محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

وبيان ما فيها من النقد والاشكال :

أمّا القول الأوّل : فهو خاطئ جداً ولا يرجع إلى معنى محصّل أصلاً ، وذلك لأنّ لازم هذا القول أحد محذورين : إمّا التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ، وهو خلف بناءً على الملازمة كما هو المفروض ، وإمّا لزوم كون وجوب ذي المقدمة تابعاً لارادة المكلف ودائراً مدار اختياره وعزمه ، وهو محال ، بداهة أنّ لازم ذلك عدم الوجوب عند عدم الارادة.

٢٤١

[ مناقشة نظريّة الشيخ ]

وأمّا القول الثاني : فقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بما حاصله : هو أنّ ملاك وجوب المقدمة بناءً على حكم العقل بالملازمة بينه وبين وجوب ذيها هو توقف الواجب النفسي عليها وتمكن المكلف من الاتيان بها على إتيان ذيها ، ومن المعلوم أنّ هذا الملاك مشترك فيه بين المقدمات بشتّى أشكالها ، بلا اختصاص له بحصة خاصة منها دون حصة اخرى ، ومن هنا لو جاء المكلف بالمقدمة بدون قصد التوصل بها لكان مجزئاً إذا لم تكن عبادة ، وهذا دليل قطعي على عدم أخذ قصد التوصل قيداً لها ، وإلاّ لم يكن الاتيان بها مجرداً عنه كافياً.

وإن شئت قلت : إنّ ملاك وجوب المقدمة لو كان قائماً في حصة خاصة منها وهي الحصة المقيدة بقصد التوصل فبطبيعة الحال لم يحصل الغرض منها بدون ذلك ، مع أنّه لا شبهة في حصوله بدونه إذا لم تكن المقدمة عبادة. فالنتيجة : أنّه لا وجه لتخصيص الوجوب بخصوص تلك الحصة. نعم ، قصد التوصل إنّما يعتبر في حصول الامتثال وترتب الثواب لا في حصول أصل الغرض.

وقد يوجّه مراد الشيخ قدس‌سره بما ملخّصه : أنّ الواجب إنّما هو الفعل بعنوان المقدمة لا ذات الفعل فحسب ، وعليه فلا بدّ في الاتيان بها من لحاظ هذا العنوان وقصده وإلاّ لم يأت بالواجب ، وبما أنّ قصد التوصل إلى الواجب

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٤.

٢٤٢

عين عنوان المقدمية ، فبطبيعة الحال لزم قصده. نعم ، إنّ الاتيان بالأفعال الخارجية وحدها مجردة عن قصد التوصل وإن كان مسقطاً للغرض المطلوب ، إلاّ أنّه لا يكون إتياناً للواجب ومصداقاً له ، حيث قد عرفت أنّ الواجب هو ما كان معنوناً بعنوان المقدمة وهو عين قصد التوصل ، وأمّا سقوط الواجب بغيره فهو يتفق كثيراً ما في الواجبات التوصلية.

وأورد على هذا التوجيه المحقق صاحب الكفاية وشيخنا الاستاذ (١) قدس‌سرهما بأنّ عنوان المقدمة من الجهات التعليلية لوجوب المقدمة لا من الجهات التقييدية له ، بداهة أنّ الواجب إنّما هو ذات المقدمة التي هي مقدمة بالحمل الشائع ، وأمّا عنوانها فهو من الجهات الباعثة على وجوبها كالمصالح والمفاسد الكامنة في متعلقات الأحكام. نعم ، لو تمّ التوجيه المزبور لكان لما أفاده قدس‌سره وجه ، بل لا مناص عنه ، نظير ما إذا افترضنا أنّ الشارع أوجب القيام مثلاً بعنوان التعظيم ، فلا محالة إذا أتى به بدون قصد هذا العنوان لم يأت بما هو مصداق للقيام الواجب.

وقد تصدى شيخنا المحقق قدس‌سره (٢) إلى توجيه مراد الشيخ قدس‌سره ببيان أمرين :

الأوّل : أنّ الجهات التقييدية إنّما تمتاز عن الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية ، فإنّ العناوين المأخوذة في متعلقاتها كعنوان الصلاة والصوم ونحوهما من الجهات التقييدية ، ومن هنا يعتبر الاتيان بها بقصد العناوين المزبورة ، وإلاّ لم يؤت بما هو مصداق للواجب ، وأمّا الملاكات الكامنة في متعلقاتها فهي

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤١.

(٢) نهاية الدراية ٢ : ١٣٣.

٢٤٣

جهات تعليلية. فالنتيجة أنّ الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية غير الجهات التقييدية. وأمّا في الأحكام العقلية فالجهات التعليلية فيها راجعة إلى الجهات التقييدية ، وأنّ الأغراض في الأحكام العقلية عناوين لموضوعاتها ، ولا يفرق في ذلك بين الأحكام النظرية والأحكام العملية.

أمّا الاولى : فلأنّ حكم العقل باستحالة شيء بسبب استلزامه الدور أو التسلسل حكم باستحالة الدور أو التسلسل بالذات ، وحكمه باستحالة اجتماع الأمر والنهي مثلاً من ناحية استلزامه اجتماع الضدين حكم باستحالة اجتماع الضدين كذلك وهكذا ، فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الموضوع لحكم العقل.

