محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

الفور والتراخي

يقع الكلام فيهما تارة في مقام الثبوت واخرى في مقام الاثبات.

أمّا المقام الأوّل : فالواجب ينقسم إلى ثلاثة أصناف :

الصنف الأوّل : ما لا يكون مقيداً بالتقديم ولا بالتأخير من ناحية الزمان ، بل هو مطلق من كلتا الناحيتين ، ومن هنا يكون المكلف مخيراً في امتثاله بين الزمن الأوّل والزمن الثاني وهكذا ، ويسمى هذا الصنف من الواجب بالواجب الموسّع ، وذلك كالصلاة وما شاكلها. نعم ، إذا لم يطمئن باتيانه في الزمن الثاني وجب عليه الاتيان في الزمن الأوّل ، ولكن هذا أمر آخر أجنبي عمّا نحن بصدده.

الصنف الثاني : ما يكون مقيداً بالتأخير فلو قدّمه في أوّل أزمنة الامكان لم يصح ، ويسمى هذا الصنف بالواجب المضيّق كالصوم وما شابهه.

الصنف الثالث : ما يكون مقيداً بالتقديم وهذا على قسمين : الأوّل : أن يكون ذلك بنحو وحدة المطلوب. الثاني : أن يكون بنحو تعدد المطلوب.

أمّا الأوّل : فمردّه إلى وجوب الاتيان به في أوّل أزمنة الامكان فوراً من ناحية ، وإلى سقوط الأمر عنه في الزمن الثاني من ناحية اخرى ، وعليه فلو عصى المكلف ولم يأت به في الزمن الأوّل سقط الأمر عنه ولا أمر في الزمن الثاني ، وقد مثّل لذلك برد السلام حيث إنّه واجب على المسلّم عليه في أوّل أزمنة الامكان ، ولكن لو عصى ولم يأت به سقط الأمر عنه في الزمن الثاني.

وأمّا الثاني : فهو أيضاً على شكلين : أحدهما : أن يكون المطلوب هو إتيانه

٢١

في أوّل أزمنة الامكان وإلاّ ففي الزمن الثاني وهكذا فوراً ففوراً ، فالتأخير فيه كما لا يوجب سقوط أصل الواجب كذلك لا يوجب سقوط فوريته. قيل ومن هذا القبيل قضاء الفوائت يعني يجب على المكلف الاتيان بها فوراً ففوراً.

وثانيهما : أن يكون المطلوب من الواجب إتيانه في أوّل أزمنة الامكان فوراً إلاّ أنّ المكلف إذا عصى وأخّر عنه سقطت فوريته دون أصل الطبيعة ، فعندئذ لا يجب عليه الاتيان بها فوراً ففوراً ، بل له أن يمتثل الطبيعة في أيّ وقت وزمن شاء وأراد. وعلى الجملة : فالمكلف إذا لم يأت به في أوّل الوقت وعصى ، جاز له التأخير إلى آخر أزمنة الامكان. ومن هذا القبيل صلاة الزلزلة فانّها واجبة على المكلف في أوّل أزمنة الامكان فوراً ، ولكنه لو تركها فيه وعصى جاز له التأخير إلى ما دام العمر موسّعاً.

وأمّا المقام الثاني : ـ وهو مقام الاثبات ـ فالصيغة لا تدل على الفور ولا على التراخي فضلاً عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده ، والسبب في ذلك : أنّ الصيغة لو دلت على ذلك فبطبيعة الحال إمّا أن تكون من ناحية المادة أو من ناحية الهيئة ، ومن الواضح أنّها لا تدل عليه من كلتا الناحيتين.

أمّا من ناحية المادة ، فواضح ، لما تقدّم في ضمن البحوث السابقة من أنّ المادة موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن جميع الخصوصيات والعوارض فلا تدل إلاّعلى إرادتها ، فكل من الفور والتراخي وما شاكلهما خارج عن مدلولها.

وأمّا من ناحية الهيئة ، فأيضاً كذلك ، لما عرفت بشكل موسّع من أنّها وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني على ذمة المكلف في الخارج فلا تدل على شيء من الخصوصيات المزبورة بل ولا إشعار فيها فما ظنّك بالدلالة ، فثبوت كل واحدة من تلك الخصوصيات يحتاج إلى دليل خارجي ، فان قام فهو ، وإلاّ فاللازم هو الاتيان بالطبيعي المأمور به مخيراً عقلاً بين الفور

٢٢

والتراخي. وعلى هذا فلو شككنا في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو التراخي أو نحو ذلك ، فمقتضى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق إذا كان ، هو عدم اعتبارها وأنّ الواجب هو الطبيعي المطلق ، ولازم ذلك جواز التراخي ، وقد عرفت أنّه لا فرق في حجية الاصول اللفظية بين المثبت منها وغيره.

