محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

أمّا الوجه الأوّل : فلما حققناه في محلّه (١) من أنّه لا فرق في الرجوع إلى أصالة البراءة في موارد الشك في التكليف بين أن يكون منشؤه الشك في القدرة أو الشك من جهة اخرى كعدم النص أو إجماله أو تعارض النصين أو نحو ذلك ، ضرورة عدم الفرق بينهما ، ولا موجب لتقييد أصالة البراءة بغير المورد الأوّل ، فانّه بلا دليل ومقتض ، وتمام الكلام في محله.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ ما أفاده قدس‌سره من دوران الأمر في المقام بين التعيين والتخيير وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ المرجع فيه قاعدة الاشتغال خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له ، والسبب في ذلك : هو أنّنا قد حققنا في موطنه (٢) أنّ المرجع في كافة موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو أصالة البراءة دون قاعدة الاشتغال إلاّفي موردين :

الأوّل : فيما إذا دار الأمر بينهما في الحجية ، كما إذا دلّ دليل على وجوب شيء ، والآخر على حرمته وفرضنا العلم الخارجي بحجية أحدهما في هذا الحال ، فعندئذ إن كان الدليلان متساويين فالحجية تخييرية ، وإن كان أحدهما محتمل الرجحان بالاضافة إلى الآخر فهو الحجة دونه ، وذلك لأنّه إمّا بخصوصه حجة أو هو أحد فردي الحجية ، وهذا بخلاف الآخر ، فان احتمال أنّه بخصوصه حجة دون ذاك غير محتمل. فإذن لا محالة تكون حجيته مشكوكة ، وقد ذكرنا في محلّه أنّ الشك في الحجية في مرحلة الانشاء مساوق للقطع بعدمها في مرحلة الفعلية فلا أثر له. وهذا معنى حكم العقل بالتعيين في مثل هذا المورد.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٦٥ ، وراجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٨٧.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٥٢٠ ، وراجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٨٥.

٦١

الثاني : فيما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في موارد التزاحم والامتثال ، بيان ذلك : أنّ الحكمين في هذه الموارد إن كانا متساويين فالمكلف مخيّر بين امتثال هذا وذاك ، وإن كان أحدهما محتمل الأهمية دون الآخر ، ففي مثله تعيّن امتثاله بحكم العقل دون ذاك ، وذلك بقانون أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، وحيث إنّ المكلف في مفروض الكلام يعلم باشتغال ذمته بالتكليف فلا بدّ له من الخروج عن عهدته وتحصيل الأمن من العقوبة عليه ، ومن الطبيعي أنّه لا يحصل له الأمن منها إلاّبامتثال ما هو محتمل الأهمية دون غيره ، بداهة أنّ وظيفته في الواقع لا تخلو من أن تكون هي التخيير بينهما ، أو التعيين والاتيان بخصوص هذا ، وعلى كلا التقديرين حيث إنّ امتثاله مؤمّن دون امتثال غيره تعيّن بحكم العقل.

وأمّا في غير هذين الموردين فالمرجع هو أصالة البراءة ، وذلك لأنّ تعلق التكليف بالجامع معلوم وتعلقه بالخصوصية الزائدة مشكوك فيه ، ومقتضى الأصل البراءة عنه ، وهذا كما في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وبعد ذلك نقول : إنّ دوران الأمر في المقام وإن كان بين التعيين والتخيير ، إلاّ أنّه حيث كان في مقام الجعل لا في مقام الفعلية والامتثال ، فبطبيعة الحال يدخل في كبرى مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، لفرض أنّ تعلق الأمر بالجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري معلوم ، وتعلقه بخصوص الفعل الاختياري مشكوك فيه للشك في أنّ فيه ملاكاً ملزماً يخصه ، فمقتضى الأصل فيه البراءة.

وقد تحصّل مما ذكرناه : أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الأصل يقتضي البراءة عن وجوب الاتيان بالفعل الاختياري.

٦٢

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة ، وهي أنّ تعلق الأمر الاضطراري بالفعل الناقص وجواز البدار إليه واقعاً مع فرض تمكن المكلف من الاتيان بالفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت يحتاج إلى دليل ، وقد قام الدليل على ذلك في خصوص موارد التقية وأنّ البدار فيها جائز كما أشرنا إليه سابقاً.

وأمّا فيما عدا موارد التقية ، فقد أشرنا (١) إلى أنّ جماعة منهم السيِّد قدس‌سره في العروة (٢) قد اختاروا أنّ مقتضى إطلاق دليل وجوب التيمم هو جواز البدار إليه ، مع احتمال ارتفاع العذر في الوقت وتمكن المكلف من الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية فيه. ومن هنا قال قدس‌سره في المسألة الثالثة من أحكام التيمم : الأقوى جواز التيمم في سعة الوقت وإن احتمل ارتفاع العذر في آخره أو ظنّ به ـ إلى أن قال ـ فتجوز المبادرة مع العلم بالبقاء ويجب التأخير مع العلم بالارتفاع ، هذا.

وحري بنا أن نقول : إنّ ما ذكروه في مسألة التقية في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عن الالتزام به. وأمّا ما ذكروه في مسألة التيمم فلا يمكن المساعدة عليه بوجه ، والسبب في ذلك ما تقدّم من أنّه لا إطلاق لأدلة وجوب التيمم من الآية والروايات بالاضافة إلى الموارد التي لا يستوعب العذر فيها مجموع الوقت ، لفرض تمكن المكلف معه من الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية ، ومن الطبيعي أنّ النوبة لا تصل عندئذ إلى الصلاة مع الطهارة الترابية.

وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في ضمن البحوث السالفة بشكل أوسع ، كما

__________________

(١) في ص ٤٧.

(٢) العروة الوثقى ١ : ٣٥٥ المسألة [١١٤١].

٦٣

قد بيّنا في مبحث الفقه (١) بصورة موسّعة أنّ مدّعاهم من جواز البدار خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له ، وما يظهر من بعض الروايات جوازه قد تكلمنا فيه هناك فلاحظ.

وأمّا الأدلة العامة ، فلا تدل على مشروعية العمل الناقص مع تمكن المكلف من الاتيان بالعمل التام في الوقت.

أمّا حديث رفع الاضطرار والاكراه ، فقد ذكرنا في محلّه (٢) أنّ مفاده نفي الحكم لا إثباته ، يعني أنّ الوجوب المتعلق بالمركب عند اضطرار المكلف إلى ترك جزء أو شرط منه يرتفع بمقتضى هذا الحديث ، وأمّا الأجزاء الباقية التي تمكن المكلف منها فالحديث لا يدل على وجوبها ، مثلاً إذا اضطرّ إلى ترك الطهارة المائية ارتفع عنه الوجوب المتعلق بالصلاة معها ، وأمّا وجوب الاتيان بالصلاة مع الطهارة الترابية فهو يحتاج إلى دليل خاص ، وحديث الاضطرار لا يدل على ذلك ، وكذلك الحال في حديث النسيان وما شاكله.

وأضف إلى ذلك : أنّ حديث الاضطرار أو النسيان أو نحو ذلك إنّما يكون رافعاً للتكليف إذا تعلق بترك الواجب في مجموع الوقت ، وأمّا إذا تعلق بتركه في بعض الوقت لا في مجموعه فلا أثر له ولا يكون رافعاً للتكليف ، فانّ ما تعلق به الاضطرار أو النسيان أو نحو ذلك لا يكون مأموراً به وما هو مأمور به ـ وهو الطبيعي الجامع بين الأفراد الطولية والعرضية ـ لم يتعلق به ، فلا وجه لسقوط وجوبه ، ومن هنا يظهر حال مثل قوله عليه‌السلام « ما من شيء حرّمه الله تعالى إلاّوقد أحله عند الضرورة » (٣) وذلك لوضوح أنّه لا يدل إلاّ

__________________

(١) شرح العروة ١٠ : ٣٢٥.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ٣١٠.

(٣) الوسائل ٥ : ٤٨٣ / أبواب القيام ب ١ ح ٧ ( نقل بالمضمون ).

٦٤

على جواز ارتكاب ما تعلقت الضرورة به وأجنبي عن المقام بالكلّية.

وأمّا قاعدة الميسور أو ما شاكلها ، فمضافاً إلى ما حققناه في محلّه (١) من أنّه لا أصل لهذه القاعدة ، وأ نّها قاصرة سنداً ودلالة ، فهي أجنبية عن المورد ولا صلة لها به أصلاً ، وذلك لعدم تحقق موضوعها ، حيث إنّ المكلف على الفرض متمكن من الاتيان بالواجب في ضمن فرد كامل في أثناء الوقت بعد ارتفاع العذر ، ومن المعلوم أنّه مانع عن صدق عنوان المعسور عليه لتصل النوبة إلى ميسوره.

وعلى الجملة : فالواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة مع الطهارة المائية مثلاً في مجموع الوقت المحدد له ، ومن الطبيعي أنّ تمكنه من الاتيان به في ضمن فرد كامل يوجب عدم صدق المعسور في حقه ، لتكون الفرد الاضطراري ـ وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ـ ميسوره.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي عدم قيام دليل على تعلق الأمر الاضطراري بالعمل الناقص مع تمكن المكلف من الاتيان بالعمل التام في أثناء الوقت ، نعم قد قام دليل خاص على ذلك في خصوص موارد التقية.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٥٥٢.

٦٥

[ إجزاء المأمور به الظاهري ]

وأمّا الكلام في المسألة الثالثة ـ وهي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي وعدمه فيما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني أو تعبّدي ـ فقد اختلفت كلمات الأصحاب فيها على أقوال :

الأوّل : الإجزاء مطلقاً.

الثاني : عدمه مطلقاً.

الثالث : التفصيل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني وما إذا انكشف بعلم تعبدي ، فيجزي على الثاني دون الأوّل.

الرابع : التفصيل بين القول بالسببية والقول بالطريقية ، فعلى الأوّل لا مناص من الإجزاء دون الثاني.

الخامس : التفصيل بين أقسام السببية بالالتزام بالإجزاء في بعضها وبعدمه في بعضها الآخر.

السادس : التفصيل بين الأمارات والاصول بالالتزام بعدم الإجزاء في موارد الأمارات والإجزاء في موارد الاصول. وقد اختار هذا التفصيل المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره.

