محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

بتحقق الأمر بها فعلاً ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه كما عرفت.

الثانية : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التفصيل في منشأ اعتبار القدرة بين حكم العقل بذلك من باب قبح تكليف العاجز ، وبين اقتضاء نفس التكليف ذلك ، فقد عرفت أنّه لا يمكن تصديقه بوجه.

الثالثة : أنّه بناءً على القول بأنّ منشأ اعتبار القدرة في متعلق التكليف هو اقتضاء نفس التكليف ذلك ، فقد عرفت أنّه لا يقتضي أزيد من كون متعلقه مقدوراً في الجملة في مقابل ما لا يكون مقدوراً أصلاً.

الرابعة : قد سبق أنّ التكليف بنفسه لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه ، ولا العقل يحكم بذلك ، وإنّما يحكم باعتبار القدرة في مقام الامتثال فحسب.

الخامسة : بطلان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من دعوى القطع باشتمال الفرد المزاحم على الملاك.

السادسة : بطلان ما هو المشهور من أنّ الدلالة الالتزامية لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجية ، فلا تسقط بسقوطها.

السابعة : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ التقييد الناشئ من قبل اقتضاء نفس التكليف لاعتبار القدرة في متعلقه ، أو حكم العقل بذلك ، بما أنّه يكون في مرتبة لاحقة وهي مرتبة تعلّق التكليف به وعروضه عليه ، فلا يعقل أن يكون مقيداً لاطلاق المتعلق في مرتبة سابقة وهي مرتبة اقتضائه للتكليف ، فاسد صغرىً وكبرىً. أمّا الصغرى : فلأنّ التقييد غير ثابت ، لما سبق من أنّ التكليف لا يقتضي اعتبار القدرة في متعلقه ، والعقل لا يحكم إلاّ باعتبارها في مقام الامتثال والاطاعة دون مقام التكليف. وأمّا الكبرى : فقد تقدّم أنّه لا مانع من اعتماد المتكلم في تقييد المتعلق على اقتضاء نفس التكليف ذلك أو حكم العقل به.

٣٨١

الثامنة : أنّ الحاكم لا يكون في مقام بيان ما يقوم به ملاك حكمه ، وإنّما يكون في مقام بيان ما تعلّق به حكمه.

التاسعة : أنّ تعلّق الارادة الانشائية بشيء لا يكشف عن وجود الملاك فيه ، وإنّما الكاشف عنه تعلّق الارادة الجدية به.

العاشرة : أنّ الدلالة التضمنية لا تسقط بسقوط الدلالة المطابقية كما سبق.

الحادية عشرة : أنّ النهي الغيري لا يكون مانعاً عن صحة العبادة والتقرب بها.

الثانية عشرة : أنّ الثمرة لا تتحقق بين القولين في مزاحمة الواجب الموسع بالواجب المضيق. هذا تمام كلامنا في المقام الأوّل.

٣٨٢

[ تزاحم الواجبين المضيّقين ]

وأمّا الكلام في المقام الثاني : وهو ما إذا كان التزاحم بين واجبين مضيّقين أحدهما أهم من الآخر ، فلا يمكن تصحيح الواجب المهم بالأمر ، لاستحالة تعلّق الأمر به فعلاً مع فعلية الأمر بالأهم على الفرض ، فانّه من التكليف بالمحال وهو محال.

وبذلك يمتاز هذا المقام عن المقام الأوّل ، حيث إنّ في المقام الأوّل كان الأمر المتعلق بالواجب الموسّع والمضيّق كلاهما فعلياً ، ولم يكن تنافٍ بين الأمرين أصلاً ، وإنّما التنافي كان بين الاتيان بفردٍ من الواجب الموسع والواجب المضيق ، ومن هنا قلنا إنّه يصحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة الجامعة بين الأفراد العرضية والطولية حتّى على القول باشتراط صحة العبادة بقصد الأمر المتعلق بها فعلاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ النقطة الرئيسية للفرق بين المقامين هي ما ذكرناه من أنّ تعلّق الأمر فعلاً بكلا الواجبين في المقام الأوّل كان ممكناً ، ولكنّه لا يمكن في هذا المقام.

وعلى ضوء تلك النقطة لا يمكن تصحيح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم بالأمر الفعلي.

ومن هنا لايتأتى في هذا المقام ما أفاده المحقق الثاني قدس‌سره من التفصيل بين القولين ، فانّه مبتنٍ على إمكان تعلّق الأمر فعلاً بالضدّ العبادي على القول بعدم الاقتضاء ، وقد عرفت عدم إمكان تعلقه في هذا المقام مطلقاً.

٣٨٣

وعلى الجملة : فالمقام الثاني يمتاز عن المقام الأوّل في نقطة ، ويشترك معها في نقطة اخرى. أمّا نقطة الامتياز فقد عرفت. وأمّا نقطة الاشتراك فهي أنّهما يشتركان في تصحيح العبادة المزاحمة مع الواجب الأهم بوجهين آخرين : هما القول باشتمالها على الملاك ، والقول بصحة الأمر بالضدّين على نحو الترتب.