هذا إذا كان في البين أصل لفظي. وأمّا إذا لم يكن كما إذا كان الدليل مجملاً أو إجماعاً ، فالمرجع هو الأصل العملي وهو في المقام أصالة البراءة ، للشك في اعتبار خصوصية زائدة كالفور أو التراخي ، وحيث لا دليل عليه فأصالة البراءة تقتضي عدم اعتبارها ، وبذلك يثبت الاطلاق في مقام الظاهر.

فالنتيجة : أنّ الصيغة أو ما شاكلها لا تدل على الفور ولا على التراخي فضلاً عن الدلالة على وحدة المطلوب أو تعدده ، بل هي تدل على ثبوت الطبيعي الجامع على ذمة المكلف ، ولازم ذلك هو حكم العقل بالتخيير بين أفراده العرضية والطولية. نعم ، لو احتمل أنّ تأخيره موجب لفواته وجب عليه الاتيان به فوراً بحكم العقل.

قد يقال كما قيل : إنّ الصيغة وإن لم تدل على الفور وضعاً إلاّ أنّها تدل عليه من جهة قرينة عامة خارجية وهو قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ )(١) وقوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ )(٢) ببيان أنّ الله ( عزّ وجلّ ) أمر عباده بالاستباق نحو الخير ، والمسارعة نحو المغفرة ، ومن مصاديقهما فعل المأمور به ، فاذن يجب على المكلف الاستباق والمسارعة نحوه في أوّل أزمنة الامكان وإلاّ ففي الزمن الثاني وهكذا ، لفرض أنّهما يقتضيان الفورية إلى

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٣٣.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٨.

٢٣

الاتيان بما يصدق عليه الخير والغفران في كل وقت وزمن ، وعليه فلو عصى المكلف وأخّر عن أوّل أزمنة الامكان وجب عليه ذلك في الزمن الثاني أو الثالث وهكذا فوراً ففوراً ، إذ من الواضح عدم سقوط وجوب المسارعة والاستباق بالعصيان في الزمن الأوّل ، لفرض بقاء الموضوع والملاك ، ونتيجة ذلك هي لزوم الاتيان بكافة الواجبات الشرعية فوراً ففوراً على نحو تعدد المطلوب.

ولنأخذ بالنقد عليه من عدّة وجوه :

الأوّل : أنّ الآيتين الكريمتين أجنبيتان عن محل الكلام رأساً ولا صلة لهما بما نحن بصدده.

أمّا آية الاستباق ، فلأنّ كلمة ( فَاسْتَبِقُوا ) فيها من الاستباق بمعنى المسابقة لغة ، وعلى هذا فظاهر الآية المباركة هو وجوب المسابقة على العباد نحو الخيرات ، يعني أنّ الواجب على كل واحد منهم أن يسابق الآخر فيها. وان شئت قلت : إنّ مدلول الآية الكريمة هو ما إذا كان العمل خيراً للجميع ، وأمكن قيام كل واحد منهم به ، ففي مثل ذلك أمر ( سبحانه وتعالى ) عباده بالمسابقة نحوه ، ومن الواضح أنّه لا صلة لهذا المعنى بما نحن فيه أصلاً ، وذلك لأنّ الكلام فيه إنّما هو في وجوب المبادرة على المكلف نحو امتثال الأمر المتوجه إليه خاصة على نحو الاستقلال مع قطع النظر عن الأمر المتوجه إلى غيره ، وهذا بخلاف ما في الآية ، فان وجوب الاستباق فيها إنّما هو بالاضافة إلى الآخر لا بالاضافة إلى الفعل ، فاذن لا تدل الآية على وجوب الاستباق والمبادرة إلى الفعل أصلاً ، ولا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى ،

وأمّا آية المسارعة ، فالظاهر من المغفرة فيها هو نفس الغفران الإلهي ، فالآية

٢٤

عندئذ تدل على وجوب المسارعة نحوه بالتوبة والندامة التي هي واجبة بحكم العقل ، وليس المراد منها الأفعال الخارجية من الواجبات والمستحبات ، فاذن الآية ترشد إلى ما استقل به العقل وهو وجوب التوبة وأجنبية عما نحن بصدده.

الثاني : على تقدير التنزّل عن ذلك ، وتسليم أنّ الآيتين ليستا أجنبيتين عن محل الكلام ، إلاّ أنّ دلالتهما على ما نحن بصدده تقوم على أساس أن يكون الأمر فيهما مولوياً. وأمّا إذا كان إرشادياً كما هو الظاهر منه بحسب المتفاهم العرفي ، فلا دلالة لهما عليه أصلاً ، وذلك لأنّ مفادهما على هذا الضوء هو الارشاد إلى ما استقل به العقل من حسن المسارعة والاستباق نحو الاتيان بالمأمور به وتفريغ الذمة منه ، وتابع له في الالزام وعدمه فلا موضوعية له ، ومن الواضح أنّ حكم العقل بذلك يختلف في اللزوم وعدمه باختلاف موارده.