ولكن ينبغي لنا عطف الكلام في هذا التفصيل قبل أن نحرر محل النزاع وبيان ما هو الحق في المسألة من الأقوال فنقول : قد أفاد قدس‌سره في وجه ذلك ما إليك لفظه :

والتحقيق : أنّ ما كان منه يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق

٦٦

متعلقه ، وكان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره كقاعدة الطهارة أو الحلية بل واستصحابهما في وجه قوي ونحوها بالنسبة إلى كل ما اشترط بالطهارة أو الحلية ، يجزي ، فان دليله يكون حاكماً على دليل الاشتراط ومبيّناً لدائرة الشرط وأ نّه أعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، فانكشاف الخلاف فيه لا يكون موجباً لانكشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إليه يكون من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل ، وهذا بخلاف ما كان منها بلسان أنّه ما هو الشرط واقعاً كما هو لسان الأمارات فلا يجزي ، فان دليل حجيته حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك بل كان لشرطه فاقداً (١).

توضيح ما أفاده قدس‌سره : هو أنّ الحكم الظاهري على قسمين : أحدهما : حكم ظاهري مجعول في ظرف الشك والجهل بالواقع حقيقة من دون نظر إلى الواقع أصلاً. وثانيهما : حكم ظاهري مجعول أيضاً في ظرف الشك في الواقع والجهل به ، إلاّ أنّه ناظر إلى الواقع وكاشف عنه. والأوّل مفاد الاصول العملية كقاعدة الطهارة والحلية والاستصحاب ، والثاني مفاد الأمارات.

أمّا الأوّل : فلأنّ المجعول في موارد تلك الاصول هو الحكم الظاهري في ظرف الشك والجهل بالواقع بما هو جهل ، ومن الطبيعي أنّ ذلك إنّما يكون من دون لحاظ نظرها إلى الواقع أصلاً ، ولذا اخذ الشك في موضوعه في لسانها ، ومن هنا لا يتصف بالصدق تارة وبالكذب تارة اخرى ، ضرورة أنّ الحكم الظاهري المجعول في مواردها كالطهارة أو الحلية موجود حقيقة قبل انكشاف الخلاف ، وبعد الانكشاف يرتفع من حينه لا من الأوّل ، كارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ، حتّى الاستصحاب بناءً على نظريته قدس‌سره وفي مثله لا يعقل

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٦.

٦٧

الاتصاف بالصدق مرّة وبالكذب اخرى. نعم ، قد يكون الحكم مطابقاً للحكم الواقعي وقد يكون مخالفاً له ، ولكن هذا أمر آخر أجنبي عن اتصافه بهما بالكلية كما هو واضح.

فالنتيجة على أساس ذلك هي حكومة تلك الاصول على الأدلة الواقعية في مرحلة الظاهر وتوجب توسعة دائرتها ، حيث إنّ ما دلّ على شرطية الطهارة أو الحلية للصلاة مثلاً ظاهر في الطهارة أو الحلية الواقعية ، ولكنها جعلت الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية ، فمقتضى هذه الحكومة هو أنّ الطهارة الظاهرية كالطهارة الواقعية فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، فكما أنّ المكلف إذا كان واجداً للطهارة الواقعية واجد للشرط حقيقة ، فكذلك إذا كان واجداً للطهارة الظاهرية ، فلو صلّى معها ثمّ انكشف الخلاف لم ينكشف أنّ العمل فاقد للشرط ، بل هو واجد له حقيقة والشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه.

وبكلمة اخرى : أنّ الطهارة الظاهرية الثابتة بقاعدة الطهارة أو استصحابها ، وكذا الحلية الظاهرية الثابتة بقاعدتها أو استصحابها ، لا واقع موضوعي لها ، ما عدا الثبوت في ظرف الشك لكي تطابق الواقع مرّة وتخالفه مرّة اخرى ، ومن المعلوم أنّ ما لا واقع له لا يعقل اتصافه بالصدق والكذب ، فان معنى الصدق هو مطابقة الشيء لواقعه الموضوعي ، ومعنى الكذب عدم مطابقته له ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّها تحكم على الأدلة الواقعية وتجعل الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية.

فالنتيجة على ضوء ذلك : هي أنّ الشرط إذا كان الأعم فلا يعقل فيه انكشاف الخلاف وفقدان العمل له بعد ما كان واجداً له في ظرفه ، غاية الأمر يرتفع بارتفاع موضوعه وهو الشك ، فهي أحكام ثابتة واقعاً في مرحلة الظاهر ما دام الشك والجهل بالواقع ، فلو صلّى المكلف مع ثوب طاهر ظاهراً أو في

٦٨

مكان مباح كذلك ثمّ بان عدمها واقعاً لم ينكشف أنّ الصلاة فاقدة للشرط في ظرفها ، لفرض أنّ الشرط أعم منها ومن الطهارة أو الحلية الظاهرية ، والمفروض أنّها واجدة لها في ظرفها حقيقة ، فلا يعقل انكشاف الخلاف بالاضافة إليها. نعم ، هي فاقدة للطهارة أو الحلية الواقعية ، ولكن قد عرفت أنّ الشرط ليس خصوصها ، ومن هنا يظهر أنّ التعبير بانكشاف الخلاف في أمثال هذه الموارد إنّما هو بلحاظ الطهارة أو الحلية الواقعية.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ عدم الإجزاء في موارد هذه الاصول غير معقول فلا مناص من القول بالإجزاء.

