محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

وإن كان في طوله رتبة بملاك اعتبار الرجحان في متعلقه في مرتبة سابقة عليه.

فالنتيجة : أنّ الملاك المقتضي للاندكاك والتأكد هو تقارن الحكمين زمناً وإن كانا مختلفين رتبة. أضف إلى ذلك : أنّ الوجوب الغيري ليس معلولاً للوجوب النفسي ومترشحاً منه ، كما سيأتي تحقيقه في ضمن البحوث الآتية.

وقد ادّعى بعض الأعاظم قدس‌سره (١) ظهور الثمرة بين القول باتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري والقول بعدم اتصافها به في مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، بدعوى أنّه على القول الأوّل لا ينحل العلم الاجمالي بوجوب أحدهما بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، وذلك لأنّ مناط الانحلال هو انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل على كل تقدير ، وبما أنّ في المقام لا ينطبق كذلك باعتبار أنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي والمعلوم بالتفصيل هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسي ، فلا انحلال في البين. وعلى القول الثاني ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب نفسي متعلق بذات الأقل ـ وهي المركب من تسعة أجزاء مثلاً ـ والشك البدوي في اعتبار أمر زائد ، وعندئذ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الزائد.

وغير خفي أن ما أفاده قدس‌سره خاطئ جداً ، والسبب في ذلك هو أن انحلال العلم الاجمالي وعدمه في تلك المسألة يرتكزان على نقطة اخرى وهي جريان أصالة البراءة عن وجوب الزائد وعدم جريانها ، ولا صلة لها باتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري وعدم اتصافها به. وإن شئت قلت : إنّ الأمر بالمركب إذا لم يكن أمر بالأجزاء فلا موجب للانحلال ، وإن كان الأمر به عين الأمر

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٢٦٩.

١٢١

بالأجزاء كما هو كذلك تعيّن القول بالانحلال ، بناءً على ما حققناه في مورده (١) من عدم المانع من جريان أصالة البراءة عن وجوب الزائد ، وعلى كلا التقديرين لا فرق بين القول بوجوب الأجزاء غيرياً والقول بعدمه.

نتيجة ما ذكرناه إلى هنا : هي أنّ المقدمة الداخلية خارجة عن مورد البحث ، فالذي هو مورد للبحث والنزاع هو المقدمة الخارجية بكلا صنفيها.

الثاني : تقسيم المقدمة إلى مقدمة الوجوب تارة ، ومقدمة الوجود اخرى ، ومقدمة العلم ثالثة ، ومقدمة الصحة رابعة.

أمّا الاولى : فلا إشكال في خروجها عن محل البحث ، وذلك لأنّه لا وجوب قبل وجودها حتّى يجب تحصيلها ، وبعد وجودها وجوبها تحصيل للحاصل ، وذلك كالاستطاعة التي هي شرط لوجوب الحج ، فانّه لا وجوب له قبل وجودها ، وكالسفر الذي هو شرط لوجوب القصر في الصلاة والافطار في الصيام ، وفي مقابله الحضر الذي هو شرط لوجوب التمام والصيام ، ومن هنا لا شبهة في عدم اتصاف هذه المقدمات والشرائط بالوجوب ، لأنّها اخذت مفروضة الوجود في الخارج في مقام الجعل فلا يعقل إيجابها من هذه الناحية.

نعم ، قد يجب الاتيان بها من ناحية اخرى ، كما إذا نذر تحصيل الاستطاعة أو السفر أو نحو ذلك فحينئذ يجب ، ولكن ذلك أجنبي عما هو محل الكلام في المقام.

وأمّا مقدمة العلم : كالصلاة إلى الجهات الأربع في مورد اشتباه القبلة لتحصيل العلم بوقوعها إلى القبلة ، أو في غير ذلك من موارد العلم الاجمالي ، فهي أيضاً لا شبهة في خروجها عن مورد البحث ، وذلك لأنّ الصلاة التي وقعت

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٩٤.

١٢٢

إلى القبلة في المثال هي نفس الواجب وليست مقدمة له ، وأمّا غيرها فهي مغايرة للواجب ولا تكون مقدمة له ، وإنّما هي مقدمة لحصول العلم بالواجب وفراغ الذمة والأمن من العقاب.

وأمّا مقدمة الوجود : وهي التي يتوقّف وجود الواجب على وجودها خارجاً بحيث لولاها لما حصل الواجب نفسه ، فهي تعود إلى المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص ، وهي التي خارجة عن المأمور به قيداً وتقيداً.

وأمّا مقدمة الصحة : وهي التي تتوقف صحة الواجب عليها ، فهي تعود إلى المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم ، وهي التي خارجة عن المأمور به قيداً وداخلة فيه تقيداً. فالنتيجة : أنّه لا بأس بهذا التقسيم.

نعم ، لا وقع لتقسيمها ثالثاً إلى الشرعية والعقلية والعادية ، وذلك لأنّ الاولى بعينها هي المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم وليست مقدمة اخرى في مقابلها.