الثالث : على تقدير التنزل عن ذلك أيضاً ، وتسليم أنّ الأمر فيهما مولوي ، إلاّ أنّه لا بدّ من حمله على الاستحباب ، ولو حمل على ظاهره وهو الوجوب لزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، والسبب في ذلك : هو أنّ المستحبات بشتّى أنواعها وأشكالها مصداق للخير وسبب للمغفرة ، فلو حملنا الأمر فيهما على الوجوب لزم خروجها بأجمعها عن إطلاقهما ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الواجبات على أصناف عديدة : أحدها : واجبات موسعة كالصلاة وما شاكلها ، والمفروض عدم وجوب الاستباق والمسارعة نحوها. وثانيها : واجبات مضيّقة كصوم شهر رمضان ونحوه ، والمفروض عدم وجوب الاتيان بها إلاّفي وقت خاص لا في أوّل وقت الامكان. وثالثها : واجبات فورية على نحو تعدّد المطلوب ، فعلى ما ذكرنا من الحمل لزم خروج الصنفين الأوّلين من الواجبات أيضاً عن إطلاقهما فيختص الاطلاق بخصوص الصنف الثالث ، ومن الطبيعي أنّ هذا من أظهر مصاديق تخصيص الأكثر.

٢٥

فالنتيجة : أنّه لا دليل على الفور لا من الداخل ولا من الخارج بحيث يحتاج عدم إرادته إلى دليل خاص ، وكذلك لا دليل على التراخي ، وعندئذ ففي كل مورد ثبت بدليل خاص الفور أو التراخي فهو ، وإلاّ فمقتضى الأصل عدمه.

نتائج البحوث إلى هنا عدّة نقاط :

الاولى : أنّ صيغة الأمر موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، ولا تدل وضعاً إلاّعلى ذلك. وأمّا دلالتها على ابراز التهديد أو التخيير أو نحو ذلك فتحتاج إلى قرينة ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الصيغة تستعمل دائماً في معنى واحد والاختلاف إنّما هو في الداعي قد تقدّم نقده بشكل موسّع.

الثانية : أنّ الوجوب مستفاد من الصيغة أو ما شاكلها بحكم العقل بمقتضى قانون العبودية والمولوية لا بالدلالة الوضعية ولا بالاطلاق ومقدمات الحكمة هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ تفسير صيغة الأمر مرّة بالطلب ومرّة اخرى بالبعث والتحريك ومرّة ثالثة بالارادة لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنى محصل.

الثالثة : ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ دلالة الجمل الفعلية في مقام الانشاء على الوجوب أقوى وآكد من دلالة الصيغة عليه. ولكن قد تقدّم نقده بصورة موسّعة في ضمن البحوث السابقة ، وقلنا هناك إنّه لا فرق بمقتضى قانون العبودية والمولوية بين الجمل الفعلية وصيغة الأمر في الدلالة على الوجوب ، وما ذكره قدس‌سره من النكتة لأقوائية دلالتها قد سبق منّا عدم صلاحيتها لذلك.

الرابعة : أنّ الواجب التوصلي يطلق على معنيين : أحدهما : ما لا يعتبر قصد

٢٦

القربة فيه. وثانيهما : ما لا تعتبر المباشرة فيه من المكلف نفسه ، بل يسقط عن ذمته بفعل غيره ، بل ربّما لا يعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار ، بل ولا إتيانه في ضمن فرد سائغ.

الخامسة : إذا شككنا في كون الواجب توصلياً بالمعنى الثاني وعدمه ، فان كان الشك في اعتبار قيد المباشرة في سقوطه وعدم اعتباره فمقتضى الاطلاق اعتباره وعدم سقوطه بفعل غيره. وأمّا إذا لم يكن إطلاق فمقتضى الأصل العملي هو الاشتغال دون البراءة. وأمّا إذا كان الشك في اعتبار الاختيار والالتفات في سقوطه وعدم اعتباره أو في اعتبار إتيانه في ضمن فرد سائغ فمقتضى الاطلاق عدم الاعتبار ، فالاعتبار يحتاج إلى دليل. هذا إذا كان في البين إطلاق ، وأمّا إذا لم يكن فمقتضى الأصل العملي هو البراءة.

السادسة : ما إذا شككنا في اعتبار قصد القربة في واجب وعدم اعتباره ، فهل هنا إطلاق يمكن التمسك به لاثبات عدم اعتباره أم لا؟

المعروف والمشهور بين الأصحاب هو أنّه لا إطلاق في المقام ، وقد تقدّم منّا أنّ هذه الدعوى ترتكز على ركيزتين : الاولى : استحالة تقييد الواجب بقصد القربة وعدم امكانه. الثانية : أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق. وذكروا في وجه الأوّل وجوهاً ، وقد ناقشنا في تمام تلك الوجوه واحداً بعد واحد ، وأثبتنا عدم دلالة شيء منها على الاستحالة ، كما ناقشنا فيما ذكر في وجه الثاني وبيّنا خطأه وأ نّه لا واقع موضوعي له.

