محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

[ تردّد الواجب بين النفسي والغيري ]

وأمّا إذا شكّ في ذلك فهل الأصل اللفظي أو العملي يقتضي أحدهما خاصة؟ والبحث فيه يقع في مقامين : الأوّل : في الأصل اللفظي. الثاني : في الأصل العملي.

أمّا المقام الأوّل : فمقتضى إطلاق الدليل هو الوجوب النفسي ، وهذا بناءً على نظرية المشهور واضح ، وذلك لأنّ تقييد وجوب شيء بما إذا وجب غيره يحتاج إلى مؤونة زائدة ، فلو كان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على التقييد كان مقتضى إطلاق كلامه هو الحكم بكون الوجوب نفسياً ، يعني أنّه واجب سواء أكان هناك واجب آخر أم لا. وأمّا بناءً على نظرية الشيخ قدس‌سره (١) من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة ولزوم رجوعه إلى المادة ، فيمكن تقريب التمسك بالاطلاق بوجهين :

الأوّل : فيما إذا كان الوجوب مستفاداً من الجملة الاسمية كقوله عليه‌السلام « غسل الجمعة فريضة من فرائض الله » (٢) وما شاكل ذلك ، وفي مثله لا مانع من التمسك باطلاق هذه الجملة لاثبات كون الوجوب نفسياً ، إذ لو كان غيرياً لكان على المولى نصب قرينة على ذلك ، وحيث إنّه لم ينصب مع كونه في مقام البيان فالاطلاق يقتضي عدمه.

الثاني : التمسك باطلاق دليل الواجب كدليل الصلاة أو نحوها لدفع ما

__________________

(١) تقدّم في ص ١٤٢.

(٢) ورد مضمونه في الوسائل ٣ : ٣١٢ / أبواب الأغسال المسنونة ب ٦ ح ٣ ، ٥ ، ٦.

٢٢١

يحتمل أن يكون قيداً له ، بيان ذلك : أنّ المولى إذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة على تقييد الواجب بقيد ، ففي مثله إذا شكّ في تقييده بشيء كما إذا شكّ في تقييد الصلاة مثلاً بالوضوء ، فلا مانع من التمسك باطلاق قوله : صل لاثبات عدم تقييدها به ، ولازم ذلك هو عدم كون الوضوء واجباً غيرياً. وقد ذكرنا في محلّه أنّ الاصول اللفظية تثبت لوازمها. فالنتيجة : أنّه على ضوء كلتا النظريتين لا مانع من التمسك بالاطلاق لاثبات كون الواجب نفسياً. نعم ، تفترق نظرية المشهور عن نظرية الشيخ قدس‌سره في كيفية التمسك به كما عرفت. ومن هنا لم ينسب إلى الشيخ قدس‌سره انكار الواجب الغيري على ما نعلم.

وأمّا المقام الثاني : وهو التمسك بالاصول العملية عند عدم وجود الاصول اللفظية ، فالكلام فيه يقع من وجوه :

الأوّل : ما إذا علم المكلف بوجوب شيء إجمالاً في الشريعة المقدسة وتردد بين كونه واجباً نفسياً أو غيرياً ، وهو يعلم بأ نّه لو كان واجباً غيرياً ومقدمة لواجب آخر لم يكن ذلك الواجب فعلياً ، وذلك كما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء عليها وترددت بين كون وجوبه نفسياً أو غيرياً ، وهي تعلم بأ نّه لو كان واجباً غيرياً ومقدّمة للصلاة لم تكن الصلاة واجبة عليها فعلاً ، وفي مثل هذا الفرض لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عقلاً ونقلاً ، بيان ذلك : هو أنّ المكلف لا يعلم بوجوب فعلي على كل تقدير ، فانّه على تقدير وجوبه نفسياً وإن كان فعلياً إلاّ أنّه على تقدير وجوبه الغيري فلا يكون بفعلي ، لعدم فعلية وجوب ذيه ، ومعه لا محالة يشك في الوجوب الفعلي ، ومن الطبيعي أنّ المرجع في مثله هو البراءة الشرعية والعقلية ، وهذا هو مراد المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من الرجوع إلى البراءة فيه لا الوجه الثاني الآتي كما نسب إليه

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٠.

٢٢٢

شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١).

الثاني : ما إذا علم المكلف بوجوب شيء فعلاً وتردد بين أن يكون نفسياً أو غيرياً ، وهو يعلم أنّه لو كان غيرياً ومقدمة لواجب آخر فوجوب ذلك الواجب فعلي يتوقف حصوله على تحقق ذلك الشيء في الخارج ، ومثاله هو ما إذا علم المكلف مثلاً بتحقق النذر منه ، ولكن تردد متعلقه بين الوضوء والصلاة ، فان كان الأوّل فالوضوء واجب نفساً ، وإن كان الثاني فانّه واجب غيراً ، ففي مثل ذلك يعلم المكلف بوجوب الوضوء على كل تقدير ، ولا يمكن له الرجوع إلى البراءة عن وجوبه ، لفرض علمه التفصيلي به ، ولا أثر لشكه في النفسي والغيري أصلاً.