والثانية هي المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص. وأمّا الثالثة ، فإن اريد منها ما جرت العادة على الاتيان بها من دون توقف الواجب عليها خارجاً فلا شبهة في خروجها عن مورد النزاع ، وإن اريد منها ما يستحيل وجود الواجب في الخارج بدونها عادة وإن لم يستحل عقلاً ، وذلك كالكون على السطح مثلاً حيث إنّه بلا طيّ المسافة محال عقلي لاستحالة الطفرة ، ولكنّه بلا نصب السلّم محال عادي ، ضرورة إمكان الطيران ذاتاً.

وبكلمة اخرى : تارة يكون الشيء ممتنعاً ذاتاً كاجتماع النقيضين ، ووجود الممكن بلا علة وما شاكل ذلك. واخرى يكون ممتنعاً وقوعاً وإن كان في ذاته ممكناً ، وذلك ككون الانسان على السطح بدون طي المسافة ، فانّه ممتنع عقلاً حيث يلزم من فرض وقوعه في الخارج محال ـ وهو الطفرة ـ وثالثة لا هذا ولا ذاك ، بل هو ممتنع عادة ككونه على السطح بلا نصب السلّم حيث لا يلزم من

١٢٣

فرض وقوع الطيران أو القوة الخارقة للعادة له محال ، لعدم استحالتهما. وإنّما يستحيل بلا نصب السلّم بالقياس إلى عادم الجناح وعادم القوّة الخارقة.

فالنتيجة : أنّ المقدمة في الحقيقة هي الجامعة بين الطيران ونصب السلّم ، وحيث إنّ الفرد الأوّل غير متحقق انحصر الجامع في الفرد الأخير وهو نصب السلّم ، فإذن ترجع المقدمة العادية على ضوء هذا التفسير إلى المقدمة العقلية ، فلا معنى لذكرها في قبالها.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ الصحيح من هذه التقسيمات للمقدمة هو التقسيم الأوّل والثاني ، ولا وقع للتقسيم الثالث.

١٢٤

الشرط المتأخِّر

ينقسم الشرط إلى الشرط المتأخر والمتقدم والمقارن.

وقد اشكل على الشرط المتأخر بأنّ الشرط من أجزاء العلّة التامّة ، ومن البديهي أنّ العلة بكافة أجزائها تتقدّم على المعلول رتبة وتعاصره زمناً ، فلا يعقل تأخّر جزء من أجزائها عنه ، ومعه كيف صار الشرط متأخراً عن المشروط.

وربّما يتوهم أنّ الشرط ليس هو ذات الوجود الخارجي ليستحيل تأخره عن المشروط ، بل الشرط إنّما هو وجوده المتأخر بوصف تأخره ، فالعلة لم تتأخر عن المعلول ، بل المتأخر بوصف تأخره يكون علة تامة.

ويردّه : أنّه مجرد وهم فلا واقع موضوعي له أصلاً ، وذلك لأنّ لازم هذا هو أن يكون الشيء المعدوم بوصف أنّه معدوم مؤثراً في وجود الشيء ، لفرض أنّ الشرط كما عرفت من أجزاء العلة التامة المؤثرة في الوجود ، ومع عدمه فالعلة التامة غير موجودة ، ومعه كيف يعقل وجود المعلول. وعلى الجملة : فالشيء المتأخر لا يعقل أن يكون مؤثراً في المتقدم لا بوصف كونه متأخراً ولا بوصف كونه معدوماً ، إذ على كلا التقديرين يلزم وجود المعلول قبل وجود علته وهو محال.

ثمّ إنّ المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) لم يقتصر في الاشكال على الشرط المتأخر ، بل أورده على الشرط المتقدم أيضاً بدعوى أنّ الشرط بما أنّه

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٢.

١٢٥

من أجزاء العلة التامة فلا بدّ أن يكون مقارناً مع المشروط زمناً ، فكما لا يعقل أن يكون متأخراً عنه كذلك لا يعقل أن يكون متقدماً عليه إذا لم يبق إلى عصر وجوده أي وجود المشروط ، ومن هنا قال قدس‌سره : إنّه لا وجه لاختصاص الاشكال بخصوص الشرط المتأخر كما اشتهر في الألسنة ، بل يعمّ الشرط والمقتضي المتقدمين المتصرمين حين وجود الأثر كالعقد في الوصية والصرف والسلم ، بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه لتصرمها حين تأثره ، مع ضرورة اعتبار مقارنتها له زماناً.

ولنأخذ بالنقد عليه : وهو أنّ ما جاء به المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من تعميم الاشكال إلى الشرط المتقدم خاطئ جداً ، فان تقدّم الشرط على المشروط في التكوينيات غير عزيز فما ظنك في التشريعيات ، والسبب في ذلك : هو أنّ مردّ الشرط في طرف الفاعل إلى مصحح فاعليته ، كما أن مردّه في طرف القابل إلى متمم قابليته ، ومن الطبيعي أنّه لا مانع من تقدّم مثله على المشروط زماناً.

