محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

[ المقدّمات المفوّتة ]

ثمّ إنّ الذي دعا صاحب الفصول قدس‌سره إلى الالتزام بالواجب المعلّق هو عدّة فوائد تترتب عليه :

منها : دفع الاشكال عن إيجاب مقدمات الحج قبل الموسم ، حيث يلزم على المكلف تهيئة لوازم السفر ووسائل النقل وما شاكل ذلك قبل مجيء زمان الواجب وهو يوم عرفة ، إذ لو لم نلتزم به لم يمكن الحكم بايجابها قبل موسمه ، كيف حيث إنّ وجوب المقدمة معلول لايجاب ذيها ، فلا يعقل وجود المعلول قبل وجود علته. وعلى ضوء الالتزام بحالية الوجوب في أمثال هذا المورد يندفع الاشكال رأساً ، وذلك لأنّ فعلية وجوب المقدمة تتبع فعلية وجوب الواجب وإن لم يكن نفس الواجب فعلياً.

ومنها : دفع الاشكال عن وجوب الغسل على المكلف كالجنب أو الحائض ليلاً لصوم غد ، فانّه لولا الالتزام بحالية الوجوب في مثله كيف يمكن الالتزام بوجوب الغسل في الليل ، مع أنّ الصوم لا يجب إلاّمن حين طلوع الفجر.

ومنها : دفع الاشكال عن وجوب التعلم قبل دخول وقت الواجب كتعلم أحكام الصلاة ونحوها قبل وقتها ، فلولا وجوب تلك الصلوات قبل دخول أوقاتها لم يكن تعلم أحكامها واجباً.

ومنها : دفع الاشكال عن وجوب إبقاء الاستطاعة بعد أشهر الحج.

ويمكن أن نأخذ بالمناقشة فيه : وهي أنّ دفع الاشكال المزبور عن تلك الموارد وما شاكلها لا يتوقف على الالتزام بالواجب التعليقي ، إذ كما يمكن دفع

١٨١

الاشكال به يمكن دفعه بالالتزام بوجوبها نفسياً ، لكن لا لأجل مصلحة في نفسها ، بل لأجل مصلحة كامنة في غيرها ، فيكون وجوبها للغير لا بالغير ، إذن تكون هذه المقدمات واجبة مع عدم وجوب ذيها فعلاً.

ومع الاغماض عن ذلك ، يمكن دفعه بالالتزام بحكم العقل بلزوم الاتيان بها بملاك إدراك العقل قبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه ، حيث إنّه لا يفرق في القبح بين تفويت الملاك الملزم في موطنه ومخالفة التكليف الفعلي ، فكما يحكم بقبح الثاني يحكم بقبح الأوّل ، وبما أنّه يدرك أنّ الحج في ظرفه ذو ملاك ملزم ، وأ نّه لو لم يأت بمقدماته من الآن لفات منه ذلك الملاك ، يستقل بلزوم إتيانها قبل أوانه ولو بشهر أو أكثر أو أقل.

نعم ، ظواهر الأدلة في مسألتي الحج والصوم تساعد ما التزم به في الفصول من كون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً ، فان قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١) ظاهر في فعلية وجوب الحج عند فعلية الاستطاعة ، كما أنّ قوله عزّ وجلّ ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(٢) ظاهر في فعلية وجوب الصوم عند شهود الشهر ، والشهود كناية عن أحد أمرين : إمّا الحضور في مقابل السفر ، وإمّا رؤية الهلال ، وعلى كلا التقديرين فالآية تدل على تحقق وجوب الصوم عند تحقق الشهود. نعم ، ظواهر الأدلة في الصلوات الخمس لا تساعده ، فان قوله عليه‌السلام « إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة » (٣) ظاهر في تحقق الوجوب بعد الزوال.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

(٣) الوسائل ١ : ٣٧٣ / أبواب الوضوء ب ٤ ح ١. وفيه : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ».

١٨٢

وكيف كان ، فقد ذكرنا أنّ الشرط المتأخر وإن كان ممكناً في نفسه ولا مانع من الالتزام به ، إلاّ أنّ وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل ، ففي كل مورد دلّ الدليل عليه فهو ، وإلاّ فلا نقول به. نعم ، لو قلنا باستحالته فلا بدّ من رفع اليد عن ظواهر تلك الأدلة.

وبكلمة اخرى : ينبغي لنا أن نتكلم حول هذه المسألة في مقامين :

الأوّل : على القول بامكان الواجب التعليقي ووقوعه في الخارج.

الثاني : على القول باستحالته أو عدم وقوعه وإن قلنا بامكانه.

أمّا المقام الأوّل : فلا إشكال في لزوم الاتيان بالمقدمات التي لو لم يأت بها لفات الواجب عنه في ظرفه ، من دون فرق فيه بين القول بوجوب المقدمة شرعاً والقول بعدم وجوبها كذلك ، أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني فلاستقلال العقل بذلك بعد إدراكه توقف الاتيان بالواجب عليها ، حيث إنّ وجوبه فعلي على الفرض ، ومن المعلوم أنّ العقل يستقل في مثله بلزوم امتثاله ، فلو توقف على مقدمات حكم بلزوم الاتيان بها أيضاً لأجل ذلك.