وأمّا الثاني ـ وهو مفاد الأمارات ـ فلأنّ المجعول في مواردها إنّما هو حجيتها بلحاظ نظرها إلى الواقع وإثباتها له على ما هو عليه من دون جعل شيء آخر فيها في مقابل الواقع ، بيان ذلك : أمّا بناءً على كون المجعول فيها هو الطريقية والكاشفية والعلم التعبدي فواضح ، وذلك لأنّ الأمارة على ضوء هذه النظرية إن كانت مطابقة للواقع أثبتت الواقع فحسب ، وإن كانت خاطئة وغير مطابقة له لم تؤد إلى حكم شرعي أصلاً : لا واقعي ولا ظاهري ، أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلفرض عدم جعل حكم ظاهري في قبال الحكم الواقعي في موردها ، وإنّما المجعول كما عرفت هو الطريقية والكاشفية فحسب ، فإذن حالها حال القطع المخالف للواقع. وأمّا بناءً على نظريته قدس‌سره من أنّ المجعول فيها إنّما هو المنجزية والمعذرية ، فأيضاً الأمر كذلك ، لأنها على تقدير المطابقة تثبت الواقع إثباتاً تنجزياً فحسب ، وعلى تقدير المخالفة فلا حكم في موردها ، لا واقعاً ولا ظاهراً ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلما عرفت من أنّ المجعول في مواردها إنّما هو المنجزية والمعذرية دون شيء آخر.

وعلى الجملة : فحال الأمارات حال القطع من هذه الناحية فلا فرق بينهما

٦٩

أصلاً ، فكما أنّه لا حكم في موارد القطع المخالف للواقع لا واقعاً ولا ظاهراً ، فكذلك لا حكم في موارد الأمارات المخالفة له. ومن هنا تتصف الأمارات بالصدق مرّة وبالكذب مرّة اخرى.

فالنتيجة في نهاية المطاف هي أنّ في مقام الثبوت وإن كان لا فرق بين الأمارات والاصول ، حيث إنّ كلتيهما وظائف مجعولة للجاهل بالواقع دون العالم به ، إلاّ أنّهما تفترقان في مرحلة الاثبات في نقطة واحدة ، وهي أنّ الشك قد اخذ في موضوع الاصول في لسان أدلتها ، ومن هنا يكون الحكم المجعول في مواردها في قبال الواقع من دون نظره إليه. وهذا بخلاف الأمارات ، فانّ الشك لم يؤخذ في موضوعها في لسان أدلتها ، وأنّ لسانها كما عرفت لسان إثبات الواقع والنظر إليه. وعلى ضوء ذلك لا مناص من القول بعدم الإجزاء في موارد الأمارات عند كشف الخلاف ، لما عرفت من عدم الحكم في موارد مخالفتها للواقع لا واقعاً ولا ظاهراً ، ومعه كيف يتصور الإجزاء فيها ، ومن هنا اتفقت كلماتهم على عدم الإجزاء في موارد القطع بالخلاف.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره خاطئ نقضاً وحلاً.

أمّا الأوّل : فلأنّ الالتزام بما أفاده قدس‌سره ممّا لا يمكن في غير باب الصلاة من أبواب الواجبات كالعبادات والمعاملات ، ومن هنا لو توضأ بماء قد حكم بطهارته من جهة قاعدة الطهارة أو استصحابها ثمّ انكشف نجاسته لم يلتزم أحد من الفقهاء والمجتهدين حتّى هو قدس‌سره بالإجزاء فيه وعدم وجوب إعادته ، وكذا لو غسل ثوبه أو بدنه في هذا الماء ثمّ انكشف نجاسته لم يحكم أحد بطهارته ، وهكذا ، مع أنّ لازم ما أفاده قدس‌سره هو الحكم بصحة الوضوء في المثال الأوّل ، وبطهارة الثوب أو البدن في المثال الثاني ، لفرض أنّ الشرط أعم من الطهارة الظاهرية والواقعية ، والمفروض وجود

٧٠

الطهارة الظاهرية هنا ، ومن الطبيعي أنّ العمل إذا كان واجداً للشرط في ظرفه حكم بصحته ، ولا يتصور فيه كشف الخلاف كما عرفت ، وارتفاعه إنّما هو بارتفاع موضوعه. ومن هذا القبيل ما إذا افترضنا أنّ زيداً كان يملك داراً مثلاً ثمّ حصل لنا الشك في بقاء ملكيته فأخذنا باستصحاب بقائها ثمّ اشتريناها منه وبعد ذلك انكشف الخلاف وبان أنّ زيداً لم يكن مالكاً لها ، فمقتضى ما أفاده قدس‌سره هو الحكم بصحة هذا الشراء ، لفرض أنّ الاستصحاب حاكم على الدليل الواقعي وأفاد التوسعة في الشرط وجعله أعم من الملكية الواقعية والظاهرية ، مع أنّه لن يلتزم ولا يلتزم بذلك أحد حتّى هو قدس‌سره فالنتيجة : أنّ ما أفاده قدس‌سره منقوض في غير باب الصلاة من أبواب العبادات والمعاملات.

وأمّا الثاني : ـ وهو جوابه حلاً ـ فلأنّ قاعدتي الطهارة والحلية وإن كانتا تفيدان جعل الحكم الظاهري في مورد الشك بالواقع والجهل به من دون نظر إليه ، إلاّ أنّ ذلك مع المحافظة على الواقع بدون أن يوجب جعله في موردهما انقلابه وتبديله أصلاً ، والسبب في ذلك ما حققناه في مورده (١) من أنّه لا تنافي ولا تضاد بين الأحكام في أنفسها ، ضرورة أنّ المضادة إنّما تكون بين الأمور التكوينية الموجودة في الخارج ، وأمّا الامور الاعتبارية التي لا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار المعتبر فلا تعقل المضادة والمنافاة بينها أصلاً ، وبما أنّ الأحكام الشرعية امور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها في الخارج ما عدا اعتبار الشارع إيّاها في عالم الاعتبار ، فلا تعقل المنافاة والمضادة بينها في أنفسها أصلاً ، بداهة أنّه لا تنافي بين اعتبار الوجوب في نفسه لفعل واعتبار الحرمة كذلك له ، وإنّما المضادّة والمنافاة بينها من إحدى ناحيتين : الاولى : بحسب المبدأ يعني المصلحة

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ١٢٦.

