محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

وذلك كالنهي عن شرب الخمر مثلاً ، فإنّه بمقتضى إطلاقه يدل على حرمة شرب كل فرد من أفراده الطولية والعرضية على اختلافها وتفاوتها من ناحية الملاك شدّة وضعفاً. وكالنهي عن قتل النفس المحترمة ، فان قضية إطلاقه ثبوت الحرمة لقتل كل نفس محترمة مع تفاوتها من حيث الملاك ، لوضوح أنّ ملاك حرمة قتل نفس النبي أو الوصي أشدّ بمراتب من ملاك حرمة قتل نفس غيرهما ، وهكذا.

وكالنهي عن الكذب ، فانّه يدل على حرمة تمام أفراده مع تفاوتها بتفاوت الملاك شدّة وضعفاً ، فانّ الكذب على الله أو رسوله أشد من الكذب على غيرهما. وكالنهي عن الزنا ، فانّ الزنا بالمحارم أشد من الزنا بغيرها ، وهكذا ، فالنتيجة : أن مفاد الاطلاق الشمولي ثبوت الحكم لتمام الأفراد بشتى أشكالها وألوانها على نسبة واحدة ، ولا أثر لتفاوت الأفراد في الملاك شدّة وضعفاً من هذه الناحية أصلاً.

وهذا بخلاف الاطلاق البدلي ، فان ثبوته يتوقف على مقدمة اخرى زائدة على المقدمات المذكورة ، وهي إحراز تساوي أفراده من الخارج في الوفاء بالغرض ، ومن الطبيعي أنّه لا يمكن إحراز ذلك مع وجود العام الشمولي على خلافه ، حيث إنّه يكون صالحاً لبيان التعيين في بعض الأفراد وأشدية الملاك فيه ، ومعه لا ينعقد الاطلاق البدلي.

والجواب عنه : أنّ إحراز التساوي في الوفاء بالغرض ليس مقدمة رابعة في قبال المقدمات الثلاث المتقدمة لكي يتوقف الاطلاق عليها ، ضرورة أنّه يتحقق بنفس تلك المقدمات من دون حاجة إلى شيء آخر ، ومن المعلوم أنّه إذا تحقق فهو بنفسه كاف لاثبات التساوي في ذلك بلا حاجة إلى دليل آخر. وبكلمة اخرى : إذا كان الحكم ثابتاً على الطبيعة على نحو صرف الوجود من دون

١٦١

ملاحظة وجود خاص ، وكان المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينة على الخلاف ، فبطبيعة الحال كان إطلاق كلامه قرينة على تساوي أفرادها في الوفاء بالملاك والغرض ، إذ لو كان بعض أفرادها أشدّ ملاكاً من غيره ومشتملاً على خصوصية زائدة لكان على المولى البيان ، فمن عدم بيانه نستكشف عدم الفرق وعدم التفاوت بينها في ذلك. وممّا يدلّنا على هذا : أنّ المكلف لو شكّ في صلاحية فرد في الوفاء بغرض المولى تمسك بالاطلاق لاثبات ذلك ، فإذن الاطلاقان متكافئان ومتعارضان فلا وجه لتقديم الشمولي على البدلي.

الثالث : أنّ حجية الاطلاق البدلي بالاضافة إلى جميع الأفراد تتوقف على أن لا يكون هناك مانع عن انطباقه على بعضها دون بعضها الآخر ، بداهة أنّه لو كان هناك مانع عن ذلك فلا بدّ من رفع اليد عنه وتقييده بغيره ، ومن المعلوم أنّ الاطلاق الشمولي في مورد التصادق والاجتماع صالح لأن يكون مانعاً منه ، فلو توقف عدم صلاحيته للمانعية على وجود الاطلاق البدلي وانطباقه على ذلك لزم الدور ، فالنتيجة : أنّ المطلق الشمولي صالح لأن يكون مانعاً عن المطلق البدلي في مورد المعارضة والاجتماع ، دون العكس.

والجواب عنه : قد ظهر مما تقدّم وحاصله : هو أنّ ثبوت الاطلاق في كليهما يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة كما عرفت ، ولا مزية لأحدهما على الآخر من هذه الناحية أصلاً ، هذا من جانب. ومن جانب آخر : أنّ حجية إطلاق المطلق فعلاً والتمسك به كذلك في مورد تتوقف على عدم وجود معارض له ، ولا فرق من هذه الناحية بين الاطلاق البدلي والشمولي ، بداهة كما أنّ حجية الأوّل في مورد تتوقف على عدم وجود مانع ومعارض له ، كذلك حجية الثاني. فما أفاده قدس‌سره من أنّ حجية الاطلاق البدلي تتوقف على عدم وجود مانع ، إن أراد به توقفها على مقدمة زائدة على مقدمات الحكمة فقد عرفت

١٦٢

خطأها.

وإن أراد به توقفها على عدم وجود معارض ، فحجية الاطلاق الشمولي أيضاً كذلك ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً. فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين : هي أنّ في مورد اجتماع الاطلاقين وتصادقهما كما أنّ الشمولي صالح لأن يكون مانعاً عن البدلي ومقيداً له بغير ذلك المورد ، كذلك البدلي صالح لأن يكون مانعاً عن الشمولي ومخصصاً له فلا ترجيح لأحدهما على الآخر أصلاً. ومن هنا يظهر أنّ هذا الوجه في الحقيقة ليس وجهاً آخر في قبال الوجه الثاني ، بل هو تقريب له بعبارة اخرى.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي أنّ الكبرى المتقدمة أي تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي غير تامة ولا دليل عليها.

ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا الكبرى المذكورة ، وهي تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي ، إلاّ أنّ المقام ليس من صغرياتها ، والسبب في ذلك هو أنّ تقديم الاطلاق الشمولي على البدلي في مورد الاجتماع والتصادق إنّما هو فيما إذا كان التنافي والتكاذب بينهما بالذات بحيث لا يمكن كشفهما معاً عن مراد المولى في مرحلة الاثبات ، فعندئذ يمكن أن يقال بتقديمه عليه بأحد الوجوه المتقدمة.

وإن شئت قلت : إنّ التنافي بين الاطلاقين إذا كان بالذات في مقام الاثبات فبطبيعة الحال يكشف عن التنافي بينهما في مقام الثبوت بقانون التبعية ، وعليه فلا بدّ من تقديم ما هو الأقوى والأرجح على الآخر ، وهذا بخلاف محل الكلام هنا فانّه لا تعارض ولا تكاذب بين الاطلاقين بالذات أصلاً ، بداهة أنّه لا مانع من أن يكون كل من الهيئة والمادة مطلقاً من دون أيّة منافاة بينهما ، والمنافاة إنّما جاءت من الخارج وهو العلم الاجمالي برجوع القيد إلى إحداهما ، ومن الطبيعي أنّ هذا العلم الاجمالي لا يوجب تقديم ما هو أقوى دلالة وظهوراً على غيره ،

١٦٣

كيف حيث إنّ نسبته إلى كل واحدة منهما على حد سواء ، فلا توجب أقوائية إطلاق إحداهما ليقدّم على الاخرى كما هو واضح.

وبكلمة اخرى : أنّ العلم الاجمالي تعلق برجوع القيد إلى إحداهما ، ومن البديهي أنّ كون إطلاق الهيئة شمولياً وإطلاق المادة بدلياً لا يوجب ذلك رجوع القيد إلى الثاني دون الأوّل ، لأنّ إحدى الحيثيتين تباين الاخرى ، فانّ الجمع العرفي بينهما بتقديم الشمولي على البدلي إنّما هو فيما إذا كانت المعارضة بينهما ذاتاً وحقيقة ، وأمّا إذا لم تكن كذلك كما هو المفروض في المقام ، فمجرد العلم الاجمالي برجوع القيد من الخارج إلى أحدهما لا يوجب تعين رجوعه إلى البدلي ، لعدم الموجب لذلك أصلاً لا عرفاً ولا عقلاً ، بل لو افترضنا حصول العلم الاجمالي بعروض التقييد من الخارج لأحد دليلي الحاكم أو المحكوم لم توجب أقوائية دليل الحاكم لارجاع القيد إلى دليل المحكوم ، وهذا لعلّه من الواضحات الأوّلية.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : أنّه حيث لا تنافي بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة بالذات والحقيقة ، بل هو من ناحية العلم الخارجي بعروض التقييد على أحدهما ، فلا وجه لتقديم إطلاق الهيئة على المادة وإن فرض أنّه بالوضع فضلاً عمّا إذا كان بمقدمات الحكمة ، وعليه فإذا كان التقييد المزبور بدليل متصل فأوجب العلم الاجمالي الاجمال وعدم انعقاد أصل الظهور لفرض احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، وإذا كان بدليل منفصل فأوجب سقوط الاطلاقين عن الاعتبار.

وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه : أنّ ما أفاده قدس‌سره خاطئ صغرى وكبرى.

الوجه الثاني الذي أفاده قدس‌سره لاثبات ما يدعيه من رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة ، فحاصله : أنّ القيد لو عاد إلى الهيئة فهو كما يوجب رفع

١٦٤

اليد عن إطلاقها فكذلك يوجب رفع اليد عن إطلاق المادة ، بمعنى أنّها لا تقع على صفة المطلوبية بدونه ، لفرض عدم الوجوب قبل وجوده ، ومعه لا تكون مصداقاً للواجب. مثلاً لو افترضنا أنّ وجوب إكرام زيد مقيد بمجيئه يوم الجمعة ، فهذا بطبيعة الحال يستلزم تقييد الواجب أيضاً ـ وهو الاكرام ـ يعني أنّه يدل على أنّ المطلوب ليس هو طبيعي الاكرام على الاطلاق ، بل هو حصة خاصة منه وهي الحصة الواقعة في يوم الجمعة.

مثلاً الاستطاعة قيد لوجوب الحج ، وهي تدل على تقييد الواجب أيضاً ، بمعنى أنّه ليس هو طبيعي الحج على نحو السعة والاطلاق ، بل هو حصة منه وهي الواقعة بعدها ، وهذا بخلاف ما إذا رجع القيد إلى المادة دون الهيئة ، فانّه لا يلزم منه رفع اليد عن الاطلاق في طرف الهيئة أصلاً ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّه لا شبهة في أنّ في كل مورد إذا دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق واحد ورفع اليد عن إطلاقين تعيّن رفع اليد عن الأوّل ، فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي تعيّن رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.