وعلى الجملة : فعلى ضوء هذا القول لا فرق بين المقدمات التي لا بدّ من الاتيان بها قبل وقت الواجب كمقدمات الحج ، والغسل في الليل ، وما شاكل ذلك ، وبين غيرها من المقدمات العامة فيما إذا علم المكلف بأ نّه لو لم يأت بها قبله عجز عنها في وقته ، فإنّه كما يحكم بلزوم الاتيان بالاولى يحكم بلزوم الاتيان بالثانية ، ولا فرق بينهما من هذه الناحية.

وإليه أشار ما في الكفاية (١) من أنّ الوجوب لو صار فعلياً لوجب حفظ القدرة على المقدمات في مورد يعلم المكلف أنّه يعجز عن الاتيان بها في زمن

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٤ ، ١٠٥.

١٨٣

الواجب. فالنتيجة : هي لزوم الاتيان بتمام مقدمات الواجب المعلّق قبل زمانه ، أو التحفظ عليها إذا كانت حاصلة فيما إذا علم المكلف بعدم تمكنه منها في وقته.

نعم ، المقدمات التي اعتبرت من قبلها القدرة الخاصة وهي القدرة في ظرف العمل فلا يجب تحصيلها قبل مجيء وقته ، بل يجوز تفويتها اختياراً ، بل ولا مانع منه في بعض الموارد بعد الوقت ، وذلك كاجناب الرجل نفسه اختياراً بمواقعة أهله بعد دخول وقت الصلاة وهو يعلم بعدم تمكنه من الطهارة المائية بعده ، فانّه يجوز ذلك حيث إنّ القدرة المعتبرة هنا قدرة خاصة ـ وهي القدرة على الصلاة مع الطهارة المائية إذا لم يقدم على مواقعة أهله ـ وستجيء الاشارة إلى ذلك. وأمّا إجناب نفسه بطريق آخر كالنوم أو نحوه في الوقت مع علمه بعدم التمكن من الطهارة المائية فلا يجوز.

وعلى الجملة : فالواجبات في الشريعة الاسلامية المقدسة تختلف من هذه الناحية ـ أي من ناحية اعتبار القدرة فيها من قبل مقدماتها ـ فقد تكون قدرة مطلقة ، وقد تكون قدرة خاصة ، فعلى الأوّل يجب الاتيان بها ولو قبل دخول وقتها ، دون الثاني ، هذا بحسب مقام الثبوت ، وأمّا بحسب مقام الاثبات فالمتبع في ذلك دلالة الدليل.

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا افترضنا استحالة الواجب المعلّق أو قلنا بامكانه ولكن فرضنا عدم مساعدة الدليل على وقوعه ، وذلك كوجوب تعلم الصبيان أحكام الصلاة ونحوها قبل البلوغ ، إذ لو قلنا بعدم وجوبه عليهم ـ كما هو الصحيح وستجيء الاشارة إليه ـ فلازمه جواز تفويت الصلاة أوّل بلوغهم مقداراً من الزمن يتمكنون من التعلم فيه ، ولا يمكن الالتزام بوجوب التعلم من ناحية سبق وجوب الصلاة أو نحوها على البلوغ ، وإن قلنا بامكان الواجب المعلّق ، وذلك لفرض عدم التكليف على الصبيان ، فالنتيجة أنّ الاشكال في

١٨٤

المقدمات المفوّتة في أمثال هذه الموارد ، وأ نّه كيف يمكن الحكم بوجوبها مع عدم وجوب ذيها. وقبل التعرض لدفع الاشكال وبيان الأقوال فيه ينبغي تقديم أمرين :

الأوّل : أنّ ما اشتهر بين الأصحاب من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً في غاية الصحة والمتانة ، فلو اضطرّ الانسان نفسه باختياره إلى ارتكاب محرّم كما لو دخل في الأرض المغصوبة أو ألقى نفسه من شاهق أو ما شاكل ذلك ، فعندئذ وإن كان التكليف عنه ساقطاً ، لكونه لغواً صرفاً بعد فرض خروج الفعل عن اختياره ، وأمّا عقابه فلا قبح فيه أصلاً ، وذلك لأنّ هذا الاضطرار حيث إنّه منتهٍ إلى الاختيار فلا يحكم العقل بقبحه أبداً.

وناقش في هذه القاعدة طائفتان : فعن أبي هاشم المعتزلي (١) أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وخطاباً ، وكان للمولى في المثالين المذكورين أن ينهى عن التصرف في مال الغير بدون إذنه ، ويأمر بحفظ نفسه ، بدعوى أنّه لا مانع من التكليف بغير المقدور إذا كان مستنداً إلى سوء اختياره. ويظهر اختيار هذا القول من المحقق القمي قدس‌سره أيضاً (٢). وفي مقابل هذا القول ادّعى جماعة منافاته للاختيار عقاباً وخطاباً. أمّا الخطاب فهو واضح ، لأنّه لغو صرف. وأمّا العقاب فلأ نّه عقاب على غير مقدور وهو قبيح عقلاً.

ولنأخذ بالنقد على كلا القولين :

أمّا القول الأوّل : فلأنّ الغرض من التكليف هو إحداث الداعي للمكلف

__________________

(١) البرهان في اصول الفقه ١ : ٢٠٨ ، المنخول : ١٢٩.

(٢) قوانين الاصول ٢ : ١٥٣.