٧١

والمفسدة ، بناءً على مسلك العدلية من تبعية الأحكام لهما. الثانية : بحسب المنتهى يعني مرحلة الامتثال ، حيث لايقدر المكلف على امتثال الوجوب والحرمة المجعولين لفعل واحد في زمن واحد ، كما أنّه لا يمكن اجتماعهما فيه بحسب المبدأ ، فانّ المصلحة الملزمة مضادة للمفسدة كذلك فلا يعقل اجتماعهما في فعل واحد.

وعلى ضوء ذلك قد قلنا إنّه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي أصلاً لا في نفسه ولا من ناحية المبدأ ، ولا من ناحية المنتهى ، أمّا الأوّل : فلما عرفت من عدم التنافي بين الأحكام في أنفسها. وأمّا الثاني : فلأنّ الحكم الظاهري لم ينشأ عن المصلحة في متعلقه ، وإنّما نشأ عن المصلحة في نفسه. وأمّا الثالث : فلأنّ الحكم الظاهري إنّما هو وظيفة من لم يصل إليه الحكم الواقعي لا بعلم وجداني ولا بعلم تعبدي ، وأمّا من وصل إليه الحكم الواقعي فلا موضوع عندئذ للحكم الظاهري في مادته ، فلا يجتمعان في مرحلة الامتثال لكي تقع المنافاة بينهما في هذه المرحلة.

وعلى الجملة : ففي موارد وجود الحكم الظاهري لا يجب على المكلف امتثال الحكم الواقعي ، وفي موارد وجوب امتثاله لا حكم ظاهري في البين. فالنتيجة : هي أنّه لا تنافي بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي أصلاً ، وعليه فالالتزام بوجود الحكم الظاهري في موارد قاعدة الطهارة والحلية لا ينافي الالتزام بثبوت الحكم الواقعي في مواردهما أيضاً ، بل لا مناص من الالتزام بذلك بعد بطلان التصويب والانقلاب بكافة أشكاله وألوانه كما حققناه في محلّه (١).

وعلى ضوء هذا الأساس فلو صلّى المكلف مع طهارة البدن أو الثياب ظاهراً بمقتضى قاعدة الطهارة أو استصحابها وكان في الواقع نجساً فصلاته وإن

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ١٠٩ ، وسيأتي في ص ٨٢.

٧٢

كانت في الظاهر محكومة بالصحة ويترتب عليها آثارها ، إلاّ أنّها باطلة في الواقع ، لوقوعها في النجس ، وعليه فإذا انكشف الخلاف انكشف أنّها فاقدة للشرط من الأوّل ، وأ نّه لم يأت بالصلاة المأمور بها واقعاً ، وأنّ ما أتى به ليس مطابقاً لها ، فإذن بطبيعة الحال تجب الاعادة أو القضاء ، والاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري إنّما يكون عذراً له في تركها ما دام بقاء الجهل والشك ، وأمّا إذا ارتفع وانكشف الحال لم يكن معذوراً في تركها ، فالأحكام الظاهرية في الحقيقة أحكام عذرية فحسب ، وليست أحكاماً حقيقية في قبال الأحكام الواقعية ، والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام الجهل وإذا ارتفع ارتفع عذره ، وبعده لا يكون معذوراً في ترك الواقع وترتيب آثاره عليه من الأوّل.

وأمّا حديث حكومة تلك القواعد على الأدلة الواقعية كما تقدّم ذكره فلا يجدي ، والسبب في ذلك هو أنّ هذه الحكومة حكومة ظاهرية موقّتة بزمن الجهل بالواقع والشك فيه ، وليست بحكومة واقعية لكي توجب توسعة الواقع أو تضييقه. ونتيجة هذه الحكومة بطبيعة الحال ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، فإذا انكشف فلا بدّ من العمل على طبق الواقع.

وبكلمة اخرى : أنّ الشرط هو الطهارة أو الحلية الواقعية فحسب بمقتضى الأدلة الواقعية ، وهذه القواعد والاصول إنّما تثبت الطهارة أو الحلية في مواردها عند الشك والجهل بها ، والمكلف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها ما دام هذا الشك والجهل ، فإذا ارتفع انكشف أنّ العمل فاقد له من الأوّل ، وعليه فما أتى به غير مأمور به واقعاً. ومن الطبيعي أنّ إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل خاص ، وإلاّ فمقتضى القاعدة عدم إجزائه عنه.

