محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

الواجب المطلق والمشروط

غير خفي أنّ إطلاق المطلق والمشروط على الواجب بمالهما من المعنى اللغوي ، فالمطلق عبارة عن المرسل وعدم التقييد بشيء ، ومنه طلاق المرأة فانّه بمعنى إرسالها عن قيد الزوجية. والمشروط عبارة عن المقيد بقيد والمشدود به ، ومنه وجوب الحج بالاضافة إلى الاستطاعة ، فانّه مقيد بها ومربوط ، ولا يكون مطلقاً ، وليس للُاصوليين اصطلاح خاص فيهما ، بل هم يطلقون هذين اللفظين بمالهما من المعنى اللغوي كما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

ثمّ إنّه قد يتصف بهما الوجوب فيكون مطلقاً تارة ومشروطاً اخرى ، وذلك كوجوب الحج ، فانّه مشروط بالاضافة إلى الاستطاعة ، ومطلق بالاضافة إلى الزوال مثلاً ، وقد يتصف بهما الواجب كذلك ، كالصلاة فانّها مقيدة بالطهارة ومطلقة بالاضافة إلى الاحرام مثلاً ، وهكذا. ومن هنا يظهر أنّ إطلاقهما على الواجب في المقام مبني على ضرب من المسامحة ، وذلك لأنّ الكلام فيه إنّما هو في إطلاق الوجوب واشتراطه لا الواجب.

وبكلمة اخرى : أنّ الكلام في المقام إنّما هو في إطلاق الحكم واشتراطه ، سواء أكان الحكم تكليفياً أم وضعياً ، وليس الكلام في إطلاق الواجب واشتراطه.

ثمّ إنّ الاطلاق والتقييد أمران إضافيان ، فيمكن أن يكون شيء واحد بالاضافة إلى شيء مطلقاً ، وبالاضافة إلى آخر مقيداً ، وذلك كوجوب الصلاة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٥.

١٤١

مثلاً حيث إنّه مطلق بالاضافة إلى الطهارة ومقيد بالاضافة إلى الزوال ، وهكذا ، ووجوب الحج فانّه مطلق بالاضافة إلى الزوال ومقيد بالاضافة إلى الاستطاعة ، ومن الطبيعي أنّ هذا دليل ظاهر على أنّ الاطلاق والتقييد أمران اضافيان.

بقي الكلام في النزاع المعروف الواقع بين شيخنا الأنصاري قدس‌سره وغيره من الأعلام ، وهو أنّ القيود المأخوذة في لسان الأدلة هل ترجع إلى مفاد الهيئة أو إلى نفس المادة؟ فنسب صاحب التقرير إلى الشيخ قدس‌سره (١) رجوعها إلى المادة دون مفاد الهيئة ، وإن كان ظاهر القضية الشرطية بحسب المتفاهم العرفي هو رجوعها إلى مفاد الهيئة ، ضرورة أنّ المتفاهم عرفاً من مثل قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، هو ترتب وجوب الاكرام على مجيئه وأ نّه قيد له دون الواجب ، وكذا المتفاهم من مثل قوله تعالى ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٢) ومن هنا اعترف الشيخ قدس‌سره بهذا الظهور وقال : إنّ مقتضى القواعد العربية وإن كان ذلك ، إلاّ أنّه ادعى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة من ناحية ، وادعى لزوم رجوعه إلى نفس المادة لباً من ناحية اخرى ، فهنا نقطتان من البحث ، الاولى : في دعوى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة. الثانية : في دعوى لزوم رجوعه إلى المادة لباً.

أمّا النقطة الاولى : فالبحث فيها يعود إلى دعاوٍ ثلاث :

الاولى : ما نسب إلى الشيخ قدس‌سره في تقريره كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) وحاصله : هو أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي حقيقي ، ومن البديهي أنّ الجزئي غير قابل للتقييد ، فانّ ما هو قابل له هو المعنى

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٤٥ ، ٤٦ ، ٥٢.

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٣) كفاية الاصول : ٩٥.

١٤٢

الكلي حيث يصدق على حصص متعددة ، وأمّا المعنى الجزئي فلا يعقل فيه الاطلاق والتقييد.