وأمّا الثانية : فلأنّ حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب مثلاً حكم بحسب الواقع والحقيقة بحسن التأديب ، كما أنّ حكمه بقبح الضرب للايذاء حكم في الواقع بقبح الايذاء وهكذا ، فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الجهة التقييدية والموضوع للحكم.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : أنّه لا فرق بين الجهات التعليلية والجهات التقييدية في الأحكام العقلية أصلاً. وعلى هذا الضوء فبما أنّ مطلوبية المقدمة ليست لذاتها ، بل لحيثية مقدميتها والتوصل بها ، فالمطلوب الجدّي والموضوع الحقيقي للحكم العقلي إنّما هو نفس التوصل ، لما عرفت من أنّ الجهة التعليلية في الحكم العقلي ترجع إلى الجهة التقييدية.

الثاني : أنّ متعلقات التكاليف سواء أكانت تعبدية أم كانت توصلية لا تقع على صفة الوجوب ومصداقاً للواجب بما هو واجب إلاّ إذا اتي به عن قصد وعمد حتّى في التوصليات ، والسبب في ذلك أنّ التكليف تعبدياً كان أو توصلياً لا يتعلق إلاّبالفعل الاختياري ، فالغسل الصادر بلا اختيار وإن كان

٢٤٤

مطابقاً لذات الواجب ومحصّلاً لغرضه ، إلاّ أنّه لا يقع مصداقاً للواجب بما هو واجب ، بل يستحيل أن يتعلق الوجوب بمثله فكيف يكون مصداقاً له ، وعلى ذلك فالواجب بحكم العقل بما أنّه عنوان المقدمة لا ذاتها ، فمن الطبيعي أنّ المكلف إذا أتى بها بداعي المقدمية والتوصل فقد تحقق ما هو مصداق للواجب خارجاً بما هو واجب ، وإن لم يأت بها كذلك لم يتحقق ما هو مصداق للواجب كذلك وإن تحقق ما هو محصّل لغرضه. فالنتيجة على ضوء هذين الأمرين : أنّ الواجب هو المقدمة بعنوان التوصل لا ذاتها ، فإذن تمّ ما أفاده شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره.

ولنأخذ بالنقد على كلا الأمرين :

أمّا الأمر الأوّل : فلأنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ الجهات التعليلية في الأحكام العقلية ترجع إلى الجهات التقييدية ، وإن كان في نهاية الصحة والمتانة ، إلاّ أنّه أجنبي عن محلّ الكلام في المقام ، وذلك لما تقدّم في أوّل البحث من أنّ وجوب المقدمة عقلاً بمعنى اللاّ بدية خارج عن مورد النزاع وغير قابل للانكار ، وإنّما النزاع في وجوبها شرعاً الكاشف عنه العقل ، وكم فرق بين الحكم الشرعي الذي كشف عنه العقل والحكم العقلي ، وقد عرفت أنّ الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية لا ترجع إلى الجهات التقييدية ، فما أفاده قدس‌سره لا ينطبق على محلّ النزاع.

وأمّا الأمر الثاني : فلأنّ ما أفاده قدس‌سره إنّما يتم فيما إذا كانت القدرة مأخوذة شرعاً في المأمور به وواردة في لسان الخطاب به ، وذلك كآية الحج بناءً على تفسير الاستطاعة بالقدرة كما قيل ، وآية التيمم بناءً على أن يكون المراد من الوجدان فيها القدرة على الاستعمال شرعاً ، لا عدم الوجود بقرينة ذكر المريض فيها ، والسبب في هذا هو أنّه لا يمكن كشف الملاك في أمثال هذه

٢٤٥

الموارد إلاّفي خصوص الحصة المقدورة ، وأمّا الحصة الخارجة عن القدرة فلا طريق لنا إلى إحراز الملاك فيها أصلاً.

فالنتيجة : أنّ في كل مورد كانت القدرة مأخوذة فيه شرعاً فالواجب فيه بطبيعة الحال هو خصوص الحصة المقدورة دون غيرها ، ودون الجامع بينها وبين غيرها. وأمّا إذا كانت معتبرة فيه عقلاً فلا يتم ، والوجه في ذلك هو : أنّ المكلف مرّة يكون عاجزاً عن إتيان تمام افراد الواجب في الخارج وظرف الامتثال ، فعندئذ بطبيعة الحال يسقط عنه التكليف ولا يعقل بقاؤه ، ومرّة اخرى يكون عاجزاً عن امتثال بعض أفراده دون بعضها الآخر كالصلاة مثلاً حيث إنّ المكلف يتمكن من امتثالها في ضمن بعض أفرادها العرضية والطولية ولا يتمكن من امتثالها في ضمن بعضها الآخر كذلك ، ففي مثل ذلك لا موجب لتخصيص التكليف بخصوص الحصة المقدورة ، بل لا مانع من تعلقه بالجامع بينها وبين الحصة غير المقدورة ، وقد تقدّم أنّ الجامع بين المقدور وغيره مقدور ، ضرورة أنّه يكفي في القدرة عليه القدرة على امتثال فرد منه. وعلى هذا فبما أنّ اعتبار القدرة في إيجاب المقدمة إنّما هو بحكم العقل ، فلا محالة لا يختص وجوبها بخصوص ما يصدر من المكلف عن إرادة واختيار ، بل يعمّه وغيره ، فإذا كان الواجب هو الطبيعي الجامع كان الاتيان به لا بقصد التوصل مصداقاً له ، وعليه فلا موجب لتخصيصه بخصوص الحصة المقدورة ، فما أفاده قدس‌سره من المقدمتين غير تام أصلاً كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) ادّعى أنّه يظهر من تقريرات بحث شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره أنّ مراده من اعتبار قصد التوصل إنّما هو اعتباره في مقام الامتثال دون أخذه قيداً في المقدمة ، وعليه فمن جاء