ولكن ناقش في ذلك المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره فيما إذا كان التقييد بمتصل دون ما إذا كان بمنفصل ، يعني أنّه قدس‌سره سلّم ما جاء الشيخ قدس‌سره به في الثاني دون الأوّل ، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه : وأمّا في الثاني فلأنّ التقييد وإن كان خلاف الأصل ، إلاّ أنّ العمل الذي يوجب عدم جريان مقدمات الحكمة وانتفاء بعض مقدماتها ، لايكون على خلاف الأصل أصلاً ، إذ معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل. وبالجملة لا معنى لكون التقييد خلاف الأصل إلاّكونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببركة مقدمات الحكمة ، ومع انتفاء المقدمات لايكاد ينعقد له هناك ظهور ، كان ذاك العمل المشارك مع التقييد

١٦٥

في الأثر وبطلان العمل باطلاق المطلق ، مشاركاً معه في خلاف الأصل أيضاً. وكأ نّه توهم أنّ إطلاق المطلق كعموم العام ثابت ، ورفع اليد عن العمل به تارةً لأجل التقييد ، واخرى بالعمل المبطل للعمل به ، وهو فاسد ، لأنّه لايكون إطلاق إلاّ فيما جرت هناك المقدمات. نعم ، إذا كان التقييد بمنفصل ودار الأمر بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة ، كان لهذا التوهم مجال ، حيث انعقد للمطلق إطلاق وقد استقرّ له ظهور ولو بقرينة الحكمة ، فتأمّل (١).

وأمّا شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) فقد وافق شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره في القرينة المتصلة والمنفصلة.

أمّا في المتصلة : فقد ذكر قدس‌سره أنّ الواجب فيها إرجاع القيد إلى نفس المادة لسببين :

الأوّل : أنّ رجوع القيد إلى المادة ولو كان ذلك في ضمن رجوعه إلى المادة ، بما أنّها منتسبة ومعروضة للنسبة الطلبية متيقن على كل حال ، وإنّما الشك في رجوعه إليها بعد الانتساب ، وبما أنّه يحتاج إلى بيان زائد من ذكر نفس القيد ، فالشك فيه يدفع بالاطلاق. ومن ذلك يظهر أنّ ما نحن فيه ليس من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح كونه قرينة ، بداهة أنّه إنّما يكون كذلك فيما إذا لم يكن التقييد محتاجاً إلى مؤونة اخرى مدفوعة بالاطلاق ، كما في موارد إجمال القيد مفهوماً ، وموارد تعقب الجمل المتعددة بالاستثناء ونحو ذلك. وأمّا فيما نحن فيه ، فحيث إنّ القدر المتيقن موجود في البين ، والمفروض أنّ احتمال رجوع القيد إلى المادة المنتسبة مدفوع بالاطلاق ، فلا يمكن للمولى أن يكتفي بما ذكره من القيد ، لو كان مراده تقييد المادة المنتسبة دون غيرها.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٣٦.

١٦٦

الثاني : أنّ القيد إذا كان راجعاً إلى المادة بعد الانتساب ، فلا بدّ أن يؤخذ مفروض الوجود كما هو شأن كل واجب مشروط بالاضافة إلى شرطه ، وبما أنّ أخذ القيد مفروض الوجود في مقام الجعل والاعتبار يحتاج إلى عناية زائدة على ذكر ذات القيد ، والمفروض عدمها ، فبطبيعة الحال احتمال أخذه كذلك يدفع باطلاق القيد ، وأ نّه لم يلحظ كذلك ، ومن هنا يظهر الفرق بين هذا الوجه والوجه الأوّل ، وهو أنّ احتمال رجوع القيد إلى مفاد الهيئة في الأوّل يدفع باطلاق المادة المنتسبة وفي الثاني باطلاق القيد.

وأمّا في المنفصلة : فلا يخلو الأمر من أن تكون القرينة المزبورة لفظية أو لبّية ، أمّا إذا كانت لفظية ، فحالها حال المتصلة ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، بل الأمر فيها أوضح ، لعدم جريان شبهة احتفاف الكلام بما يمكن أن يكون قرينة فيها ، لأنّ المفروض انعقاد الظهور. وأمّا إذا كانت لبّية فيجري فيه الوجهان المذكوران لدفع الشك في رجوع القيد إلى المادة المنتسبة باطلاق المادة أو إطلاق القيد. وقد تحصّل ممّا ذكرناه : أنّه إذا شكّ في رجوع القيد إلى الواجب أو الوجوب فالاطلاق يقتضي رجوعه إلى الواجب.

التحقيق في المقام أن يقال : إنّ القيد إذا كان قيداً للهيئة واقعاً ، فمردّه إلى أخذه مفروض الوجود في مقام الجعل والاعتبار ، من دون فرق في ذلك بين كون القيد اختيارياً أو غير اختياري ، وإذا كان قيداً للمادة واقعاً فمردّه إلى اعتبار تقيد المادة به في مقام الجعل والانشاء ، من دون فرق في ذلك أيضاً بين كون القيد اختيارياً أو غير اختياري. غاية الأمر إذا كان غير اختياري فلا بدّ من أخذه مفروض الوجود ، وذلك لما تقدّم من أنّ كون القيد غير اختياري لا يستلزم كون الفعل المقيّد به أيضاً كذلك ، ضرورة أنّ القدرة عليه لا تتوقف على القدرة على قيده ، فانّ الصلاة المتقيدة إلى القبلة مثلاً مقدورة مع أنّ قيدها

١٦٧

ـ وهو وجود القبلة ـ غير مقدور.

فالنتيجة : أنّ تقييد كل من الهيئة والمادة مشتمل على خصوصية مباينة لما اشتمل عليه الآخر من الخصوصية ، فانّ تقييد الهيئة مستلزم لأخذ القيد مفروض الوجود ، وتقييد المادة مستلزم لكون التقيد به مطلوباً للمولى ، وعلى ضوء هذا الأساس فليس في البين قدر متيقن لنأخذ به وندفع الزائد بالاطلاق.