وإنّما الكلام في جواز الرجوع إلى البراءة عن وجوب الصلاة وعدم جوازه ، الصحيح هو الأوّل ، والسبب في ذلك : هو أنّ المكلف وإن علم إجمالاً بوجوب نفسي مردد بين تعلقه بالصلاة أو الوضوء ، إلاّ أنّ العلم الاجمالي إنّما يكون مؤثراً فيما إذا تعارضت الاصول في أطرافه ، وأمّا إذا لم تتعارض فيها فلا أثر له ، وبما أنّ أصالة البراءة في المقام لا تجري بالاضافة إلى وجوب الوضوء ، لفرض العلم التفصيلي به ، واستحقاق العقاب على تركه على كلا التقديرين ـ أي سواء أكان وجوبه نفسياً أم كان غيرياً ـ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الصلاة ، للشك فيه وعدم قيام حجة عليه ، ومعه لا محالة يكون العقاب على تركها عقاباً بلا بيان وحجّة.

وبكلمة واضحة : أنّ الانحلال الحقيقي في المقام وإن كان غير موجود ، إلاّ أنّ الانحلال الحكمي موجود كما هو الحال في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٩.

٢٢٣

ولكنّ الانحلال الحكمي في مسألتنا هذه لا بملاك الانحلال الحكمي هناك ، بيان ذلك : أمّا في تلك المسألة فقد ذكرنا فيها أنّ العلم الاجمالي قد تعلق بالماهية المرددة بين لا بشرط وبشرط لا ، وهذا العلم الاجمالي غير قابل للانحلال حقيقة من هذه الناحية ، حيث إنّ تعلّقه بالماهية المزبورة مقوّم له ، فكيف يعقل أن يكون موجباً لانحلاله ، ولكن حيث إنّ الأصل لا يجري في أحد طرفي هذا العلم ـ وهو الاطلاق ـ فلا مانع من جريانه في طرفه الآخر ـ وهو التقييد ـ ومعه لا أثر لهذا العلم الاجمالي ، وهذا هو معنى انحلاله هناك حكماً ، ومردّ هذا الانحلال إلى التفكيك بين أجزاء الواجب الواحد في مرحلة التنجيز بعد عدم إمكان التفكيك بينها في مرحلتي السقوط والثبوت أصلاً.

وأمّا في مسألتنا هذه : فبما أنّ المكلف يعلم بوجوب الوضوء تفصيلاً وإن لم يعلم أنّه لنفسه أو لغيره ، فلا يمكن له الرجوع إلى البراءة عنه ، لعلمه باستحقاق العقاب على تركه على كلا التقديرين. وأمّا وجوب الصلاة فبما أنّه لا يعلم به فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عنه : الشرعية والعقلية ، لعدم قيام بيان عليه ، ومعه لا محالة يكون العقاب على تركها عقاباً من دون بيان ، ولا تعارض أصالة البراءة عنه أصالة البراءة عن وجوب الوضوء نفسياً ، حيث إنّه مشكوك فيه ، وذلك لما عرفت من عدم جريانها في طرف الوضوء من ناحية العلم بوجوبه على كل تقدير واستحقاق العقاب على تركه كذلك ، فإذن لا مانع من جريانها في طرف الصلاة بناءً على ما حققناه من أنّ تنجيز العلم الاجمالي يرتكز على تعارض الاصول في أطرافه ومع عدمه فلا أثر له ، وبما أنّ في المقام لا تعارض بين الأصلين فلا يكون منجّزاً.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ العلم الاجمالي بوجوب نفسي مردد بين تعلقه بالوضوء أو الصلاة وإن لم ينحل حقيقة ، إلاّ أنّه ينحل حكماً من ناحية عدم

٢٢٤

جريان الأصل في أحد طرفيه ، هذا من جانب. ومن جانب آخر : أنّ ملاك عدم جريانه فيه هو كونه معلوم الوجوب على كل تقدير ، وبهذه النقطة يمتاز ما نحن فيه عن مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث إنّ هناك عدم جريان الأصل في أحد طرفي العلم الاجمالي من ناحية عدم الأثر لا من ناحية كون التكليف به معلوماً.

ونتيجة ذلك : هي التفكيك في حكم واحد في مرحلة التنجيز ، كوجوب الصلاة في المقام حيث إنّه منجّز من ناحية وجوب الوضوء ، لما عرفت من استحقاق العقاب على تركها المستند إلى ترك الوضوء ، وغير منجّز من ناحية اخرى لما مرّ من وجود المؤمّن من غير تلك الناحية.

