحو العينية أو الجزئية ولا بنحو اللزوم.

الثانية : أنّ القولين الأوّلين لا يرجعان إلى معنى معقول ، دون القول الأخير. هذا تمام كلامنا في الضدّ العام.

٣٣٧

الكلام في ثمرة المسألة

قد اشتهر بين الأصحاب أنّ الثمرة تظهر فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب موسع كالصلاة مثلاً وواجب مضيق كالازالة ، أو بين واجبين مضيقين أحدهما أهم من الآخر ، فعلى القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه يقع الواجب الموسع أو غير الأهم صحيحاً ، إذ لا مقتضي لفساده أصلاً ، فانّ المقتضي له إنّما هو تعلّق النهي به ولا نهي على الفرض ، إذن يبقى الواجب على حاله من المحبوبية والملاك. وأمّا على القول بالاقتضاء فيقع فاسداً إذا كان عبادة ، بضم كبرى المسألة الآتية وهي : أنّ النهي في العبادات يوجب الفساد.

وقد اورد على هذه الثمرة بايرادين متقابلين :

أحدهما : ما عن الشيخ البهائي قدس‌سره (١) من بطلان العبادة مطلقاً حتّى على القول بعدم الاقتضاء ، وذلك لما يراه قدس‌سره من اشتراط صحة العبادة بتعلق الأمر بها فعلاً ، وعلى هذا فلا محالة تفسد عند المزاحمة بالواجب الأهم أو المضيق ، سواء فيه القول بالاقتضاء وعدمه ، ضرورة أنّ الأمر بشيء لو لم يقتض النهي عن ضدّه فلا شبهة في أنّه يقتضي عدم الأمر به ، لاستحالة تعلّق الأمر بالضدّين معاً ، فإذا كانت العبادة المضادة غير مأمور بها فعلاً فلا محالة تقع فاسدة ، لفرض أنّ صحة العبادة مشروطة بكونها مأموراً بها ، وبما أنّه لا أمر في المقام على الفرض ، فلا صحة لها لانتفائها بانتفاء شرطها.

__________________

(١) زبدة الاصول : ٨٢.

٣٣٨

ثانيهما : ما عن جماعة منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من صحة العبادة مطلقاً حتّى على القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ، والوجه في ذلك : هو أنّ صحتها على القول بعدم الاقتضاء واضحة ، لعدم المقتضي للفساد أصلاً ، بناءً على ما هو الصحيح من عدم اشتراط صحة العبادة بقصد الأمر ، بل المعتبر فيها هو إضافتها إلى المولى بنحو من أنحاء الاضافة. وأمّا على القول بالاقتضاء فالعبادة كالصلاة مثلاً وإن كانت منهياً عنها ، إلاّ أنّ هذا النهي بما أنّه نهي غيري نشأ عن مقدمية تركها أو عن ملازمته لفعل المأمور به في الخارج ولم ينشأ عن مفسدة في متعلقه ، فلا يكون موجباً للفساد ، ومن هنا قالوا : إنّ مخالفة الأمر والنهي المقدميين لا توجب بعداً ، وسر ذلك ما سبق من أنّ النهي الغيري المقدمي لا يكشف عن وجود مفسدة في متعلقه وكونه مبغوضاً للمولى لئلاّ يمكن التقرب به ، فانّ المبّعد لا يمكن التقرب به.

وعلى ضوء ذلك فالعبادة باقية على ما كانت عليه من المصلحة والمحبوبية الذاتية الصالحة للتقرب بها ، والنهي المتعلق بها ـ بما أنّه غيري ـ لا يمنع عن التقرب بها.

وعلى الجملة : فبناءً على ما هو الصحيح من عدم اشتراط صحة العبادة بقصد الأمر وكفاية قصد الملاك ، فصحتها عندئذ تدور مدار تحقق الملاك بلا فرق بين القول بالاقتضاء والقول بعدمه ، وبما أنّها واجدة للملاك على كلا القولين فهي تقع صحيحة ، إذن فلا ثمرة.

أقول : أمّا الايراد الأوّل فيردّه : ما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي مفصّلاً ، وسنتعرض لذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى أيضاً ، من أنّ المعتبر في صحة العبادة

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢١ ، ٢٢.

٣٣٩

هو قصد القربة بأيّ وجه تحقق لا خصوص قصد الأمر ، لعدم دليل خاص يدل عليه. إذن لا فرق بنظر العقل في حصول التقرب بين وجود الأمر وعدمه إذا كان الفعل واجداً للملاك وقصد التقرب به.

وامّا الايراد الثاني : فيظهر حاله ممّا سنبيّنه إن شاء الله تعالى.

فنقول : تحقيق الحال في الثمرة المزبورة يستدعي الكلام في مقامين :

الأوّل : فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجب موسع كالصلاة مثلاً وواجب مضيق كالازالة.

الثاني : فيما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيّقين أحدهما أهم من الآخر ، كما إذا وقعت المزاحمة بين الصلاة في آخر الوقت والازالة بحيث لو اشتغل بالازالة فاتته الصلاة.

٣٤٠