١٨٥

بالاضافة إلى المكلف به ، وعليه فإن كان المكلف به مقدوراً لم يكن التكليف به لغواً ، حيث إنّه يمكن أن يصير داعياً إليه ، وإن لم يكن مقدوراً كان التكليف به لغواً محضاً ، لعدم إمكان كونه داعياً ، ومن الواضح أنّه لا فرق في هذه النقطة بين أن يكون مستند عدم القدرة سوء الاختيار أو غيره ، بداهة أنّ عدم القدرة المسبب عن سوء الاختيار لايصحح تكليف المولى لغير القادر وإلاّ لجاز للمولى أن يأمر عبده بالجمع بين الضدّين معلّقاً على أمر اختياري كالصعود على السطح أو نحو ذلك ، وهو باطل قطعاً حتّى عند القائل بهذا القول.

وأمّا القول الثاني : فلأنّ الخطاب وإن كان لغواً كما عرفت إلاّ أنّه لا مانع من العقاب ، وذلك لأنّ المكلف حيث كان متمكناً في بداية الأمر أن لا يجعل نفسه مضطراً إلى ارتكاب الحرام ومع ذلك لو جعل نفسه كذلك بسوء اختياره وارتكب الحرام حكم العقل باستحقاقه العقاب لا محالة ، لأنّه منته إلى اختياره ، ومن الطبيعي أنّ العقل لا يفرّق في استحقاق العقاب على فعل الحرام بين كونه مقدور الترك بلا واسطة أو معها ، وإنّما يحكم بقبح استحقاقه على ما لا يكون مقدوراً له أصلاً. فالنتيجة : أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وينافيه خطاباً.

نعم ، قد تستعمل هذه القاعدة في مقام نقد نظرية الجبر وعدم الاختيار للعبد ، ولكنّه بمعنى آخر ، والفرق بين المعنيين هو أنّ المراد من الامتناع هنا الامتناع الوقوعي ، والمراد من الامتناع هناك هو الامتناع بالغير وهو اختيار العبد وإرادته. وقد تقدّم الكلام فيها من هذه الناحية بشكل موسع عند ما تعرضنا لنظرية الجبر ونقدها (١).

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٣٩٨.

١٨٦

الثاني : أنّه لا فرق في حكم العقل باستحقاق العقاب بين مخالفة التكليف الالزامي الفعلي وبين تفويت حقيقة التكليف وروحه ، وهو الملاك التام الملزم الذي يدعو المولى إلى اعتبار الايجاب تارة ، وإلى جعل التحريم تارة اخرى ، فإذا أحرز العبد ذلك الملاك في فعل وإن علم بعدم التكليف به استحقّ العقاب على تفويته ، من دون فرق في ذلك بين أن يكون المانع من التكليف قصوراً في ناحية المولى نفسه ، كما إذا كان غافلاً أو نائماً واتّفق في هذا الحال غرق ولده أو حرقه وكان عبده متمكناً من إنقاذه ، فعندئذ لو خالف ولم ينقذه فلا شبهة في استحقاقه العقاب ، أو قصوراً في ناحية العبد ، كما إذا علم بأنّ الملاك تام في ظرفه وأ نّه لو لم يحفظ قدرته عليه لم يكن قابلاً لتوجيه التكليف إليه ، فعندئذ لو خالف وعجز في ظرف التكليف عن امتثاله ، فعجزه هذا وإن كان مانعاً عن توجه التكليف إليه ، لعدم القدرة ، إلاّ أنّه يستحقّ العقاب على تفويت الغرض الملزم فيه حيث كان قادراً على حفظ قدرته واستيفائه. فالنتيجة : أنّه لا فرق عند العقل في الحكم باستحقاق العقاب بين مخالفة التكليف الفعلي وبين تفويت الغرض الملزم فيما لا يمكن جعل التكليف على طبقه.

وبعد ذلك نقول : الكلام هنا يقع في مقامين : الأوّل : في غير التعلم من المقدمات. الثاني : في التعلم.

أمّا المقام الأوّل : فالكلام فيه تارة يقع في مقام الثبوت ، واخرى في مقام الاثبات. أمّا الكلام في مقام الثبوت فيتصور على وجوه :

الأوّل : أن يكون ملاك الواجب تاماً والقدرة المأخوذة فيه من قبل مقدماته هي القدرة العقلية وغير دخيلة في ملاكه ، وذلك كحفظ بيضة الاسلام أو حفظ النفس المحترمة أو ما شاكل ذلك ، إذا افترضنا أنّ المكلف علم بأ نّه لو تحفظ

١٨٧

على قدرته هذه أو لو أوجد المقدمة الفلانية لتمكن من حفظ بيضة الاسلام أو النفس المحترمة بعد شهر مثلاً ، وإلاّ لم يقدر عليه ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال يستقل العقل بوجوب التحفظ عليها أو بلزوم الاتيان بها لئلاّ يفوته الملاك الملزم فيه في ظرفه ، وقد عرفت عدم الفرق في حكم العقل باستحقاق العقاب بين مخالفة الأمر أو النهي الفعلي وتفويت الملاك الملزم.