السابعة : أنّنا لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ أخذ قصد الأمر في متعلقه لا يمكن بالأمر الأوّل ، إلاّ أنّه لا مانع من أخذه فيه بالأمر الثاني ، كما اختاره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) ، كما أنّه لا مانع من أخذ ما يلازمه ولا ينفك

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٧٣.

٢٧

عنه ، وعلى تقدير تسليم استحالة ذلك أيضاً فلا مانع من بيان اعتباره ودخله في الغرض بجملة خبرية ، ومن هنا قلنا إنّه لا مانع عند الشك في ذلك من التمسك بالاطلاق إن كان ، وإلاّ فبأصالة البراءة.

الثامنة : أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت من تقابل الضدّين وفي مرحلة الاثبات من تقابل العدم والملكة.

التاسعة : أنّه لا مانع من أخذ بقية الدواعي القربية في متعلق الأمر ، ولا يلزم منه شيء من المحاذير التي توهم لزومها على تقدير أخذ قصد الأمر فيه ، ولكن منع شيخنا الاستاذ قدس‌سره عن أخذها بملاك آخر قد تقدّم خطؤه بشكل موسع ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره قد اعترف بأن أخذها في المتعلق وإن كان ممكناً إلاّ أنّه ادّعى القطع بعدم وقوعه في الخارج. ولكن قد ذكرنا هناك خطأه وأ نّه لا يلزم من عدم أخذها خاصة عدم أخذ الجامع بينها وبين قصد الأمر فلاحظ.

العاشرة : قيل : إنّ مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في تعبّدية واجب وتوصليته هو كونه واجباً تعبدياً ، واستدلّ على ذلك بعدّة وجوه ، ولكن قد تقدّم منّا المناقشة في تمام تلك الوجوه وأ نّها لا تدل على ذلك ، فالصحيح هو ما ذكرنا من أنّ مقتضى الأصل اللفظي عند الشك هو التوصلية.

الحادية عشرة : أنّ مقتضى الأصل العملي عند الشك يختلف باختلاف الآراء ، فعلى رأي صاحب الكفاية قدس‌سره الاشتغال وعلى رأينا البراءة شرعاً وعقلاً على تفصيل تقدّم.

الثانية عشرة : أنّ مقتضى إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً ، فان إرادة كل من الوجوب الغيري والتخييري والكفائي تحتاج إلى قرينة زائدة فالاطلاق لا يكفي لبيانها.

٢٨

الثالثة عشرة : أنّ الأمر الواقع عقيب الحظر أو توهّمه لا يدل في نفسه لا على الوجوب ولا على الاباحة ولا على حكم ما قبل النهي ، فإرادة كل ذلك منه تحتاج إلى قرينة.

الرابعة عشرة : أنّ صيغة الأمر لا تدل على المرّة ولا على التكرار في الأفراد الطولية ، كما لا تدل على الوجود الواحد أو المتعدد في الأفراد العرضية لا مادة ولا هيئة ، واستفادة كل ذلك تحتاج إلى قرينة خارجية.

الخامسة عشرة : أنّ الصيغة لم توضع للدلالة على الفور ولا على التراخي ، بل هي موضوعة للدلالة على اعتبار المادة في ذمة المكلف ، فاستفادة كل من الفور والتراخي تحتاج إلى دليل خارجي ، ولا دليل في المقام. وأمّا آيتا المسابقة والمسارعة فلا تدلاّن على الفور أصلاً كما تقدّم.

٢٩

مبحث الإجزاء

إتيان المأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أم لا؟

قبل الخوض في المقصود ينبغي لنا تقديم امور :

الأوّل : أنّ هذه المسألة من المسائل العقلية كمسألة مقدمة الواجب ومسألة الضد وما شاكلهما ، والسبب في ذلك هو أنّ الإجزاء الذي هو الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة إنّما هو معلول للاتيان بالمأمور به خارجاً وامتثاله ، ولا صلة له بعالم اللفظ أصلاً.

وبكلمة اخرى : أنّ الضابط لامتياز مسألة عقلية عن مسألة لفظية إنّما هو بالحاكم بتلك المسألة ، فان كان عقلاً فالمسألة عقلية ، وإن كان لفظاً فالمسألة لفظية ، وحيث إنّ الحاكم في هذه المسألة هو العقل فبطبيعة الحال تكون عقلية ، وستأتي الاشارة إلى هذه الناحية في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

الثاني : ما هو المراد من كلمة « على وجهه » في العنوان؟

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ما هذا لفظه : الظاهر أنّ المراد من « وجهه » في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعاً وعقلاً ، مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة ، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعاً ، فانّه عليه يكون « على وجهه » قيداً توضيحياً وهو بعيد.