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٠ [ لكنّه ادّعى أنّ عبارات المقرّر مشوّشة ].

٢٤٦

بالمقدمة بقصد التوصل فقد امتثل الواجب وإلاّ فلا.

وفيه : أنّ هذه الدعوى لو تمّت لكان لما أفاده وجه صحيح ، ضرورة أنّ الثواب لا يترتب على الاتيان بالمقدمة مطلقاً ، وإنّما يترتب فيما إذا جاء المكلف بها بقصد التوصل والامتثال.

وذكر قدس‌سره مرّة ثانية أنّ مراد الشيخ قدس‌سره من اعتبار قصد التوصل إنّما هو اعتباره في مقام المزاحمة ، كما إذا كانت المقدمة محرمة ، ونقل قدس‌سره أنّ شيخه العلاّمة السيِّد محمّد الاصفهاني قدس‌سره كان جازماً بأنّ مراد الشيخ من اعتبار قصد التوصل هو ذلك ، ولكن كان شيخنا الاستاذ قدس‌سره متردداً بأنّ هذا كان استنباطاً منه أو أنّه حكاه عن استاذه السيِّد الشيرازي قدس‌سره.

وكيف كان ، فحاصل هذا الوجه هو أنّه لو توقف واجب نفسي كانقاذ الغريق مثلاً على مقدمة محرّمة بنفسها كالتصرف في مال الغير أو نحوه ، فبطبيعة الحال تقع المزاحمة بين الوجوب الغيري والحرمة النفسية ، وعليه فان جاء المكلف بالمقدمة قاصداً بها التوصل إلى الواجب النفسي ارتفعت الحرمة عنها ، وذلك لأنّ إنقاذ النفس المحترمة من الهلاك أهم من التصرف في مال الغير ، فلا محالة يوجب سقوط الحرمة عنه ، وأمّا إن جاء بها لا بقصد التوصل ، بل بقصد التنزه أو ما شاكله ، فلا موجب لسقوط الحرمة عنه أبداً.

وغير خفي أنّ المزاحمة في الحقيقة إنّما هي بين الحرمة النفسية الثابتة للمقدمة وبين الوجوب النفسي الثابت لذيها وإن لم نقل بوجوب المقدمة أصلاً ، فالتزاحم في المثال المزبور إنّما هو بين وجوب إنقاذ الغريق وحرمة التصرف في الأرض المغصوبة ، سواء أكانت المقدمة واجبة أم لا. وبكلمة اخرى : أنّ التزاحم المذكور لا يتوقف على القول بوجوب المقدمة ، فانّه سواء أقلنا

٢٤٧

بوجوبها مطلقاً أو خصوص الموصلة منها أو ما يقصد به التوصل إلى الواجب أم لم نقل به أصلاً على الاختلاف في المسألة ، فالتزاحم بينهما موجود ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الواجب في المقام بما أنّه أهم من الحرام فبطبيعة الحال ترتفع حرمته ، فالسلوك في الأرض المغصوبة عندئذ إذا وقع في طريق الانقاذ لا يكون محرّماً ، بداهة أنّه لا يعقل بقاؤه على حرمته مع توقف الواجب الأهم عليه ، ولا فرق في ارتفاع الحرمة عنه ، أي عن خصوص هذه الحصة من السلوك ، بين أن يكون الآتي به قاصداً التوصل به إلى الواجب المذكور أم لا ، غاية الأمر إذا لم يكن قاصداً به التوصل كان متجريّاً ، وأمّا إذا لم يقع السلوك في طريق الانقاذ فتبقى حرمته على حالها ، ضرورة أنّه لا موجب ولا مقتضي لارتفاعها أصلاً ، فانّ المقتضي لذلك إنّما هو توقف الواجب الأهم عليه ، والمفروض أنّه ليس هذه الحصة من السلوك ممّا يتوقف عليه الواجب المزبور كي ترتفع حرمته. نعم ، لو قصد المكلف به التوصل إلى الواجب ولكنّه لمانع لم يترتب عليه في الخارج كان عندئذ معذوراً فلا يستحقّ العقاب عليه.