ولكنّه يندفع أوّلاً : بما حققناه في مبحث المعنى الحرفي (١) من أنّ الحروف لم توضع للمعاني الجزئية الحقيقية حتّى لا تكون قابلة للتقييد ، وإنّما وضعت للدلالة على تضييق المعاني الاسمية وتخصيصها بخصوصية ما ، ومن الواضح أنّ المعنى الاسمي بعد تخصيصه وتضييقه أيضاً قابل للانطباق على حصص وأفراد كثيرة في الخارج ، وذلك كما إذا كان أحد طرفي المعنى الحرفي كلياً أو كلاهما ، مثل قولنا : سر من البصرة إلى الكوفة ، فانّ السير كما كان قبل التضييق كلياً قابلاً للانطباق على كثيرين ، كذلك بعده ، فعندئذ بطبيعة الحال يصير المعنى الحرفي كلياً بتبعه.

وثانياً : أنّ التقييد على قسمين : الأوّل : التقييد بمعنى التضييق والتخصيص ، وفي مقابله الاطلاق بمعنى التوسعة. الثاني : بمعنى التعليق ، وفي مقابله الاطلاق بمعنى التنجيز ، وعليه فلو سلّمنا أنّ المعنى الحرفي جزئي حقيقي ، إلاّ أنّ الجزئي الحقيقي غير قابل للتقييد بالمعنى الأوّل ، وأمّا تقييده بالمعنى الثاني فهو بمكان من الوضوح ، بداهة أنّه لا مانع من تعليق الطلب الجزئي المنشأ بالصيغة أو بغيرها على شيء ، كما إذا علق وجوب إكرام زيد مثلاً على مجيئه حيث لا محذور فيه أبداً.

الثانية : ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) من أنّ المعنى الحرفي وإن كان كلياً ، إلاّ أنّه ملحوظ باللحاظ الآلي فلا يرد عليه الاطلاق والتقييد ،

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٨٣ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ١ : ١٩٥.

١٤٣

لأ نّهما من شؤون المعاني الملحوظة باللحاظ الاستقلالي ، وبما أنّ معنى الهيئة معنى حرفي فلا يتصف بالاطلاق حتّى يصلح للتقييد ، ولأجل ذلك امتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة.

ويرد عليه أوّلاً : ما حققناه في مبحث الحروف بشكل موسّع من أنّ ذلك ـ أي المعنى الحرفي ملحوظ باللحاظ الآلي ، والمعنى الاسمي ملحوظ باللحاظ الاستقلالي ـ وإن كان كلاماً مشهوراً بين الأصحاب ، إلاّ أنّه لا يبتني على أصل صحيح ، ومن ذلك ذكرنا هناك أنّه لا فرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي من هذه الناحية أبداً ، بل ربّما يكون مورد الالتفات والتوجه استقلالاً هو خصوص المعنى الحرفي ، وذلك كما إذا علمنا بورود زيد مثلاً في بلد ونعلم أنّه سكن في مكان ، ولكن لانعلم المكان بخصوصه ، فنسأل عن تلك الخصوصية التي هي معنى الحرف ، أو إذا علمنا وجود زيد في الخارج وقيامه ، ولكن لا نعلم خصوصية مكانه أو زمانه ، فنسأل عن تلك الخصوصية وهكذا ، ففي أمثال هذه الأمثلة المعنى الحرفي هو الملحوظ مستقلاً والمورد للتوجه والالتفات كذلك. وقد تقدّم تفصيل ذلك فلاحظ.

وثانياً : على تقدير تسليم أنّ المعنى الحرفي لا بدّ أن يلحظ باللحاظ الآلي ، إلاّ أنّه إنّما يمنع عن طروء التقييد عليه حين لحاظه كذلك ، وأمّا إذا قيّد المعنى أوّلاً بقيد ، ثمّ لوحظ المقيّد آلياً ، فلا محذور فيه أبداً ، وعليه فلا مانع من ورود اللحاظ الآلي على الطلب المقيد في رتبة سابقة عليه.