وكذا الحال لو كان عدم فعلية التكليف من ناحية عدم دخول الوقت أو عدم حصول الشرط ، إذا افترضنا أنّ ملاك الواجب تام في ظرفه ، والقدرة فيه شرط عقلي فلا دخل لها بملاكه أصلاً ، وذلك كما إذا فرض أنّ ملاك الحج مثلاً تام في وقته وقد أحرزه المكلف ولم يكن التكليف المتعلق به فعلياً ، إمّا من ناحية استحالة الواجب التعليقي أو من ناحية عدم مساعدة الدليل عليه ، ففي مثله لا محالة يحكم العقل بوجوب الاتيان بتمام مقدماته التي لها دخل في تمكن المكلف من امتثاله في ظرفه وإلاّ لفاته الملاك الملزم باختياره ، حيث إنّه يعلم بأ نّه لو لم يأت بها لصار عاجزاً عن إتيان الواجب في وقته ، وبما أنّ عجزه مستند إلى اختياره فيدخل في كبرى القاعدة الآنفة الذكر : الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً ، فعندئذ يستحقّ العقاب على ذلك.

وإن شئت قلت : إنّ ترك المقدمة في أمثال المقام حيث إنّه يؤدي إلى تعجيز المولى عن تكليفه مع ثبوت المقتضي له ، فبطبيعة الحال يحكم العقل بعدم جوازه وبقبح ذلك. فالنتيجة : أنّ في كل مورد علم المكلف بتمامية ملاك الواجب في ظرفه وعلم بأ نّه لو ترك مقدمة من مقدماته قبل وقته أو شرطه لعجز عن إتيانه فيه ، فلا محالة يحكم العقل بلزوم إتيانها لفاقدها في أوّل أزمنة الامكان ، لتحصيل القدرة على الواجب ، ووجوب حفظها لواجدها ، لا من ناحية أنّ

١٨٨

تركها يؤدي إلى ترك الواجب الفعلي ، لفرض أنّ الواجب ليس بفعلي لا قبل الوقت كما هو واضح ، ولا بعده لعدم تمكنه وعجزه عن القيام به ، بل من ناحية أنّه يؤدي إلى تفويت الغرض الملزم ، وقد عرفت حكم العقل بقبحه واستحقاق العقاب عليه.

ثمّ إنّه هل يمكن استكشاف الحكم الشرعي من هذا الحكم العقلي بوجوب المقدمة بقاعدة الملازمة؟ فيه وجهان : فقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) الوجه الأوّل بدعوى أنّ حكم العقل بذلك دليل على جعل الشارع الايجاب للمقدمة حفظاً للغرض ، فيكون ذلك الجعل متمماً للجعل الأوّل.

والصحيح : هو الوجه الثاني ، والسبب في ذلك أنّ مثل هذا الحكم العقلي لا يعقل أن يكون كاشفاً عن جعل حكم شرعي مولوي في مورده ، بداهة أنّه لغو صرف ، فان حكم العقل باستحقاق العقوبة على تقدير المخالفة وتفويت الغرض يكفي في لزوم حركة العبد وانبعاثه نحو الاتيان بالمقدمات ، كما هو الحال في مطلق موارد حكمه بحسن الاطاعة وقبح المعصية. نعم ، الملازمة بين الحكمين في مقام الاثبات إنّما تكون فيما إذا كان العقل مدركاً لملاك الحكم من المصلحة أو المفسدة غير المزاحمة ، وأين ذلك من إدراكه استحقاق العقاب كما في المقام ، فما أفاده قدس‌سره خاطئ جداً ، وعليه فلو ورد حكم من الشارع في أمثال هذا المورد لكان إرشاداً إلى حكم العقل لا محالة.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ في أمثال هذه الموارد لا إشكال في حكم العقل بوجوب الاتيان بالمقدمة قبل وجوب ذيها ، وعلى ضوئها يندفع الاشكال عن كثير من الموارد ، منها : وجوب الاتيان بمقدمات الحج قبل وقته.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢١.

١٨٩

الثاني : ما إذا كانت القدرة فيه شرطاً شرعياً ودخيلة في ملاكه وهذا يتصوّر على أقسام :

الأوّل : أن يكون الشرط هو القدرة المطلقة على سعتها.

الثاني : أن يكون الشرط هو القدرة الخاصة ، وهي القدرة بعد حصول شرط خاص من شرائط الوجوب.

الثالث : أن يكون الشرط هو القدرة في وقت الواجب.

أمّا القسم الأوّل : فحاله حال ما إذا كانت القدرة شرطاً عقلياً حرفاً بحرف ، إلاّ في نقطة واحدة وهي أنّ القدرة إذا كانت شرطاً عقلياً لم يكن لها دخل في ملاك الواجب فانّه تام في كلتا الحالتين : التمكن وعدمه ، وإذا كانت شرطاً شرعياً كان لها دخل في ملاكه ، ولا ملاك له في حال عدم التمكن. ولكن هذه النقطة غير فارقة فيما نحن فيه ، وذلك لأنّ الشرط إذا كان القدرة المطلقة كما هو المفروض وجب تحصيلها في أوّل أزمنة الامكان وإن كان قبل زمن الوجوب ، وحرم عليه تفويتها إذا كانت موجودة ، فإنّه مع التمكن من إتيان الواجب في ظرفه ولو باعداد أوّل مقدماته قد تمّ ملاكه فلا يجوز تفويته ، وقد عرفت استقلال العقل بقبحه والعقاب عليه بقاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً. فالنتيجة : أنّه لا فرق بين هذا القسم والقسم السابق فيما هو المهم في المقام أصلاً.