مع أنّه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناءً على المختار كما تقدّم من أنّ قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلاً لا من قيود المأمور به شرعاً. ولا الوجه

٣٠

المعتبر عند بعض الأصحاب ، فانّه مع عدم اعتباره عند المعظم وعدم اعتباره عند من اعتبره إلاّفي خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ، لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار ، فلا بدّ من إرادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى (١).

وغير خفي أن ما أفاده إنّما يقوم على أساس نظريته قدس‌سره من استحالة أخذ قصد القربة قيداً في المأمور به شرعاً وانّما هو قيد فيه عقلاً ، إذ على هذا بطبيعة الحال يكون قيد « على وجهه » احترازياً. وأمّا بناءً على نظريتنا من امكان أخذه ابتداء في المأمور به أو على نظرية شيخنا الاستاذ قدس‌سره من امكان أخذه بمتمم الجعل ولو بالأمر الثاني فلا محالة يكون القيد توضيحياً لا تأسيسياً حيث لايفيد وجوده على هذا أزيد من الاتيان بالمأمور به بتمام أجزائه وشرائطه ، ولا يلزم من عدمه خروج التعبديات عن محل النزاع. ودعوى أنّ ذكره إنّما هو لادخال قصد الوجه خاطئة جدّاً ، أمّا أوّلاً : فلأ نّه لا دليل على اعتبار قصد الوجه. وأمّا ثانياً : فلاختصاصه بالعبادات في صورة الامكان فلا معنى لجعله في العنوان العام الشامل للتعبديات والتوصليات ولصورتي الامكان وعدمه. هذا مضافاً إلى أنّه لا وجه لتخصيصه بالذكر من بين سائر الأجزاء والشرائط حيث إنّه على تقدير اعتباره أحد تلك الأجزاء أو الشرائط.

الثالث : ما هو المراد من الاقتضاء؟

ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ما هذا لفظه : الظاهر أنّ المراد من الاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة ، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة. إن قلت : هذا إنّما يكون كذلك بالنسبة إلى

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨١.

٣١

أمره ، وأمّا بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الإجزاء أو بنحو آخر لا يفيده. قلت : نعم ، لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم ، غايته أنّ العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنّما هو الخلاف في دلالة دليلهما ، هل أنّه على نحو يستقل العقل بأنّ الاتيان به موجب للإجزاء ويؤثر فيه ، وعدم دلالته ، ويكون النزاع فيه صغروياً أيضاً ، بخلافه في الإجزاء بالاضافة إلى أمره فانّه لا يكون إلاّكبروياً لو كان هناك نزاع كما نقل عن بعض فافهم (١).

ما أفاده قدس‌سره متين جدّاً ، والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ غرض المولى متعلق باتيان المأمور به بكافّة أجزائه وشرائطه ، فاذا أتى المكلف بالمأمور به كذلك ، حصل الغرض منه لا محالة وسقط الأمر ، ضرورة أنّه لا يعقل بقاؤه مع حصوله ، كيف حيث إنّ أمده بحصوله ، فاذا حصل انتهى الأمر بانتهاء أمده وإلاّ لزم الخلف أو عدم إمكان الامتثال أبداً ، وهذا هو المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة لا العلة في الامور التكوينية الخارجية كما هو واضح ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ عمدة النزاع في المسألة إنّما هي في الصغرى ، يعني في دلالة أدلّة الأمر الاضطراري أو الظاهري على ذلك وعدم دلالتها. ولكن بعد إثبات الصغرى فالمراد من الاقتضاء فيهما هذا المعنى ، فإذن لا فرق بين اقتضاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الإجزاء عن أمره وبين اقتضاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري الإجزاء عنه ، فهما بمعنى واحد وهو ما عرفت.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨١.

٣٢

الرابع : في بيان المراد من الإجزاء. الظاهر أنّه لم يثبت له معنى اصطلاحي خاص في مقابل معناه اللغوي ، ليكون هذا المعنى الاصطلاحي هو المراد منه في المقام ، بل المراد منه هو معناه اللغوي وهو الكفاية ، غاية الأمر أنّ متعلقها يختلف باختلاف الموارد ، فقد يكون متعلقها القضاء ، وقد يكون الاعادة ، فاجزاء المأتي به عن المأمور به هو كفايته عما امر به إعادة وقضاءً ، أو قضاءً فقط ، فيما إذا دلّ الدليل على وجوب الاعادة دونه ، وذلك كمن صلّى في الثوب المتنجس نسياناً حيث إنّه على المشهور إذا تذكر في الوقت وجبت الاعادة عليه ، وإذا تذكر في خارج الوقت لم يجب القضاء ، وإن كان الأقوى عندنا وجوبه. أو المسافر الذي يتم في السفر نسياناً أو جاهلاً بالموضوع ، حيث إنّه إذا تذكر أو ارتفع جهله في الوقت وجبت الاعادة عليه ، وإن تذكر أو ارتفع في خارج الوقت لم يجب القضاء ، وهكذا. فاجزاء المأتي به عن المأمور به في أمثال الموارد هو كفايته عما امر به قضاءً لا إعادة.