الثالثة : ـ وهي العمدة في المقام ـ أنّ رجوع القيد إلى مفاد الهيئة بما أنّه مستلزم لتفكيك الانشاء عن المنشأ والايجاب عن الوجوب الذي هو مساوق لتفكيك الايجاد عن الوجود فهو غير معقول ، والسبب في ذلك : هو أنّه لا ريب في استحالة تفكيك الايجاد عن الوجود في التكوينيّات ، حيث إنّهما واحد ذاتاً

١٤٤

وحقيقة ، والاختلاف بينهما إنّما هو بالاعتبار ، فلا يعقل التفكيك بينهما ، وكذا الحال في التشريعيات ، بداهة أنّه لا فرق في استحالة التفكيك بين الايجاد والوجود في التشريع والتكوين. وعلى الجملة : فايجاب المولى ووجوبه إنّما يتحققان بنفس إنشائه فلا فرق بينهما إلاّبالاعتبار ، فبملاحظة فاعله إيجاب ، وبملاحظة قابله وجوب ، كما هو الحال في الايجاد والوجود التكوينيين.

وعلى هذا الضوء فلا محالة يرجع القيد إلى المادة دون الهيئة ، وإلاّ لزم تحقق الايجاب دون الوجوب ، ولازم ذلك انفكاكه عنه ، لفرض عدم إنشاء آخر في البين ، ومردّه إلى تخلف الوجود عن الايجاد وهو مستحيل ، فالنتيجة تعيّن رجوع القيد إلى المادة بعد استحالة رجوعه إلى الهيئة ، لعدم ثالث في البين.

وقد أجاب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره عن ذلك بما إليك نصّه : المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله ـ الشرط ـ فلا بدّ أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث ، وإلاّ لتخلف عن إنشائه ، وإنشاء أمر على تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان ، كما يشهد به الوجدان (١).

وفيه : أنّ ما أفاده قدس‌سره مصادرة ظاهرة ، وذلك لأنّ الكلام إنّما هو في إمكان هذا النحو من الانشاء ، وأ نّه كيف يمكن مع استلزامه تخلف الوجوب عن الايجاب وهو مساوق لتخلف الوجود عن الايجاد. وبكلمة اخرى : أنّ محل الكلام هنا إنّما هو في إمكان كون الايجاد حالياً والوجود استقبالياً وعدم إمكانه ، فكيف يمكن أن يستدل على إمكانه بنفس ذلك ، وهذا نظير ما تقدّم في الجواب عن الشرط المتأخر من أنّ الشرط بوصف كونه متأخراً شرط ، أو بوصف كونه معدوماً كذلك ، فلو تقدّم كان خلفاً.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٧.

١٤٥

فالصحيح أن يقال : إنّه لا مدفع لهذا الاشكال بناءً على نظرية المشهور من أنّ الانشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، ضرورة عدم إمكان تخلف الوجود عن الايجاد. وأمّا بناءً على نظريتنا من أنّ الانشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل كما حققناه في مبحث الخبر والانشاء بشكل موسّع (١) ، فيندفع الاشكال المذكور من أصله ، والسبب في ذلك : هو أنّ المراد من الايجاب سواء أكان إبراز الأمر الاعتباري النفساني أم كان نفس ذلك الأمر الاعتباري ، فعلى كلا التقديرين لا يلزم محذور من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ كلاًّ من الابراز والمبرز والبروز فعلي ، فليس شيء منها معلّقاً على أمر متأخر ، وهذا ظاهر.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ الاعتبار بما أنّه من الامور النفسانية التعليقية يعني ذات الاضافة كالعلم والشوق وما شاكلهما من الصفات الحقيقية التي تكون كذلك ، فلا مانع من تعلّقه بأمر متأخر كما يتعلّق بأمر حالي ، نظير العلم فإنّه كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلّق بأمر استقبالي. وعلى الجملة : فكما يمكن تأخر المعلوم عن العلم زمناً كقيام زيد غداً أو سفره أو نحو ذلك ، حيث إنّ العلم به حالي والمعلوم أمر استقبالي ، فكذلك يمكن تأخر المعتبر عن الاعتبار ، بأن يكون الاعتبار حالياً والمعتبر أمراً متأخراً ، كاعتبار وجوب الصوم على زيد غداً أو نحو ذلك ، فالتفكيك إنّما هو بين الاعتبار والمعتبر ولا محذور فيه أصلاً ، ولا يقاس ذلك بالتفكيك بين الايجاد والوجود في التكوينيات أصلاً.