وأمّا القسم الثاني : فلا يجب فيه على المكلف تحصيل القدرة على الواجب من قبل مقدماته قبل تحقق شرطه ، بل يجوز له تفويتها إذا كانت حاصلة وذلك كمقدمات الحج مثلاً ، فإنّه لا بدّ من أن يفرّق بين حالتي حصول هذا الشرط ـ وهو الاستطاعة ـ وعدمه ، فعلى الأوّل يستقلّ العقل بوجوب الاتيان بها ليتمكّن من الاتيان بالواجب في ظرفه ، لفرض أنّ ملاكه قد تمّ فلا حالة منتظرة

١٩٠

له ، وعليه فلو ترك الاتيان بها بسوء اختياره وأدّى ذلك إلى ترك الواجب في وقته استحقّ العقاب ، لا من ناحية أنّه خالف التكليف الفعلي ليقال إنّه غير فعلي ، بل من ناحية أنّه فوّت الملاك الملزم ، وقد تقدّم أنّ العقل لا يفرّق بينهما في استحقاق العقاب ، فإذن يدخل المقام تحت قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وعلى الثاني فلا يحكم العقل بوجوب الاتيان بها ، بل لا مانع من تفويتها إذا كانت حاصلة ، لفرض أنّ ملاك الواجب غير تام ، ومعه لا مقتضي للوجوب أصلاً.

وإن شئت قلت : إنّ ترك هذه المقدمات وإن استلزم ترك الواجب في موطنه ، إلاّ أنّه لا قبح فيه ، وذلك لأنّ القبيح أحد أمرين : إمّا مخالفة التكليف الفعلي والمفروض عدمه ، أو تفويت الغرض الملزم ، والفرض خلافه ، فإذن ما هو الموجب لقبحه.

فالنتيجة : أنّ القدرة المأخوذة في الواجب ـ وهو الحج ـ من قبل مقدماته قدرة خاصة ، وهي القدرة بعد حصول هذا الشرط ـ وهو الاستطاعة ـ اتفاقاً ، ولذا لا يجب على المكلف تحصيله ، بل يجوز له تفويته بالمنع من تحققه فيما إذا وجد المقتضي له ، كما إذا أراد شخص أن يهب مالاً لآخر ليستطيع به فللآخر أن لا يقبل ، أو أراد أن يبذل له مبلغاً يكفيه لحجه فالتمس منه أن لا يبذل له ذلك وهكذا ، وعلى هذا الضوء فلا إشكال في وجوب الاتيان بمقدمات الحج بعد الاستطاعة وقبل الموسم.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما اخذت فيه حصة خاصة من القدرة ـ وهي القدرة في وقت الواجب ـ فلا يجب على المكلف تحصيل القدرة عليه من قبل مقدماته قبل دخول وقته ، بل يجوز له تفويتها إذا كانت موجودة ، وذلك لأنّ الواجب لا يكون ذا ملاك ملزم إلاّبعد القدرة عليه في زمنه ، وأمّا القدرة عليه

١٩١

قبله فوجودها وعدمها بالاضافة إليه سيّان ، وذلك كالصلاة مع الطهارة المائية حيث إنّ القدرة المعتبرة فيها قدرة خاصة ـ وهي القدرة عليها بعد دخول وقتها ـ وأمّا قبله فلا يجب على المكلف تحصيلها ، بل ولا حفظها إذا كان واجداً لها ، لفرض عدم دخلها في ملاكها قبل الوقت أصلاً ، فان تمكن منها بعده وجب عليه تحصيلها وإلاّ فلا ، بداهة أنّ إيجاد الموضوع وإحداث الملاك في الفعل غير واجب على المكلف ، بل يجوز له تفويته بجعل نفسه محدثاً باختياره أو باهراق الماء عنده.

ونظير ذلك السفر بالاضافة إلى وجوب القصر في الصلاة ، وقصد الاقامة بالاضافة إلى وجوب التمام والصيام ، حيث إنّه لا ملاك لوجوب القصر قبل السفر ، ولوجوب التمام قبل قصد الاقامة ، ومن الواضح أنّ في مثل ذلك لا يجب عليه إيجاد السفر ، ولا قصد الاقامة ، إذ بتركهما لا يفوته شيء ، لا تكليف ولا ملاك ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني ، فلأ نّه لا ملاك لوجوب القصر قبل تحقق السفر ولا لوجوب التمام والصيام قبل قصد الاقامة.

وشيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) ذهب إلى الفرق بين تفويت القدرة قبل الوقت بجعل نفسه محدثاً باختياره بجماع أو نحوه مع علمه بعدم تمكنه من الماء بعد الوقت ، وتفويتها باهراق الماء ، فاختار الجواز في الأوّل وعدمه في الثاني ، واستند في هذه التفرقة إلى وجود رواية صحيحة. ولكن قد ذكرنا في التعليقة (٢) أنّ هذا غفلة منه قدس‌سره حيث لم ترد في هذا الموضوع أيّة رواية فضلاً عن الرواية الصحيحة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٥.

(٢) راجع تعليقته على أجود التقريرات ١ : ٢٢٥.

١٩٢

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا يجب حفظ القدرة قبل الوقت ، ولا تحصيلها ، وأمّا بعد الوقت فهو واجب. نعم ، وردت رواية معتبرة (١) في جواز الجنابة مع الأهل فحسب بعد دخول الوقت مع عدم وجود الماء الكافي عنده للاغتسال ، ولكن لا بدّ من الاقتصار على مورد هذه الرواية ـ وهو الجماع مع الأهل ـ ولا يمكن التعدي عنه إلى غيره ، فلا يجوز إجناب نفسه بسبب آخر من احتلام أو نحوه.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ التفصي عن الاشكال المزبور لا يتوقف على الالتزام بالواجب التعليقي ، بل يمكن التفصي عنه على ضوء الالتزام بالقسم الأوّل من الواجب والثاني والثالث.