نعم ، بناءً على القول بوجوبها تقع المعارضة بينه وبين حرمتها ، وذلك لما عرفت من أنّ عنوان المقدمة عنوان تعليلي فلا يكون موضوعاً لحكم ، وعليه فبطبيعة الحال يرد الوجوب والحرمة على موضوع واحد ويتعلقان بشيء فارد.

وعلى هذا الضوء ، فان قلنا بوجوب خصوص المقدمة الموصلة سقطت الحرمة عنها فحسب ، فإذن نتيجة القول بالتعارض والتزاحم واحدة ، وهي سقوط الحرمة عن خصوص السلوك الواقع في سلسلة علّة الانقاذ لا مطلقاً ، وإن قلنا بوجوب المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب ، فالساقط إنّما هو الحرمة عنها فحسب ، سواء أكانت موصلة أم لم تكن ، وإن قلنا بوجوب المقدمة مطلقاً

٢٤٨

فالساقط إنّما هو الحرمة عنها كذلك.

وعلى ضوء ذلك تظهر الثمرة بين هذين القولين وبين القول بعدم الوجوب أصلاً كما هو الصحيح ، فانّه على هذا القول أي القول بعدم الوجوب ، فالساقط إنّما هو حرمة خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها ، وعلى القول الأوّل فالساقط إنّما هو حرمة خصوص المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب ، وعلى القول الثاني فالساقط إنّما هو حرمة مطلق المقدمة وهذه ثمرة مهمة.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) ذكر أنّ المقرر رتّب على اعتبار قصد التوصل فروعاً يبعد كونها من العلاّمة الأنصاري قدس‌سره.

منها : عدم صحة صلاة من كانت وظيفته الصلاة إلى الجهات الأربع إذا لم يكن من قصده الصلاة إلى جميعها ، حيث إنّ الاتيان بها إلى تلك الجهات من باب المقدمة وقد اعتبر فيها قصد التوصل ، فالاتيان بصلاة إلى جهة منها بدونه لا محالة تقع فاسدة وإن كانت مطابقة للواقع ، لفرض عدم إتيانه بما هو مقدمة وواجب عليه ، إذن لا مناص من الاعادة. ومن هذا القبيل كل مورد كان الاحتياط فيه مستلزماً للتكرار كالصلاة في ثوبين مشتبهين أو نحو ذلك إذا أتى بصلاة واحدة من دون قصده الاتيان بالجميع.

وفيه : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من الاستبعاد في محلّه ، والسبب في ذلك واضح وهو أنّ وجوب الصلاة إلى الجهات الأربع أو ما شاكل ذلك إنّما هو من باب المقدمة العلمية ، وقد تقدّم أنّ وجوبها لا يقوم على أساس القول بوجوب المقدمة وعدمه ، فانّ الحاكم بوجوبها إنّما هو العقل بملاك دفع الضرر المحتمل ، وأمّا محلّ النزاع في اعتبار قصد التوصل وعدم اعتباره فانّما هو

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٠.

٢٤٩

في المقدمة الوجودية ، ولا صلة لإحدى المقدمتين بالاخرى أصلاً ، كيف فانّ ما كان من الصلوات إلى الجهات الأربع مطابقاً للواقع كان هو نفس الواجب لا أنّه مقدمة له ، وما لم يكن مطابقاً له فهو أجنبي عنه ، فلا يكون هنا شيء مقدمة لوجود الواجب أصلاً.

نعم ، ذكر شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره في أواخر رسالة بحث البراءة (١) ما ملخصه : هل الاطاعة الاحتمالية في طول الاطاعة العلمية ولو إجمالاً أو في عرضها؟ فان قلنا بالأوّل كان ما جاء به من الامتثال الاحتمالي فاسداً وإن كان مطابقاً للواقع ، وذلك لاستقلال العقل الحاكم في هذا الباب بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال العلمي ولو كان إجمالياً ، وإن قلنا بالثاني كان ما جاء به صحيحاً ، لفرض تحقق الواجب في الخارج وقد قصد التقرب به احتمالاً وهو يكفي في العبادة.

وهذا الذي ذكره قدس‌سره هناك أيضاً أجنبي عن القول باعتبار قصد التوصل في المقدمة وعدم اعتباره ، فان كفاية الامتثال الاحتمالي مع التمكن من الامتثال العلمي وعدم كفايته معه يقومان على أساس آخر لا صلة له بما يقوم به هذان القولان ، فيمكن القول بالكفاية هناك على كلا القولين هنا ، ويمكن القول بعدم الكفاية هناك كذلك على تفصيل في محلّه. فالنتيجة أنّه لا صلة لأحد البابين بالآخر أصلاً كما هو واضح.

ومنها : عدم جواز الاتيان بالغايات المشروطة بالطهارة إذا لم يكن المتوضئ قاصداً به تلك الغايات بل أتى به لغاية اخرى ، فلو توضأ لغاية خاصة كقراءة القرآن مثلاً لم يجز له الدخول في الصلاة بذلك الوضوء وهكذا. ثمّ إنّه قدس‌سره أشكل على ذلك : بأنّ هذا لا يتم في الوضوء ، حيث إنّه حقيقة واحدة

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٥٧.