وممّا يشهد لما ذكرناه : صحة الوصية التمليكية ، فلو قال الموصي هذه الدار

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٩٩.

١٤٦

لزيد بعد وفاتي ، فلا شبهة في تحقق الملكية للموصى له بعد وفاته ، مع أنّ الاعتبار فعلي ، ومن البديهي أنّ هذا ليس إلاّمن ناحية أنّ الموصي اعتبر فعلاً الملكية للموصى له في ظرف الوفاة. ومن هنا لم يستشكل أحد في صحة تلك الوصية حتّى من القائلين برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.

وتوهّم أنّ الملكية فعلية ولكن المملوك وهو العين الخارجية مقيدة بما بعد الوفاة ، خاطئ جداً ، فإنّه يقوم على أساس قابلية تقيد الجواهر بالزمان ، ومن المعلوم أنّ الجواهر غير قابلة لذلك. نعم ، يمكن هذا في الأعراض القائمة بها ، كما إذا اعتبر المالك ملكية المنفعة المتأخرة حالاً. وعلى الجملة : فالأعيان الخارجية التي هي من قبيل الجواهر غير قابلة للتقدير بالزمن والتحديد به ، فإنّ القابل للتقدير والتحديد به إنّما هو المعنى الحدثي ، يعنى الأعراض والامور الاعتبارية كالضرب والقيام وما شاكلهما. ومن هنا قلنا إنّ المنفعة قابلة للتقدير بالزمن كمنفعة شهر أو سنة أو نحو ذلك ، وعليه فلا مانع من اعتبار ملكية المنفعة المتأخرة من الآن ، بأن تكون الملكية فعلية والمملوك أمراً متأخراً ، بل هو واقع في باب الاجارة.

وأمّا النقطة الثانية : فقد استند الشيخ قدس‌سره (١) في إثباتها بما حاصله : أنّ الانسان إذا توجه إلى شيء والتفت إليه ، فلا يخلو من أن يطلبه أم لا ، ولا ثالث في البين. لا كلام على الثاني ، وعلى الأوّل فأيضاً لا يخلو من أنّ الفائدة تقوم بطبيعي ذلك الشيء من دون دخل خصوصية من الخصوصيات فيها أو تقوم بحصة خاصة منه ، وعلى الأوّل فبطبيعة الحال يطلبه المولى على إطلاقه وسعته ، وعلى الثاني يطلبه مقيداً بقيد خاص ، لفرض عدم قيام المصلحة إلاّ بالحصة الخاصة ـ وهي الحصة المقيدة بهذا القيد ـ لا بصرف وجوده على نحو

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٥٢.

١٤٧

السعة والاطلاق. وهذا القيد مرّة يكون اختيارياً ، ومرّة اخرى غير اختياري ، وعلى الأوّل تارةً يكون مورداً للطلب والبعث ، وذلك كالطهارة مثلاً بالاضافة إلى الصلاة ، وتارة اخرى لا يكون كذلك بل اخذ مفروض الوجود ، وذلك كالاستطاعة بالاضافة إلى الحج ، فانّ المولى لم يرد الحج مطلقاً من المكلف وإنّما أراد حصة خاصة منه وهي الحج من المكلف المستطيع ، وعلى الثاني فهو لا محالة اخذ مفروض الوجود في مقام الطلب والجعل ، لعدم صحة تعلق التكليف به ، وذلك كزوال الشمس مثلاً بالاضافة إلى وجوب الصلاة ، فانّ المولى لم يطلب الصلاة على نحو الاطلاق ، بل طلب حصة خاصة منها ـ وهي الحصة الواقعة بعد زوال الشمس ـ وعلى جميع التقادير فالطلب فعلي ومطلق والمطلوب مقيد ، من دون فرق بين كونه اختيارياً أو غير اختياري. فالنتيجة : أنّ ما ذكرناه من رجوع القيد بشتى ألوانه إلى المادة أمر وجداني لا ريب ولا مناقشة فيه.

