محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

الأمر فيه ، لا إلى شيء آخر.

الثالثة : أنّ الأمر ساقط في حال العصيان.

ولكن جميع هذه الدعاوى باطلة.

أمّا الدعوى الاولى : فالأمر على عكسها ـ أعني به أنّ هذا الفرض وما يشبهه خارج عن محل الكلام في المقام ـ والوجه في ذلك : هو ما عرفت من أنّ محل الكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر بالمهم إلاّبناءً على القول بالترتب ، وفي هذا الفرض يمكن إثبات الأمر به مع قطع النظر عنه ، إذ المانع عن تعلق الأمر به هو فعلية الأمر بالأهم ، وبعد سقوطه عن الفعلية لا مانع من تعلقه به أصلاً ، وبما أنّ المفروض هنا سقوطه في الآن الثاني ، فلا مانع من تعلق الأمر بالمهم فيه ، لما تقدّم من أنّ صحة تعلق الأمر به بعد سقوط الأمر عن الأهم من الواضحات الأوّلية ، وليس من محل النزاع في شيء.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الواجب الأهم إذ كان موقتاً على نحو يكون وقته مساوياً لفعله ، فهو خارج عن محل البحث ، لسقوط وجوبه في الآن الثاني بمجرد تركه خارجاً وعدم الاتيان به في الآن الأوّل.

وأمّا الدعوى الثانية : فلما عرفت من أنّ العصيان بنفسه لا يمكن أن يكون مسقطاً للأمر ، وقد سبق أنّ المسقط له أحد الأمرين المزبورين ولا ثالث لهما هما : ١ ـ امتثاله الموجب لحصول الغرض والملاك الداعي له. ٢ ـ وعجز المكلف عنه الموجب لامتناع حصوله. وأمّا مجرد ترك امتثاله في الآن الأوّل وعصيانه فيه مع تمكنه منه في الآن الثاني فلا يوجب سقوطه ، ضرورة أنّ سقوطه عندئذ من دون موجب وعلة وهو محال.

وأمّا الدعوى الثالثة : فلما تقدّم من أنّ الأمر ثابت في حال العصيان ،

٤٦١

ضرورة أنّه لو لم يكن ثابتاً في آن العصيان فلا معنى لمخالفة المكلف وعصيانه إيّاه ، فانّه لا أمر في هذا الآن ليعصيه ، وقد سبق أنّ ثبوته بالاطلاق على وجهة نظرنا ومن جهة اقتضائه هدم عصيانه على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه هنا عدّة امور :

الأوّل : أنّ الواجب الأهم إذا كان آنياً أو كان على نحو يسقط أمره بمجرد عدم إتيانه في الآن الأوّل وعصيانه فيه بسقوط موضوعه ـ وهو القدرة ـ وكان الواجب المهم تدريجياً ، فهو خارج عن محل البحث ، لعدم توقف إثبات الأمر بالمهم على القول بالترتب كما مرّ.

الثاني : أنّ العصيان بأيّ نحو فرض لا يعقل أن يكون مسقطاً للأمر ، نعم قد يوجب سقوطه من جهة سقوط موضوعه وعدم تمكن المكلف من امتثاله بعده.

الثالث : أنّ المسقط للأمر بقانون أنّه تابع للغرض والملاك الداعي له حدوثاً وبقاءً إنّما هو أحد الأمرين المتقدمين ، حصول الملاك والغرض في الخارج بالامتثال ، وامتناع حصوله وتحققه فيه لعجز المكلف عنه.

الرابع : أنّ الامتثال لا يقتضي بذاته سقوط الأمر ، بل اقتضاؤه ذلك باعتبار حصول غرضه وانتهاء أمد اقتضائه بوجود مقتضاه في الخارج.

الخامس : أنّ الشرط لفعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم بوجوده الخارجي على نحو الشرط المقارن ، بمعنى أنّه ما لم يتحقق في الخارج لم يصر الأمر بالمهم فعلياً.

السادس : أنّ الأمر بالأهم والأمر بالمهم وإن اجتمعا على هذا في زمان واحد ، إلاّ أنّ مقتضاهما ليس هو طلب الجمع بين متعلقيهما بل هو طلب التفريق

٤٦٢

بينهما ، كما حققناه بصورة مفصلة.

فالنتيجة على ضوء هذه الامور : هي بطلان الدليل المزبور وأ نّه لا مجال له أبداً.

إلى هنا قد تبين بطلان جميع أدلة استحالة الترتب وأ نّه لا يمكن تصديق شيء منها.

هذا تمام كلامنا في بحث الترتب جوازاً وامتناعاً ، إمكاناً واستحالة.

بقي الكلام في أُمور :

الأمر الأوّل

قد ذكرنا في آخر بحث البراءة والاشتغال أنّ حديث لا تعاد لا يختص بالناسي ، بل يعمّ الجاهل القاصر أيضاً ولذلك قلنا بعدم وجوب الاعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث قد استظهر اختصاصه بالناسي فلا يعمّ الجاهل (١). وقد ذكرنا هناك أنّ ما ذكره قدس‌سره في وجه ذلك غير تام ، وتمام الكلام في بحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالى.

وأمّا الجاهل المقصر فقد تسالم الأصحاب قديماً وحديثاً على عدم صحة عباداته ، واستحقاقه العقاب على ترك الواقع ومخالفته ، ووجوب الاعادة والقضاء عليه عند انكشاف الخلاف وظهوره ، ولكن استثني من ذلك مسألتان.