أو فقل : إنّ في صورة مطابقة تلك القواعد للواقع فالشرط الواقعي موجود وصحة العمل مستندة إلى وجدانه ، ولا اثر عندئذ لوجود الطهارة أو الحلية

٧٣

الظاهرية ، وأمّا في صورة مخالفتها للواقع فأثرها ليس إلاّترتيب آثار الواقع عليها تعبداً في مرحلة الظاهر لا البناء على أنّها شرط حقيقة ، كما أنّ الطهارة أو الحلية الواقعية شرط كذلك ، بداهة أنّ لسانها ليس إثبات أنّ الشرط أعم منها ، بل لسانها إثبات آثار الشرط ظاهراً في ظرف الشك والجهل ، وعند ارتفاعه وانكشاف الخلاف ظهر أنّ الشرط غير موجود. ومن هنا يظهر أنّ هذه الحكومة إنّما هي حكومة في طول الواقع وفي ظرف الشك به بالاضافة إلى ترتيب آثار الشرط الواقعي عليها في مرحلة الظاهر فحسب ، وليست بحكومة واقعية بالاضافة إلى توسعة دائرة الشرط وجعله الأعم من الواقع والظاهر حقيقة.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : هي أنّ مقتضى القاعدة عند ارتفاع الجهل وكشف الخلاف عدم الإجزاء ، فالإجزاء يحتاج إلى دليل خاص ، وقد ثبت ذلك في خصوص باب الصلاة دون غيره من أبواب العبادات والمعاملات. وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا فرق بين هذه القواعد والاصول وبين الأمارات فانّهما من واد واحد ، فما أفاده قدس‌سره من التفصيل بينهما ساقط ولا أصل له كما عرفت ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : لا إشكال في أنّ الأمارات القائمة على الشبهات الموضوعية كالبينة واليد وما شاكلهما ممّا يجري في تنقيح الموضوع وإثباته خارجة عن محل البحث ، والسبب في ذلك : هو أنّ قيام تلك الأمارات على شيء لا يوجب قلب الواقع عما هو عليه ، والقائلون بالتصويب في الأحكام الشرعية لا يقولون به في الموضوعات الخارجية ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في ضمن البحوث الآتية أنّ الإجزاء في موارد الاصول والأمارات غير معقول إلاّبالالتزام بالتصويب فيها ، والتصويب في الأمارات الجارية في الشبهات الموضوعية غير معقول ، بداهة أنّ

٧٤

البيّنة الشرعية إذا قامت على انّ المائع الفلاني خمر مثلاً ، لا توجب انقلاب الواقع عما هو عليه من هذه الناحية ، فلو كان في الواقع ماء لم تجعله خمراً وبالعكس ، كما إذا قامت على أنّه ماء وكان في الواقع خمراً لم تجعله ماءً ، أو إذا قامت على أنّ المال الذي هو لزيد قد نقل منه بناقل شرعي إلى غيره ثمّ بعد ذلك انكشف الخلاف وبان أنّه لم ينتقل إلى غيره لم توجب انقلاب الواقع عما هو عليه وتغيّره ، يعني قلب ملكية زيد إلى غيره ، أو إذا افترضنا أنّها قامت على أنّ المائع الفلاني ماء فتوضأ به ثمّ انكشف خلافه لم يكن مجزئاً ، لما عرفت من أنّها لا توجب انقلاب الواقع ولا تجعل غير الماء ماء ، ليكون الوضوء المذكور مجزئاً عن الواقع.

ومن ناحية ثالثة : قد تسالمنا على خروج موارد انكشف عدم الحكم الظاهري فيها رأساً عن محل الكلام ، وذلك كما لو استظهر المجتهد معنى من لفظ وأفتى على طبقه استناداً إلى حجية الظهور ، ثمّ بعد ذلك انكشف أنّه لا ظهور له في هذا المعنى المعيّن أصلاً ، بل هو مجرد وهم وخيال فلا واقع موضوعي له ، فعندئذ لا ريب في عدم حجية هذا المعنى ، لعدم اندراجه تحت أدلة حجية الظهورات. وكذا لو أفتى المجتهد على طبق رواية وقع في سلسلة سنده ابن سنان ، بتخيّل أنّه عبدالله بن سنان الثقة ، ثمّ بان أنّه محمّد بن سنان الضعيف ، فانّ الاعتقاد الأوّل باطل ، حيث إنّه صرف وهم وخيال ولا واقع له.

فالنتيجة : أنّ كلّما كان الاشتباه في التطبيق بتخيل أنّ اللفظ الفلاني ظاهر في معنى ثمّ بان أنّه غير ظاهر فيه من الأوّل وكان اعتقاد الظهور مجرد وهم بلا واقعية له ، أو اعتقد أنّ الرواية الفلانية رواية ثقة بتخيل أنّ الواقع في سندها زرارة بن أعين مثلاً ثمّ انكشف أنّها رواية ضعيفة ، وأنّ الواقع في سندها ليس هو زرارة بن أعين ، بل شخص آخر لم يوثق ، أو اعتقد أنّ الرواية الفلانية

٧٥

مسندة ثمّ بان أنّها مرسلة وهكذا ، فهذه الموارد بكافة أشكالها خارجة عن محل النزاع وقد تسالموا على عدم الإجزاء فيها.

ومن ناحية رابعة : لا إشكال ولا خلاف أيضاً بين الأصحاب في عدم الإجزاء في موارد انكشاف الخلاف في الأحكام الظاهرية بالعلم الوجداني بأن يعلم المجتهد مثلاً بمخالفة فتواه السابقة للواقع.