وبكلمة اخرى : قد سبق في ضمن البحوث السالفة أنّ معنى الاطلاق هو رفض القيود عن شيء وعدم ملاحظتها معه لا وجوداً ولا عدماً ، وعلى ذلك فمعنى إطلاق الهيئة عدم اقتران مفادها عند اعتباره بوجود قيد ولا بعدمه. وفي مقابله تقييده بقيد ، فانّ مرده إلى أنّ المجعول في طرفها هو حصة خاصة من الوجوب ـ وهي الحصة المقيدة بهذا القيد ـ ومعنى إطلاق المادة هو أنّ الواجب ذات المادة من دون ملاحظة دخل قيد من القيود في مرتبة موضوعيتها للحكم ، وفي مقابله تقييدها بخصوصية ما ، فانّ مفاده هو أنّ المولى جعل حصة خاصة منها موضوعاً للحكم ومتعلقاً له ـ وهي الحصة المقيدة بهذه الخصوصية ـ.

ومن هنا يظهر أنّ النسبة بين تقييد المادة وتقييد الهيئة عموم من وجه ، فيمكن أن يكون شيء قيداً لمفاد الهيئة دون المادة ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ القيام مثلاً قيد لوجوب الصلاة دونها ، فعندئذ جاز الاتيان بالصلاة جالساً بعد تحقق القيام ، بل لا مانع من تصريح المولى بذلك بقوله : إذا قمت فصلّ قاعداً ، وكالاستطاعة فانّها قيد لوجوب الحج دون الواجب ، ومن هنا لو استطاع شخص ووجب الحج عليه ولكنّه بعد ذلك أزال الاستطاعة باختياره فحج متسكعاً صحّ حجّه وبرئت ذمته ، فلو كانت الاستطاعة قيداً لنفس الحج أيضاً لم يصح جزماً لفرض انتفاء قيده ، ومن هذا القبيل ما نسب إلى بعض من أنّ السفر قيد للوجوب دون الواجب ، فلو كان المكلف مسافراً في أوّل الوقت ثمّ

١٦٨

حضر وجب عليه القصر دون التمام. فالنتيجة أنّه لا ملازمة بين كون شيء قيداً للوجوب وكونه قيداً للواجب أيضاً. وعلى الجملة : فقد يكون الشيء قيداً للهيئة دون المادة كما عرفت.

وقد يكون قيداً للمادة دون الهيئة ، وذلك كاستقبال القبلة وطهارة البدن واللباس وما شاكل ذلك ، فانّها بأجمعها تكون قيداً للمادة ـ وهي الصلاة ـ دون وجوبها ، وقد يكون قيداً لهما معاً ، وذلك كالوقت الخاص بالاضافة إلى الصلاة مثلاً ، كزوال الشمس وغروبها وطلوع الفجر ، فان هذه الأوقات من ناحية كونها شرطاً لصحة الصلاة فهي قيد لها ، ومن ناحية أنّها ما لم تتحقق لا يكون الوجوب فعلياً فهي قيد له.

وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر : أنّ القيد المردد بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة ، إن كان متصلاً فهو مانع عن أصل انعقاد الظهور ، لفرض احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، لوضوح أنّ القيد المزبور على أساس ما حققناه صالح لأن يكون قرينة على تقييد كل منهما ، ومعه لا ينعقد الظهور لهما جزماً ، فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ المقام غير داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، يقوم على أساس ما ذكره من وجود القدر المتيقن في البين ، وهو تقييد المادة والرجوع في الزائد إلى الاطلاق.

ولكن قد تقدّم خطأ ذلك ، وعرفتم أنّ رجوع القيد إلى المادة يباين رجوعه إلى الهيئة ، فليس الأوّل متيقناً ، فإذن لا مناص من القول بالاجمال ودخول المقام في تلك الكبرى. وأمّا ما أفاده قدس‌سره من أنّ رجوع القيد إلى المادة ولو كان ذلك في ضمن رجوعه إلى المادة المنتسبة متيقن ، فهو خاطئ جداً ، وذلك لأنّ المراد من المادة المنتسبة هي المادة المتصفة بالوجوب ، والمراد من تقييدها تقييد اتصافها به ، ومن الواضح أنّ هذا عبارة اخرى عن تقييد مفاد

١٦٩

الهيئة فلا يكون في مقابله ولا مغايرة بينهما إلاّباللفظ ، وقد سبق أنّ رجوع القيد إلى المادة يباين رجوعه إلى الهيئة ، فلا متيقن في البين.

وإن شئت فقل : إنّ المتيقن إنّما هو رجوع القيد إلى ذات المادة الجامعة بين رجوعه إليها قبل الانتساب ورجوعه إليها بعد الانتساب ، وأمّا رجوعه إليها قبل الانتساب فهو كرجوعه إليها بعده مشكوك فيه وليس شيء منهما معلوماً.

فما أفاده قدس‌سره مبني على عدم تحليل معنى تقييد المادة في مقابل تقييد الهيئة وما هو محل النزاع هنا ، هذا في التقييد بالمتصل.