وبكلمة اخرى : أنّ شأن الشرط إنّما هو إعطاء استعداد التأثير للمقتضي في مقتضاه ، وليس شأنه التأثير الفعلي فيه حتّى لا يمكن تقدمه عليه زماناً. ومن البديهي أنّه لا مانع من تقدّم ما هو معدّ ومقرّب للمعلول إلى حيث يمكن صدوره عن العلة زمناً عليه ، ولا تعتبر المقارنة في مثله. نعم ، الذي لا يمكن تقدمه على المعلول زماناً هو الجزء الأخير للعلة التامة ، وأمّا سائر أجزائها فلا مانع من ذلك أصلاً ، ونأخذ لتوضيح ذلك مثالين :

أحدهما : أنّ غليان الماء خارجاً يتوقف على إحراق النار وإيجاد الحرارة فيه على التدريج إلى أن تبلغ درجة خاصة فإذا وصلت إلى هذه الدرجة تحقق الغليان ، فالاحراق شرط له وهو متقدم عليه زماناً.

١٢٦

ثانيهما : أنّ القتل يتوقف على فري الأوداج ، ثمّ رفض العروق الدم الموجود فيها إلى الخارج ، ثمّ توقف القلب عن الحركة وبعده يتحقق القتل ، ففري الأوداج مع أنّه شرط متقدم عليه. فالنتيجة أنّه لا مانع من تقدّم سائر أجزاء العلة التامة على المعلول زماناً ، فان ما لا يمكن تقدمه عليه كذلك هو الجزء الأخير لها.

ومن هنا يظهر أنّ التعاصر إنّما هو بين العلة التامة ومعلولها لا بين كل جزء جزء منها وبينه ، فإذا جاز تقدّم الشرط على المشروط في التكوينيات جاز في التشرعيات أيضاً ، بداهة أنّه لا مانع من اعتبار الشارع الفعل على ذمة المكلف مشروطاً بشيء متدرج الوجود خارجاً على نحو يكون ثبوته في ذمته معاصراً لجزئه الأخير بحيث يستحيل الانفكاك بينهما زماناً ، أو يعتبر الوضع كالملكية والزوجية وما شاكلهما كذلك ، يعني مشروطاً بشيء متدرج الوجود كالعقد ونحوه.

وعلى الجملة : فلا مانع من تقدّم الشرط على المشروط ، سواء أكان المشروط حكماً أو فعلاً ، وسواء أكان الحكم وضعياً أو تكليفياً. وأضف إلى ذلك : أنّ باب الأحكام الشرعية أجنبي عن باب العلة والمعلول بالكلية فلا صلة لأحدهما بالآخر أبداً كما سنشير إليه.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) قد خصص الاشكال المذكور بشرائط الحكم ، وذهب إلى عدم جريانه بالاضافة إلى شرائط المأمور به ، وقد أفاد في وجه ذلك ما حاصله : هو أنّ مرد شرطية شيء للمأمور به هو أنّ الشارع جعل متعلق أمره حصة خاصة منه وهي الحصة المتقيدة به لا مطلقاً ، مثلاً معنى كون الطهارة شرطاً للصلاة هو أنّ الأمر تعلق بحصة خاصة منها وهي

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٢٢ الأمر الثالث.

١٢٧

الحصة المتقيدة بها لا مطلقاً ، فيكون القيد كالجزء ، فكما أنّ الجزء متعلق للأمر النفسي ، فكذلك القيد ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : كما أنّه لا مانع من تأخر بعض أجزاء الواجب عن بعضها الآخر ولا محذور فيه أبداً ، وأنّ الأمر تعلق بالمجموع من المتقدم والمتأخر ولا يمكن امتثاله إلاّبالاتيان بالجميع كما هو الحال في أجزاء الصلاة ، كذلك لا مانع من تأخر بعض القيود عن الواجب ، فان مرجعه إلى أنّ الواجب هو الحصة المتقيدة به ، فحاله حال الجزء الأخير من هذه الناحية ، فكما أنّ الواجب لا يحصل في الخارج إلاّبحصول الجزء الأخير ، فكذلك لا يحصل إلاّ بحصول قيده المتأخر. ومن هنا لو قلنا باشتراط صوم النهار بالغسل المتأخر وهو الغسل في الليل فلا يمكن امتثاله بدونه ، فانّ الواجب هو حصة خاصة من الصوم وهي الحصة المتقيدة به ، ومن الطبيعي أنّه لا يمكن حصول المقيد في الخارج بدون حصول قيده.

وإن شئت قلت : إنّ مقامنا هذا ليس مقام التأثير والتأثر ، لما عرفت من أنّ مردّ كون شيء شرطاً للمأمور به إلى كونه قيداً له ، ومن الواضح أنّ قيد المأمور به قد يكون مقارناً له ، وقد يكون متقدماً عليه ، وقد يكون متأخراً عنه ، فكما لا يمكن حصول المأمور به بدون قيده المقارن أو المتقدم فكذلك لا يمكن حصوله بدون قيده المتأخر ، فحال القيد المتأخر كالغسل المزبور مثلاً حال الجزء الأخير من الواجب كالتسليم بالاضافة إلى الصلاة فانّهما مشتركان في نقطة واحدة ، وهي توقف امتثال الواجب عليهما.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ هذا مناقض لما أفاده قدس‌سره سابقاً (١) من الفرق

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣١٣ وما بعدها.

١٢٨

بين المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص وهي الأجزاء والمقدمات الداخلية بالمعنى الأعم وهي الشرائط حيث قال بخروج الاولى عن محل النزاع لعدم ملاك الوجوب الغيري فيها ، دون الثانية. ووجه المناقضة هو أنّ الشرائط لو كانت متصفة بالوجوب النفسي فهي كالأجزاء فلا مقتضي عندئذ لاتصافها بالوجوب الغيري.