هذا كلّه فيما إذا علم بدخل القدرة في ملاك الواجب في وقته أو عدم دخلها فيه كذلك. وأمّا إذا شكّ ولم يحرز ذلك فهل يجب الاتيان بمقدماته قبل وقته فيما إذا علم بعدم تمكنه منها فيه؟

الظاهر عدم وجوبه ، وذلك لما حققناه في بحث الترتب على ما يأتي إن شاء الله تعالى من أنّه لا طريق لنا إلى إحراز ملاكات الأحكام الواقعية من الخارج ، غاية الأمر أنّنا نستكشف تلك الملاكات من الأمر والنهي المولويين ، وعليه فبطبيعة الحال تكون سعة الملاك في مرحلة الاثبات بقدر سعة الأمر دون الزائد ، فلو لم يكن أمر في مورد أصلاً أو كان ولكنّه سقط من ناحية عجز المكلف عن الامتثال ، لم يكن لنا طريق إلى وجود الملاك فيه ، لاحتمال أن يكون سقوط الأمر لأجل انتفاء المقتضي له في هذا الحال ، لا لوجود المانع مع ثبوته ، وقلنا هناك إنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّه يمكن إحراز

__________________

(١) الوسائل ٢٠ : ١٠٩ / أبواب مقدمات النكاح ب ٥ ح ١.

١٩٣

الملاك من التمّسك باطلاق المتعلق عند سقوط الأمر خاطئ جداً ، ضرورة أنّ مجرد إطلاق المتعلق لايكون دليلاً على وجود الملاك فيه كذلك على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

وبما أنّ فيما نحن فيه لم نحرز أنّ ترك المقدمة قبل الوقت مستلزم لتفويت ملاك الواجب في ظرفه ، لاحتمال أنّ القدرة من قبلها دخيلة في ملاكه في وقته ، وعليه فلو لم يأت بها قبل الوقت والمفروض عدم تمكنه بعده لم يحرز فوت شيء منه لا الأمر الفعلي ولا الملاك الملزم ، أمّا الأوّل فواضح. وأمّا الثاني فلاحتمال دخل القدرة الخاصة فيه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : قد تقدّم أنّ ملاك حكم العقل بالقبح أمران : أحدهما : تفويت التكليف الفعلي. وثانيهما : تفويت الملاك الملزم. فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّه لا ملاك لحكم العقل بالقبح في المقام ، لفرض عدم إحرازه الملاك ، ومن هذا القبيل ما إذا علم شخص أنّه إذا نام في الساعة المتأخرة من الليل لفاتته صلاة الصبح ، كما إذا لم يبق فرضاً من الصبح إلاّساعة واحدة مثلاً فإنّه يجوز له ذلك ، لفرض أنّ الأمر غير موجود قبل الوقت ، وأمّا الملاك فغير محرز ، لاحتمال دخل القدرة الخاصة فيه.

وأمّا الكلام في مقام الاثبات : فقد ذكرنا غير مرّة أنّه لا طريق لنا إلى ملاكات الأحكام ما عدا نفس تلك الأحكام ، إلاّفيما قامت قرينة خارجية على ذلك ، وعلى هذا الضوء فان أحرزنا من الخارج اشتمال الواجب على ملاك ملزم في ظرفه ، فبطبيعة الحال وجب الاتيان بمقدماته قبل وقته إذا علم بعدم تمكنه منها في ظرفه ، وإن لم نحرز ذلك من الخارج ، فإن كان وجوبه فعلياً كشف عن أنّ ملاكه تام ، وإلاّ فلا طريق لنا إليه ، ومن هنا قلنا إنّ الأمر إذا سقط في مورد لم يمكن إحراز الملاك فيه ، لاحتمال أن يكون سقوطه لأجل عدم

١٩٤

المقتضي له لا لأجل وجود المانع مع ثبوته ، وعلى هذا الأساس فلو أنكرنا الوجوب التعليقي وقلنا بعدم إمكان تقدّم زمان الوجوب على زمان الواجب لم يمكن إحراز ملاكه قبل وقته.

وبكلمة اخرى : أنّ التفصي عن الاشكال المتقدم وإن أمكن بحسب مقام الثبوت بأحد الوجوه السالفة ، إلاّ أنّ إثبات تلك الوجوه جميعاً بدليل مشكل جداً.

ودعوى أنّ الظاهر من قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١) هو أنّ ملاك الحج تام في ظرفه بعد حصول الاستطاعة ، كما أنّ الظاهر من قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(٢) هو أنّ الصوم تام الملاك بعد دخول الشهر ، فهي وإن كانت صحيحة إلاّ أنّه من جهة ظهور الآية في فعلية الوجوب بعد الاستطاعة ، وكذا الآية الثانية ، ومن المعلوم أنّه يكشف عن وجود ملاك ملزم فيه في وقته ، وأمّا لو رفعنا اليد عن هذا الظهور وقلنا بعدم فعلية وجوبه بعدها فلم يكن لنا طريق إلى أنّ ملاكه تام في ظرفه ، فعندئذ كيف يمكن الحكم بوجوب مقدّماته قبل زمانه. فالنتيجة : أنّ الاشكال إنّما هو على ضوء نظرية القائلين باستحالة الواجب التعليقي والشرط المتأخر ، وأمّا على ضوء نظريتنا من إمكانه بل وقوعه خارجاً كما في أمثال هذين الموردين فلا إشكال من أصله.