٢٥٠

وماهية فاردة فإذا جاء به لأيّة غاية مشروعة لترتبت عليه الطهارة ، ومعه يصحّ الاتيان بكل ما هو مشروط بها ، فإذن لا تكون لاعتبار قصد التوصل إلى غاية خاصة ثمرة في الوضوء. نعم ، يتم ذلك في باب الأغسال ، حيث إنّها حقائق متباينة وماهيات متعددة وإن اشتركت في اسم واحد ، وعليه فلو اغتسل لغاية خاصة فلا يجوز له الدخول إلى غاية اخرى. فثمرة اعتبار قصد التوصل تظهر هنا.

وأورد عليه شيخنا الاستاذ ( قدس‌سره ) بأنّ ما أفاده بالاضافة إلى الوضوء وإن كان متيناً جداً فلا مناص عنه ، إلاّ أنّ ما أفاده بالاضافة إلى الأغسال من الغرائب ، فانّ الاختلاف في أنّ الأغسال حقيقة واحدة أو حقائق متعددة إنّما هو باعتبار اختلاف أسبابها كالجنابة والحيض والنفاس ونحو ذلك ، لا باعتبار غاياتها المترتبة عليها ، ضرورة أنّه لم يحتمل أحد فضلاً عن القول بأنّ الأغسال حقائق متعددة باعتبار تعدد غاياتها ، فهي من ناحية الغايات لا فرق بينها وبين الوضوء أصلاً. فالنتيجة : أنّ ما استبعده شيخنا الاستاذ قدس‌سره في محلّه.

٢٥١

[ وجوب المقدّمة الموصلة ]

وأمّا القول الثالث : وهو قول صاحب الفصول قدس‌سره (١) من أنّ الواجب هو حصة خاصة من المقدمة وهي الحصة الموصلة ، أي الواقعة في سلسلة علة وجود ذيها دون غيرها من الحصص ، فقد نوقش فيه بعدّة مناقشات :

الاولى : ما عن شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) من أنّ تخصيص الوجوب بخصوص هذه الحصة يستلزم أحد محذورين : إمّا الدور أو التسلسل ، وكلاهما محال.

أمّا الأوّل : فلأنّ مردّ هذا القول إلى كون الواجب النفسي مقدمة للمقدمة ، لفرض أنّ ترتب وجوده عليها قد اعتبر قيداً لها ، وعلى هذا يلزم كون وجوب الواجب النفسي ناشئاً من وجوب المقدمة وهو يستلزم الدور ، فان وجوب المقدمة على الفرض إنّما نشأ من وجوب ذي المقدمة ، فلو نشأ وجوبه من وجوبها لدار. وأمّا الثاني : فلأنّ الواجب لو كان خصوص المقدمة الموصلة فبطبيعة الحال كانت ذات المقدمة من مقدمات تحققها في الخارج ، نظراً إلى أنّ ذاتها مقوّمة لها ومقدّمة لوجودها ، فعندئذ إن كان الواجب هو ذات المقدمة على الاطلاق لزم خلاف ما التزم به قدس‌سره من اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة ، وإن كان هو الذات المقيدة بالايصال إليها ننقل الكلام إلى

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٨٦ ، التنبيه الأوّل.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٤٤.

٢٥٢

ذات هذا المقيد بالايصال وهكذا فيذهب إلى ما لا نهاية له. فالنتيجة : أنّه لا يمكن القول بأنّ الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة.

ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده قدس‌سره :

أمّا الدور فيرد عليه : أنّ الوجوب النفسي المتعلق بذي المقدمة غير ناشٍ من وجوب المقدمة كي يتوقف اتصافه به على وجوبها. نعم ، الواجب النفسي على هذا بما أنّه مقدمة للواجب الغيري بما هو كذلك ، فبطبيعة الحال يعرض عليه الوجوب الغيري على نحو الترتب الطبعي ، بمعنى أنّ الواجب أوّلاً هو ذو المقدمة بوجوب نفسي ، ثمّ مقدمته بوجوب غيري ، ثمّ أيضاً ذو المقدمة لكن بوجوب غيري ، وعليه فلا يلزم الدور من اختصاص الوجوب بخصوص المقدمة الموصلة ، وإنّما يلزم اجتماع الوجوب النفسي والغيري في شيء واحد ـ وهو ذو المقدمة ـ وهذا ممّا لا محذور فيه أصلاً ، حيث إنّ مردّه إلى اندكاك أحدهما في الآخر وصيرورتهما حكماً واحداً آكد.

وأمّا التسلسل فيرد عليه : أنّ ذات المقيد وإن كانت مقوّمة له ، إلاّ أنّ نسبته إليه ليست نسبة المقدمة إلى ذيها لننقل الكلام إليه ونقول إنّها واجبة مطلقاً أو مقيدة بالايصال ، وحيث إنّ الأوّل خلاف الفرض فالثاني يستلزم الذهاب إلى ما لا نهاية له ، بل نسبته إليه نسبة الجزء إلى المركب ، إذ على هذا القول المقدمة تكون مركبة من جزأين : أحدهما : ذات المقيد. والآخر : تقيدها بقيد وهو وجود الواجب في الخارج ، كما هو الحال في كل واجب مقيد بقيد سواء أكان وجوبه نفسياً أم كان غيرياً ، وعلى هذا فلا يبقى موضوع للقول بأنّ ذات المقيد هل هي واجبة مطلقاً أو مقيدة بالايصال ، هذا كلّه على تقدير تسليم كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري.