الخامس : قد يتوهم أنّه لا فرق بين هذه المسألة ومسألة المرّة والتكرار ، بدعوى أنّ القول بالإجزاء موافق للقول بالمرة ، والقول بعدم الإجزاء موافق للقول بالتكرار ، فإذن لا وجه لعقدهما مسألتين مستقلتين بل ينبغي عقدهما مسألة واحدة. كما أنّه قد يتوهم عدم الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للأداء ، باعتبار أنّ القائل بالتبعية يلتزم ببقاء الأمر في خارج الوقت عند عدم امتثاله في الوقت وهو متحد في النتيجة مع القائل بعدم الإجزاء ، وعليه فلا فرق بين مسألتنا هذه وتلك المسألة.

ولكن كلا التوهمين خاطئ جدّاً.

أمّا الأوّل : فلأنّ القول بالإجزاء وإن كان موافقاً في النتيجة مع القول بالمرة ، كما أنّ القول بعدم الإجزاء موافق في النتيجة مع القول بالتكرار ، إلاّ أنّ مجرد

٣٣

ذلك لا يوجب اتحاد المسألتين ، وذلك لما تقدّم في ضمن البحوث السابقة (١) من أنّ الضابط لامتياز مسألة عن مسألة اخرى إنّما هو بالجهة المبحوث عنها في المسألة ، وحيث إنّ الجهة المبحوث عنها في مسألتنا هذه غير الجهة المبحوث عنها في تلك المسألة ، فلا مناص من تعددهما ، وذلك لأنّ الجهة المبحوث عنها في مسألة المرّة والتكرار إنّما هي تعيين حدود المأمور به شرعاً من حيث السعة والضيق وأ نّه الطبيعة المقيدة بالمرة أو التكرار ، وفي هذه المسألة إنّما هي إجزاء الاتيان بالمأمور به عن الواقع عقلاً وعدم إجزائه بعد الفراغ عن تعيين حدوده شرعاً.

وإن شئت قلت : إنّ البحث في المسألة الاولى بحث عن دلالة الصيغة أو ما شاكلها على المرّة أو التكرار ولذا تكون من المباحث اللفظية ، والبحث في هذه المسألة بحث عن وجود ملازمة عقلية بين الاتيان بالمأمور به خارجاً وبين إجزائه ، ومن هنا قلنا إنّها من المسائل العقلية.

وصفوة القول : أنّ الاشتراك في النتيجة لو كان موجباً لوحدة المسألتين أو المسائل لكان اللاّزم أن يجعل المسائل الاصولية بشتّى أشكالها وألوانها مسألة واحدة ، لاشتراك الجميع في نتيجة واحدة وهي القدرة على الاستنباط وهذا كما ترى.

وأمّا التوهم الثاني : فلأنّ مسألتنا هذه تختلف عن مسألة تبعية القضاء للأداء موضوعاً وجهة ، أمّا الأوّل : فلأنّ الموضوع في هذه المسألة هو الاتيان بالمأمور به وأ نّه يجزي عن الواقع أم لا؟ والموضوع في تلك المسألة هو عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت ، ومن الطبيعي أنّه لا جامع بين الوجود والعدم ،

__________________

(١) [ بل سيأتي في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٣٧٥ ].

٣٤

وعليه فلا ربط بين المسألتين في الموضوع أصلاً. وأمّا الثاني : فلأنّ الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة إنّما هي وجود الملازمة بين الاتيان بالمأمور به وإجزائه عن الواقع عقلاً وعدم وجودها ، والجهة المبحوث عنها في تلك المسألة إنّما هي دلالة الأمر من جهة الاطلاق على تعدد المطلوب وعدم دلالته عليه ، فإذن لا ارتباط بينهما لا في الموضوع ولا في الجهة المبحوث عنها.

وبعد ذلك نقول : إنّ الكلام يقع في مسائل ثلاث :

الاولى : أنّ إتيان المأمور به بكل أمر يقتضي الإجزاء عن أمره عقلاً ، سواء أكان ذلك الأمر أمراً واقعياً أو اضطرارياً أو ظاهرياً؟

الثانية : أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل يوجب الإجزاء عن الأمر الواقعي أم لا؟

الثالثة : أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري هل يوجب الإجزاء عنه إعادةً وقضاءً ، أو قضاءً فحسب أم لا؟

٣٥

[ إجزاء كل مأمور به عن أمره ]

أمّا الكلام في المسألة الاولى : فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ إجزاء الاتيان بكل مأمور به عن أمره عقلي سواء كان أمراً واقعياً أو اضطرارياً أو ظاهرياً ، ضرورة أنّ العقل يستقل بعدم بقاء موضوع للتعبد ثانياً.