فالنتيجة على ضوء ما قدّمناه في نهاية المطاف هي ما يلي :

إنّ محل النزاع في مسألتنا هذه بين الأعلام والمحققين هو ما إذا انكشف الخلاف في موارد الحجج والأمارات والاصول العملية في الشبهات الحكمية بقيام حجة معتبرة على الخلاف ، وذلك كما إذا أفتى المجتهد بعدم جزئية شيء أو شرطيته مثلاً من جهة أصل عملي كالاستصحاب أو البراءة ثمّ بعد ذلك انكشف الخلاف واطلع على دليل اجتهادي يدل على أنّه جزء أو شرط ، أو أفتى بذلك من جهة أصل لفظي كالعموم أو الاطلاق أو نحو ذلك ثمّ بعده انكشف الخلاف واطلع على وجود مخصص أو مقيد أو قرينة مجاز ، ففي هذه الموارد يقع الكلام في أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يجزي عن المأمور به بالأمر الواقعي إعادة أو قضاءً ، أو لا يجزي؟ فيه وجوه وأقوال.

والصحيح : هو التفصيل بين نظرية الطريقية في باب الأمارات والحجج ونظرية السببية ، فعلى ضوء النظرية الاولى مقتضى القاعدة عدم الإجزاء مطلقاً ـ يعني في أبواب العبادات والمعاملات وفي موارد الاصول والأمارات ـ إلا أن يقوم دليل خاص على الإجزاء في مورد. وعلى ضوء النظرية الثانية مقتضى القاعدة الإجزاء كذلك إلا أن يقوم دليل خاص على عدمه في مورد ، فلنا دعويان : الاولى : أنّ مقتضى القاعدة عدم الإجزاء بناءً على نظرية الطريقية والكاشفية. الثانية : أنّ مقتضى القاعدة الإجزاء بناءً على نظرية السببية.

٧٦

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ الأمارات على ضوء هذه النظرية تكشف عن عدم إتيان المكلف بالمأمور به الواقعي في هذه الشريعة ، وأنّ ما أتى به ليس بمأمور به كذلك ، والمفروض أنّ الصحة إنّما تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به في الخارج الموجبة لسقوط الاعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، كما أنّ الفساد ينتزع من عدم مطابقته له المترتب عليه وجوب الاعادة والقضاء ، ومن الطبيعي أنّ إجزاء غير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه ، وهذا معنى قولنا إنّ مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء.

ولكن قد يقال : إنّ الإجزاء هو المطابق للقاعدة ، واستدلّ عليه بأنّ انكشاف الخلاف إذا كان بقيام حجة معتبرة كما هو مفروض الكلام فلا علم بكون الحجة الاولى باطلة ومخالفة للواقع كما هو الحال فيما إذا كان انكشاف الخلاف بعلم وجداني ، بل الحجة السابقة كاللاّحقة من هذه الناحية ، فكما يحتمل أن تكون الحجة اللاّحقة مطابقة للواقع ، فكذلك يحتمل أن تكون الحجة الاولى مطابقة له وإن كان الواجب على من قامت عنده الحجة الثانية وعلى مقلديه العمل باجتهاده الثاني المستند إلى هذه الحجة الفعلية ، دون اجتهاده السابق المستند إلى الحجة السابقة ، والسبب في ذلك هو أنّ حجية السابقة إنّما تسقط في ظرف وصول الحجة اللاّحقة ، أمّا في ظرفها فهي باقية على حجيتها ، بداهة أنّه لا يعقل كشف الحجة اللاّحقة عن عدم حجية السابقة في ظرفها ، لأنّ الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، فإذا كانت السابقة متصفة بالحجية في ظرفها كما هو المفروض فكيف يعقل كشف اللاّحقة عن عدم حجيتها فيه ، فالتبدل في الحجية من التبدل في الموضوع لا من كشف الخلاف وعدم الثبوت في الواقع ، وعليه فلا وجه لبطلان الأعمال الماضية المستندة إلى الحجة السابقة.

وبكلمة اخرى : أنّ الواقع كما هو مجهول له في ظرف اجتهاده الأوّل كذلك

٧٧

هو مجهول في ظرف اجتهاده الثاني ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، فقيام الحجة الثانية على خلاف الاولى لا يعيّن بمؤداها الواقع الحقيقي لكي يستلزم خطأ الاولى وعدم مطابقتها للواقع ، بداهة أنّه كما يحتمل خطأ الاولى وعدم مطابقة مؤداها للواقع ، كذلك يحتمل خطأ الثانية وعدم مطابقة مؤداها له ، فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّا قد ذكرنا في غير مورد أنّ الأثر إنّما يترتب على الحجية الفعلية الواصلة إلى المكلف صغرىً وكبرىً ـ وهو تنجيز الواقع عند المصادفة والتعذير عند الخطأ وصحة الاسناد والاستناد ـ وأمّا الحجية المجعولة في مرحلة الانشاء التي لم تصل إلى المكلف صغرىً وكبرىً فلا أثر لها أصلاً ، مثلاً إذا علم بحجية البينة في الشريعة المقدسة وعلم بقيامها على نجاسة شيء تترتب عليها آثارها وهي التنجيز والتعذير وصحة الاسناد والاستناد. وأمّا إذا علم بحجيتها ولكن لم يعلم بقيامها على نجاسته في الخارج أو علم بقيامها عليها ولكنّه لم يعلم بحجيتها في الشريعة المقدسة ، لم يترتب عليها تنجيز نجاسة ذلك الموضوع الخارجي ، بل تبقى مشكوكة ، فالمرجع فيها الاصول العملية من الاستصحاب أو قاعدة الطهارة. وعلى الجملة : فالحجية متقوّمة بالوصول ، فان وصلت إلى المكلف صغرىً وكبرىً لم يبق موضوع للأصل العملي ، وإن لم تصله ولو بإحدى مقدمتيها فالموضوع للأصل العملي موجود حقيقة وهو الشك في الحكم الواقعي.