وأمّا إذا كان منفصلاً ، فظهور كل منهما في الاطلاق وإن انعقد ، إلاّ أنّ العلم الاجمالي بعروض التقييد على أحدهما أوجب سقوط كليهما عن الاعتبار فلا يمكن التمسك بشيء منهما ، وذلك لما عرفت من أنّ معنى تقييد المادة مطابقة هو أنّ الواجب حصة خاصة منها في مقابل إطلاقها ، ومعنى تقييد الهيئة كذلك هو أنّ الوجوب حصة خاصة منه في مقابل إطلاقها ، والمدلول الالتزامي للمعنى الأوّل هو تعلق الوجوب بتقيد المادة به ، والمدلول الالتزامي للثاني هو أخذه مفروض الوجود ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الحصتين المفروضتين متباينتان ، فتحتاج إرادة كل منهما إلى مؤونة زائدة وعناية أكثر ، وليست إحداهما متيقنة بالاضافة إلى الاخرى ، فالنتيجة على ضوئهما هي : أنّ المكلف إذا علم بأنّ المولى أراد بدليل منفصل إحدى الحصّتين المزبورتين دون كلتيهما معاً ، فبطبيعة الحال لايمكن التمسّك بالاطلاق ، لا لدفع كون الوجوب حصة خاصة ، ولا لدفع كون الواجب كذلك ، وكذا لا يمكن التمسك به ، لا لنفي أخذ القيد مفروض الوجود ، ولا لنفي وجوب التقيد به ، ضرورة أنّ العلم الاجمالي كما يوجب وقوع التكاذب والتنافي بين الاطلاقين من الناحية الاولى ، كذلك يوجب التكاذب والتنافي بينهما من الناحية الثانية.

١٧٠

وبكلمة اخرى : أنّ التمسك بالاطلاق كما لايمكن لنفي المدلول المطابقي للتقييد ، كذلك لا يمكن لنفي مدلوله الالتزامي ، وذلك لأنّ كلاً منهما طرف للعلم الاجمالي من دون خصوصية في ذلك لأحدهما ، وعليه فبطبيعة الحال يقع التكاذب بين الاطلاقين بالاضافة إلى كل منهما.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة وهي بطلان الدعاوي المتقدمة وعدم واقع موضوعي لشيء منها ، وأ نّها جميعاً تقوم على أساس عدم تنقيح ما هو محل النزاع في المقام ، بيان ذلك :

أمّا ما ادّعاه شيخنا الأنصاري قدس‌سره من استلزام تقييد الهيئة تقييد المادة ، فهو مبتن على أساس تخيل أنّ المراد من تقييد المادة هو عدم وقوعها على صفة المطلوبية إلاّبعد تحقق قيد الهيئة ، وقد تقدّم أنّ هذا المعنى ليس المراد من تقييدها ، بل المراد منه معنى آخر ، وقد سبق أنّه لا ملازمة بينه وبين تقييد الهيئة أصلاً.

وأمّا ما ادّعاه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في خصوص القرينة المنفصلة ، فمبني على توهم أنّ تقييد الهيئة وإن لم يستلزم تقييد المادة ، إلاّ أنّه يوجب بطلان محل الاطلاق فيها ، وهو كتقييدها في الأثر. ولكن قد ظهر ممّا ذكرناه خطأ هذا التوهم ، وأنّ تقييد الهيئة كما لا يستلزم تقييد المادة كذلك لا يوجب بطلان محل الاطلاق فيها ، وعليه فالعلم الاجمالي بوجود القرينة المنفصلة الدالة على تقييد أحدهما لا محالة يوجب سقوط كلا الاطلاقين عن الاعتبار بعد ما عرفت من عدم مزية لأحدهما على الآخر.

وأمّا ما ادّعاه شيخنا الاستاذ قدس‌سره فهو مبتن على أساس أنّ تقييد المادة متيقن وتقييد الهيئة يحتاج إلى خصوصية زائدة ومؤونة أكثر. ولكن قد تقدّم فساد ذلك ، وأنّ تقييد كل منهما يحتاج إلى خصوصية مباينة لخصوصية

١٧١

الآخر فليس في البين قدر متيقن ، ولا فرق في ذلك بين موارد القرينة المتصلة وموارد القرينة المنفصلة. نعم ، فرق بينهما في نقطة اخرى وهي : أنّ القرينة إذا كانت متصلة أوجبت إجمالهما من الأوّل ، وإذا كانت منفصلة أوجبت سقوط إطلاقهما عن الاعتبار.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة بالمعنى الذي ذكرناه ـ وهو كون التقيد تحت الطلب كغيره من الأجزاء ـ نعم ، تقييدها وإن استلزم تقييد المادة بمعنى آخر وهو عدم وقوعها على صفة المطلوبية إلاّبعد تحقق قيدها ، إلاّ أنّه غير قابل للبحث ، حيث إنّه يترتب على تقييد الهيئة قهراً ولا صلة له بمحل البحث أصلاً.

١٧٢

الواجب المعلّق

قسّم المحقق صاحب الفصول قدس‌سره (١) الواجب إلى واجب مشروط وهو ما يرجع القيد فيه إلى مفاد الهيئة ، ومطلق وهو ما يرجع القيد فيه إلى مفاد المادة ، ثمّ قسّم المطلق إلى واجب منجّز ، وهو ما كان الواجب فيه كالوجوب حالياً ، ومعلّق وهو ما كان الوجوب فيه حالياً والواجب استقبالياً يعني مقيداً بزمن متأخر. وإن شئت قلت : إنّ الواجب تارة مقيد بقيد متأخر خارج عن اختيار المكلف من زمان أو زماني ، وتارة اخرى غير مقيد بقيد كذلك ، وعلى الأوّل فالوجوب حالي والواجب استقبالي ، وعلى الثاني فكلاهما حالي ، ويمتاز هذا التقسيم عن التقسيم الأوّل في نقطة واحدة وهي أنّ التقسيم الأوّل بلحاظ الوجوب ، وهذا التقسيم بلحاظ الواجب ، وعليه فتوصيف الواجب بالمطلق والمشروط توصيف بحال الغير.