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ الالتزام بوجوب المقدمة الموصلة لا

٢٥٣

يستدعي اعتبار الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري أصلاً ، والسبب في ذلك : هو أنّ الغرض من التقييد بالايصال إنّما هو الاشارة إلى أنّ الواجب إنّما هو حصة خاصة من المقدمة ، وهي الحصة الواقعة في سلسلة العلة التامة لوجود الواجب النفسي ، دون مطلق المقدمة. وبكلمة اخرى : أنّ المقدمات الواقعة في الخارج على نحوين : أحدهما : ما كان وجوده في الخارج ملازماً لوجود الواجب فيه ، وهو ما يقع في سلسلة علة وجوده. وثانيهما : ما كان وجوده مفارقاً لوجوده فيه ـ وهو ما لا يقع في سلسلتها ـ فالقائل بوجوب المقدمة الموصلة إنّما يدعي وجوب خصوص القسم الأوّل منهما دون القسم الثاني ، وعليه فلا يلزم من الالتزام بهذا القول كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري ، فإذن لا موضوع لاشكال الدور أو التسلسل أصلاً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ قضية الارتكاز والوجدان تقتضي وجوب خصوص هذا القسم الملازم لوجود الواجب في الخارج ، بداهة أنّ من اشتاق إلى شراء اللحم مثلاً فلا محالة يحصل له الشوق إلى صرف مال واقع في سلسلة مبادئ وجوده لا مطلقاً ، ولذا لو فرض أنّ عبده صرف المال في جهة اخرى لا في طريق امتثال أمره بشراء اللحم لم يعدّ ممتثلاً للأمر الغيري ، بل يعاقبه على صرف المال في تلك الجهة ، إلاّ إذا كان معتقداً بأنّ صرفه في هذا الطريق يؤدي إلى امتثال الواجب في الخارج ولكنّه في الواقع غير مؤدٍ إليه. فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه على القول بوجوب المقدمة لا مناص من الالتزام بهذا القول.

الثانية : ما عن المحقق صاحب الكفاية (١) وشيخنا الاستاذ (٢) (قدس‌سرهما )

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٤٥.

٢٥٤

وملخصه هو : أنّ ملاك الوجوب الغيري لو كان قائماً بخصوص ما يترتب عليه الواجب النفسي خارجاً ، فلا بدّ من القول باختصاص الوجوب بخصوص السبب دون غيره كما عن صاحب المعالم قدس‌سره وهذا ممّا لم يلتزم به صاحب الفصول قدس‌سره ، وإن كان ملاكه مطلق التوقف والمقدمية فهو مشترك فيه بين تمام أقسام المقدمات ، وعندئذ فلا موجب للتخصيص بخصوصها.

وغير خفي أنّ ملاك الوجوب الغيري قائم بخصوص ما يكون توأماً وملازماً لوجود الواجب في الخارج من ناحية وقوعه في سلسلة مبادئ وجوده بالفعل ، لا بمطلق المقدمة وإن لم تقع في سلسلتها ، ولا بخصوص الأسباب التوليدية ، فالطهارة من الحدث أو الخبث مثلاً إن وقعت في سلسلة مبادئ وجود الصلاة في الخارج فهي واجبة وإلاّ فلا ، مع أنّها ليست من الأسباب التوليدية بالاضافة إلى الصلاة.

الثالثة : ما جاء به المحقق صاحب الكفاية ( قدس‌سره ) (١) من أنّ الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة إنّما هو تمكن المكلف من الاتيان بذيها ، نظراً إلى أنّه لايتمكّن من الاتيان به ابتداءً بدون الاتيان بها ، ومن المعلوم ترتب هذا الغرض على مطلق المقدمة دون خصوص الموصلة منها.

والجواب عنه : أنّ هذا ليس الغرض من إيجاب المقدمة ، ضرورة أنّ التمكن من الاتيان بذيها ليس من آثار الاتيان بها ، بل هو من آثار التمكن من الاتيان بالمقدمة ، لوضوح أنّه يكفي في التمكن من الاتيان بالواجب النفسي وامتثاله التمكن من الاتيان بمقدمته ، فانّ المقدور بالواسطة مقدور. أضف إلى ذلك : أنّ القدرة على الواجب لو كانت متوقفة على الاتيان بالمقدمة لجاز للمكلف تفويت الواجب بترك مقدمته ، بداهة أنّ القدرة ليست بواجبة التحصيل. فالنتيجة : أنّ

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٥.

٢٥٥

ما أفاده قدس‌سره لا يمكن أن يكون غرضاً لايجابها ، بل الغرض منه ليس إلاّ إيصالها إلى الواجب ، حيث إنّ الاشتياق إلى شيء لا ينفك عن الاشتياق إلى ما يقع في سلسلة علة وجوده دون ما لا يقع في سلسلتها.