أقول : الأمر كما أفاده قدس‌سره ومن هنا لا نزاع فيه وإن نسب الخلاف إلى بعض ، ولكنّه على تقدير صحّته لا يعتد به أصلاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ المكلف إذا جاء بالمأمور به وأتى به خارجاً واجداً لجميع الأجزاء والشرائط حصل الغرض منه لا محالة وسقط الأمر ، وإلاّ لزم الخلف أو عدم إمكان الامتثال أبداً ، أو بقاء الأمر بلا ملاك ومقتض ، والجميع محال. أمّا الأوّل : فلأنّ لازم بقاء الأمر تعدد المطلوب لا وحدته وهو خلف. وأمّا الثاني : فلأنّ الامتثال الثاني كالامتثال الأوّل ، فإذا لم يكن الأوّل موجباً لسقوط الأمر فالثاني مثله ، وهكذا. وأمّا الثالث : فلأنّ الغرض إذا تحقق في الخارج ووجد كيف يعقل بقاء الأمر ، ضرورة استحالة بقائه بلا مقتض وسبب.

فالنتيجة : أنّ إجزاء الاتيان بالمأمور به عن أمره ضروري من دون فرق في ذلك بين المأمور به الواقعي والظاهري والاضطراري أصلاً.

وعلى ضوء ما بيّناه قد ظهر أنّ الامتثال عقيب الامتثال غير معقول.

ولكن قد يتوهم جواز الامتثال بعد حصول الامتثال في موردين :

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٣.

٣٦

أحدهما : جواز إعادة من صلّى فرادى جماعة ، وقد دلّت على ذلك عدّة روايات منها : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبدالله عليه‌السلام « أنّه قال : في الرجل يصلي الصلاة وحده ثمّ يجد جماعة ، قال : يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء » (١) ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث « قال : لا ينبغي للرجل أن يدخل معهم في صلاتهم وهو لا ينويها صلاة ، بل ينبغي له أن ينويها ، وإن كان قد صلّى فانّ له صلاة اخرى » (٢) إلى غيرهما من الروايات الواردة في هذا الباب ، فهذه الروايات تدل على جواز الامتثال ثانياً بعد حصول الامتثال الأوّل وهو الاتيان بالصلاة فرادى ، وهذا من الامتثال بعد الامتثال الذي قد قلنا باستحالته.

وثانيهما : جواز إعادة من صلّى صلاة الآيات ثانياً ، وقد دلّت على ذلك صحيحة معاوية بن عمار قال : « قال أبو عبدالله عليه‌السلام صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد » (٣) وغيرها من الروايات الواردة في المقام ، فانّها ظاهرة في وجوب إعادتها ثانياً فضلاً عن أصل مشروعيتها ، وهذا معنى الامتثال بعد الامتثال.

أقول : أمّا الجواب عن المورد الأوّل : فالنصوص الواردة فيه على طائفتين :

إحداهما : ما وردت في إعادة الصلاة مع المخالفين ، منها : صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبدالله عليه‌السلام « أنّه قال : ما منكم أحد يصلي صلاة فريضة في وقتها ثمّ يصلي معهم صلاة تقيّة وهو متوضئ إلاّكتب الله له بها خمساً وعشرين

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٠١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٤ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٠١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٤ ح ٢.

(٣) الوسائل ٧ : ٤٩٨ / أبواب صلاة الكسوف والآيات ب ٨ ح ١.

٣٧

درجة فارغبوا في ذلك » (١). ومنها : صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه‌السلام « قال : ما من عبد يصلي في الوقت ويفرغ ثمّ يأتيهم ويصلي معهم وهو على وضوء إلاّكتب الله له خمساً وعشرين درجة » (٢) وغيرهما من الروايات الواردة في هذا المورد. وهذه الطائفة لاتدل على مشروعية الامتثال بعد الامتثال أصلاً ، والسبب في ذلك : أنّها وردت في مقام التقية فتكون الاعادة لأجلها ، ولولا التقية لم يكن لنا دليل على جوازها ومشروعيتها. وعلى الجملة : فالروايات الدالّة على جواز الاعادة تقية لا تدل على جواز الامتثال بعد الامتثال ، فهذه الطائفة أجنبية عن محل الكلام ولا صلة لها بما نحن بصدده.

وثانيتهما : ما دلّت على إعادة الصلاة جماعة ، منها : الصحيحتان المتقدمتان (٣) ولكنّهما أيضاً لا تدلاّن على مشروعية الامتثال ثانياً ، بداهة أنّ الامتثال الأوّل ـ وهو الاتيان بالمأمور به بجميع أجزائه وشرائطه ـ مسقط لأمره ، ويكون علّة له وإلاّ فلا يعقل سقوطه ، بل مفاد تلك الروايات استحباب الاعادة جماعة بداعي الأمر الاستحبابي ـ لا بداعي الأمر الأوّل ـ المستفاد من نفس تلك الروايات ، أو بداعي الأمر الوجوبي قضاءً لا أداءً وعليه تدل صحيحة هشام ابن سالم « يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء » (٤) وصحيحة حفص بن البختري « يصلي معهم ويجعلها الفريضة » (٥) بقرينة قوله عليه‌السلام في صحيحة إسحاق

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٣٠٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٣٠٢ / أبواب صلاة الجماعة ب ٦ ح ٢.