أمّا الوجه الأوّل فقد تقدّم الكلام فيه في المقام الأوّل مفصّلاً ، وقلنا إنّه لا يمكن إحراز أنّ الفرد المزاحم تامّ الملاك ، وما ذكروه من الوجوه لاثبات اشتماله على الملاك قد عرفت فساد جميعها بصورة مفصّلة فلا حاجة إلى الاعادة مرّة اخرى.

وأمّا الوجه الثاني الذي يمكن تصحيح العبادة المزاحمة بالواجب الأهم به وهو الالتزام بجواز الأمر بالضدّين على نحو الترتب ، فتفصيله على الوجه التالي :

٣٨٤

مسألة الترتّب

قبل بيان المسألة نذكر اموراً :

الأوّل : أنّ البحث عن هذه المسألة إنّما تترتب عليه ثمرة لو لم يمكن تصحيح العبادة المضادة للواجب الأهم بالوجهين المتقدمين : ١ ـ الملاك. ٢ ـ الأمر ، وإلاّ فلا تترتب على البحث عنها أيّة ثمرة. وقد ظهر ممّا تقدّم أنّه لا يمكن تصحيح العبادة بالملاك ، لا في المقام الأوّل ، وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين الاتيان بالواجب الموسع ووجوب المضيق ، ولا في المقام الثاني ، وهو ما إذا وقعت المزاحمة بين واجبين مضيقين ، لأنّ الكبرى وهي كفاية قصد الملاك في وقوع الشيء عبادةً وإن كانت ثابتة ، إلاّ أنّ الصغرى وهي اشتمال تلك العبادة على الملاك غير محرزة.

وأمّا تصحيحها بالأمر المتعلق بالطبيعة وإن كان ممكناً في المقام الأوّل كما سبق ، بل قد عرفت أنّه غير داخل في كبرى باب التزاحم أصلاً ، إلاّ أنّه غير ممكن في المقام الثاني ، وذلك لما عرفت من امتناع تعلّق الأمر بها فعلاً مع فعلية الأمر بالأهم على الفرض ، إذن للبحث عن مسألة الترتب في المقام الثاني وإمكان تعلّق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم ثمرة مهمة جداً.

الثاني : أنّ الواجبين المتزاحمين يتصوران على صور :

الاولى : أنّ الواجبين الممتنع اجتماعهما في زمان واحد قد يكونان موسعين كالصلاة اليومية وصلاة الآيات في سعة وقتهما ، أو الصلاة الأدائية مع القضاء على القول بالمواسعة ، ونحو ذلك.

٣٨٥

الثانية : أن يكون أحدهما موسعاً والآخر مضيقاً ، وذلك كصلاة الظهر مثلاً وإزالة النجاسة عن المسجد ، أو ما شاكل ذلك.

الثالثة : أن يكون كلاهما مضيقين ، وذلك كالازالة والصلاة في آخر وقتها ، بحيث لو اشتغل بالازالة لفاتته الصلاة.

أمّا الصورة الاولى : فلا شبهة في أنّها غير داخلة في كبرى باب التزاحم ، لتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال من دون أيّة منافاة ومزاحمة ، ويكون الأمر في كل واحد منهما فعلياً بلا تنافٍ ، ومن هنا لم يقع إشكال في ذلك من أحد فيما نعلم.

وأمّا الصورة الثانية : فقد ذهب شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) إلى أنّها داخلة في مسألة التزاحم.

وغير خفي أنّ هذا منه قدس‌سره مبني على ما حققه في بحث التعبدي والتوصلي من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، فكل مورد لا يكون قابلاً للتقييد لا يكون قابلاً للاطلاق ، فإذا كان التقييد مستحيلاً في موردٍ كان الاطلاق أيضاً مستحيلاً فيه ، لأنّ استحالة أحدهما تستلزم استحالة الآخر ، وبما أنّ فيما نحن فيه تقييد إطلاق الواجب الموسّع بخصوص الفرد المزاحم مستحيل ، فاطلاقه بالاضافة إليه أيضاً مستحيل.

ويترتب على ذلك وقوع المزاحمة بين إطلاق الواجب الموسّع وخطاب الواجب المضيّق ، فلا يمكن الجمع بينهما ، إذ على تقدير فعلية خطاب الواجب المضيّق يستحيل إطلاق الواجب الموسّع بالاضافة إلى الفرد المزاحم ، إذن لا بدّ إمّا أن ترفع اليد عن إطلاق الموسّع والتحفظ على فعلية خطاب المضيّق ، وإمّا

__________________

(١) لاحظ أجود التقريرات ٢ : ٢٣.

٣٨٦

أن ترفع اليد عن خطاب المضيّق والتحفظ على إطلاق الموسّع.