الاولى : مسألة الجهر والخفت.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٢٨.

٤٦٣

الثانية : مسألة القصر والتمام ، حيث ذهب المشهور إلى صحة الصلاة جهراً في موضع الاخفات وبالعكس ، وصحة الصلاة تماماً في موضع القصر ، وكذلك القصر في موضع التمام للمقيم عشرة أيام ـ لا مطلقاً ـ على المختار ، كل ذلك في فرض الجهل ولو عن تقصير ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ المشهور قد التزموا في تلك الموارد باستحقاق العقاب على مخالفة الواقع وتركه ، فمن صلّى جهراً في موضع الاخفات أو بالعكس ، أو صلّى تماماً في موضع القصر استحقّ العقاب على ترك الواقع ، مع الحكم بصحة ما أتى به.

ومن هنا وقع الاشكال في الجمع بين هاتين الناحيتين وأ نّه كيف يمكن الحكم بصحة المأتي به خارجاً وأ نّه مجزئ عن الواقع وعدم وجوب الاعادة مع بقاء الوقت ، والحكم باستحقاق العقاب.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ المسألتين بحسب الفتاوى والنصوص ممّا لا إشكال فيهما أصلاً.

أمّا بحسب الفتاوى فقد تسالم الأصحاب عليهما.

وأمّا بحسب النصوص فقد وردت فيهما نصوص صحيحة قد دلّت على ذلك ، وإنّما الكلام والاشكال في الجمع بين الناحيتين المزبورتين في مقام الثبوت والواقع ، وقد تفصي عن ذلك بوجهين :

الأوّل : ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره (١) من الالتزام بالترتب في المقام ، بتقريب أنّ الواجب على المكلف ابتداءً هو الصلاة جهراً مثلاً ، وعلى تقدير تركه وعصيان أمره فالواجب هو الصلاة إخفاتاً أو بالعكس ، أو أنّ الواجب عليه ابتداءً هو الصلاة قصراً ، وعلى تقدير تركه فالواجب هو

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٧.

٤٦٤

الصلاة تماماً ، وبذلك دفع الاشكال المزبور وأ نّه لا منافاة عندئذ بين الحكم بصحة العبادة المأتي بها جهراً أو إخفاتاً وأ نّها مجزئة عن الواقع ، وصحة العقاب على ترك الآخر.

وقد أورد عليه شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره بقوله : إنّا لا نعقل الترتب (١) ، واكتفى بذلك ولم يبيّن وجهه.

وأورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) بأنّ قوله هذا مناقض لما ذهب إليه في تعارض الخبرين بناءً على السببية من الالتزام بالترتب هناك.

وإليك نص كلامه : إنّ الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين في الجملة وعدم تساقطهما ليس لأجل شمول العموم اللفظي لأحدهما على البدل من حيث هذا المفهوم المنتزع ، لأنّ ذلك غير ممكن كما تقدّم وجهه في بيان الشبهة ... لكن لمّا كان امتثال التكليف بالعمل بكل واحد منهما كسائر التكاليف الشرعية والعرفية مشروطاً بالقدرة ، والمفروض أنّ كل واحد منهما مقدور في حال ترك الآخر وغير مقدور مع إيجاد الآخر ، فكل منهما مع ترك الآخر مقدور يحرم تركه ويتعين فعله ، ومع إيجاد الآخر يجوز تركه ولا يعاقب عليه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتيجة أدلة وجوب الامتثال والعمل بكل منهما بعد تقييد وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا يحكم به بداهة العقل ، كما في كل واجبين اجتمعا على المكلف ولا مانع من تعيين كل منهما على المكلف بمقتضى دليله إلاّ تعيّن الآخر عليه كذلك.

والسرّ في ذلك : أنّا لو حكمنا بسقوط كليهما مع إمكان أحدهما على البدل ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٢٤.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٥٧.

٤٦٥

لم يكن وجوب كل واحد منهما ثابتاً بمجرّد الامكان ، ولزم كون وجوب كل منهما مشروطاً بعدم وجود الآخر ، وهذا خلاف ما فرضنا من عدم تقييد كل منهما في مقام الامتثال بأزيد من الامكان ، سواء كان وجوب كل منهما بأمر أو كان بأمر واحد يشمل الواجبين ، وليس التخيير في القسم الأوّل لاستعمال الأمر في التخيير. والحاصل أنّه إذا أمر الشارع بشيء واحد استقلّ العقل بوجوب إطاعته في ذلك الأمر بشرط عدم المانع العقلي والشرعي ، وإذا أمر بشيئين واتفق امتناع ايجادهما في الخارج استقلّ بوجوب إطاعته في أحدهما لا بعينه ، لأنّها ممكنة فيقبح تركها ، لكن هذا كلّه على تقدير أن يكون العمل بالخبر من باب السببية ، بأن يكون قيام الخبر على وجوب شيء واقعاً سبباً شرعياً لوجوبه ظاهراً على المكلف ، فيصير المتعارضان من قبيل السببين المتزاحمين ، فيلغى أحدهما مع وجود وصف السببية فيه لاعمال الآخر كما في كل واجبين متزاحمين (١).