وثانياً : ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السابقة من أنّ الشرائط بأجمعها خارجة عن المأمور به والداخل فيه إنّما هو تقيده بها ، فإذن كيف يعقل أن تكون متعلقة للأمر النفسي كالأجزاء ، مع أنّ بعضها غير اختياري كالقبلة أو ما شاكلها. وعلى الجملة : فالملاك في صحة التكليف هو كون المقيد بما هو مقيد تحت قدرة المكلف واختياره ، وإن كان القيد خارجاً عنه. فالنتيجة : أنّ إشكال تأخر الشرط في شرائط المأمور به لا يندفع بما ذكره قدس‌سره.

والذي ينبغي أن يقال في المقام : هو أنّه لا شأن للشرط هنا إلاّكونه قيداً للطبيعة المأمور بها الموجب لتعنونها بعنوان خاص وتخصصها بحصة مخصوصة التي يقوم بها ملاك الأمر ، فالمأمور به هو تلك الحصة من الكلي من دون دخل لذلك القيد في الملاك القائم بها أصلاً ، ومن الطبيعي أنّه لا فرق فيه بين كون ذلك القيد من الامور المتقدمة أو المقارنة وبين كونه من الامور المتأخرة ، بداهة كما أنّ تقييد الطبيعة المأمور بها بالامور المتقدمة كتقييد الصلاة مثلاً بالطهارة ـ بناءً على ما هو الصحيح من أنّها عبارة عن الأفعال الخارجية ـ أو بالامور المقارنة كتقييدها باستقبال القبلة وبالستر والقيام وما شابه ذلك ، يوجب تخصصها بحصة خاصة بحيث لا يمكن الاتيان بتلك الحصة إلاّمع هذه القيود ، ومع انتقائها تنتفي ، كذا تقييدها بالامور المتأخرة يوجب تخصصها كذلك بحيث لو لم يحصل ذلك الأمر المتأخر في موطنه كشف عن عدم تحقق تلك الحصة.

١٢٩

وذلك كالصوم الواجب على المستحاضة بناءً على كونه مشروطاً بشرط متأخر وهو الغسل في الليل اللاّحق ، فان معنى كونه مشروطاً به هو أنّ الواجب عليها حصة خاصة من الصوم وهي الحصة المقيدة به بحيث يكون التقيد داخلاً والقيد خارجاً ، ومن الواضح أنّه لا يمكن حصول تلك الحصة في الخارج بدون الاتيان به ، فلو صامت المستحاضة في النهار فان أتت بالغسل في الليل كشف ذلك عن حصول تلك الحصة من الصوم الواجبة عليها ، وإن لم تأت به كشف عن عدم حصولها وأنّ ما أتت به هو حصة اخرى مباينة للحصة المأمور بها.

وعلى الجملة : فباب الأحكام الشرعية باب الاعتبارات وهو أجنبي عن باب التأثير والتأثر ، ولا صلة لأحد البابين بالآخر أبداً ، فلا مانع من تقييد الشارع متعلقها بأمر متأخر ، كما أنّه لا مانع من تقييدها بأمر مقارن أو متقدم ، لما عرفت من أنّ مردّ تقييده بأمر متأخر هو أنّه بوجوده المتأخر يكشف عن وجود الواجب في ظرفه ، كما أنّ عدم وجوده كذلك يكشف عن عدم تحققه فيه باعتبار أنّ تقيده به كان جزءه.

فالنتيجة : أنّه لا فرق بين القيد المقارن والمتقدم والمتأخر من هذه الناحية أصلاً ، ولا وجه لتوهم استحالة القيد المتأخر إلاّمن ناحية إطلاق لفظ الشرط عليه ، زاعماً أنّ المراد منه ما كان له دخل في تأثير المقتضي فيكون من أجزاء العلة التامة ، فلا يعقل تأخره عن وجود المعلول ، ولكن قد تبين مما تقدّم أنّ المراد من الشرط هنا معنى آخر وهو ما يكون تقيده دخيلاً في الواجب دون نفس القيد ، وعليه فبطبيعة الحال لا يضر تقدمه عليه وتأخره عنه خارجاً.

ومن ذلك يظهر أنّ المغالطة في المقام إنّما نشأت من الاشتراك اللفظي ، حيث قد اخذ الشرط في الصغرى ـ وهي قوله هذا شرط ـ بمعنى ، وفي الكبرى

١٣٠

ـ وهي قوله كل شرط مقدّم على المشروط ـ بمعنى آخر ، فلم يتكرر الحد الوسط وبدونه فلا نتيجة.

وأمّا شرائط الحكم : سواء أكان حكماً تكليفياً أم كان وضعياً ، فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ما إليك نصّه : والتحقيق في رفع هذا الاشكال أن يقال : إنّ الموارد التي توهم انخرام القاعدة فيها لا يخلو إمّا أن يكون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتكليف أو الوضع أو المأمور به. أمّا الأوّل : فكون أحدهما شرطاً له ليس إلاّ أن للحاظه دخلاً في تكليف الآمر كالشرط المقارن بعينه ، فكما أنّ اشتراطه بما يقارنه ليس إلاّ أنّ لتصوره دخلاً في أمره ، بحيث لولاه لما كاد يحصل الداعي إلى الأمر ، كذلك المتقدم أو المتأخر.