فالنتيجة : أنّ هذا القسم داخل في محلّ النزاع كالقسم الثالث ، غاية الأمر أنّ التزاحم في القسم الثالث بين نفس الخطابين والتكليفين ، وفي هذا القسم بين إطلاق أحدهما وخطاب الآخر. وعلى هذا فان أثبتنا الأمر بالضدّين على نحو الترتب ، نحكم بصحة الفرد المزاحم ، وإلاّ فلا. نعم ، بناءً على ما ذكره قدس‌سره (١) من اشتماله على الملاك صحّ الاتيان به من هذه الناحية أيضاً ، من غير حاجة إلى الالتزام بصحة الترتب.

وأمّا بناءً على ما حققناه في ذلك البحث (٢) ـ من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة ، بل هو من تقابل التضاد ، ومن هنا قلنا إنّ استحالة تقييد متعلق الحكم أو موضوعه بقيد خاص تستلزم كون الاطلاق أو التقييد بخلاف ذلك القيد ضرورياً ـ فتلك الصورة خارجة عن محلّ النزاع وغير داخلة في كبرى باب التزاحم.

والوجه في ذلك : ما ذكرناه غير مرّة من أنّ معنى الاطلاق هو رفض القيود وعدم دخل شيء منها في متعلق الحكم واقعاً ، لا الجمع بينها ودخل الجميع فيه ، وعليه فمعنى إطلاق الواجب الموسّع هو أنّ الواجب صرف وجوده الجامع بين المبدأ والمنتهى ، وعدم دخل شيء من خصوصيات وتشخصات أفراده فيه ، فالفرد غير المزاحم كالفرد المزاحم في عدم دخله في متعلق الوجوب وملاكه أصلاً ، فهما من هذه الجهة على نسبة واحدة.

أو فقل : إنّ متعلق الحكم في الواقع إمّا مطلق بمعنى عدم دخل شيء من

__________________

(١) تقدّم في ص ٣٧١.

(٢) راجع المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ص ٥٢٨ ، وتقدّم في ص ٣٥٤.

٣٨٧

الخصوصيات فيه واقعاً من الخصوصيات المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة ، أو مقيّد بإحداها ، فلا ثالث ، لاستحالة الاهمال في الواقعيات ، فالملتفت إلى هذه الخصوصيات والانقسامات إمّا أن يلاحظه مطلقاً بالاضافة إليها أو مقيّداً بها ، لأنّ الاهمال في الواقع غير معقول ، فلا يعقل أن يكون في الواقع لا مطلقاً ولا مقيداً. وعلى هذا فمعنى إطلاق الواجب المزبور هو عدم دخل شيء من تلك الخصوصيات فيه ، بحيث لو تمكن المكلف من إيجاده في الخارج عارياً عن جميع الخصوصيات والمشخصات المزبورة لكان مجزئاً ، لأنّه أتى بالمأمور به في الخارج ، وهذا معنى الاطلاق كما ذكرناه في بحث تعلّق الأوامر بالطبائع. ونتيجة ذلك هي أنّ الواجب الموسّع مطلق بالاضافة إلى الفرد المزاحم ، كما هو مطلق بالاضافة إلى غيره من الأفراد.

وعلى ذلك الأساس ، فلا تنافي بين إطلاق الموسّع وفعلية خطاب المضيق.

ومن هنا ذكرنا سابقاً أنّه لا منافاة بين وجوب الصلاة مثلاً في مجموع وقتها ـ وهو ما بين الزوال والمغرب ـ وبين وجوب واجب آخر كانقاذ الغريق أو إزالة النجاسة عن المسجد في بعض ذلك الوقت ، إذ المفروض أنّ الوجوب تعلّق بصرف وجود الصلاة في مجموع هذه الأزمنة ، لا في كل زمان من تلك الأزمنة لينافي وجوب واجب آخر في بعضها. فبالنتيجة : أنّه لا مضادة ولا ممانعة بين إطلاق الموسّع ووجوب المضيّق أصلاً ، ولذلك صحّ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بصرف وجود الواجب ، فلا حاجة عندئذ إلى القول بالترتب أصلاً ، فإذن لا وجه لدخول هذا القسم في محلّ الكلام والنزاع. وقد تقدّم الحديث من هذه الناحية بصورة أوضح من ذلك فلا حاجة إلى الاعادة.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما إذا كان التزاحم بين واجبين مضيقين : أحدهما أهم من الآخر ، فهي القدر المتيقن من مورد النزاع والكلام بين الأصحاب كما

٣٨٨

هو ظاهر.

الثالث : أنّ مسألة الترتب من المسائل العقلية ، فانّ البحث فيها عن الامكان والاستحالة بمعنى أنّ الأمر بالضدّين على نحو الترتب هل هو ممكن أم لا ، ومن الواضح جداً أنّ الحاكم بالاستحالة والامكان هو العقل لا غيره ، ولا دخل للفظ في ذلك أبداً.