أقول : ما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من المناقضة بين كلام الشيخ قدس‌سره في المقام ، وما ذكره في بحث التعادل والترجيح متين جداً ، فان كلامه هناك الذي نقلناه بألفاظه هنا ظاهر بل صريح في التزامه بالترتب ، إذ لا معنى له إلاّ الالتزام بوجوب أحد الواجبين المتزاحمين عند ترك الآخر ، بأن يرفع اليد عن إطلاق كل واحد منهما عند الاتيان بالآخر ، لا عن أصله إذا كانا متساويين ، وعن إطلاق واحد منهما إذا كان أحدهما أهم من الآخر.

ومن الواضح جداً أنّه لا فرق في القول بالترتب بين أن يكون من طرف واحد كما تقدّم الكلام فيه مفصلاً ، وأن يكون من الطرفين كما إذا كان كلاهما متساويين ، فانّه عند ذلك بما أنّ المكلف لا يقدر على الجمع بينهما في الخارج فلا مانع من أن يكون الأمر بكل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر فهما ـ الترتب

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٦١.

٤٦٦

من طرف واحد ، ومن الطرفين ـ يشتركان في ملاك إمكان الترتب واستحالته ، فان ملاك الامكان هو أنّ اجتماع الأمرين كذلك في زمان واحد لا يستلزم طلب الجمع ، وملاك الاستحالة هو أنّ اجتماعهما كذلك يستلزم طلبه ، والمفروض أنّ الأمرين مجتمعان في زمان واحد ، لما عرفت من أنّ الأمر ثابت حالتي وجود متعلقه وعدمه فلا يسقط بمجرّد تركه ، كما أنّه لايسقط بصرف الاشتغال بالآخر. نعم ، يسقط بعد الاتيان به ، لفرض أنّ وجوب كل منهما مشروط بعدم الاتيان بالآخر ، فلا محالة لا وجوب بعد الاتيان به ، وعلى كل حال فهو قدس‌سره قد التزم بالترتب في تعارض الخبرين بناءً على السببية غافلاً عن كون هذا ترتباً مستحيلاً في نظره.

ومن هنا قلنا إنّ مسألة إمكان الترتب مسألة ارتكازية وجدانية ، ولا مناص من الالتزام بها ، ولذا قد يلتزم بها المنكر لها بشكل آخر وببيان ثانٍ غافلاً عن كونه ترتباً ، مع أنّه هو في الواقع وبحسب التحليل.

وأمّا شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) فقد أورد على ما أفاده الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره في المسألة ـ صحّة الجهر في موضع الاخفات وبالعكس جهلاً ـ من ناحية اخرى ، ونحن وإن تعرضنا المسألة في آخر بحث البراءة والاشتغال ودفعنا الاشكال عنها من دون حاجة إلى الالتزام بالترتب فيها ، إلاّ أنّ الكلام هنا يقع في الوجوه التي ذكرها شيخنا الاستاذ قدس‌سره في وجه عدم جريان الترتب فيها ، وأ نّها ليست من صغريات كبرى مسألة الترتب ، بيانها :

الأوّل : أنّ محل الكلام في جريان الترتب وعدم جريانه إنّما هو فيما إذا كان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩١.

٤٦٧

التضاد بين متعلقي الحكمين اتفاقياً ، والوجه في ذلك : هو أنّ التضاد بين المتعلقين إنّما يوجب التزاحم بين الحكمين فيما إذا كان من باب الاتفاق كالصلاة وإزالة النجاسة عن المسجد وإنقاذ الغريقين وما شاكلهما بالاضافة إلى من لا يقدر على الجمع بينهما في عالم الوجود ، ولذا لا تزاحم ولا تضاد بينهما بالاضافة إلى من يقدر على الجمع بينهما فيه. وأمّا إذا كان التضاد بينهما دائمياً بحيث لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الوجود أصلاً كالقيام والجلوس والسواد والبياض وما شابههما ، فلا يمكن جعل الحكمين لهما معاً ، لأنّ ذلك لغو صرف فلا يصدر من الحكيم.

نعم ، يمكن جعلهما على نحو التخيير إلاّ أنّه خارج عن محل الكلام ، وعليه فلا محالة يدخلان في باب التعارض ، لتنافيهما بحسب مقام الجعل.

وعلى هذا الأساس فحيث إنّ التضاد بين الجهر والاخفات دائمي فلا محالة كان دليل وجوب كل منهما معارضاً لدليل وجوب الآخر ، فبذلك يخرجان عن باب التزاحم الذي هو الموضوع لبحث الترتب.

ويمكن المناقشة فيما أفاده قدس‌سره وذلك لأنّ ما ذكره من أنّ التضاد بين المتعلقين إذا كان دائمياً فيدخلان في باب التعارض ، وإن كان متيناً جداً ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع عن جريان بحث الترتب فيهما إمكاناً واستحالة ، فانّ ملاك إمكانه هو أنّ تعلق الأمرين بالضدّين على نحو الترتب لا يرجع إلى طلب الجمع بينهما في الخارج ، وملاك استحالته هو أنّ ذلك يرجع إلى طلب الجمع بينهما فيه ، ومن الواضح جدّاً أنّه لا يفرق في ذلك بين أن يكون التضاد بينهما اتفاقياً أو دائمياً ، ضرورة أنّ مرجع ذلك إن كان إلى طلب الجمع فهو محال على كلا التقديرين من دون فرق بينهما أصلاً ، وإن لم يكن إلى طلب الجمع فهو جائز كذلك ، إذ على هذا كما يجوز تعلق الأمر بالصلاة والازالة مثلاً على نحو الترتب ، كذلك

٤٦٨

يجوز تعلق الأمر بالقيام والقعود مثلاً على هذا النحو.