ومن ناحية ثالثة : أنّ انكشاف الخلاف في الحجية أمر غير معقول ، والتبدل فيها دائماً يكون من التبدل في الموضوع وارتفاع الحكم بارتفاعه ، لا عدم ثبوته من الأوّل كما هو واضح.

وإن شئت قلت : إنّ المقام نظير النسخ في الأحكام الشرعية ، فكما أنّ حقيقة

٧٨

النسخ انتهاء الحكم بانتهاء أمده ومدة عمره وثبوت الحكم حقيقة قبل انتهائه ، فكذلك حجية الأمارة الاولى ، فانّها منتهية بانتهاء أمدها ومدة عمرها ـ وهو الظفر بالحجة الثانية ووصولها ـ حيث إنّها ثابتة حقيقة قبل ذلك ، والسبب في ذلك : هو ما عرفت من أنّ اتصاف الأمارة بالحجية متقوّم بالوصول إلى المكلف بصغراها وكبراها ، فمتى وصلت إليه كذلك اتصفت بالحجية ، وإلاّ لم يعقل اتصافها بها. وعلى هذا فالحجة الثانية ما لم تصل إلى المكلف لا يعقل كونها مانعة عن اتصاف الحجة السابقة بها ولا توجب رفع اليد عنها أصلاً ، وذلك لفرض أنّها قبل وصولها لم تكن حجة لتكون مانعة عن حجيتها ورافعة لها ، فإذا وصلت فبطبيعة الحال كانت رافعة لحجيتها من حين الوصول ، لفرض أنّ اتصافها بالحجية من هذا الحين فلا يعقل أن تكون رافعة لها قبله ، فإذن لا مانع من اتصافها بالحجية في وقتها وقبل الظفر بحجية الحجة الثانية ، ولا مزاحم لها في هذه الفترة من الزمن ، ولا موجب لرفع اليد عنها في تلك الفترة.

فالنتيجة على ضوء هذه النواحي : هي أنّه لا مناص من الالتزام بصحة الأعمال الماضية المطابقة مع الحجة السابقة ، ولا موجب لاعادتها أو قضائها في الوقت أو خارجه ، لفرض أنّها صادرة عن المكلف على طبق الحجة في ظرفها واقعاً ، ومعه لا مقتضي لبطلانها أصلاً ، ومن البديهي أنّ الشيء لا ينقلب عما وقع عليه.

ولنأخذ بالنقد عليه بيان ذلك : أنّ مقتضى الأمارة الثانية ـ سواء فيها القول باتصافها بالحجية الفعلية من الأوّل ، أو القول باتصافها بها كذلك من حين وصولها والظفر بها ـ هو عدم الإجزاء.

أمّا على التقدير الأوّل : فواضح ، حيث إنّه بعد انكشاف الخلاف ظهر أنّ الأمارة الثانية كانت حجة من الأوّل ، والأمارة الاولى لم تكن حجة كذلك ،

٧٩

وصرف الاعتقاد بحجيتها من دون واقع موضوعي له لا أثر له أصلاً. ونتيجة ذلك بطبيعة الحال بطلان الأعمال الماضية ووجوب إعادتها أو قضائها ، حيث إنّها لم تكن مطابقة للحجة في ظرف حدوثها ، بل كانت مخالفة لها من ذلك الوقت على الفرض ، غاية الأمر أنّ المكلف جاهل بذلك ، ومعه كيف يمكن القول بالإجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء.

ولكن هذا التقدير مجرد فرض لا واقع له ، وذلك لما عرفت من أنّ حجية الأمارة فعلاً متقومة بالوصول فلا يعقل اتصافها بها كذلك من دون وصولها إلى المكلف صغرىً وكبرىً. وإن شئت قلت : إنّ الحجية وإن كانت كغيرها من الأحكام الشرعية ، فكما أنّ لها مرتبتين : مرتبة الانشاء ، ومرتبة الفعلية ، فكذلك للحجية مرتبتان : مرتبة إنشائها ، وهي جعلها على نحو القضية الحقيقية ولا أثر لها في هذه المرتبة ، ومرتبة فعليتها ، وهي مرتبة ترتب الآثار عليها ، ومن الطبيعي أنّ هذه المرتبة تتوقف على وصولها إلى المكلف ، حيث إنّ الآثار المرغوبة منها كالتنجيز والتعذير وصحة الاسناد والاستناد لا تترتب عليها إلاّبعد فعليتها ووصولها ، ضرورة أنّه لا معنى لحجية شيء فعلاً إلاّترتيب تلك الآثار عليه.

وأمّا على التقدير الثاني : فلأنّ صفة الحجية وإن كانت تحدث للأمارة المتأخرة بعد الظفر بها ووصولها ، ولا معنى لاتصافها بها قبل ذلك ، ومن هنا قلنا إنّ انكشاف الخلاف في الحجية أمر غير معقول ، والتبدل فيها إنّما هو من التبدل في الموضوع ، إلاّ أنّ مدلولها أمر سابق ، حيث إنّها تحكي عن ثبوت مدلولها في الشريعة المقدسة من دون اختصاصه بزمن دون آخر وبعصر دون عصر ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ المجتهد أفتى بطهارة شيء من جهة قاعدة الطهارة ثمّ وجد ما يدل على نجاسته ، كالاستصحاب مثلاً كما إذا علم أنّ حالته السابقة هي النجاسة ، فهذا لا يكشف عن عدم حجية القاعدة في ظرفها ، وإنّما يوجب

٨٠