والجواب عنه : أنّه قدس‌سره إن أراد من الطلب في كلامه الشوق النفساني ، فالأمر وإن كان كما أفاده ، حيث إنّ تحقق الشوق النفساني المؤكد تابع لتحقق مبادئه من التصور والتصديق ونحوهما في افق النفس ، ولا يختلف باختلاف المشتاق إليه في خارج افقها من ناحية الاطلاق والتقييد تارة ، ومن ناحية كون القيد اختيارياً وعدم كونه كذلك اخرى ، ومن ناحية كون القيد أيضاً مورداً للشوق وعدم كونه كذلك ثالثة ، بل ربّما يكون القيد مبغوضاً في نفسه ، ولكن المقيد به مورد للطلب والشوق ، وذلك كالمرض مثلاً ، فانّه رغم كونه مبغوضاً للانسان المريض فمع ذلك يكون شرب الدواء النافع مطلوباً له ومورداً لشوقه.

إن أراد هذا ، فالأمر وإن كان كذلك ، إلاّ أنّه ليس من مقولة الحكم في شيء ، بداهة أنّه أمر تكويني نفساني حاصل في افق النفس من ملائمتها ـ النفس ـ لشيء أو ملائمة إحدى قواها له ، فلا صلة بينه وبين الحكم الشرعي أبداً ،

١٤٨

كيف ، فانّ الحكم الشرعي أمر اعتباري فلا واقع موضوعي له ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، وهو أمر تكويني فله واقع موضوعي ، وحصوله تابع لمبادئه من إدراك أمر ملائم لإحدى القوى النفسانية.

وإن أراد من الطلب في كلامه قدس‌سره الارادة بمعنى الاختيار ، فيرد عليه : أنّه لايتعلق بفعل الغير حتّى نبحث عن أنّ القيد راجع إليه أو إلى متعلقه ، بل قد ذكرنا في مبحث الطلب والارادة أنّه لا يتعلق بفعل نفسه في ظرف متأخر فضلاً عن فعل الغير ، والسبب في ذلك : ما تقدّم بشكل موسّع من أنّ الارادة بهذا المعنى إنّما تعقل في الأفعال المقدورة للانسان التي يستطيع أن يعمل قدرته فيها ، ومن المعلوم أنّ ما هو خارج عن إطار قدرته فلا يمكن تعلقها به ، وفعل الغير من هذا القبيل ، وكذا فعل الانسان نفسه إذا كان متأخراً زمناً ، وعليه فلا يمكن الالتزام بتعلق هذه الارادة بفعل الغير في مقام الطلب ، أو فقل إنّ الآمر لا يخلو من أن يكون هو الله تعالى أو غيره ، فعلى كلا التقديرين لا يمكن تعلقها به.

أمّا على الأوّل ، وإن أمكن للباري ( عزّ وجلّ ) أن يوجد الفعل عن الغير لعموم قدرته ، إلاّ أنّ ذلك ينافي اختيار العبد ، بداهة أنّ الفعل عندئذ يوجد بارادته تعالى وإعمال قدرته ، فلا معنى حينئذ لتوجيه التكليف إليه.

وأمّا على الثاني ، فمن جهة أنّ فعل الغير خارج عن قدرة الانسان فلا معنى لاعمال قدرته بالاضافة إليه ، ومن هنا ذكرنا أنّه لا معنى لتقسيم الارادة إلى التكوينية والتشريعية ، بداهة أنّا لا نعقل للارادة التشريعية معنى في مقابل الارادة التكوينية ، وقد سبق الاشارة إلى هذه النواحي بشكل مفصّل فلاحظ (١).

__________________

(١) المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤١٦ وما بعدها.

١٤٩

وإن أراد بالطلب جعل الحكم واعتباره ، أي اعتبار شيء على ذمة المكلف ، حيث إنّ حقيقة الطلب كما ذكرناه سابقاً (١) هي التصدي نحو حصول الشيء في الخارج ، وقد ذكرنا أنّه على نحوين : أحدهما : التصدي الخارجي. وثانيهما : التصدي الاعتباري ، والاعتبار المذكور المبرز في الخارج مصداق للثاني ، نظراً إلى أنّ الشارع تصدى نحو حصول الفعل من الغير باعتباره على ذمته وإبرازه في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما شاكلها ، فإن أراد قدس‌سره به ذلك ، فهو وإن كان فعلياً دائماً ، سواء أكان المعتبر أيضاً كذلك أو كان أمراً استقبالياً ، إلاّ أنّه أجنبي عن محل الكلام رأساً ، فان محل الكلام إنّما هو في رجوع القيد إلى المعتبر وعدم رجوعه إليه ، لا إلى الاعتبار نفسه ، ضرورة أنّ الاعتبار والابراز غير قابلين للتقييد والتعليق أصلاً.