وعلى الجملة : فالمحال إنّما هو طلب الجمع ، فكما يستحيل طلب الجمع بين القيام والقعود خارجاً ، فكذلك يستحيل طلب الجمع بين الصلاة والازالة ، وأمّا طلبهما على نحو الترتب الذي هو مناقض لطلب الجمع ومعاند له فلا مانع منه أصلاً.

فالنتيجة من ذلك : هي أنّ الترتب كما يجري بين الخطابين في مقام الفعلية والمزاحمة بتقييد فعلية خطاب المهم بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه ، كذلك يجري بينهما في مقام الجعل والمعارضة بتقييد جعل أحد الحكمين المتعارضين بعصيان الحكم الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه على نحو القضية الحقيقية ، وفي مسألتنا هذه لا مانع من جعل وجوب الجهر في موضع الخفت وبالعكس على نحو الترتب ، بأن يكون الواجب على المكلف ابتداءً هو الاخفات مثلاً ، وعلى تقدير عصيانه وتركه جهلاً يكون الواجب عليه هو الجهر أو بالعكس ، وكذا الحال في موضع القصر والتمام ، فانّ المجعول ابتداءً على المسافر هو وجوب القصر ، وعلى تقدير تركه وعدم الاتيان به جهلاً يكون المجعول عليه هو وجوب التمام ، ولا مانع من أن يؤخذ في موضوع أحد الخطابين عصيان الخطاب الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه في مقام الجعل أصلاً.

نعم ، الترتب في مقام الجعل في هاتين المسألتين يمتاز عن الترتب في مقام الفعلية والامتثال في نقطتين :

الاولى : أنّ المأخوذ في موضوع الخطابين فيهما عدم الاتيان بالآخر في حال الجهل لا مطلقاً ، ولذا لو لم يأت المكلف بالصلاة جهراً في صورة العلم والعمد أو الصلاة قصراً فلم تجب عليه الصلاة إخفاتاً أو الصلاة تماماً بالترتب ، فيختصّ القول بالترتب فيهما بحال الجهل.

٤٦٩

الثانية : أنّ وقوع الترتب في مقام الجعل يحتاج إلى دليل ، فلا يكفي إمكانه لوقوعه ، وهذا بخلاف الترتب في مقام التزاحم والامتثال ، فان إمكانه يُغني عن إقامة الدليل على وقوعه فيكون الوقوع على طبق القاعدة ، لما عرفت سابقاً من أنّه بناءً على إمكان الترتب كما هو المفروض ، فالساقط إنّما هو إطلاق خطاب المهم دون أصله ، لأنّ سقوط أصله بلا موجب وسبب ، إذ الموجب له إنّما هو وقوع التزاحم بينه وبين خطاب الأهم ، والمفروض أنّ التزاحم يرتفع برفع اليد عن إطلاق خطاب المهم. وعليه فلا بدّ من الاقتصار على ما يرتفع به التزاحم المزبور ، وأمّا الزائد عليه فيستحيل سقوطه.

وعلى هذا يترتب بقاء خطاب المهم في ظرف عصيان خطاب الأهم وعدم الاتيان بمتعلقه ، وهذا معنى أنّ وقوعه لا يحتاج إلى دليل ، بل نفس ما دلّ على وجوب المهم كاف.

ولكن للشيخ الكبير ( قدس‌سره ) أن يدعي أنّ الدليل قد دلّ على وقوعه في المسألتين المزبورتين ، وهو الروايات الصحاح الدالة على صحة الجهر في موضع الخفت وبالعكس ، وصحة التمام في موضع القصر ، وعليه فيتم ما أفاده قدس‌سره ثبوتاً وإثباتاً ، ولا يرد عليه ما أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره فانّه لم يدّع الترتب في مقام التزاحم والفعلية ليرد عليه ما أورده ، بل هو يدّعي الترتب في مقام الجعل ، وقد عرفت أنّه بمكان من الوضوح ، غاية الأمر أنّ وقوعه يحتاج إلى دليل ، وقد عرفت الدليل عليه ـ وهو الروايات المزبورة ـ فإذن يتمّ ما أفاده.

الثاني : ما أفاده قدس‌سره من أنّ مورد بحث الترتب هو ما إذا كان خطاب المهم مترتباً على عصيان الخطاب بالأهم وترك متعلقه ، ومن الواضح أنّ هذا إنّما يعقل فيما إذا لم يكن المهم ضروري الوجود في الخارج عند عصيان

٤٧٠

الأهم وعدم الاتيان به ، وإلاّ فلا يعقل تعلق الأمر به في هذا الحال ، ضرورة استحالة تعلق الطلب بما هو ضروري الوجود في الخارج ، كما أنّه يستحيل تعلقه بما هو ممتنع الوجود فيه ، وبذلك يظهر أنّ مورد البحث في المسألة إنّما هو في الضدّين اللذين لهما ثالث كالصلاة والازالة مثلاً ، والقيام والقعود والسواد والبياض وما شاكلهما ، فان وجود أحدهما لا يكون ضرورياً عند عصيان الآخر وتركه. وأمّا الضدّان اللذان لا ثالث لهما كالحركة والسكون وما شابههما ، فلا يعقل جريان الترتب فيهما ، لأنّ وجود أحدهما عند عصيان الآخر وتركه ضروري ، فلا يكون قابلاً لأن يتعلق به الخطاب الترتبي ، بداهة أنّ طلبه عندئذ يكون من قبيل طلب الحاصل.