وبالجملة : حيث كان الأمر من الأفعال الاختيارية كان من مبادئه بما هو كذلك تصوّر الشيء بأطرافه ليرغب في طلبه والأمر به ، بحيث لولاه لما رغب فيه ولما أراده واختاره ، فيُسمّى كل واحد من هذه الأطراف التي لتصورها دخل في حصول الرغبة فيه وإرادته شرطاً ، لأجل دخل لحاظه في حصوله ، كان مقارناً له أو لم يكن كذلك ، متقدماً أو متأخراً ، فكما في المقارن يكون لحاظه في الحقيقة شرطاً ، كان فيهما كذلك فلا إشكال. وكذا الحال في شرائط الوضع مطلقاً ولو كان مقارناً ، فان دخل شيء في الحكم به وصحة انتزاعه لدى الحاكم به ليس إلاّما كان بلحاظه يصح انتزاعه ، وبدونه لا يكاد يصح اختراعه عنده ، فيكون دخل كل من المقارن وغيره بتصوّره ولحاظه وهو مقارن ، فأين انخرام القاعدة العقلية في غير المقارن ، فتأمّل تعرف (١).

ملخص ما أفاده قدس‌سره : هو أنّ الشرط في الحقيقة تصور الشيء

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٣.

١٣١

ووجوده الذهني دون وجوده الخارجي ، وإطلاق الشرط عليه مبني على ضرب من المسامحة باعتبار أنّه طرف له ، وعلى ضوء هذا الأساس لا فرق بين كون وجود الشرط خارجاً متأخراً عن المشروط أو متقدماً عليه أو مقارناً له ، إذ على جميع هذه التقادير الشرط واقعاً والدخيل فيه حقيقة هو لحاظه ووجوده العلمي ، وهو معاصر له زماناً ومتقدم عليه رتبة.

وعلى الجملة : فالحكم بما أنّه فعل اختياري للحاكم ، فلا يتوقف صدوره منه إلاّعلى تصوره بتمام أطرافه من المتقدمة والمقارنة واللاّحقة ، وهو الموجب لحدوث الارادة في نفسه نحو إيجاده ، كسائر الأفعال الاختيارية ، فالشرط له حقيقة إنّما هو وجود تلك الأطراف في عالم التصور واللحاظ ، دون وجودها في عالم الخارج.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره إنّما يتم في موردين : أحدهما : في القضايا الشخصية. وثانيهما : في مرحلة الجعل والتشريع ، ولا يتم فيما نحن فيه ، فلنا دعاوٍ ثلاث :

أمّا الدعوى الاولى : فلأن فعلية الأحكام المجعولة في القضايا الشخصية مساوقة لجعلها غالباً ، فهما في آن واحد ، والسبب في ذلك : أنّ الموضوع فيها هو الشخص الخارجي ، ومن الطبيعي أنّه ليس لفعلية الحكم المجعول عليه حالة منتظرة ما عدا جعله ، فانّ فعلية الحكم إنّما هي بفعلية موضوعه ، فإذا كان موضوعه موجوداً في الخارج كما هو المفروض كان فعلياً لا محالة ، فلا تتوقف فعلية الحكم فيها على شيء آخر ، ومن المعلوم أنّ ما هو دخيل في ذلك ومؤثر فيه إنّما هو إرادة المولى بمبادئها من التصور واللحاظ ، فلا دخل لشيء من الوجودات الخارجية فيه ، فأمر المولى باتيان الماء مثلاً لا يتوقف على شيء سوى إرادته واختياره كسائر أفعاله الاختيارية ، والمفروض أنّ زمان الجعل

١٣٢

فيه مساوق لزمان فعلية المجعول ، فلا تتوقف على شيء آخر ما عداه.

فالنتيجة : أنّ في أمثال هذه الموارد لا يعقل أن يكون الشيء شرطاً لفعلية الحكم ومؤثراً فيها من دون دخله في جعله ، بل الأمر بالعكس تماماً ، يعني أنّ الشرائط في أمثال تلك الموارد بأجمعها راجعة إلى شرائط الجعل ، فليس شيء منها راجعاً إلى شرط المجعول ، وقد عرفت أنّ شرائط الجعل عبارة عن علم الآمر وتصوّره الشيء بتمام أطرافه المتقدمة والمقارنة والمتأخرة ، سواء أكان علمه مطابقاً للواقع أم لا. إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنّ تمامية ما أفاده قدس‌سره في تلك الموارد إنّما هي من ناحية أن شرائط الحكم فيها ترجع إلى شرائط الجعل فحسب ، فلا معنى لكون شيء شرطاً فيها للحكم.

وأمّا الدعوى الثانية : فقد ظهر حالها من ضوء ما بينّاه في الدعوى الاولى ، وأنّ الجعل كسائر الأفعال الاختيارية فلا يتوقف على شيء ما عدا الاختيار بمبادئه.