الثالث : ما إذا علم المكلف بوجوب كل من الفعلين في الخارج وشكّ في أنّ وجود أحدهما مقيد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوبيهما من حيث الاطلاق والاشتراط من بقية الجهات ، أي أنّهما متساويان إطلاقاً وتقييداً كوجوب الوضوء والصلاة مثلاً ، ففي مثل ذلك قد أفاد شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ الشك حيث إنّه متمحض في تقييد ما علم كونه واجباً نفسياً كالصلاة بالواجب الآخر ـ وهو الوضوء ـ في مفروض المثال ، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن ذلك التقييد ، وذلك لفرض أنّ وجوب الصلاة معلوم ، وكذا وجوب الوضوء والشك إنّما هو في خصوص تقييد الصلاة بالوضوء ، ومن الطبيعي أنّ مقتضى أصالة البراءة عدمه.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره غير تام ، وذلك لأنّ أصالة البراءة عن التقييد المذكور معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب نفسي ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٨.

٢٢٥

وذلك لأنّ القدر المعلوم لنا تفصيلاً إنّما هو أصل تعلق الوجوب بالوضوء بوجوب جامع بين النفسي والغيري ، وأمّا خصوصية كونه نفسياً أو غيرياً فهي مشكوكة ، وبما أنّ العلم الاجمالي بإحدى الخصوصيتين موجود فهو مانع عن جريان أصالة البراءة عن كلتيهما ، فإذن لا محالة يكون المرجع هو قاعدة الاحتياط.

وإن شئت قلت : إنّ وجوب الوضوء غيرياً ـ أي كونه قيداً للصلاة ـ وإن كان مشكوكاً فيه في نفسه ولا مانع من جريان الأصل فيه في ذاته ، إلاّ أنّ وجوبه نفسياً أيضاً كذلك ، وعليه فلا مانع من جريان الأصل فيه أيضاً في ذاته ، وبما أنّه لا يمكن جريان كلا الأصلين معاً ، لاستلزامه المخالفة القطعية العملية ، فبطبيعة الحال المرجع هو قاعدة الاحتياط ، وهو الاتيان بالوضوء أوّلاً ثمّ الاتيان بالصلاة ، ومردّ هذا بحسب النتيجة إلى أنّ وجوب الوضوء غيري لا نفسي.

الرابع : ما إذا علم المكلف بوجوب كل من الفعلين وشكّ في تقييد أحدهما بالآخر مع عدم العلم بالتماثل بينهما من حيث الاطلاق والاشتراط ، وذلك كما إذا علم باشتراط الصلاة بالوقت ، وشكّ في اشتراط الوضوء به من ناحية الشك في أنّ وجوبه نفسي أو غيري ، فعلى الأوّل لا يكون مشروطاً به ، وعلى الثاني فمشروط ، لتبعية الوجوب الغيري للنفسي في الاطلاق والاشتراط. ففي هذه الصورة الشك يكون من عدّة جهات.

وقد أفاد شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بجريان البراءة من جميع تلك الجهات : الاولى : الشك في تقييد الصلاة بالوضوء وهو مجرى للبرءاة ، فالنتيجة هي صحّة الصلاة بدون الوضوء. الثانية : الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت الذي هو شرط لوجوب الصلاة ، وهو أيضاً مرجع للبراءة ، فالنتيجة من هذه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٤٨.

٢٢٦

الجهة نتيجة الغيرية من ناحية عدم ثبوت وجوب الوضوء قبل الوقت في مفروض المثال. الثالثة : الشك في وجوب الوضوء بعد الوقت بالاضافة إلى مَن أتى به قبله ، ومرجع هذا الشك إلى أنّ وجوب الوضوء بعد الوقت مطلق أو مشروط بما إذا لم يؤت به قبله ، وبما أنّ وجوبه مشكوك فيه بالاضافة إلى مَن أتى به قبله ، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عنه.

فالنتيجة هي : أنّ المكلف مخيّر بين الاتيان بالوضوء قبل الوقت وبعده قبل الصلاة وبعدها.

ولنأخذ بالنظر في هذه الجهات بيان ذلك : أنّ وجوب الوضوء في مفروض المثال المردد بين النفسي والغيري إذا كان نفسياً ، فلا يخلو من أن يكون مقيداً بايقاعه قبل الوقت أو يكون مطلقاً. وأمّا وجوبه الغيري فهو مقيد بما بعد الوقت على كل تقدير.

وعلى الأوّل : فلا يمكن جريان البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء ، لمعارضته بجريانها عن وجوبه النفسي قبل الوقت ، وذلك للعلم الاجمالي بأ نّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري ، وجريان البراءة عن كليهما مستلزم للمخالفة القطعية العملية ، وقد ذكرنا في محلّه (١) أنّه لا فرق في تنجيز العلم الإجمالي وسقوط الاصول عن أطرافه بين أن تكون أطرافه من الدفعيات أو التدريجيات ، وعلى ذلك فلا بدّ من الاحتياط والاتيان بالوضوء قبل الوقت ، فان بقي إلى ما بعده أجزأ عن الوضوء بعده ، ولا يجب عليه الاتيان به ثانياً ، وإلاّ وجب عليه ذلك بمقتضى حكم العقل بالاحتياط. فالنتيجة هي نتيجة الحكم بالوجوب النفسي والغيري معاً من باب الاحتياط.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٢٩.