وعلى الجملة : فإذا كان وجود الشيء ضرورياً على تقدير ترك الآخر كوجود الحركة مثلاً على تقدير ترك السكون أو بالعكس ، لاستحال تعلق الأمر به على هذا التقدير ، لأنّ قبل تحقق ذلك التقدير يستحيل كون الأمر المتعلق به فعلياً ، لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه وتحققه ، وبعد تحققه يكون طلبه طلباً لايجاد الموجود وهو محال.

فقد تحصّل : أنّ طلب أحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما على تقدير ترك الآخر ، طلب لما هو مفروض الوجود في الخارج وهو مستحيل ، كما أنّه يستحيل طلب الشيء على فرض وجوده أو عدمه فيه على ما سبق.

وبعد ذلك نقول : إنّ الجهر والاخفات في القراءة بما أنّهما من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وكذا القصر والتمام ، فانّ المكلف في حال القراءة لا يخلو من الجهر أو الاخفات ، وكذا في حال الصلاة لا يخلو من القصر أو التمام ، ولا ثالث في البين ، فلا يعقل جريان الترتب فيهما ، لفرض أنّ وجود أحدهما على تقدير ترك الآخر ضروري ، وعليه فيستحيل تعلق الأمر بأحدهما في ظرف ترك

٤٧١

الآخر ، لأنّه طلب الحاصل ، فلا يمكن أن يقال : إنّ الاخفات مأمور به على تقدير ترك الجهر أو بالعكس ، أو التمام مأمور به على تقدير ترك القصر.

فالنتيجة من ذلك : هي أنّ هاتين المسألتين خارجتان عن موضوع الترتب رأساً.

وغير خفي أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الكبرى ، وهي اختصاص القول بجواز الترتب بما إذا كان للواجبين المتضادين ثالث ، في غاية المتانة والصحة ، والوجه فيه : ما عرفت في ضمن كلامه من أنّ وجود أحدهما إذا كان ضرورياً عند ترك الآخر فلا يعقل تعلق الأمر به في هذا الحال ، إلاّ أنّ تلك الكبرى لا تنطبق على المسألتين المزبورتين وأ نّهما ليستا من صغرياتها ومصاديقها ، وذلك لأنّ جعل محل الكلام في المسألتين من الضدّين اللذين لا ثالث لهما غير مطابق للواقع ، ومبني على تخيل أنّ المأمور به هو نفس الجهر والاخفات في هذه المسألة ، والقصر والتمام في تلك المسألة.

وعليه فالمكلف في حال القراءة لا محالة لا يخلو من الجهر أو الاخفات ، كما أنّه في حال الصلاة لا يخلو من القصر أو التمام. ولكنّه غفلة عن الواقع ، وذلك لأنّ المأمور به في المسألة الاولى إنّما هو القراءة الجهرية أو الاخفاتية ، وفي المسألة الثانية إنّما هو الصلاة قصراً أو الصلاة تماماً ، ومن الواضح جداً أنّهما من الضدّين اللذين لهما ثالث ، ضرورة أنّ القراءة الجهرية ليست ضرورية الوجود عند ترك القراءة الاخفاتية أو بالعكس ، كما أنّ الصلاة تماماً ليست ضرورية الوجود عند ترك الصلاة قصراً ، إذ المكلف عند ترك القراءة جهراً يمكن أن يأتي بها إخفاتاً ويمكن أن لا يأتي بها أصلاً ، كما أنّه عند ترك الصلاة قصراً يمكن أن يأتي بالصلاة تماماً ويمكن أن لا يأتي بها أبداً ، وعلى هذا فلا مانع من تعلق الأمر بهما على نحو الترتب ، بأن يكون الأمر باحداهما مشروطاً

٤٧٢

بعصيان الأمر بالاخرى وعدم الاتيان بمتعلقه.

نعم ، لا واسطة بين الجهر والاخفات في ظرف وجود القراءة ، كما أنّه لا واسطة بين القصر والتمام في فرض وجود الصلاة ، فانّ الصلاة إذا تحققت فلا محالة لا تخلو من كونها قصراً أو تماماً ولا ثالث لهما ، كما أنّ القراءة إذا تحققت فلا تخلو من كونها جهرية أو إخفاتية. ولكن هذا ليس من محل الكلام في شيء ضرورة أنّ المأمور به كما عرفت ليس هو الجهر أو الاخفات بما هو ، والقصر أو التمام كذلك ، بل المأمور به هو القراءة الجهرية والقراءة الاخفاتية ، والصلاة قصراً والصلاة تماماً ، وقد عرفت أنّ بينهما واسطة فلا يكون وجود إحداهما ضرورياً عند ترك الاخرى.

بل يمكن أن يقال : إنّ ما ذكره قدس‌سره لو تمّ فانّما يتم بالاضافة إلى مسألة الجهر والخفت ، وأمّا بالنسبة إلى الاتمام والتقصير فالواسطة موجودة ، فان معنى التقصير هو الاتيان بالتسليمة في الركعة الثانية ، ومعنى الاتمام هو التسليم في الركعة الرابعة ، ويمكن المكلف ترك كلا الأمرين كما هو واضح.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ المسألتين داخلتان في موضوع بحث الترتب. فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّهما من الضدّين اللذين ليس لهما ثالث مبني على غفلته عما ذكرناه ، وتخيل أنّ المأمور به هو نفس الجهر والاخفات.