الرابع : أنّ إمكان تعلّق الأمر بالضدّين على طريق الترتب كافٍ لوقوعه في الخارج ، فلا يحتاج وقوعه إلى دليل آخر ، والوجه في ذلك : هو أنّ تعلّق الأمر بالمتزاحمين فعلاً على وجه الاطلاق غير معقول ، لأنّه تكليف بما لا يطاق وهو محال ، ضرورة استحالة الأمر بازالة النجاسة عن المسجد والصلاة معاً في آخر الوقت ، بحيث لا يقدر المكلف إلاّعلى إتيان إحداهما. ولكن هذا المحذور ، أي لزوم التكليف بالمحال كما يندفع برفع اليد عن أصل الأمر بالواجب المهم ، سواء أتى بالأهم أم لا ، كذلك يندفع برفع اليد عن إطلاق الأمر به ، إذن يدور الأمر بين أن ترفع اليد عن أصل الأمر بالمهم على تقدير امتثال الأمر بالأهم ، وعلى تقدير عصيانه ، وأن ترفع اليد عن إطلاقه لا عن أصله ، يعني على تقدير الامتثال لا على تقدير العصيان ، ومن الواضح جدّاً أنّ المحذور في كل مورد إذا كان قابلاً للدفع برفع اليد عن إطلاق الأمر فلا موجب لرفع اليد عن أصله ، فانّه بلا مقتض وهو غير جائز. وفي المقام بما أنّ المحذور المزبور يندفع برفع اليد عن إطلاق الأمر بالمهم ، فلا مقتضي لرفع اليد عن أصله أصلاً ، إذ الضرورة تتقدر بقدرها وهي لا تقتضي أزيد من رفع اليد عن إطلاقه. وعليه فالالتزام بسقوط الأمر عنه رأساً بلا مقتضٍ وسبب وهو غير ممكن.

وبتعبير ثان : أنّ المكلف لا يخلو من أن يكون عاصياً للأمر بالأهم أو مطيعاً له ولا ثالث ، وسقوط الأمر بالمهم على الفرض الثاني وهو فرض إطاعة الأمر

٣٨٩

بالأهم واضح ، وإلاّ لزم المحذور المتقدم. وأمّا سقوطه على الفرض الأوّل وهو فرض عصيان الأمر بالأهم وعدم الاتيان بمتعلقه فهو بلا سبب يقتضيه ، فان محذور لزوم التكليف بما لا يطاق يندفع بالالتزام بالسقوط على فرض الاطاعة والامتثال ، فلا وجه للالتزام بسقوطه على الاطلاق.

وعلى الجملة : أنّ وقوع الترتب بعد الالتزام بامكانه لا يحتاج إلى دليل ، فإذا بنينا على إمكانه فهو كافٍ في وقوعه ، فمحط البحث في المسألة إنّما هو عن جهة إمكان الترتب واستحالته.

الخامس : ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ الترتب لا يجري فيما إذا كان أحد التكليفين مشروطاً بالقدرة عقلاً ، والتكليف الآخر مشروطاً بالقدرة شرعاً ، وقال في وجه ذلك : أنّ التكليف المتعلق بالمهم المترتب على عصيان التكليف بالأهم يتوقف على كون متعلقه حال المزاحمة واجداً للملاك. والطريق إلى إحراز اشتماله على الملاك والكاشف عنه إنّما هو إطلاق المتعلق ، فإذا فرضنا أنّ المتعلق مقيد بالقدرة شرعاً ، سواء أكان التقييد مستفاداً من قرينة متصلة أو منفصلة أو كان مأخوذاً في لسان الدليل لفظاً ، لم يبق للتكليف بالمهم محل ومجال أصلاً. ورتّب قدس‌سره على ذلك أنّه لا يمكن تصحيح الوضوء في موارد الأمر بالتيمم لا بالملاك ولا بالترتب ، وذلك لأنّ الأمر بالوضوء في الآية المباركة مقيد بالقدرة من استعمال الماء شرعاً ، وهذا التقييد قد استفيد من تقييد وجوب التيمم فيها بعدم وجدان الماء ، فانّ التفصيل في الآية المباركة وتقييد وجوب التيمم بعدم الوجدان يقطع الشركة ويدل على أنّ وجوب الوضوء أو الغسل مقيّد بوجدان الماء.

ثمّ إنّ المراد من الوجدان من جهة القرينة الداخلية والخارجية التمكن من

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٩٠.

٣٩٠

استعمال الماء عقلاً وشرعاً.

أمّا القرينة الداخلية : فهي ذكر المريض في الآية المباركة ، ومن المعلوم أنّ المرض ليس من الأسباب التي تقتضي عدم وجود الماء وفقدانه وليس حاله كحال السفر ، فانّ السفر ولا سيّما إذا كان في البوادي ولا سيّما في الأزمنة السابقة من أسباب عدم الماء غالباً ، وهذا بخلاف المرض فانّ الغالب أنّ الماء يوجد عند المريض ولكنّه لا يتمكن من استعماله عقلاً أو شرعاً.