وقد أنكر هذا التقسيم شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٢) وقال بأ نّا لا نعقل للواجب ما عدا المطلق والمشروط قسماً ثالثاً يكون هو المعلّق. ولكن غير خفي أنّ إنكاره قدس‌سره للواجب المعلق يرجع في الحقيقة إلى إنكاره للواجب المشروط عند المشهور دون الواجب المعلّق عند صاحب الفصول قدس‌سره وذلك لأنّه قدس‌سره حيث يرى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وتعيّن رجوعه إلى المادة ، فبطبيعة الحال الواجب المشروط عنده ما

__________________

(١) الفصول الغروية : ٧٩.

(٢) مطارح الأنظار : ٥١ ، ٥٢.

١٧٣

يكون الوجوب فيه حالياً والواجب استقبالياً وهو بعينه الواجب المعلّق عند صاحب الفصول قدس‌سره وعليه فالنزاع بينهما لا يتجاوز عن حدود اللّفظ فحسب.

وقد أشكل عليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره بما إليك قوله : نعم ، يمكن أن يقال : إنّه لا واقع لهذا التقسيم ، لأنّه بكلا قسميه من المطلق المقابل للمشروط ، وخصوصية كونه حالياً أو استقبالياً لا توجبه ما لم توجب الاختلاف في المهم ، وإلاّ لكثر تقسيماته لكثرة الخصوصيات ولا اختلاف فيه ، فان ما رتّبه عليه من وجوب المقدمة فعلاً كما يأتي إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحاليته لا من استقبالية الواجب (١).

والظاهر أنّ التزام صاحب الفصول قدس‌سره بهذا التقسيم إنّما هو للتفصي عن الاشكال الذي اورد على وجوب الاتيان بالمقدمات قبل مجيء زمان الواجب كمقدمات الحج وما شاكلها ، وسيأتي بيانه في ضمن البحوث الآتية وما عليه من النقد إن شاء الله تعالى.

نعم ، الذي يرد عليه : هو أنّ المعلّق ليس قسماً من الواجب المطلق في مقابل المشروط بل هو قسم منه ، وذلك لما تقدّم من أنّ وجوب كل واجب لا يخلو من أن يكون مشروطاً بشيء من زمان أو زماني مقارن له أو متأخر عنه أو يكون غير مشروط به كذلك ولا ثالث لهما ، لاستحالة ارتفاع النقيضين ، وعلى الأوّل فالواجب مشروط ، وعلى الثاني مطلق ، وعلى هذا فلا بدّ من ملاحظة أن وجوب الحج مثلاً مشروط بيوم عرفة أو مطلق ، لا شبهة في أنّ ذات الفعل وهو الحج مقدور للمكلف فلا مانع من تعلق التكليف به وكذا إيقاعه في زمان

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠١.

١٧٤

خاص ـ يوم عرفة ـ وأمّا نفس وجود الزمان فهو غير مقدور له فلا يمكن وقوعه تحت التكليف ، وبما أنّ التكليف لم يتعلق بذات الفعل على الاطلاق وإنّما تعلق بايقاعه في زمن خاص ، فعلم من ذلك أنّ للزمان دخلا في ملاكه وإلاّ فلا مقتضي لأخذه في موضوعه.

وعليه فبطبيعة الحال يكون مشروطاً به ، غاية الأمر على نحو الشرط المتأخر ، ومن هنا إذا افترضنا عدم مجيء هذا الزمان الخاص وعدم تحققه في الخارج من جهة قيام الساعة ، أو افترضنا أنّ المكلف حين مجيئه خرج عن قابلية التكليف بجنون أو نحوه كشف ذلك عن عدم وجوبه من الأوّل.

فالنتيجة : أنّ هذا قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخر لا من الواجب المطلق ، فانّ المشروط بالشرط المتأخر على نوعين : قد يكون متعلق الوجوب فيه أمراً حالياً ، وقد يكون أمراً استقبالياً كالحج في يوم عرفة ، وكلاهما مشروط ، فما سمّاه في الفصول بالمعلّق هو بعينه هذا النوع الثاني من المشروط بالشرط المتأخر ، وعليه فجعله من المطلق خطأ محض ، وقد ذكرنا أنّه لا بأس بالالتزام به ثبوتاً. نعم ، وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل ، وقد أشرنا إلى أنّ ظاهر قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... ) إلخ (١) وقوله عزّ وجلّ : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ... )(٢) هو ذلك.

وقد تحصّل من ذلك : أنّه لا يرد على هذا التقسيم شيء عدا ما ذكرناه.

وكيف كان ، فقد يقال كما قيل باستحالة هذا النوع من الواجب ، واستدلّ على ذلك بعدّة وجوه :

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) البقرة ٢ : ١٨٥.