٢٢٧

وعلى الثاني : فلا معنى لاجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت ، وذلك لعدم احتمال تقيده به ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ مفاد أصالة البراءة رفع الضيق عن المكلف لا رفع السعة والاطلاق. وأمّا بعد الوقت فيحكم العقل بوجوب الوضوء ، وذلك للعلم الاجمالي بوجوبه إمّا نفسياً أو غيرياً ، ولا يمكن إجراء البراءة عنهما معاً ، ومعه يؤثر العلم الاجمالي فيجب الاحتياط.

نعم ، لو شككنا في وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت على تقدير كونه غيرياً ، أمكن رفعه بأصالة البراءة ، وذلك لأنّ تقييد الوضوء بوقوعه بما بعد الوقت على تقدير كون وجوبه غيرياً بما أنّه مجهول ، فلا مانع من إجراء البراءة عنه ، وذلك لأنّ وجوبه إن كان نفسياً فهو غير مقيد بذلك كما هو واضح ، وإن كان غيرياً فالمقدار المعلوم إنّما هو تقيد الصلاة به ، وأمّا تقيدها به بخصوصية أن يؤتى به بعد الوقت فهو مجهول فيدفع بالبراءة.

وقد تحصل من ذلك : أنّ ما أفاده قدس‌سره من الرجوع إلى أصالة البراءة في الجهات المزبورة لا يتم إلاّفي الجهة الأخيرة خاصّة.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي : أنّ المرجع في جميع الصور المتقدمة هو قاعدة الاحتياط دون قاعدة البراءة ، إلاّفي خصوص الصورة الاولى.

٢٢٨

آثار الواجب النفسي والغيري

لا إشكال في أنّ ترك الواجب النفسي يوجب استحقاق العقاب والذم ، حيث إنّه تمرد وطغيان على المولى وخروج عن رسم العبودية والرقّية. كما أنّه لا إشكال في أنّ ترك الواجب الغيري لا يوجب استحقاق العقاب عليه. نعم ، إنّ تركه حيث يستلزم ترك الواجب النفسي فالعقاب عليه لا على ترك الواجب الغيري. كما أنّه لا إشكال في ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي.

وإنّما الاشكال والكلام في موردين : الأوّل : في وجه ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسي هل هو بالاستحقاق أو بالتفضل. الثاني : في ترتب الثواب على الواجب الغيري.

أمّا المورد الأوّل : ففيه خلاف ، فذهب معظم الفقهاء والمتكلمين (١) إلى أنّه بالاستحقاق. وذهب جماعة منهم المفيد قدس‌سره (٢) إلى أنّه بالتفضل بدعوى أنّ العبد ليس أجيراً في عمله للمولى ليستحقّ الثواب عليه ، وإنّما جرى ومشى على طبق وظيفته ومقتضى عبوديته ورقيته ، ولكنّ الله ( سبحانه وتعالى ) هو الذي يتفضل عليه باعطاء الثواب والأجر.

والصحيح في المقام أن يقال : إن أراد القائلون بالاستحقاق أنّ العبد بعد قيامه بامتثال الواجب وإظهار العبودية والرقية يستحق على المولى الثواب

__________________

(١) راجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٤٠٧ ، المسألة الخامسة في الثواب والعقاب.

(٢) أوائل المقالات ( مصنفات المفيد ٤ ) : ١١١.

٢٢٩

كاستحقاق الأجير للُاجرة على المستأجر بحيث لو لم يقم المولى باعطاء الثواب له لكان ذلك ظلماً منه فهو مقطوع البطلان ، بداهة أنّ إطاعة العبد لأوامر مولاه ونواهيه جرى منه على وفق وظيفته ورسم عبوديته ورقّيته ولازمة بحكم العقل المستقل ، ولا صلة لذلك بباب الاجارة أبداً ، كيف فانّ مصالح أفعاله ومفاسدها تعودان إليه لا إلى المولى. ومن ذلك يظهر حال التوبة ، فانّ ما ورد من أنّ التائب عن ذنبه كمن لا ذنب له (١) ليس معنى هذا أنّ التائب يستحقّ الغفران على المولى كاستحقاق الأجير للُاجرة باتيان العمل المستأجر عليه ، لوضوح أنّ التوبة مقتضى وظيفة العبودية ، ومن هنا يستقلّ العقل بها ، حيث إنّ حقيقتها رجوع العبد إلى الله تعالى وخروجه عن التمرد والعصيان ودخوله في الاطاعة والاحسان.

وإن أرادوا بذلك أنّ العبد بقيامه بامتثال أوامر المولى ونواهيه يصير أهلاً لذلك ، فلو تفضّل المولى باعطاء الثواب له كان في محلّه ومورده فهو متين جداً ولا مناص عنه ، والظاهر بل المقطوع به أنّهم أرادوا بالاستحقاق هذا المعنى. وعلى هذا الضوء فقد أصبح النزاع المزبور لفظياً كما لا يخفى.