وأمّا القرينة الخارجية : فهي عدّة من الروايات الدالة على جواز التيمم في موارد الخوف من استعمال الماء أو من تحصيله (١). والمفروض في تلك الموارد وجود الماء خارجاً وتمكن المكلف من استعماله عقلاً. إذن المراد من وجدان الماء وجوده الخاص وهو الذي يقدر المكلف على صرفه في الوضوء أو الغسل عقلاً وشرعاً.

فالنتيجة على ضوء ذلك : هي أنّ تقييد وجوب التيمم بعدم التمكن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً يقتضي التزاماً تقييد وجوب الوضوء أو الغسل بالتمكن من استعماله كذلك ، ولأجل ذلك التزم قدس‌سره بأ نّه لا يمكن الحكم بصحة الوضوء في مواضع الأمر بالتيمم ، كما إذا كان عند المكلف ماء ولكنّه لا يكفي للوضوء ولرفع عطش نفسه أو من هو مشرف على الهلاك معاً ، ففي مثل ذلك يجب عليه التيمم وصرف الماء في رفع عطش نفسه ، أو من هو مشرف على الهلاك. أو إذا دار أمره بين أن يصرفه في الوضوء أو الغسل وأن يصرفه في تطهير الثوب أو البدن ، بأن لا يكون عنده ثوب طاهر ، فيدور الأمر بين أن يصلي في الثوب أو البدن الطاهر مع الطهارة الترابية ، وأن يصلي في

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٦ / أبواب التيمم ب ٥ ، ٣٤٢ ب ٢.

٣٩١

الثوب أو البدن المتنجس مع الطهارة المائية وغير ذلك. ففي هذه الفروع وما شاكلها لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بالملاك أو الترتب.

أمّا بالملاك فواضح ، ضرورة أنّه لا ملاك لوجوب الوضوء أو الغسل في شيء من هذه الموارد ، لفرض أنّ القدرة مأخوذة في متعلقه شرعاً ودخيلة في ملاكه واقعاً ومع انتفاء القدرة ينتفي الملاك لا محالة.

وأمّا بالترتب ، فلأنّ الوضوء إذا لم يكن فيه ملاك عند مزاحمته مع الواجب المشروط بالقدرة عقلاً ، فعصيان ذلك الواجب لا يحدث فيه مصلحة وملاكاً ، وعلى هذا فيمتنع تعلّق الأمر به ، لاستحالة تعلّق الأمر بشيء بلا ملاكٍ ولو كان على نحو الترتب ، بداهة أنّه لا فرق في استحالة تعلّق الأمر بشيء بلا ملاك بين أن يكون ابتداءً وأن يكون على نحو الترتب.

ثمّ قال قدس‌سره : ومن هنا أنّ شيخنا العلاّمة الأنصاري والسيِّد العلاّمة الميرزا الكبير الشيرازي قدس‌سرهما لم يفتيا بصحة الوضوء في تلك الموارد مع أنّ الأوّل منهما يرى كفاية الملاك في صحة العبادة ، والثاني يرى صحة الترتب.

نعم ، قد افتى السيد العلاّمة الطباطبائي قدس‌سره في العروة بصحة هذا الوضوء في مفروض الكلام ، ولكن هذا غفلة منه قدس‌سره عن حقيقة الحال.

أقول : للنظر فيما أفاده قدس‌سره مجال واسع ، والوجه في ذلك : هو أنّه لا بدّ من التفصيل بين المثالين المذكورين ، فما كان من قبيل المثال الأوّل فلا مانع من الالتزام بالترتب فيه ، وما كان من قبيل المثال الثاني فلا. وذلك لا من ناحية ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره بل من ناحية اخرى ستظهر لك إن شاء الله.

٣٩٢

أمّا المثال الأوّل وما شاكله : فلأنّ المانع منه ليس إلاّتوهم أنّه لا ملاك للوضوء أو الغسل في هذه الموارد ، وعليه فلا يمكن تعلّق الأمر به ولو على نحو الترتب ، لاستحالة وجود الأمر بلا ملاك. ولكنّه يندفع بأنّ القول بجواز تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب لا يتوقف على إحراز الملاك في الواجب المهم ، إذ لا يمكن إحرازه فيه إلاّبتعلق الأمر به ، فلو توقف تعلّق الأمر به على إحرازه لدار. ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الواجب المهم مشروطاً بالقدرة عقلاً ، وأن يكون مشروطاً بها شرعاً ، وذلك لما تقدّم من أنّه لا يمكن إحراز الملاك إلاّ من ناحية الأمر ، فلو تمّ هذا التوهم لكان مقتضاه عدم جريان الترتب مطلقاً حتّى في الواجب المشروط بالقدرة عقلاً.