١٧٥

الأوّل : ما حكاه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره عن بعض معاصريه (١) وملخّصه : أنّ الارادة لايمكن أن تتعلق بأمر متأخر بلا فرق بين الارادة التكوينية والتشريعية ، إذ لا فرق بينهما إلاّفي أنّ الاولى تتعلق بفعل نفس المريد ، والثانية تتعلق بفعل غيره ، ومن المعلوم أنّ الايجاب والطلب بازاء الارادة المحرّكة للعضلات نحو المراد ، فكما أنّ الارادة التكوينية لا تنفك عن المراد زمناً حيث إنّها لا تنفك عن التحريك وهو لا ينفك عن الحركة خارجاً ، وإن تأخرت عنه رتبة ، فكذلك الارادة التشريعية لا تنفك عن الايجاب زمناً وهو غير منفك عن تحريك العبد في الخارج ، ولازم ذلك استحالة تعلق الايجاب بأمر استقبالي ، لاستلزامه انفكاك الايجاب عن التحريك وهو مستحيل ، وبما أنّ الالتزام بالواجب المعلّق يستلزم ذلك فلا محالة يكون محالاً.

وأجاب صاحب الكفاية قدس‌سره عن ذلك بما هو لفظه : قلت : فيه أنّ الارادة تتعلق بأمر متأخر استقبالي كما تتعلّق بأمر حالي وهو أوضح من أن يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل ، ضرورة أنّ تحمل المشاق في تحصيل المقدّمات فيما إذا كان المقصود بعيد المسافة وكثير المؤونة ، ليس إلاّلأجل تعلق إرادته به وكونه مريداً له قاصداً إيّاه لا يكاد يحمله على التحمل إلاّذلك ، ولعل الذي أوقعه في الغلط ما قرع سمعه من تعريف الارادة بالشوق المؤكد المحرّك للعضلات نحو المراد ، وتوهم أنّ تحريكها نحو المتأخر ممّا لا يكاد ، وقد غفل عن أنّ كونه محرّكاً نحوه يختلف حسب اختلافه ، في كونه ممّا لا مؤونة له كحركة نفس العضلات ، أو ممّا له مؤونة ومقدمات قليلة أو كثيرة ، فحركة العضلات تكون أعم من أن تكون بنفسها مقصودة أو مقدمة له ، والجامع أن يكون نحو المقصود ، بل مرادهم من هذا الوصف في تعريف الارادة بيان مرتبة الشوق

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٢.

١٧٦

الذي يكون هو الإرادة وإن لم يكن هناك فعلاً تحريك ، لكون المراد وما اشتاق إليه كمال الاشتياق أمراً استقبالياً غير محتاج إلى تهيئة مؤونة أو تمهيد مقدمة ، ضرورة أنّ شوقه إليه ربما يكون أشد من الشوق المحرّك فعلاً نحو أمر حالي أو استقبالي محتاج إلى ذلك. هذا مع أنّه لا يكاد يتعلق البعث إلاّبأمر متأخر عن زمان البعث ، ضرورة أنّ البعث إنّما يكون لاحداث الداعي للمكلف إلى المكلف به ، بأن يتصوره بما يترتب عليه من المثوبة ، وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا إلاّبعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخر عنه بالزمان ، ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والامكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب (١).

وملخّص ما أفاده قدس‌سره أمران :

الأوّل : أنّ الارادة مرتبة خاصة من الشوق الحاصل في افق النفس ، وهي المرتبة التي يكون من شأنها انبعاث القوة العاملة في العضلات لتحريكها نحو المراد ، غاية الأمر إذا كان أمراً حالياً فهي توجب تحريكها نحوه حالاً ، وإذا كان أمراً استقبالياً ، فإن كانت له مقدمة خارجية فكذلك ، وإن لم تكن له مقدمة خارجية غير مجيء زمانه لم توجب التحريك. مع أنّه بهذه المرتبة الخاصة موجود في عالم النفس ، فأخذ الوصف المزبور في تعريف الارادة إنّما هو للاشارة إلى أنّها عبارة عن تلك المرتبة الخاصة وإن لم توجب التحريك فعلاً من جهة عدم الموضوع لا من جهة قصور فيها ، فإذن لا مانع من تعلق الارادة بأمر متأخر كما تتعلق بأمر حالي ، وهذا لعلّه من الواضحات.

الثاني : أنّه لا شبهة في انفكاك الوجوب عن متعلقه زماناً وتأخره عنه

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٢.

١٧٧

كذلك ، بداهة أنّ الغرض من البعث إنّما هو إحداث الداعي للمكلف نحو الفعل ، ومن الواضح أنّ الداعي إلى إيجاده إنّما يحصل بعد تصور الأمر وما يترتب عليه ، وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى زمانٍ ما ولو كان في غاية القصر ، فإذا جاز الانفكاك بينهما في ذلك جاز في زمن طويل أيضاً ، لعدم الفرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة والامكان.

وينبغي لنا أن نتعرض لنقده على الشكل التالي :

إن اريد بالارادة الشوق النفساني إلى شيء الحاصل في افق النفس من ملائمتها له أو ملائمة إحدى قواها ، وهي التي توجب هيجانها وميلها إليه إلى أن بلغ حدّ العزم والجزم ، فقد تقدّم في ضمن البحوث السالفة أنّ الشوق النفساني كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق بأمر استقبالي ، وهذا لا يحتاج إلى إقامة برهان ، بل هو أمر وجداني ضروري يعلمه كل ذي وجدان بمراجعة وجدانه ، بل ولا مانع من تعلقه بالأمر الممتنع كالجمع بين الضدين أو النقيضين أو ما شاكل ذلك فضلاً عن الأمر الممكن المتأخر ، كاشتياق الانسان إلى دخول الجنّة والتلبس بالملاذ الاخروية ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد ذكرنا سابقاً بشكل موسّع أنّ الارادة بهذا المعنى مهما بلغت ذروتها من القوة والشدة لا تكون علة تامة لتحريك العضلات نحو الفعل.