وأمّا المورد الثاني : وهو ترتب الثواب على الواجب الغيري ، فلا ريب في عدم استحقاقه الثواب على امتثاله بمعناه الأوّل ، وإن قلنا به فرضاً في الواجب النفسي ، وهذا واضح. وأمّا الاستحقاق بمعناه الثاني فالظاهر أنّه لا شبهة فيه إذا أتى به بقصد الامتثال والتوصل ، والسبب في ذلك هو أنّ الملاك فيه كون العبد بصدد الاطاعة والانقياد والعمل بوظيفة العبودية والرقّية ليصبح أهلاً لذلك ، ومن المعلوم أنّه باتيانه المقدمة بداعي التوصل والامتثال قد أصبح أهلاً

__________________

(١) الكافي ٢ : ٤٣٥ / ١٠ ( مع اختلاف يسير ).

٢٣٠

له ، بل الأمر كذلك ولو لم نقل بوجوبها ، ضرورة أنّ الاتيان بها بهذا الداعي مصداق لاظهار العبودية والاخلاص والانقياد والاطاعة. نعم ، لو جاء بها بدون قصد التوصل والامتثال فقد فاته الثواب ، حيث إنّه لم يصر بذلك أهلاً له ليكون في محلّه ولم يستحق شيئاً ، كما أنّه لو أتى بالواجب النفسي التوصلي بدون ذلك لم يترتب الثواب عليه وإن سقط الأمر.

وعلى ضوء ذلك هل يستحقّ العبد على الاتيان بالمقدمة وذيها ثوابين أو ثواباً واحداً؟ وجهان بل قولان.

فذهب صاحب الكفاية (١) وشيخنا الاستاذ (٢) قدس‌سرهما إلى الثاني بدعوى أنّ الأمر الغيري بما هو أمر غيري لا واقع موضوعي له إلاّكونه واقعاً في طريق التوصل إلى الواجب النفسي ، فلا إطاعة له إلاّمع قصد الأمر النفسي ، وحينئذ فالآتي بالواجب الغيري إن قصد به التوصل إلى الواجب النفسي فهو شارع في امتثال الأمر النفسي فيثاب على اطاعته ، وإلاّ فلا.

ولكنّ الصحيح هو القول الأوّل ، وذلك لما عرفت من أنّ ملاك ترتب الثواب على امتثال الواجب الغيري هو أنّه بنفسه مصداق للانقياد والتعظيم وإظهار لمقام العبودية ، مع قطع النظر عن إتيانه بالواجب النفسي ، ولذا لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل ثمّ لم يتمكن من الاتيان بذيها لمانع من الموانع ، استحقّ الثواب عليها بلا إشكال ، وهذا دليل على أنّ الاتيان بها بنفسه منشأ للثواب وموجب له.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١٠.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٥١.

٢٣١

[ منشأ عباديّة الطهارات الثلاث ]

ثمّ إنّه قد يشكل في الطهارات الثلاث من وجهين :

الأوّل : أنّه لا شبهة في استحقاق الآتي بها الثواب مع أنّ الأمر المتعلق بها غيري ولا يترتب على امتثاله ثواب ، كما أنّه لا عقاب على تركه. والجواب عنه قد ظهر ممّا تقدّم.

الثاني : أنّه لا ريب في عبادية الطهارات الثلاث ولزوم الاتيان بها بقصد التقرب وإلاّ لم تقع صحيحة ، ومن هنا لا تكون حالها حال بقية المقدمات في كون مطلق وجودها في الخارج مقدمة ، وإنّما الاشكال والكلام في منشأ عباديتها ، ولا يمكن أن يكون منشؤها الأوامر الغيرية المتعلقة بها ، ضرورة أنّ تلك الأوامر أوامر توصلية لا تقتضي عبادية متعلقاتها ، أضف إلى ذلك : أنّ الأمر الغيري إنّما يتعلق بما يتوقف عليه الواجب ، والمفروض أنّ الطهارات الثلاث بعنوان كونها عبادة كذلك ، وعليه فالأمر الغيري المتعلق بها بطبيعة الحال يتعلق بعنوان أنّها عبادة ، ومعه كيف يعقل أن يكون منشأ لعباديتها.

وأجاب عن هذا الوجه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأنّ منشأ عباديتها إنّما هو الأمر النفسي الاستحبابي المتعلق بذواتها ، فإذن لا إشكال من هذه الناحية.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١١.

٢٣٢

ولكن أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) بوجوه :

الأوّل : أنّ ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره لو تمّ فانّما يتم في خصوص الوضوء والغسل حيث ثبت استحبابهما شرعاً ، وأمّا التيمم فلا دليل على استحبابه في نفسه. فإذن يبقى الاشكال بالاضافة إليه بحاله.