الثالث : ما ذكره قدس‌سره من أنّ الخطاب المترتب على عصيان خطاب آخر إنّما يكون فعلياً عند تحقق أمرين :

الأوّل : تنجز الخطاب المترتب عليه من ناحية وصوله إلى المكلف صغرىً وكبرىً. وقد ذكرنا في محلّه أنّ التكليف ما لم يصل إلى المكلف بحسب الصغرى والكبرى لا يكون محرّكاً له وموجباً لاستحقاق العقاب على مخالفته (١).

__________________

(١) راجع مصباح الاصول ٢ : ٧٦.

٤٧٣

الثاني : عصيانه الذي هو الموضوع للخطاب المترتب. وقد ذكرنا غير مرّة أنّ فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، ويستحيل أن يكون الحكم فعلياً بدون فعلية موضوعه وتحققه في الخارج ، وحيث إنّ المفروض فيما نحن فيه توقف صحة الصلاة مع القراءة الجهرية مثلاً على الجهل بوجوب الاخفات ، فلا يمكن تحقق العصيان للتكليف بالاخفات ووجوبه ليتحقق موضوع وجوب الجهر ، لأنّ التكليف الواقعي لا يتنجز مع الجهل به ، وبدون التنجز لا يتحقق العصيان الذي اخذ في موضوع وجوب الجهر.

وعلى هذا ، فلا يتحقق شيء من الأمرين المزبورين ، وبدون ذلك يستحيل فعلية الخطاب المترتب ، فإذا استحالت فعليته استحال جعله أيضاً ، لما ذكرناه من أنّ الغرض من جعل التكليف ـ سواء أكان وجوبياً أم تحريمياً ـ إنّما هو إيجاد الداعي للمكلف نحو الفعل أو الترك ، ومن الواضح أنّه إنّما يكون داعياً فيما إذا أمكن إحرازه صغرىً وكبرىً ، وأمّا إذا لم يمكن إحرازه كذلك فيستحيل أن يكون داعياً.

ومن هنا قد ذكرنا في بحث البراءة (١) أنّ التكليف إذا لم يصل إلى المكلف صغرىً فلا يكون محرّكاً له بمجرّد وصوله كبرى ، كما إذا علم بحرمة شرب الخمر مثلاً في الشريعة المقدسة ، ولكن لم يعلم أنّ هذا المائع المعيّن خمر ، فلا يكون مثل هذا العلم داعياً إلى ترك شرب هذا المائع ، وكذا الحال فيما إذا كان التكليف واصلاً صغرىً ، ولكنّه لم يصل كبرىً ، كما إذا علم أنّ هذا المائع المعيّن خمر ، ولكن لم يعلم حرمة شربه ، فلا يكون مجرّد العلم بكونه خمراً مؤثراً في تركه.

ومن ذلك قلنا إنّه لا فرق في جريان البراءة بين الشبهات الحكمية والموضوعية ،

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٧٦.

٤٧٤

فكما أنّها تجري في الاولى فكذلك تجري في الثانية ، لأنّ ملاك الجريان فيهما واحد ـ وهو عدم العلم بالتكليف الفعلي ـ غاية الأمر أنّ جريانها في الاولى مشروط بالفحص فلا تجري قبله ، دون الثانية ، وفي المقام بما أنّه لا يمكن إحراز موضوع الخطاب المترتب ـ وهو عصيان الخطاب المترتب عليه ـ فلا يمكن جعله لأ نّه لغو فلا يصدر من الحكيم.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ المفروض في محل الكلام هو أنّ الجهل بالخطاب المترتب عليه ناشئ عن التقصير ، فلا يكون مانعاً عن تنجز الخطاب المزبور ، وحصول عصيانه الذي اخذ في موضوع الخطاب المترتب ، فانّ المانع عن ذلك إنّما هو الجهل عن قصور.

وأجاب عنه : بأنّ الخطاب الواقعي لا يكون منجّزاً وقابلاً للدعوة في ظرف الجهل ، من دون فرق فيه بين كون الجهل عن قصور أو عن تقصير ، وأمّا استحقاق العقاب فانّما هو على مخالفة الواقع في ظرف وجوب الاحتياط أو التعلم ، والوجه فيه : ما ذكرناه في محلّه (١) من أنّ وجوب الاحتياط أو التعلم إنّما هو من باب تتميم الجعل الأوّل ، فالعقاب على مخالفة الواقع هو بعينه العقاب على مخالفة إيجاب الاحتياط أو التعلّم وبالعكس. وعلى هذا يترتب أنّ استحقاق العقاب على تقدير مخالفة الحكم الواقعي في موارد وجوب الاحتياط أو التعلم لا يصحح إحراز العصيان ، فانّ إحرازه يتوقف على وصول الحكم الواقعي بنفسه بالوجدان أو بطريق معتبر من أمارة أو أصل محرز ، ومن الواضح أنّه ما لم يحرز العصيان لا وجداناً ولا تعبداً لا يكون الحكم المترتب عليه محرزاً أيضاً.

وبتعبير آخر : أنّ تعلق الأمر بالضدّين على نحو الترتب يبتني على أخذ

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٦١.