إذن الصحيح : هو عدم الفرق في صحة الترتب وإمكانه بين أن يكون الواجب مشروطاً بالقدرة عقلاً أو مشروطاً بها شرعاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ مبدأ إمكان الترتب نقطة واحدة ، وهي أنّ تعلّق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم لا يقتضي طلب الجمع بين الضدّين ليكون محالاً ، بل يقتضي الجمع بين الطلبين في زمان واحد ، ولا مانع منه أصلاً إذا كان المطلوب في أحدهما مطلقاً وفي الآخر مقيداً بعدم الاتيان به ومترتباً عليه على نحو لو تمكن المكلف من الجمع بينهما في الخارج وايجادهما معاً فيه لم يقعا على صفة المطلوبية ، ولذا لو أتى بهما بقصد الأمر والمطلوبية لكان ذلك تشريعاً ومحرّماً ، وسيجيء الكلام من هذه الجهة إن شاء الله تعالى بصورة مفصّلة.

وعلى ضوء ذلك : لا يفرق بين ما إذا كانت القدرة مأخوذة في المهم عقلاً وما إذا كانت مأخوذة فيه شرعاً ، فان ملاك صحة الترتب ـ وهو عدم التنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم إذا كانا طوليين ـ مشترك فيه بين التقديرين ، فإذا لم يكن الأمر بالأهم مانعاً عن الأمر بالمهم لا عقلاً ولا شرعاً إذا كان في طوله ،

٣٩٣

فلا مانع من الالتزام بتعلق الأمر به على نحو الترتب ، ولو كانت القدرة المأخوذة فيه شرعية.

وعليه يترتب أنّ المكلف إذا لم يصرف الماء في واجب أهم وعصى أمره ، فلا مانع من تعلّق الأمر بالوضوء أو الغسل لتحقق موضوعه في الخارج ، وهو كونه واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً. أمّا عقلاً فهو واضح. وأمّا شرعاً فلأنّ الأمر بالأهم على تقدير عصيانه لا يكون مانعاً.

أو فقل : إنّ مقتضى إطلاق الآية المباركة أو نحوها أنّ الوضوء أو الغسل واجب ، سواء أكان هناك واجب آخر أم لا ، غاية الأمر أنّه إذا كان هناك واجب آخر يزاحمه يسقط إطلاق وجوبه لا أصله ، إذ أنّ منشأ التزاحم هو إطلاقه ، فالساقط هو دون أصل وجوبه الذي هو مشروط بعدم الاتيان بالأهم ومترتب عليه ، لعدم التنافي بينه وبين وجوب الأهم كما عرفت ، وعليه فلا موجب لسقوطه أصلاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ دعوى عدم جريان الترتب فيما إذا كانت القدرة مأخوذة في الواجب المهم شرعاً تبتني على الالتزام بأمرين :

الأوّل : دعوى أنّ الترتب يتوقف على أن يكون المهم واجداً للملاك مطلقاً ، حتّى في حال المزاحمة ، أعني بها حال وجود الأمر بالأهم ، ومن المعلوم أنّ هذا إنّما يحرز فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في المهم عقلية ، وأمّا إذا كانت شرعية فبانتفاء القدرة ـ كما في موارد الأمر بالأهم ـ ينتفي ملاك الأمر بالمهم لا محالة ، ومعه لا يجري الترتب.

الثاني : دعوى أنّ الأمر بالأهم مانع عن الأمر بالمهم ومعجّز عنه شرعاً حتّى في حال عصيانه وعدم الاتيان بمتعلقه.

ولكن قد عرفت فساد كلتا الدعويين :

٣٩٤

أمّا الدعوى الاولى : فلما سبق من أنّ الترتب لا يتوقف على إحراز الملاك في المهم ، فإنّك قد عرفت أنّه لا يمكن إحرازه فيه مع سقوط الأمر حتّى فيما إذا كانت القدرة المأخوذة فيه عقلية فضلاً عمّا إذا كانت شرعية ، فبالنتيجة أنّه لا فرق في جريان الترتب بين ما كانت القدرة معتبرة فيه عقلاً وما كانت معتبرة شرعاً ، فلو كان الترتب متوقفاً على إحراز الملاك في المهم لم يمكن الالتزام به على كلا التقديرين.

وأمّا الدعوى الثانية : فقد عرفت أنّه لا تنافي بين الأمرين أصلاً ، إذا كان الأمر بالمهم مشروطاً بعدم الاتيان بالأهم وعصيان أمره ، بل بينهما كمال الملاءمة ، فلو كان بين الأمرين تنافٍ في هذا الفرض ، أعني فرض الترتب ، فلا يمكن الالتزام به مطلقاً حتّى فيما إذا كان اعتبار القدرة فيه عقلياً.

فقد تبين من مجموع ما ذكرناه : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره لا يمكن المساعدة عليه ، هذا تمام كلامنا في المثال الأوّل وما شاكله.