وأمّا الدعوى الثالثة : فلأنّ محل الكلام إنّما هو في شرائط الحكم من التكليفي أو الوضعي لا في شرائط الجعل ، فلا صلة لما أفاده قدس‌سره بما هو محل الكلام ، بيان ذلك : هو أنّ للأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية مرتبتين :

الاولى : مرتبة الجعل والانشاء ، فالحكم في هذه المرتبة لا يتوقف على وجود شيء في الخارج ، بل هو موجود بوجود إنشائي فحسب ، وله بقاء واستمرار كذلك ما لم ينسخ.

الثانية : مرتبة الفعلية ، فالحكم في هذه المرتبة يتوقف على وجود موضوعه بتمام قيوده خارجاً ، وذلك لاستحالة فعلية الحكم بدون فعلية موضوعه ، ومحل الكلام في المقام إنّما هو في شرائط المجعول وهو الحكم الفعلي ، لا في شرائط

١٣٣

الجعل حيث قد عرفت الكلام فيها ، وأنّ الجعل بما أنّه فعل اختياري للجاعل فلا وعاء لشرائطه إلاّ النفس ولا دخل للوجود الخارجي فيه أصلاً.

وهذا بخلاف شرائط المجعول ، فانّها حيث كانت عبارة عن القيود المأخوذة في موضوعه في مقام الجعل فيستحيل تحققه وفعليته بدون تحققها وفعليتها ، وذلك كالاستطاعة مثلاً التي أخذت في موضوع وجوب الحج ، فانّها ما لم تتحقق في الخارج لا يكون وجوب الحج فعلياً ، وكالعقد الذي اخذ في موضوع الملكية أو الزوجية ، فانّه ما لم يوجد خارجاً لا تتحقق الملكية أو الزوجية. وعلى الجملة : ففعلية الحكم تدور مدار فعلية موضوعه المأخوذ مفروض الوجود في مرحلة الجعل ، ومن هنا وقع الاشكال فيما إذا كان الشرط متأخراً زماناً عن الحكم.

فالنتيجة لحدّ الآن أمران : الأوّل : أنّ فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه المأخوذ مفروض الوجود في ظرف التشريع. الثاني : أنّ كلامه قدس‌سره مبني على الخلط بين شرائط الجعل وشرائط المجعول ، وقد مرّ أنّه لا صلة لاحداهما بالاخرى أصلاً.

وعلى ضوء هذه النتيجة قد التزم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) باستحالة الشرط المتأخر بدعوى أنّ الموضوع في القضايا الحقيقية قد اخذ مفروض الوجود بتمام شرائطه وقيوده ، ومن الطبيعي أنّ الموضوع ما لم يتحقق في الخارج كذلك يستحيل تحقق الحكم ، حيث إنّ نسبة الموضوع إلى الحكم كنسبة العلّة التامة إلى معلولها ، ففرض فعلية الحكم قبل وجود موضوعه ولو من ناحية عدم وجود قيد من قيوده كفرض وجود المعلول قبل وجود علته ، والسر فيه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٢٨.

١٣٤

هو أنّ القضايا الحقيقية بأجمعها ترجع في الحقيقة إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، ومن الطبيعي أنّه لا يمكن وجود التالي قبل وجود المقدّم.

ينبغي أن يقال في المقام : هو جواز الشرط المتأخر ، ويقع الكلام فيه في مقامين : الأوّل : في مقام الثبوت. والثاني : في مقام الاثبات.

أمّا المقام الأوّل : فقد ذكرنا غير مرّة أنّ الأحكام الشرعية بشتى أنواعها امور اعتبارية ، فلا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، ولا صلة لها بالموجودات المتأصلة الخارجية أبداً. وبكلمة اخرى : أنّ الموجودات التكوينية المتأصلة خاضعة لعللها الطبيعية فلا يتعلق بها جعل شرعي أصلاً.

وأمّا الموجودات الاعتبارية التي منها الأحكام الشرعية فهي خاضعة لاعتبار المعتبر ، وأمرها بيده وضعاً ورفعاً ، ولا تخضع لشيء من الموجودات التكوينية وإلاّ لكانت تكوينية.

وعلى ضوء هذا البيان قد اتضح أنّ موضوعات الأحكام الشرعية وإن كانت من الامور التكوينية ، إلاّ أنّه لا تأثير لها فيها أبداً ، لا تأثير العلة في المعلول ، ولا الشرط في المشروط ، ولا السبب في المسبب وإن اطلق عليها الشرط مرّة ، والسبب مرّة اخرى ، إلاّ أنّ ذلك مجرد اصطلاح من الأصحاب على تسمية الموضوعات في الأحكام التكليفية بالشروط ، وفي الأحكام الوضعية بالأسباب ، مع عدم واقع موضوعي لها ، فيقولون إنّ البلوغ شرط لوجوب الصلاة مثلاً ، والاستطاعة شرط لوجوب الحج ، وبلوغ النصاب شرط لوجوب الزكاة وهكذا ، والبيع سبب للملكية ، والموت سبب لانتقال المال إلى الوارث ، وملاقاة النجس مع الرطوبة المسرية سبب لنجاسة الملاقي وهكذا ، وقد قلنا في موطنه إنّه لم يظهر لنا وجه للتفرقة بين تسمية الاولى بالشروط والثانية