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

١٩٥

[ وجوب التعلّم ]

وأمّا المقام الثاني : وهو التعلم ، فقد ذكر جماعة منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ وجوب التعلم ليس بملاك وجوب بقية المقدمات المعدّة التي يستلزم تركها ترك الواجب بملاكه الملزم ، وتفويتها تفويته كذلك ، بل وجوبه بملاك آخر وهو لزوم دفع الضرر المحتمل.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره لا يتم على إطلاقه ، والسبب في ذلك هو أنّ ترك التعلم قبل وقت الواجب أو شرطه يقع على أنحاء :

الأوّل : أنّه لا أثر لترك التعلم قبل الوقت ، وذلك لتمكّن المكلف من تعلّم الواجب بجميع أجزائه وشرائطه بعد دخول وقته أو حصول شرطه كالحج مثلاً ، فان باستطاعة العبد أن يتعلم أحكامه تدريجاً اجتهاداً أو تقليداً من اليوم الذي يجب عليه الإحرام إلى اليوم الذي تنتهي نسكه ، ومن الطبيعي أنّ في مثله لايجب عليه التعلم قبل دخول الوقت ، لعدم فوت شيء منه بعده. نعم ، إذا جاء وقته لم يجز له تركه ، حيث إنّ فيه احتمال مخالفة التكليف الفعلي المنجّز وهو مساوق لاحتمال العقاب ، إذ لا مؤمّن منه ، فانّ البراءة لا تجري قبل الفحص ، ومعه لا محالة يستقلّ العقل بوجوبه وعدم جواز تركه.

الثاني : أنّ ترك التعلم قبل الوقت مؤثر في فقد تمييز الواجب عن غيره ، يعني أنّ المكلف لا يتمكن معه من الامتثال العلمي التفصيلي بعد الوقت ، ولكنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٩.

١٩٦

متمكن من الامتثال العلمي الاجمالي ، وذلك كما إذا تردد أمر الواجب بين المتباينين كالقصر والاتمام أو الظهر والجمعة أو ما شاكل ذلك ، فلو ترك المكلف التعلم قبل الوقت لم يتمكن من تمييز الواجب عن غيره بعده ، إمّا من ناحية عدم سعة الوقت لذلك ، أو من ناحية فقدان الوسيلة ، ولكنّه متمكن من إحراز امتثاله اجمالاً بطريق الاحتياط ، وفي هذا القسم هل يجب التعلم؟ الظاهر عدم وجوبه ، وذلك لما حققناه في محلّه (١) من أنّ الامتثال الاجمالي في عرض الامتثال التفصيلي وإن استلزم التكرار.

الثالث : أنّ المكلف إذا ترك التعلم قبل الوقت فكما لا يكون متمكناً من الامتثال العلمي التفصيلي بعد دخوله ، كذلك لا يكون متمكناً من الامتثال العلمي الاجمالي. نعم ، هو متمكن من الاتيان بذات الواجب يعني الامتثال الاحتمالي ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ الوقت ضيّق فلا يتمكن المكلف إلاّمن الاتيان بفعل واحد ، إمّا القصر أو التمام ، أو الظهر أو الجمعة ، وفي هذا القسم هل يجب التعلم قبل دخول الوقت؟

الظاهر وجوبه ، وذلك لابملاك قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، إذ المفروض عدم امتناع الواجب بترك التعلم ، بل بملاك قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حيث إنّ في الاكتفاء بما يحتمل انطباق المأمور به عليه احتمال المخالفة للتكليف الفعلي من دون مؤمّن في البين ، فلا محالة يحتمل العقاب ، ومعه يستقلّ العقل بوجوب دفعه ، وهو لا يمكن إلاّبالتعلم قبل الوقت. ومنه يظهر أنّ ملاك حكم العقل هنا ليس احتمال تفويت الملاك الملزم في ظرفه.

هذا كلّه فيما إذا ترك المكلف التعلم قبل الوقت اختياراً ومتعمداً ، أي مع

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٨٤ وما بعدها.

١٩٧

التفاته إلى أنّه يؤدّي إلى عدم إحراز امتثال الواجب في ظرفه.

وأمّا إذا كان معذوراً في تركه قبله ثمّ بعد دخوله تردد أمره بين شيئين كالقصر والاتمام مثلاً ، لم يتنجز الواقع عليه على كل تقدير ، إذ المفروض أنّه لا يتمكن من الجمع بينهما ، بل يتنجز على تقدير دون آخر ، وسمّينا ذلك في بحث الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الاجمالي بالتوسط في التنجيز (١) ، ومردّه إلى وجوب الاتيان بأحدهما لتمكن المكلف منه ، سواء أكان موافقاً للواقع أم كان مخالفاً له ، غاية الأمر أنّ المكلف في صورة المخالفة معذور ، وذلك كالصبي في أوّل بلوغه إذا دار أمره بين شيئين كالظهر والجمعة مثلاً ولا يتمكن من الجمع بينهما ولا من التعلم ، فعندئذ بطبيعة الحال الواجب عليه هو الاتيان بإحداهما ولا يكون معذوراً في تركها.