وفيه : أنّه يمكن استفادة استحباب التيمم من قوله عليه‌السلام « التراب أحد الطهورين » (٢) بضميمة ما دلّ من الاطلاقات على استحباب الطهور في نفسه. فالنتيجة : أنّ التيمم بما أنّه طهور فهو مستحب بمقتضى تلك الاطلاقات.

الثاني : أنّ الطهارات الثلاث بما أنّها مقدمة متّصفة بالوجوب الغيري فعلاً ، ومعه لا يمكن بقاء الأمر النفسي المتعلق بها بحاله ، لوجود المضادة بينهما ، فلا بدّ عندئذ من الالتزام باندكاكه في ضمن الوجوب ، فإذن كيف يمكن أن يكون منشأ لعباديتها.

وفيه : أنّ حال هذا المورد حال غيره من موارد الاستحباب التي عرض عليها الوجوب من ناحية نذر أو شبهه ، فكما أنّ في تلك الموارد يندكّ الأمر الاستحبابي في ضمن الأمر الوجوبي فيتحصل من ذلك أمر واحد وجوبي مؤكد [ فكذلك المقام ] ويكون ذلك الأمر الواحد أمراً عبادياً ، لأنّ كلاً منهما يكتسب من الآخر صفة بعد عدم إمكان بقاء كل منهما بحدّه الخاص. على أنّه يكفي في عباديتها محبوبيتها في أنفسها وإن لم يبق أمرها الاستحبابي باطاره الخاص. أضف إلى ذلك : أنّه لا اندكاك ولا تبدل في البين على ضوء نظريتنا من أنّه لا فرق بين الوجوب والاستحباب إلاّفي جواز الترك وعدم جوازه ،

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٨١ / أبواب التيمم ب ٢١ ح ١ ، ولكن فيه : « فإنّ التيمّم أحد الطهورين ».

٢٣٣

وعليه فعند عروض الوجوب يتبدل الجواز بعدمه.

وإن شئت قلت : إنّ الأمر الغيري إن تعلق بها بداعي أمرها الاستحبابي ، كان متعلق أحدهما غير ما تعلق به الآخر ، وإن تعلق بذواتها ، فعندئذ وإن كان متعلقهما واحداً إلاّ أنّك عرفت أنّه لا تنافي بينهما ولا يوجب زوال الاستحباب بالمرة.

الثالث : أنّ الأمر النفسي الاستحبابي المتعلق بها كثيراً ما يكون مغفولاً عنه ولا سيّما للعامي ، بل ربّما يكون الشخص معتقداً عدمه باجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك ، ومع هذا يكون الاتيان بها بداعي التوصل بأمرها الغيري صحيحاً ، فلو كان منشأ عباديتها ذلك الأمر النفسي لم تقع صحيحة.

وقد أجاب في الكفاية (١) عن هذا الاشكال : بأنّ الأمر الغيري لا يدعو إلاّ إلى ما هو المقدمة ، والمفروض في المقام أنّ ما هو المقدمة عبارة عن الطهارات الثلاث المأمور بها بالأمر النفسي ، فيكون قصد امتثال هذا الأمر النفسي حاصلاً ضمناً عند قصد امتثال الأمر الغيري وإن لم يلتفت المكلف إلى هذا الأمر تفصيلاً فضلاً عن قصده.

وفيه : أنّ ما أفاده قدس‌سره من الجواب غير تام ، والسبب في ذلك هو أنّ قصد الأمر النفسي لو كان مقوّماً للمقدمية لم يعقل تحققها مع الغفلة عنه رأساً ، مع أنّه لا شبهة في تحقق الطهارات الثلاث مع القطع بعدم الأمر النفسي لها. على أنّ لازم ذلك هو الحكم بصحة صلاة الظهر إذا أتى المكلف بها بقصد أمرها الغيري ومقدمةً لصلاة العصر مع الغفلة عن وجوبها في نفسه ، وهو ضروري الفساد.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١١١.