١٣٥

بالأسباب أصلاً ، بداهة أنّ كلتيهما موضوع للحكم فلا فرق بين الاستطاعة والبيع من هذه الناحية ، فكما أنّ الشارع جعل وجوب الحج معلّقاً على فرض وجود الاستطاعة في الخارج ، فكذلك جعل الملكية معلقة على فرض وجود البيع فيه ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ فعلية الأحكام وإن كانت دائرة مدار فعلية موضوعاتها بتمام قيودها وشرائطها في الخارج ، إلاّ أنّ لازم ذلك ليس تقارنهما زماناً ، والسبب فيه هو أنّ ذلك تابع لكيفية جعلها واعتبارها ، فكما يمكن للشارع جعل حكم على موضوع مقيد بقيد فرض وجوده مقارناً لفعلية الحكم ، يمكن له جعل حكم على موضوع مقيد بقيد فرض وجوده متقدماً على فعلية الحكم مرّة ومتأخراً عنها مرّة اخرى ، فإن كل ذلك بمكان من الوضوح بعد ما عرفت من أنّه لا واقع للحكم الشرعي ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، فإذا كان أمره بيده وضعاً ورفعاً سعة وضيقاً ، كان له جعله بأيّ شكل ونحو أراد وشاء ، فلو كان جعله على الشكل الثالث فبطبيعة الحال تتقدم فعلية الحكم على فعلية موضوعه ، كما أنّه لو كان على الشكل الثاني تتأخر فعليته عن فعليته وإلاّ لزم الخلف.

والسر فيه : أنّ المجعول في القضايا الحقيقية حصة خاصة من الحكم وهي الحصة المقيدة بقيد فرض وجوده في الخارج لا مطلقاً ، ومن الطبيعي أنّ هذا القيد يختلف ، فمرّة يكون قيداً لها بوجوده المتأخر ، مثل أن يأمر المولى باكرام زيد مثلاً فعلاً بشرط مجيء عمرو غداً ، فانّ المجعول فيه هو حصة خاصة من الوجوب وهو الحصة المقيدة بمجيء عمرو غداً ، فإذا تحقق القيد في ظرفه كشف عن ثبوتها في موطنها وإلاّ كشف عن عدم ثبوتها فيه. ومرّة اخرى بوجوده المتقدم كما لو أمر باكرام زيد غداً بشرط مجيء عمرو هذا اليوم. ومرّة ثالثة بوجوده المقارن ، وذلك كقوله تعالى ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ

١٣٦

اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١).

وبكلمة اخرى : بعد ما كان جعل الأحكام الشرعية بيد الشارع سعة وضيقاً ورفعاً ووضعاً ، فكما أنّ له جعل الحكم معلّقاً على أمر مقارن ، كذلك له جعل الحكم معلّقاً على أمر متقدم عليه أو متأخر عنه ، ومن المعلوم أنّ المولى إذا جعل الحكم معلّقاً بأمر متأخر عن وجوده ، فبطبيعة الحال تكون فعليته قبل وجود ذلك الأمر ، وإلاّ لكانت الفعلية على خلاف الانشاء وهو خلف كما عرفت.

ومثال ذلك في العرفيات : الحمّامات المتعارفة في زماننا هذا ، فان صاحب الحمام يرضى في نفسه رضى فعلياً بالاستحمام لكل شخص على شرط أن يدفع بعد الاستحمام وحين الخروج مقدار الاجرة المقرّرة من قبله ، فالرضا من المالك فعلي والشرط متأخر.

ومن ضوء هذا البيان يظهر فساد ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره (٢) من أنّ الموضوع في القضايا الحقيقية بما أنّه اخذ مفروض الوجود فيستحيل تحقق الحكم وفعليته قبل فعلية موضوعه بقيوده ، توضيح الفساد : ما عرفت من أنّه كما يمكن أخذ الموضوع مفروض الوجود في ظرف مقارن للحكم أو متقدم عليه ، كذلك يمكن أخذه مفروض الوجود في ظرف متأخر عنه ، وعليه فلا محالة تتقدم فعلية الحكم على فعلية موضوعه.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ شرائط الحكم عبارة عن قيود الموضوع المأخوذة مفروضة الوجود في الخارج من دون فرق بين كونها مقارنة للحكم أو متقدمة عليه أو متأخرة عنه ، وليس لها أيّ دخل وتأثير في نفس الحكم أصلاً. ومن هنا قلنا إنّ إطلاق الشروط والأسباب عليها مجرد اصطلاح بين

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٢٩.

١٣٧

الأصحاب كما مرّ.

وأمّا المقام الثاني : وهو مقام الاثبات ، فلا شبهة في أنّ الشرط المتأخر على خلاف ظواهر الأدلة التي تتكفل جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقية ، فانّ الظاهر منها هو كون الشرط المأخوذ في موضوعاتها مقارناً للحكم كقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١) حيث إنّ المتفاهم العرفي منه هو كون الاستطاعة خارجاً مقارناً لوجوب الحج ، فارادة كون وجوبه سابقاً على وجودها في الخارج تحتاج إلى مؤونة زائدة.

فالنتيجة : أنّ الالتزام بوقوع الشرط المتأخر في مقام الاثبات يحتاج إلى دليل وبدونه فلا يمكن الالتزام به. نعم ، شرطية الاجازة بوجودها المتأخر في العقد الفضولي كالبيع والاجارة والنكاح وما شاكل ذلك ، وشرطية القدرة كذلك في الواجبات التدريجية كالصلاة والصوم ونحوهما لا تحتاجان إلى دليل خاص ، بل كانتا على طبق القاعدة.