(٣) في الصفحة السابقة.

(٤) تقدّم ذكر مصدرها في الصفحة السابقة.

(٥) الوسائل ٨ : ٤٠٣ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٤ ح ١١.

٣٨

ابن عمار « صلّ واجعلها لما فات » (١).

وبتعبير آخر : أنّ المستفاد من تلك الطائفة من الروايات هو أنّ إعادة الصلاة جماعة بعد الاتيان بها فرادى أمر مستحب ، فيكون الاتيان بها بقصد ذلك الأمر الاستحبابي. نعم ، من كان في ذمته قضاء فله أن يجعلها لما فات. فالنتيجة أنّها أجنبية عن الدلالة على جواز الامتثال بعد الامتثال بالكلّية ، فضلاً عن الدلالة على أنّ سقوط الأمر الأوّل مراعى بعدم تعقب الامتثال الآخر جماعة. وأمّا ما ورد من الرواية من أنّ الله تعالى يختار أحبّهما إليه (٢) فيردّه ضعف السند فلا يمكن الاعتماد عليه. وعلى تقدير تسليم سنده فهو لا يدل على جواز تبديل الامتثال بالامتثال الآخر وكون سقوط الأمر مراعىً بعدم تعقب الأفضل ، وذلك لأنّ معناه والله العالم هو أنّ الله تعالى يعطي ثواب الجماعة فانّها عنده تعالى أحب من الصلاة فرادى ، وهذا تفضل منه تعالى ، ولا سيّما إذا قلنا بأنّ أصل الثواب من باب التفضل لا من باب الاستحقاق. وكيف ما كان ، فهذه الرواية ساقطة كغيرها من الروايات ، فلا وجه لاطالة الكلام فيها كما عن شيخنا المحقق قدس‌سره (٣). مع أنّ ما أفاده قدس‌سره في تفسير هذه الرواية خارج عن الفهم العرفي وراجع إلى الدقّة الفلسفية كما لا يخفى.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد ما احتمله شيخ الطائفة قدس‌سره في التهذيب وإليك نصّه : والمعنى في هذا الحديث قوله عليه‌السلام « يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء » أنّ من يصلّي ولم يفرغ من صلاته ووجد جماعة فليجعلها نافلة ثمّ يصلّي في جماعة ، وليس ذلك لمن فرغ من صلاته بنيّة الفرض ،

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٤٠٤ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٠٣ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٤ ح ١٠ ( نقل بالمضمون ).

(٣) نهاية الدراية ١ : ٣٧٤.

٣٩

لأنّ من صلّى الفرض بنيّة الفرض فلا يمكن أن يجعلها غير فرض (١) وأيّده الوحيد قدس‌سره (٢) بقوله بأ نّه ظاهر صيغة المضارع.

وذلك لأنّ ما أفاده قدس‌سره خلاف ظاهر الحديث ، بل خلاف صريحه فانّه نص من جهة العطف بكلمة « ثمّ » [ في ] أنّ وجدانه الجماعة بعد الفراغ عن الصلاة فرادى لا في أثنائها. وبذلك ظهر أنّه لا وجه لتأييد الوحيد قدس‌سره بأ نّه ظاهر صيغة المضارع ، فانّها وإن كانت ظاهرة في الفعلية إلاّ أنّ العطف بكلمة « ثمّ » يدل على أنّ وجدانه الجماعة كان متأخراً زماناً عن إتيانه بالصلاة فرادى.

وأمّا الجواب عن المورد الثاني : فالصحيح هو أنّه لابدّ من رفع اليد عن ظهور تلك الروايات في وجوب الاعادة وحملها على الاستحباب ، وذلك لاستقلال العقل بسقوط الأمر بالامتثال الأوّل فلا يعقل أن تكون الاعادة بداعي ذلك الأمر كما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة أيضاً.

فالنتيجة قد تحقّقت لحدّ الآن في عدّة خطوط :

الأوّل : أنّ مسألة الإجزاء مسألة اصولية عقلية وليست من المسائل اللفظية.

الثاني : أنّ الاتيان بكل مأمور به مسقط لأمره ، وهذا ليس من محل الكلام في شيء ، وإنّما الكلام في سقوط الأمر الواقعي باتيان المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري.

الثالث : أنّ الروايات الدالّة على جواز الاعادة على اختلافها لا تدل على الامتثال بعد الامتثال.

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٥٠ / ١٧٦.

(٢) حاشية المدارك : ٢٥٤.

٤٠