٤٧٥

عصيان الأمر المترتب عليه في موضوع الأمر المترتب ، وهذا في محل الكلام غير معقول ، فلا يمكن أخذ عصيان الأمر بالاخفات مثلاً في موضوع الأمر بالجهر ، والوجه في ذلك : هو أنّ المكلف بالقراءة الاخفاتية لا يخلو من أن يكون عالماً بوجوب الاخفات عليه ، أو يكون جاهلاً به ولا ثالث لهما. أمّا الفرض الأوّل فهو خارج عن محل الكلام ، إذ المفروض فيه توقف صحة الجهر على الجهل بوجوب الاخفات ، فلا يقع صحيحاً في صورة العلم بوجوبه بالضرورة. وأمّا على الفرض الثاني فعصيان وجوب الاخفات وإن كان متحققاً في الواقع ، إلاّ أنّه يستحيل جعله موضوعاً لوجوب الجهر في ظرف الجهل ، لاستحالة جعل حكم على موضوع لا يمكن إحرازه أصلاً ، فانّ المكلف إذا علم بعصيانه وجوب الاخفات ينقلب الموضوع فيصير الواجب عليه عندئذ هو الاخفات دون الجهر ، وإذا كان جاهلاً به فلا يصل ، وعليه فكيف يمكن أخذه في موضوع وجوب الجهر.

وإن شئت فقل : إنّ فعلية الخطاب المترتب تتوقف على توفير شروط :

الأوّل : أن يكون الخطاب المترتب عليه فعلياً ومنجّزاً.

الثاني : كون المكلف عاصياً له وغير آتٍ به في الخارج.

الثالث : كونه عالماً بعصيانه ، فعند توفر هذه الشروط الثلاثة يمكن القول بالترتب وبفعلية الخطاب المترتب ، وإلاّ فلا يمكن القول به أبداً ، فالموارد التي تجري فيها أصالة البراءة عن التكليف المجهول كما في الشبهات البدوية ، تنتفي فيها الشروط الثلاثة معاً ، ضرورة أنّه مع جريان البراءة لا يتنجز التكليف الواقعي ، ومع عدم تنجزه فلا عصيان فضلاً عن العلم به. وعليه فلا يمكن القول بالخطاب الترتبي في تلك الموارد ، كما أنّه في الموارد التي لا تجري فيها أصالة البراءة من جهة وصول التكليف الواقعي بطريقه وذلك كموارد الشبهات

٤٧٦

قبل الفحص ، والموارد التي اهتمّ الشارع بها ، يمتنع جعل خطاب مترتب على عصيان التكليف الواقعي في تلك الموارد ، فانّ التكليف الواقعي فيها وإن كان فعلياً ومنجّزاً إلاّ أنّ مجرد ذلك لا يجدي في صحة الخطاب بنحو الترتب ، لانتفاء الشرطين الأخيرين فيها ، أعني بهما تحقق العصيان ، والعلم به.

والوجه فيه : ما عرفت من أنّ العصيان في تلك الموارد حقيقة إنّما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي ـ وهو وجوب الاحتياط أو التعلم ـ الواصل عند المصادفة للواقع دون الخطاب الواقعي المجهول ، وكما أنّ في موارد العلم الاجمالي التي كان التكليف فيها معلوماً إجمالاً وواصلاً به ، وفعليته وعصيانه كانا متحققين واقعاً على تقدير تحقق المخالفة ومصادفة الاحتمال للواقع ، فمع ذلك لا يمكن الالتزام بالترتب فيها ، وجعل خطاب مترتب على عصيان التكليف الواقعي ، وذلك لأنّ الشرط الأخير الذي اعتبر في صحة الخطاب الترتبي ـ أعني به العلم بتحقق العصيان الموجب لوصول الخطاب المترتب وتنجزه على المكلف ـ منتف في هذا الفرض.

والحاصل : أنّ المكلف إن لم يكن محرزاً للعصيان المترتب عليه خطاب آخر لم يتنجز عليه ذلك الخطاب ، لعدم إحراز موضوعه ـ وهو العصيان ـ وإن كان محرزاً له فجعل الخطاب المترتب في مورده وإن كان صحيحاً ولا مانع منه أصلاً ، إلاّ أنّه خلاف مفروض الكلام في المقام ، فانّ مفروض الكلام هو جعل خطاب آخر مترتباً على العصيان الواقعي للخطاب الأوّل في ظرف جهل المكلف به لا مطلقاً ، ومن الواضح أنّ كل خطاب يستحيل وصوله إلى المكلف صغرىً أو كبرىً يستحيل جعله من المولى الحكيم.

وعلى ذلك يتفرع استحالة أخذ النسيان في موضوع خطاب ، فانّ المكلف إن التفت إلى نسيانه انقلب الموضوع وخرج عن عنوان الناسي ، وإن لم يلتفت

٤٧٧

إليه لم يحرز التكليف المترتب عليه ، فلا يمكن جعل مثل هذا التكليف الذي لا يعقل وصوله إلى المكلف أبداً. هذا ملخص ما أفاده قدس‌سره في المقام مع شيء من التوضيح.

أقول : ما ذكره قدس‌سره ينحل إلى عدّة نقاط :

الاولى : أنّ فعلية الخطاب المترتب على عصيان الخطاب الآخر ترتكز على ركائز ثلاث : ١ ـ فعلية ذلك الخطاب وتنجزه. ٢ ـ عصيانه. ٣ ـ العلم بعصيانه ، وإلاّ فتستحيل فعلية الخطاب المترتب على ذلك.