الرابعة : ما أورده المحقق صاحب الكفاية ( قدس‌سره ) (١) أيضاً وحاصله هو : أنّ المكلف إذا جاء بالمقدمة مع عدم الاتيان بذيها ـ وهو الواجب النفسي ـ فلا يخلو الحال من أن يلتزم بسقوط الأمر الغيري عنها أو بعدم السقوط ، ولا مجال للثاني ، لأنّه موجب للتكرار ، وعلى الأوّل فامّا أن يكون السقوط للعصيان أو لفقد الموضوع أو لموافقة الخطاب ، والأوّل غير حاصل ، لفرض الاتيان بالمقدمة ، وكذا الثاني فيتعين الثالث ، وهذا هو المطلوب ، إذ لو كان الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة لم يسقط الأمر الغيري ، فالسقوط كاشف عن أنّ الواجب هو مطلق المقدمة ولو لم توصل إلى ذيها.

والجواب عنه أوّلاً : بالنقض بأجزاء الواجب المركب كالصلاة مثلاً ، فانّ المكلف إذا جاء بأوّل جزء منها ولم يأت ببقية الأجزاء فبطبيعة الحال يسأل عنه أنّه هل يلتزم بسقوط الأمر الضمني المتعلق به أو لا يلتزم به ، والثاني لا يمكن لاستدعائه التكرار ، وعلى الأوّل فالسقوط لا يخلو من أن يكون بالعصيان أو بانتفاء الموضوع أو بالامتثال ، ولا يمكن الالتزام بشيء منهما ، فإذن ما هو جوابه عن ذلك فهو جوابنا عن المسألة.

وثانياً : بالحل ، وملخّصه : هو ما عرفت من أنّ الواجب على هذا القول هو حصة خاصة من المقدمة وهي التي يكون وجودها توأماً وملازماً لوجود ذي المقدمة في الخارج ، وواقعاً في سلسلة العلة التامة لوجوده ، فإذا كانت منفكة

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٧.

٢٥٦

عن ذلك ووقعت مجردة عن بقية أجزاء العلة التامة ، فبما أنّ الغرض الداعي إلى إيجابها لم يترتب عليها عندئذ فلا محالة لا تقع في الخارج على صفة الوجوب ، وعليه فبطبيعة الحال يستند سقوط الأمر الغيري إلى العصيان أو نحوه لا إلى الاتيان بالمقدمة ، لفرض أنّه لم يأت بما هو الواجب منها.

فالنتيجة : أنّ وجود الواجب النفسي في الخارج كاشف عن تحقق المقدمة فيه ، وعدم وجوده كاشف عن عدم تحققها كالشرط المتأخر. ومن ذلك يظهر الحال في أجزاء الواجب النفسي ، فانّ كل واحد منها إنّما يقع على صفة الوجوب إذا وقع في الخارج منضماً إلى بقية أجزائه ، وأمّا إذا وقع منفكاً عنها فلا يقع على هذه الصفة ، لفرض أنّه ليس بجزء من الواجب.

أدلّة صاحب الفصول

استدلّ صاحب الفصول قدس‌سره (١) على إثبات نظريته بامور :

الأوّل : أنّ الحاكم بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته إنّما هو العقل ، ومن الطبيعي أنّه لا يدرك أزيد من الملازمة بين طلب شيء وطلب مقدماته التي في سلسلة علة وجود ذلك الشيء في الخارج ، بحيث يكون وجودها فيه توأماً وملازماً لوجود الواجب ، وأمّا ما لا يقع في سلسلة علته ويكون وجوده خارجاً مفارقاً عن وجود الواجب فالعقل لا يدرك الملازمة بين إيجابه وإيجاب ذلك أبداً.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٨٦.

٢٥٧

وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأنّ العقل لا يفرّق في الحكم بالملازمة بين الموصلة وغيرها ، نظراً إلى أنّ ملاك حكمه بالملازمة إنّما هو حصول التمكن للمكلف من الاتيان بالواجب من قبل الاتيان بها وهو مشترك فيه على الفرض بين تمام أنواع المقدمة. وجوابه قد ظهر ممّا تقدّم حيث بيّنا أنّ التمكن المزبور لا يصلح أن يكون ملاكاً للوجوب الغيري وداعياً له ، لفرض أنّه حاصل قبل الاتيان بالمقدمة.

الثاني : أنّ العقل لا يأبى عن تصريح الآمر بعدم إرادة غير المقدمة الموصلة ، ومن الطبيعي أنّ عدم إباء العقل عن ذلك وتجويزه دليل قطعي على وجوب خصوص المقدمة الموصلة دون مطلق المقدمة ، مثلاً يجوز للمولى أن يقول لعبده اريد الحج واريد المسير الذي يوصل إلى بيت الله الحرام ، ولا اريد المسير الذي لا يوصل ، ولا يسوغ له أن يقول اريد الحج ولا اريد جميع مقدماته الموصلة وغيرها ، كما لا يسوغ له التصريح بعدم إرادة خصوص الموصلة ، ومن الواضح أنّ ذلك كلّه آية اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة.