الرابع : أنّ ترك التعلم قبل الوقت موجب لترك الواجب في ظرفه ، إمّا للغفلة عن التكليف أصلاً ، أو لعدم التمكن من امتثاله ، والأوّل كثيراً ما يتفق في المعاملات ، حيث إنّ المتعاملين من جهة ترك تعلم أحكام المعاملات لا يميّزان الصحيحة منها عن الفاسدة ، فإذا أوقعا معاملة فاسدة في الخارج وتحقق النقل والانتقال بنظرهما فبطبيعة الحال يتصرف كل منهما فيما انتقل إليه غافلاً عن أنّه حرام ، والثاني كثيراً ما يتفق في العبادات كالصلاة ونحوها ، فانّها حيث كانت مركبة من عدّة امور : التكبيرة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليمة ونحو ذلك ، ومشروطة بعدة شرائط كطهارة البدن واللباس واستقبال القبلة وما شاكلها ، ومن الطبيعي أنّ تعلم الصلاة بتمام أجزائها وشرائطها يحتاج إلى مدّة من الزمن ولا سيّما لمن لم يحسن اللغة العربية ، وفي هذا القسم يجب التعلم قبل

__________________

(١) راجع مصباح الاصول ٢ : ٤٥٣ وما بعدها.

١٩٨

الوقت ، وذلك لاستقلال العقل بذلك وأ نّه لو لم يتعلم لفاته الغرض الملزم في ظرفه ، ومعه يستحقّ العقاب ، لما عرفت من قاعدة عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار. هذا كلّه فيما لم يكن الواجب مشروطاً بقدرة خاصة شرعاً من ناحية التعلم والمعرفة.

وأمّا إذا كان مشروطاً بها كذلك لم يجب التعلم قبل دخول الوقت ، لأنّه لا وجوب حتّى يجب التعلم مقدمة لاتيان الواجب في ظرفه ، ولا له ملاك ملزم كذلك كي يستلزم ترك التعلم تفويته ، لفرض أنّ ملاكه إنّما يتم بالقدرة عليه في وقته من قبل التعلم ، ولا أثر لها فيه قبل دخوله أصلاً ، وعليه فلا وجوب لا قبل دخول الوقت أو حصول الشرط ، ولا بعده.

أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلعدم تمكنه منه ، إمّا من ناحية الغفلة أو من ناحية عدم القدرة على التعلم لضيق الوقت أو نحوه ، وعلى هذا الضوء فلا يمكن الالتزام بوجوب التعلم في هذه الصورة إلاّبناءً على الالتزام بمقالة المحقق الأردبيلي قدس‌سره وهو الوجوب النفسي للتهيؤ إلى الغير (١).

ثمّ إنّ هذا الوجوب بطبيعة الحال يختص بمن كان التكليف متوجهاً إليه لولا عجزه من ناحية عدم التعلّم ، وأمّا بالاضافة إلى غيره فلا معنى للوجوب النفسي ، وذلك كالرجال بالاضافة إلى تعلم أحكام النِّساء ، فانّه لايجب عليهم ذلك نفساً ، لعدم ملاكه وهو التهيؤ لامتثال التكليف الواقعي. نعم ، يجب كفاية تحصيل هذه الأحكام اجتهاداً ، ومن المعلوم أنّ هذا خارج عن محل الكلام ، هذا بحسب الكبرى.

وغير خفي أنّ هذه الكبرى وإن كانت ثابتة ، إلاّ أنّ المقام ليس من

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

١٩٩

صغرياتها ، وذلك لأنّ مقتضى إطلاق الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلم والسؤال هو عدم أخذ القدرة الخاصة من قبله في الواجب ، وأ نّه ليس للتعلم أيّ دخل في صيرورة الواجب ذا ملاك ملزم ، فان إطلاق قوله عليه‌السلام « يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له هلاّ عملت ، فيقول : ما علمت ، فيقال له : هلاّ تعلّمت » (١) يدل على ثبوت الملاك للواجب في ظرفه حتّى بالاضافة إلى العاجز عنه من ناحية تركه التعلم.

فالنتيجة على ضوء ذلك : هي وجوب تعلم الأحكام على المكلف مطلقاً ، من دون فرق بين الأحكام المطلقة والمشروطة بالوقت أو بغيره ، فلو تركه قبل الوقت أو قبل حصول الشرط وأدّى تركه إلى ترك الواجب في ظرفه استحقّ العقاب عليه ، بقاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فالقدرة من قبله قدرة مطلقة ، وأمّا القدرة من قبل سائر المقدمات فهي في العموم والخصوص تابعة لأدلتها كما تقدّم. هذا فيما إذا علم المكلف أو اطمأنّ بالابتلاء بها كأحكام الصلاة والصيام والحج ونحوها.

وأمّا فيما إذا احتمل ذلك فهل يجب التعلم؟ المعروف والمشهور بين الأصحاب هو وجوبه بعين الملاك المتقدم.

ولكن قد يقال بعدم وجوبه ، بدعوى التمسك باستصحاب عدم الابتلاء بالاضافة إلى الزمن المستقبل ، حيث إنّ عدم الابتلاء فعلاً متيقن ويشك فيه فيما بعد فيستصحب عدمه على عكس الاستصحاب المتعارف.

واورد على هذا بايرادين :

الأوّل : أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن شمول هذا النحو من الاستصحاب

__________________

(١) البحار ٢ : ٢٩ ، ١٨٠ ( نقل بالمضمون ).

٢٠٠