وأمّا المثال الثاني وما يشبهه : وهو ما إذا دار الأمر بين صرف الماء في الوضوء أو الغسل وصرفه في تطهير الثوب أو البدن ، كما إذا كان بدنه أو ثوبه نجساً ولم يكن عنده من الماء بمقدار يكفي لكلا الأمرين من رفع الحدث والخبث معاً ، فلا يجري فيه الترتب ، ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ التزاحم لا يجري فيما إذا كان أحد الواجبين مشروطاً بالقدرة شرعاً والآخر مشروطاً بها عقلاً ، وبما أنّ وجوب الوضوء في المقام مشروط بالقدرة شرعاً ووجوب إزالة الخبث عن البدن أو الثوب مشروط بها عقلاً ، فلا تزاحم بينهما ، لعدم ملاك للوضوء في أمثال هذه الموارد ، وذلك لما تقدّم من أنّ ما أفاده قدس‌سره غير تام ، بل من جهة أنّ هذا وغيره من الأمثلة غير داخل في كبرى التزاحم ، ولا يجري عليه شيء من أحكامه ، وسنتعرض له فيما

٣٩٥

بعد إن شاء الله تعالى بشكل واضح.

وملخّصه : أنّ التزاحم إنّما يجري بين واجبين نفسيين كالصلاة والازالة مثلاً أو ما شاكلهما ، وأمّا بين أجزاء واجب واحد فلا يعقل فيه التزاحم ، لأنّ الجميع واجب بوجوب واحد ، وذلك الوجوب الواحد يسقط بتعذر واحد من تلك الأجزاء لا محالة ، فإذا تعذر أحد جزأيه يسقط الوجوب عن الكل بمقتضى القاعدة الأوّلية. إذن ثبوت الوجوب للباقي يحتاج إلى دليل ، وقد دلّ الدليل في باب الصلاة على عدم السقوط ووجوب الاتيان بالباقي ، وعندئذ يعلم إجمالاً بجعل أحد هذين الجزأين أو الشرطين في الواقع. إذن يقع التعارض بين دليلي الجزأين أو الشرطين ، إذ لم يعلم أنّ أيّهما مجعول في الواقع ، فلا مجال لتوهم جريان أحكام التزاحم حينئذ أصلاً.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما نسب شيخنا الاستاذ قدس‌سره إلى السيد العلاّمة الطباطبائي قدس‌سره في العروة من أنّه قد حكم بصحة الوضوء في هذا الفرع ، لا واقع له ، فانّ السيد قد حكم ببطلان الوضوء في هذا الفرع حيث قال : والأولى أن يرفع الخبث أوّلاً ثمّ يتيمم ليتحقق كونه فاقداً للماء حال التيمم وإذا توضأ أو اغتسل والحال هذا بطل لأنّه مأمور بالتيمم ، ولا أمر بالوضوء أو الغسل (١).

وقد تلخّص : أنّه لا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل من ناحية الأمر الضمني في المثال ، لعدم جريان قاعدة الترتب بالاضافة إليه. ولا من ناحية الملاك لعدم إمكان احرازه.

نعم ، يمكن تصحيحه بوجه آخر : وهو أنّ الوضوء أو الغسل بما أنّه عبادة في

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ٣٣٩ بعد المسألة [١٠٨٠] السادس.

٣٩٦

نفسه ومتعلق لأمر نفسي استحبابي ، سواء أكان مقدمة لواجب كالصلاة أو نحوها أم لم يكن ، ولذلك قلنا إنّه يعتبر في صحته قصد القربة ، وعلى ذلك فلا مانع من الالتزام بتعلق أمره الاستحبابي النفسي به من جهة الترتب ، وسيجيء فيما بعد إن شاء الله تعالى أنّه لا فرق في جريان الترتب على القول بامكانه بين الأمر الوجوبي والأمر الاستحبابي ، فكما أنّ الترتب يجري في مزاحمة واجب مع واجب أهم ، فكذلك يجري في مزاحمة مستحب مع واجب ، غاية الأمر أنّ إطلاق الأمر الاستحبابي قد سقط حين المزاحمة ، ولكن لا مانع من الالتزام بثبوت أصله على تقدير عدم الاتيان بالواجب ومخالفة أمره ، إذ لا تنافي بين الأمرين حينئذ ، فرفع اليد عن أصل الأمر الاستحبابي بلا موجب.

ونتيجة ذلك : هي أنّ ملاك صحة الترتب وإمكانه ـ وهو عدم التنافي بين الأمرين وأنّ الساقط هو إطلاق الخطاب دون أصله ـ مشترك فيه بين الأمر الوجوبي والاستحبابي ، ومن هنا ذكرنا في حاشية العروة أنّ الأقوى صحة الوضوء أو الغسل في هذا الفرع وما يشبهه.