وإن اريد بها الاختيار وإعمال القدرة ، فقد سبق الكلام في ذلك بصورة موسّعة وأ نّها لا تتعلق بفعل الغير ، بلا فرق بين اختياره ( عزّ وجلّ ) وإعمال قدرته واختيار غيره. نعم ، له تعالى إيجاد الفعل عن الغير بايجاد أسبابه ، ولكنه أجنبي عن تعلق مشيئته تعالى واختياره به مباشرة ، بل قد عرفت أنّها لا تتعلق بفعل الانسان نفسه إذا كان في زمن متأخر فضلاً عن فعل غيره ، ومن هنا لا يمكن تعلقها بالمركب من أجزاء طولية زمناً وتدريجية وجوداً دفعة

١٧٨

واحدة إلاّعلى نحو تدريجية أجزائه ، وذلك كالصلاة مثلاً ، فانّه لا يمكن إعمال القدرة على القراءة قبل التكبيرة وهكذا ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : قد سبق منّا أيضاً أنّه لا أصل للارادة التشريعية في مقابل الارادة التكوينية ، سواء أكانت الارادة بمعنى الشوق النفساني أو بمعنى الاختيار وإعمال القدرة.

أمّا على الأوّل : فلأنّ الارادة عبارة عن ذلك الشوق الحاصل في افق النفس ، ومن الطبيعي أنّه لا يختلف باختلاف متعلقه ، فقد يكون متعلقه أمراً تكوينياً وقد يكون أمراً تشريعياً وقد يكون فعل الانسان نفسه ، وقد يكون فعل غيره ، وتسمية الأوّل بالارادة التكوينية ، والثاني بالتشريعية لا تتعدّى عن مجرّد الاصطلاح بلا واقع موضوعي لها أصلاً.

وأمّا على الثاني : فواضح ، ضرورة أنّ إعمال القدرة لا تختلف باختلاف متعلقها ، فان متعلقها سواء أكان من التشريعيات أو التكوينيات فهو واحد حقيقة وذاتاً. فتحصّل : أنّا لا نعقل للارادة التشريعية معنىً محصلاً في مقابل الارادة التكوينية.

نعم ، قد يقال كما قيل : إنّ المراد منها الطلب والبعث ، باعتبار أنّه يدعو المكلف إلى إيجاد الفعل في الخارج.

وفيه : أنّ تسمية ذلك بالارادة التشريعية وإن كان لا بأس بها ، إلاّ أنّه لا يمكن ترتب أحكام الارادة التكوينية عليه ، بداهة أنّه أمر اعتباري فلا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، فلا يُقاس هذا بالارادة والاختيار أصلاً ، ولا جامع بينهما حتّى يوجب تسرية حكم أحدهما إلى الآخر ، فعدم تعلق الارادة بالأمر المتأخر زمناً لا يستلزم عدم تعلقه به أيضاً ، وقد تقدّم أنّ ما اعتبره المولى قد يكون متعلقه حالياً ، وقد يكون استقبالياً ، وقد يكون

١٧٩

كلاهما استقبالياً ، وذلك كما إذا اعتبر شخص ملكية منفعة داره مثلاً لآخر بعد شهر ، فانّ المعتبر ـ وهو الملكية ـ ومتعلقه ـ وهو المنفعة ـ كليهما استقبالي ، والحالي إنّما هو الاعتبار فحسب ، وهذا ربّما يتفق وقوعه في باب الاجارة وفي باب الوصية كالوصية بالملك بعد الموت ، ومن الواضح أنّه لا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية. وقد تحصل من ذلك : أنّ في تسرية أحكام الارادة على الطلب والبعث مغالطة ظاهرة ولا منشأ لها إلاّ الاشتراك في الاسم.

فقد انتهينا في نهاية الشوط إلى هذه النتيجة وهي أنّه لا مانع من الالتزام بالواجب المعلّق بالمعنى الذي ذكرناه وهو كون وجوبه مشروطاً بشرط متأخر.

الثاني : ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّ القيود الراجعة إلى الحكم المأخوذة في موضوعه بشتى ألوانها تؤخذ مفروضة الوجود في مقام الاعتبار والجعل فلا يجب على المكلف تحصيل شيء منها وإن كان مقدوراً كالاستطاعة ، ومن الواضح أنّ فعلية الحكم في مثل ذلك إنّما هي بفعلية تلك القيود ، فلا تعقل فعليته قبل فعليتها وتحققها في الخارج ، وعلى هذا الأساس بنى على استحالة الشرط المتأخر. ولكن قد تقدّم الكلام في مسألة الشرط المتأخر بصورة مفصلة في بيان ذلك الأساس وما فيه من النقد والاشكال فلا نعيد.

الثالث : ما قيل كما في الكفاية (٢) من أنّ التكليف مشروط بالقدرة ، وعليه فلا بدّ أن يكون المكلف حين توجيه التكليف إليه قادراً ، فلو التزمنا بالواجب المعلّق لزم عدم ذلك. وجوابه واضح ، وهو أنّ القدرة المعتبرة في صحة التكاليف إنّما هي قدرة المكلف في ظرف العمل وإن لم يكن قادراً في ظرف التكليف.

__________________

(١). أجود التقريرات ١ : ١٩٦ وما بعدها.

(٢). كفاية الاصول : ١٠٣.

١٨٠