وناقش في ذلك صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) بأ نّه ليس للمولى الحكيم غير المجازف التصريح بذلك بعد ما عرفت من أنّ الغرض مشترك بين الجميع ـ وهو التمكن ـ وجوابه يظهر ممّا تقدّم ، وأنّ ما ذكره من الغرض لا يصلح أن يكون غرضاً ، وعليه فلا بأس بهذا التصريح ، بل الوجدان أصدق شاهد على جواز ذلك.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٥.

(٢) كفاية الاصول : ١١٨.

٢٥٨

الثالث : أنّ الغرض من إيجاب المقدمة إنّما هو إيصالها إلى الواجب ووقوعها في سلسلة علة وجوده ، وإلاّ فلا داعي للمولى في إيجاب المقدمة ، فإذن بطبيعة الحال يكون الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة ، والوجدان شاهد صدق على ذلك ، فانّ من أراد شيئاً أراد مقدماته التي توصل إليه ، وأمّا ما لا يوصل إليه فهو غير مراد له ، مثلاً من أراد الطبيب فبطبيعة الحال أراد مقدماته التي توصل إليه دون ما لا يوصل ، وهكذا.

وقد ناقش فيه صاحب الكفاية قدس‌سره بما يرجع إلى وجهين أحدهما : إلى منع الصغرى. وثانيهما : إلى منع الكبرى ، أمّا الأوّل : فملخصه هو : أنّ الغرض الداعي إلى إيجاب المقدمة إنّما هو التمكن من الاتيان بالواجب النفسي لا ترتبه عليه خارجاً ، وهذا الغرض موجود في الموصلة وغيرها ، فلا موجب لتخصيص الوجوب بخصوص الموصلة. وجوابه قد تبين ممّا سبق فلا نعيد. وأمّا الثاني فحاصله هو : أنّ صريح الوجدان قاض بأنّ المقدمة التي اريد لأجل غاية من الغايات وتجرّدت عنها تقع على صفة الوجوب ، وعلى هذا وإن سلّمنا أنّ الغاية لوجوب المقدمة إنّما هي ترتب وجود ذيها عليها ، إلاّ أنّه لا يكون قيداً للواجب بحيث لو تجرد عنه لم يقع على صفة الوجوب. وجوابه واضح ، وهو أنّ الشيء إذا وجب لغاية من الغايات فكيف يعقل تحقق الوجوب بدون تحقق تلك الغاية ، فإذا افترضنا أنّ الغاية من إيجاب المقدمة إنّما هي إيصالها إلى الواجب النفسي وترتبه عليها ، فعندئذ لو تجردت عنها ولم يترتب الواجب عليها فكيف تقع على صفة الوجوب ، ومن هنا قلنا إنّ وجود الواجب في الخارج كاشف عن تحقق مقدمته الواجبة وعدم وجوده كاشف عن عدم تحققها ، ونظير ذلك ما تقدّم من أنّ المكلف إذا أتى بجزء من الواجب وتجرد عن بقية أجزائه لم يقع على صفة الوجوب.

٢٥٩

وعلى الجملة : فالغرض بما أنّه قائم بخصوص المقدمة الموصلة دون غيرها ودون الجامع بينهما ، فلا مقتضي لايجاب غيرها ولو بايجاب الجامع. فالنتيجة أنّ ما أفاده المحقق صاحب الفصول قدس‌سره متين جداً ولا مناص عنه لو قلنا بوجوب المقدمة.

قد يستدل على إيجاب خصوص المقدمة الموصلة بوجه آخر وحاصله : هو أنّه يجوز للمولى أن ينهى عن المقدمات التي لا توصل إلى الواجب ، ولا يستنكر ذلك العقل ، مع أنّه يستحيل أن ينهى عن مطلق المقدمة أو عن خصوص الموصلة منها ، ومن الطبيعي أنّ هذه التفرقة آية عدم وجوب مطلق المقدمة ، ووجوب خصوص الموصلة ، مثلاً لو أمر المولى عبده بشراء اللحم من السوق فليس له المنع عن مطلق مقدمته أو عن خصوص الموصلة منها ، ولكن له أن يمنع عن المقدمة التي لا توصل إليه ، وهذا الاستدلال منسوب (١) إلى السيِّد الطباطبائي صاحب العروة قدس‌سره.

وأجاب صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) عن ذلك بوجهين :

الأوّل : أنّ هذا الدليل خارج عن مورد الكلام في المسألة ، فان محل الكلام إنّما هو في المقدمات المباحة في أنفسها ، وأمّا إذا كان بعضها محرّماً ، فعدم اتصاف المحرّم بالوجوب الغيري إنّما هو لوجود مانع ، لا لأجل عدم المقتضي له ، وعلى هذا فنهي المولى عن المقدمات غير الموصلة لايدل على أنّه لا مقتضي لاتصافها بالوجوب الغيري ، إذ من المحتمل أن يكون عدم اتصافها في هذه الحالة لأجل

__________________

(١) نسبه في أجود التقريرات ١ : ٣٤٦ إلى صاحب الفصول.

(٢) كفاية الاصول : ١٢٠.

٢٦٠