وبعد بيان ذلك نقول : إنّ مسألة الترتب ليست من المسائل المعنونة في كلمات الأصحاب إلى زمان الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره وهو أوّل من تعرّض لهذه المسألة (١) ، ولكنّ المسألة في زماننا هذا قد أصبحت معركة للآراء بين المحققين من الأصحاب ، فمنهم من ذهب إلى صحة تلك المسألة وإمكانها ، كالسيد الكبير العلاّمة الميرزا الشيرازي قدس‌سره (٢) وأكثر تلامذته. ومنهم من ذهب إلى استحالتها كشيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٣) والمحقق

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٧.

(٢) نسبه إليه في الكفاية : ١٣٦.

(٣) فرائد الاصول ٢ : ٥٢٤.

٣٩٧

صاحب الكفاية قدس‌سرهما (١) فالمتحصّل من ذلك هو أنّ المسألة ذات قولين :

أحدهما : امكان الترتب وتعلّق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم.

وثانيهما : استحالة ذلك وعدم إمكان تعلّق الأمر به على هذا التقدير.

والصحيح هو القول الأوّل.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٤.

٣٩٨

أدلّة إمكان الترتّب

الوجدان :

إنّ كل من رجع إلى وجدانه وشهد صفحة نفسه مع الاغماض عن أيّة شبهة ترد عليها ، لا يرى مانعاً من تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب ، فلو كان هذا محالاً كاجتماع الضدّين أو النقيضين وما شاكلهما لم يصدّق الوجدان ولا العقل إمكانه.

الدليل الإنّي :

لا إشكال في وقوع ترتب أحد الحكمين على عصيان الحكم الآخر في موارد الخطابات العرفية ، وفي جملة من المسائل الفقهية ، ومن الواضح جداً أنّ وقوع شيء أكبر برهان على إمكانه وأدلّ دليل عليه ، وليس شيء أدل من ذلك ، ضرورة أنّ المحال لايقع في الخارج ، فلو كان هذا محالاً استحال وقوعه خارجاً ، فمن وقوعه يكشف إمكانه وعدم استحالته بالضرورة.

أمّا في موارد الخطابات العرفية : فهو في غاية الكثرة ، منها : ما هو المتعارف في الخارج من أنّ الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة ، وعلى تقدير عصيانه يأمره بالجلوس في الدار مثلاً والكتابة فيها ، أو بشيء آخر. فالأمر بالجلوس مترتب على عصيان الأمر بالذهاب. وكذلك المولى يأمر عبده بشيء وعلى تقدير عصيانه وعدم إتيانه به يأمره بأحد أضداده ، وهكذا.

وعلى الجملة : فالأمر بالضدّين على نحو الترتب من الموالي العرفية بالاضافة

٣٩٩

إلى عبيدهم ، ومن الآباء بالاضافة إلى أبنائهم ممّا لا شبهة في وقوعه خارجاً ، بل وقوع ذلك في أنظارهم من الواضحات الأوّلية ، فلا يحتاج إلى إقامة برهان ومؤونة استدلال.

وأمّا في المسائل الفقهية : ففروع كثيرة لا يمكن للفقيه إنكار شيء منها ، نذكر جملة منها في المقام :

الأوّل : ما إذا وجبت الاقامة على المسافر في بلد مخصوص ، وعلى هذا فان قصد الاقامة في ذلك البلد وجب عليه الصوم لا محالة ، إذا كان قصد الاقامة قبل الزوال ولم يأت بمفطر قبله ، وأمّا إذا خالف ذلك وترك قصد الاقامة فيه فلا إشكال في وجوب الافطار وحرمة الصوم عليه. وهذا هو عين الترتب الذي نحن بصدد إثباته ، إذ لا نعني به إلاّ أن يكون هناك خطابان فعليان متعلقان بالضدّين على نحو الترتب ، بأن يكون أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيانه ، وفيما نحن فيه كذلك ، فان وجوب الافطار وحرمة الصوم مترتب على عصيان الأمر بقصد الاقامة الذي هو مضاد له ـ أي الافطار ـ ولا يمكن لأحد أن يلتزم في هذا الفرض بعدم جواز الافطار ووجوب الصوم عليه ، فانّه في المعنى إنكار لضروري من الضروريات الفقهية.

الثاني : ترتب وجوب تقصير الصلاة على عصيان الأمر بقصد الاقامة وتركه في الخارج ، ولا يفرق في ترتب وجوبه عليه بين أن يكون ترك قصد الاقامة قبل الزوال أو بعده ، وبذلك تمتاز الصلاة عن الصوم كما عرفت.

الثالث : ما إذا حرمت الاقامة على المسافر في مكان مخصوص ، فعندئذ كما أنّه مكلف بترك الاقامة في هذا المكان وهدم موضوع وجوب الصوم ، كذلك هو مكلف بالصوم على تقدير قصد الاقامة وعصيان الخطاب التحريمي ، فالخطاب التحريمي المتعلق بقصد الاقامة خطاب مطلق وغير مشروط بشيء ،

٤٠٠