وعلى ضوء تلك النقطة تترتب امور :

الأوّل : عدم إمكان جريان الترتب في محل الكلام وفي مسألة القصر والتمام ، لعدم توفر الركيزة الثانية والثالثة فيهما ـ وهما تحقق العصيان في الواقع والعلم به ـ والعصيان وإن كان متحققاً في كلتا المسألتين ، إلاّ أنّه حقيقةً إنّما هو بالاضافة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة مع الواقع ـ وهو وجوب التعلم ـ لا على مخالفة الخطاب الواقعي المجهول.

الثاني : عدم إمكان جريانه في الشبهات البدوية التي تجري فيها أصالة البراءة عن التكليف المجهول ، لعدم توفر شيء من الركائز المزبورة في تلك الشبهات كما هو واضح.

الثالث : أنّه لا يمكن جعل خطاب مترتب على عصيان خطاب آخر في موارد الشبهات قبل الفحص ، أو الموارد المهمة التي يجب الاحتياط فيها ، لانتفاء الركيزة الثانية والثالثة فيهما ـ أعني بهما تحقق العصيان ، والعلم به ـ وذلك لما عرفت من أنّ العصيان حقيقة إنّما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند مطابقته للواقع ، دون الخطاب الواقعي المجهول.

٤٧٨

الرابع : عدم إمكان جريانه في موارد العلم الاجمالي ، لعدم توفر الركيزة الثالثة في تلك الموارد ، وإن كانت الركيزة الاولى والثانية متوفرتين فيها ، فانّ التكليف المعلوم بالاجمال واصل إلى المكلف بالعلم الاجمالي ، وعصيانه متحقق على تقدير تحقق المصادفة للواقع ، وذلك لأنّ العلم بتحقق العصيان الموجب لوصول التكليف المترتب وتنجزه على المكلف منتفٍ في هذا الفرض.

الثانية : أنّ العقاب فيما نحن فيه وفي الشبهات قبل الفحص وفي الموارد المهمة ، إنّما يكون على مخالفة الوجوب الطريقي كوجوب التعلم أو الاحتياط المستلزمة لمخالفة الواقع ، ومن هنا قلنا إنّ العصيان حقيقة إنّما هو بالنسبة إلى الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة مع الواقع ، دون الخطاب الواقعي المجهول.

الثالثة : أنّه لا يمكن أخذ النسيان بشيء في موضوع حكم ، لاستحالة كونه واصلاً إلى المكلف ، وذلك لأنّ المكلف إن التفت إلى نسيانه خرج عن موضوع الناسي وصار ذاكراً ، وإن لم يلتفت إليه لم يحرز التكليف المترتب عليه ، فلا يمكن جعل مثل هذا الحكم الذي لا يمكن وصوله إلى المكلف صغرىً وكبرىً أبداً.

ولنأخذ بدراسة هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فبناءً على ما أفاده قدس‌سره من أنّ المأخوذ في موضوع الخطاب المترتب هو عصيان الخطاب المترتب عليه ، فهي في غاية الصحة والمتانة ، ضرورة أنّه على أساس تلك النقطة لا يمكن القول بالترتب في شيء من الموارد المزبورة كما عرفت. أمّا فيما نحن فيه وما شاكله فلانتفاء الركيزة الثالثة ـ وهي إحراز عصيان الخطاب المترتب عليه ـ لوضوح أنّ الأمر بالقراءة الجهرية إذا كان مشروطاً بعصيان الأمر بالقراءة الاخفاتية وبالعكس ، ومع

٤٧٩

ذلك كانت صحة كل واحدة منهما مشروطة بحال الجهل بوجوب الاخرى ، لم يمكن إحراز ذلك العصيان بما هو مأخوذ في الموضوع ، وإلاّ لانقلب الموضوع. وأمّا في الموارد الثلاثة الأخيرة فأيضاً الأمر كذلك من جهة انتفاء تلك الركيزة فيها بعينها.

نعم ، ما أفاده قدس‌سره من انتفاء الركيزة الثانية فيما عدا المورد الأخير ، بدعوى أنّ استحقاق العقاب على عصيان الخطاب الطريقي الواصل عند المصادفة للواقع ، لا على التكليف الواقعي المجهول ، لا يمكن المساعدة عليه ، لما سنبيّن في النقطة الآتية إن شاء الله تعالى. ولكن الالتزام بتلك النقطة ، وهي لزوم تقييد فعلية الخطاب المترتب بعنوان عصيان الخطاب المترتب عليه ، بلا ملزم وسبب ، بل الأمر على خلاف ذلك. فهاهنا دعويان :

الاولى : أنّه لا ملزم للتقييد بخصوص العصيان.

الثانية : أنّه لا بدّ من الالتزام بالتقييد بغيره.

أمّا الدعوى الاولى : فلأنّ صحة القول بجواز الترتب لا تتوقف على ذلك أصلاً ، فانّ الترتب كما يمكن تصحيحه بتقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم ، كذلك يمكن تقييده بعدم الاتيان بمتعلقه ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً. إذن الالتزام بكون الشرط هو خصوص الأوّل دون الثاني بلا موجب وسبب ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ صحة الترتب ـ أي تعلق الأمر بالمهم على نحو الترتب ـ لم ترد في آية أو رواية ، ليقال إنّ الموضوع المأخوذ فيها هو عصيان الأمر بالأهم لا ترك متعلقه في الخارج.

وعلى هذا ، فلا مانع من أن يكون الأمر بالقراءة الاخفاتية مثلاً مترتباً على

٤٨٠