٢٣٤

فالنتيجة : أنّه لا يمكن التفصي عن هذا الاشكال بناءً على حصر عبادية الطهارات الثلاث بأوامرها النفسية ، بل إنّ لازم ذلك هو بطلان صلاة من يعتقد بعدم استحباب الوضوء في نفسه ، فإنّه إذا كان معتقداً بعدم استحبابه امتنع قصد امتثاله ولو ضمناً وارتكازاً ، وبدونه يقع الوضوء باطلاً فتبطل الصلاة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أجاب عن أصل الاشكال ، وحاصل ما أفاده قدس‌سره هو أنّه لا وجه لحصر منشأ عبادية الطهارات الثلاث في الأمر الغيري والأمر النفسي الاستحبابي ليرد الاشكال على كل منهما ، بل هناك منشأ ثالث وهو الموجب لعباديتها ، بيان ذلك : أنّ الأمر النفسي المتعلق بالصلاة مثلاً كما ينحل إلى أجزائها فيتعلق بكل جزء منها أمر نفسي ضمني وهو الموجب لعباديته فلا يسقط إلاّبقصد التقرب به ، فكذلك ينحل إلى شرائطها وقيودها ، فيتعلق بكل شرط منها أمر نفسي ضمني وهو الموجب لعباديته. فالنتيجة أنّ الموجب للعبادية في الأجزاء والشرائط واحد.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ لازم ذلك هو القول بعبادية الشرائط مطلقاً من دون فرق بين الطهارات الثلاث وغيرها ، لفرض أنّ الأمر النفسي تعلق بالجميع على نحو واحد ، فإذن ما هو الفارق بينها وبين غيرها من الشرائط. وأجاب عن ذلك : بأنّ الفارق بينهما هو أنّ الغرض من الطهارات الثلاث ـ وهو رفع الحدث ـ لايحصل إلاّ إذا أتى المكلف بها بقصد القربة دون غيرها من الشرائط ، ولا مانع من اختلاف الشرائط في هذه الناحية ، بل لا مانع من اختلاف الأجزاء كذلك في مرحلة الثبوت وإن لم يتفق ذلك في مرحلة الاثبات.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٥٥.

٢٣٥

ولنأخذ بالنقد عليه وهو ما ذكرناه في أوّل بحث مقدمة الواجب ، وحاصله : هو أنّ الأمر النفسي المتعلق بالصلاة مثلاً إنّما تعلق بأجزائها وتقيدها بشرائطها ، وأمّا نفس الشرائط والقيود فهي خارجة عن متعلق الأمر وإلاّ لم يبق فرق بين الجزء والشرط أصلاً. وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ الشرائط خارجة عن متعلق الأمر ، ولذا قد يكون الشرط غير اختياري. على أنّها لو كانت داخلة في متعلقه فكيف تتصف بالوجوب الغيري ، وقد تقدّم أنّه لا مقتضي لاتصاف المقدمات الداخلية بالوجوب الغيري ، فما أفاده قدس‌سره من التحقيق خاطئ جدّاً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

والصحيح في المقام أن يقال : إنّ منشأ عبادية الطهارات الثلاث أحد أمرين على سبيل منع الخلو :

أحدهما : قصد امتثال الأمر النفسي المتعلق بها مع غفلة المكلف عن كونها مقدمة لواجب أو مع بنائه على عدم الاتيان به ، كاغتسال الجنب مثلاً مع غفلته عن إتيان الصلاة بعده أو مع قصده عدم الاتيان بها ، وهذا يتوقف على وجود الأمر النفسي ، وقد عرفت أنّه موجود.

وثانيهما : قصد التوصل بها إلى الواجب ، فانّه أيضاً موجب لوقوع المقدمة عبادة ولو لم نقل بوجوبها شرعاً ، لما عرفت في بحث التعبدي والتوصلي من أنّه يكفي في تحقق قصد القربة إتيان الفعل مضافاً به إلى المولى وإن لم يكن أمر في البين. وعليه فالآتي بالطهارات الثلاث بقصد التوصّل بها إلى الصلاة أو نحوها ، فقد أوجد المقدمة في الخارج وإن لم يكن ملتفتاً إلى الأمر النفسي المتعلق بها وقاصداً لامتثاله ، كما أنّ الآتي بها بقصد أمرها النفسي موجد للمقدمة وإن لم يكن ملتفتاً إلى المقدمية. وقد تحصل من ذلك : أنّ لزوم الاتيان بالطهارات الثلاث عبادة لم ينشأ من ناحية أمرها الغيري ، بل من ناحية كون المقدمة

٢٣٦

عبادة ، سواء فيه القول بوجوب المقدمة والقول بعدم وجوبها.

وبكلمة اخرى : أنّ مقدمية الطهارات الثلاث تنحل إلى ذوات الأفعال وقصد التقرب بها ، فإذا جاء المكلف بالأفعال في الخارج ولم يقصد بها التقرب إلى المولى فلم يوجد المقدمة خارجاً ، فلا تصح عندئذ العبادة المشروطة بها ، وأمّا إذا قصد بها التقرب ـ سواء أكان من ناحية قصد الأمر النفسي المتعلق بها ، أو من ناحية قصد التوصل بها إلى الواجب ـ فالمقدمة قد وجدت في الخارج ، ومعه تصحّ العبادة المشروطة بها ، ولا يفرق في ذلك بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدمه. فالنتيجة : أنّ الأمر الغيري لا يعقل أن يكون منشأ لعباديتها.