أمّا الاولى : فلأجل أنّ العقد قبل تحقق الاجازة لم يكن منتسباً إلى المالك حتّى يكون مشمولاً لعمومات الصحة وإطلاقاتها ، فانّها تدل على صحة عقد المالك وإمضائه ولا معنى لدلالتها على نفوذه وصحته لغير المالك أصلاً ، فإذا تعلقت الاجازة به انتسب إلى المالك من حين وقوعه وحكم بصحته من هذا الحين ، والسبب في ذلك هو أنّ الاجازة من الامور التعلقية فكما يمكن تعلقها بأمر مقارن لها أو متأخر عنها ، فكذلك يمكن تعلقها بأمر متقدم عليها. هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ المالك بما أنّه أجاز العقد السابق الصادر من الفضولي

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

١٣٨

فبطبيعة الحال قد أمضى الشارع ذلك العقد بمقتضى تلك العمومات والاطلاقات ، ومن ناحية ثالثة : أنّ ظرف الاجازة وإن كان متأخراً إلاّ أنّ متعلقها ـ وهو العقد ـ أمر سابق. فالنتيجة على ضوء هذه النواحي هي صحة العقد من حينه وحصول الملكية من هذا الحين ، وهذا معنى كون الاجازة بوجودها المتأخر شرطاً للملكية السابقة.

وبكلمة اخرى : أنّ اعتبار الشارع وإمضاءه وإن كان من الآن ، أي من حين الاجازة ، إلاّ أنّ الممضى هو العقد السابق والمعتبر هو الملكية المتقدمة أعني الملكية من حين العقد ، والمفروض أنّ الاجازة شرط لها. ونظير ذلك ما إذا افترضنا قيام دليل على أنّ القبول المتأخر بزمن مؤثر في صحة العقد من حين الايجاب ، فانّه عندئذ لا مناص من الالتزام بحصول الملكية من هذا الحين ، وإن كان ظرف اعتبارها بمقتضى أدلة الامضاء من حين القبول ، إلاّ أنّ ذلك مجرد افتراض فلا واقع موضوعي له ، على أنّه خلاف المرتكز في أذهان العرف والعقلاء ، وذلك بخلاف الاجازة اللاّحقة ، فان كونها شرطاً متأخراً كان على طبق القاعدة وموافقاً للارتكاز فلا نحتاج إلى دليل.

ومن هنا قد التزمنا في مسألة الفضولي بالكشف الحقيقي بهذا المعنى ، وقلنا هناك إنّ هذا لا يحتاج إلى دليل خاص (١) ، كما أنّا ذكرنا هناك أنّه لا تنافي بين اعتبار الشارع ملكية مال لشخص في زمان وبين اعتباره ملكيته لآخر في ذلك الزمان بعينه إذا كان زمان الاعتبار متعدداً ، فالعبرة في أمثال ذلك إنّما هي بتعدد زماني الاعتبار وإن كان زمان المعتبرين واحداً ، لعدم التنافي بينهما ذاتاً ، وذلك لما حققناه في موطنه (٢) من أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها : التكليفية

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٤ : ١٤١.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ١٢٥.

١٣٩

والوضعية ، امور اعتبارية فلا تنافي ولا تضاد بينها في أنفسها أصلاً ، وإنّما التنافي والتضاد بينها من ناحية اخرى على تفصيل ذكرناه في محلّه.

وأمّا الثانية : وهي شرطية القدرة بوجودها المتأخر في الواجبات التدريجية ، فلأنّ فعلية وجوب كل جزء سابق منها مشروطة ببقاء شرائط التكليف من الحياة والقدرة وما شاكلهما إلى زمان الاتيان بالجزء اللاّحق ، مثلاً فعلية وجوب التكبيرة في الصلاة مشروطة ببقاء المكلف على شرائط التكليف إلى زمان الاتيان بالتسليمة ، لفرض أنّ وجوبها ارتباطي فلا يعقل وجوب جزء بدون وجوب جزء آخر ، فلو جنّ في الأثناء أو عجز عن إتمامها كشف ذلك عن عدم وجوبها من الأوّل. وعلى الجملة : ففعلية وجوب الأجزاء السابقة كما تتوقف على وجود تلك الشرائط في ظرفها ، كذلك تتوقف على بقائها إلى زمان الأجزاء اللاّحقة ، فالالتزام بالشرط المتأخر في أمثال الموارد ممّا لا مناص عنه ولا يحتاج إلى دليل خاص ، فيكفي فيه نفس ما دلّ على اشتراط هذه الواجبات بتلك الشرائط.

لحدّ الآن قد استطعنا أن نخرج بهاتين النتيجتين :

الاولى : أنّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر في مرحلة الثبوت ولا محذور فيه أبداً.

الثانية : أنّ الالتزام بوقوعه في مرحلة الاثبات يحتاج إلى دليل خاص ، وإلاّ فمقتضى القاعدة عدمه. نعم ، وقوعه في الموردين السابقين كان على طبق القاعدة.

١٤٠