وقد ظهر ممّا ذكرناه أمران :

الأوّل : أنّه لا إشكال في صحة الاتيان بالوضوء والغسل بداعي أمرهما النفسي ومحبوبيتهما كذلك ، أو بداعي التوصل إلى الواجب النفسي قبل الوقت ، لما عرفت من أنّ إتيانهما كذلك لا يتوقف على عروض الوجوب الغيري عليهما ، كما أنّه لا إشكال في الاكتفاء بهما بعد دخول الوقت ، لفرض أنّ المقدمة ـ وهي الوضوء والغسل العباديان ـ قد تحققت. وكذا لا إشكال في صحة التيمم بداعي أمره النفسي قبل دخول الوقت والاكتفاء به بعده إذا بقي موضوعه وهو عدم وجدان الماء ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه لا شبهة في صحة الاتيان بها ـ أي الطهارات الثلاث ـ بقصد التوصل إلى الواجب بعد الوقت ، وإنّما الكلام في صحة الاتيان بها بعده بقصد أمرها الاستحبابي ، لما قد يتوهم من اتصافها بالوجوب الغيري بعد دخول الوقت ، ولازمه اندكاك الأمر الاستحبابي النفسي في ضمن الأمر الوجوبي الغيري وعدم بقائه حتّى يكون داعياً للاتيان بها.

٢٣٧

وأجاب عن ذلك السيِّد الطباطبائي قدس‌سره في عروته (١) بأ نّه لا مانع من اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النفسي في شيء واحد من جهتين بناءً على ما اختاره قدس‌سره من جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد من جهتين ، وبما أنّ في المقام الجهة متعددة ، فان جهة الوجوب الغيري وهي المقدمية غير جهة الاستحباب النفسي ـ وهي ذوات الأفعال ـ وعليه فلا مانع من اجتماعهما ، ولا يوجب ذلك اندكاك الاستحباب في الوجوب.

وغير خفي أن تعدد الجهة إنّما يجدى في جواز اجتماع الأمر والنهي إذا كانت الجهة تقييدية ، وأمّا إذا كانت تعليلية كما في المقام فلا أثر لتعددها أصلاً.

والصحيح في الجواب : هو ما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة من أنّ عروض الوجوب الغيري على ما كان مستحباً في نفسه بناءً على نظريتنا لا يوجب اندكاك الاستحباب وتبدله بالوجوب ، بل هو باق على محبوبيته وملاكه الكامنين في الفعل ، وإنّما يرفع حدّه ـ وهو الترخيص في الترك ـ وعليه فإذا أتى المكلف بها بداعي المحبوبية فقد تحققت العبادة.

الثاني : أنّ المكلف إذا جاء بالطهارات الثلاث بداعي التوصل إلى الواجب النفسي وكان غافلاً عن محبوبيتها النفسية ثمّ بدا له في الاتيان بذلك الواجب ، فهل تقع الطهارات عندئذ عبادة؟ فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ذلك لا يكون مانعاً عن وقوعها عبادة ، أمّا بناءً على وجوب المقدمة مطلقاً فواضح ، وأمّا بناءً على عدم وجوبها كذلك كما هو المختار أو بناءً على وجوب خصوص المقدمة الموصلة ، فهي وإن لم تتصف بالوجوب الغيري إلاّ أنّك عرفت أنّ وقوعها عبادة لا يتوقف على وجوبها الغيري حيث يكفي في ذلك الاتيان بها بداعي التوصل

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ١٦٩ المسألة [٥٧٢].

٢٣٨

أو بداعي الأمر الاستحبابي النفسي ، والمفروض في المقام هو أنّ المكلف قد أتى بها بداعي التوصل.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : أنّ منشأ عبادية الطهارات الثلاث أحد أمرين على سبيل منع الخلو :

١ ـ قصد امتثال الأمر الاستحبابي النفسي.

٢ ـ قصد التوصل بها إلى الواجب النفسي ، ولا صلة للأمر الغيري بعباديتها أصلاً.

٢٣٩

الأقوال حول وجوب المقدّمة

لا شبهة في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط بناءً على ثبوت الملازمة بينهما ، فلو كان وجوب ذيها مطلقاً لكان وجوب مقدمته أيضاً كذلك. وإن كان مشروطاً كان وجوبها كذلك ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه بناءً على الملازمة المزبورة هل الواجب مطلق المقدمة ، أو خصوص حصة خاصة منها؟ وعلى الثاني اختلفوا في اعتبار الخصوصية فيها على أقوال :

أحدها : ما عن صاحب المعالم قدس‌سره (١) من اشتراط وجوب المقدمة بالعزم والارادة على إتيان ذيها.

وثانيها : ما نسب إلى شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٢) من أنّ الواجب هو المقدمة التي قصد بها التوصل إلى الواجب ، والفرق بين هذا القول والقول الأوّل في نقطة واحدة ، وهي أنّ القصد على القول الأوّل قيد للوجوب ، وعلى هذا القول قيد للواجب.

وثالثها : ما عن صاحب الفصول قدس‌سره (٣) من أنّ الواجب هو خصوص المقدمة الموصلة دون غيرها. وبعد ذلك نتكلم حول تلك الأقوال.

__________________

(١) معالم الدين : ٧١.

(٢) مطارح الأنظار : ٧٢.

(٣) الفصول الغرويّة : ٨٦ ، التنبيه الأوّل.

٢٤٠