وإن أراد بالطلب ما تعلق به الاعتبار وهو المعتبر المعبّر عنه بالوجوب تارة وبالالزام تارة اخرى ، فصريح الوجدان شاهد على أنّه قابل للتقيد كما أنّه قابل للاطلاق ، وأنّ الحال يختلف فيه باختلاف الموارد من هذه الناحية ، بيان ذلك :

أنّ الفعل الذي هو متعلق للوجوب مرّة يكون ذا ملاك ملزم فعلاً ، فلا يتوقف اشتماله على الملاك المذكور واتصافه بالحسن على شيء من زمان أو زماني ، ففي مثل ذلك بطبيعة الحال الوجوب المتعلق به فعلي فلا حالة منتظرة له أبداً ، وإن كان تحقق الفعل في الخارج وإيجاده فيه يتوقف على مقدمات ، وذلك كشرب الدواء مثلاً للمريض ، فانّه ذو ملاك ملزم بالاضافة إليه فعلاً ، وإن كان تحققه في الخارج يتوقف على الاتيان بعدّة مقدمات ، وكالصلاة بعد دخول وقتها ، فانّها واجدة للملاك الملزم بالفعل ، وإن كان الاتيان بها في الخارج يتوقف على عدة امور كتطهير الثوب والبدن والوضوء أو الغسل أو نحو ذلك.

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٣٤٦ ، ٣٥٣.

١٥٠

وكذلك الحال فيما إذا كان الملاك فيه تاماً ، ولكن وجوده وتحققه في الخارج يتوقف على مقدمات خارجة عن اختيار المكلف ، وذلك كالمريض مثلاً حيث إنّ ملاك شرب الدواء في حقّه تام ولا حالة منتظرة له ، ولكن تحصيله فعلاً غير ممكن لمانع خارجي من زمان أو زماني ، ففي مثل ذلك لا مانع من كون الايجاب حالياً والواجب استقبالياً. ولعل من هذا القبيل وجوب الصوم بعد دخول شهر رمضان بمقتضى الآية الكريمة ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (١) فانّ الظاهر منها هو أنّ وجوب الصوم فعلي بعد دخول الشهر ، وهذا لا يمكن إلاّبالالتزام بتمامية ملاكه من الليل بحيث لو تمكن المكلف من جرّ اليوم إلى الساعة لكان عليه أن يصوم ، وكذا الحال في وجوب الحج بعد حصول الاستطاعة ، فانّ الظاهر من قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٢) هو أنّ وجوب الحج فعلي بعد فعلية الاستطاعة ، وإن كان المكلف غير قادر على الاتيان به إلاّبعد مجيء زمانه وهو يوم عرفة ، وهذا لا ينافي كون الملاك فيه تاماً من حين تحقق الاستطاعة بحيث لو تمكن المكلف من جرّ يوم عرفة إلى الآن لكان عليه أن يحج. وعلى الجملة : فالقيد في أمثال هذه الموارد يرجع إلى الواجب دون الوجوب ، فالوجوب حالي والواجب استقبالي.

فالنتيجة : أنّ الملاك إذا كان تاماً فالوجوب فعلي ، سواء أكان الواجب أيضاً كذلك أم كان استقبالياً.

ومرّة اخرى : يكون ذا ملاك في ظرف متأخر لا فعلاً ، بمعنى أنّ ملاكه لا يتم إلاّبعد مجيء زمان خاص أو تحقق أمر زماني في ظرف متأخر ، ففي مثل ذلك لا يعقل أن يكون الوجوب المتعلق به فعلياً ، بل لا محالة يكون تقديرياً

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٥.

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧.

١٥١

أي معلّقاً على فرض تحقق ما له الدخل في الملاك ، بداهة أنّ جعل الوجوب فعلاً لما لا يكون واجداً للملاك كذلك لغو محض ، فلا يمكن صدوره من المولى الحكيم ، إذ مردّه إلى عدم تبعية الحكم للملاك. وعلى الجملة : مضافاً إلى ذلك ، الوجدان أصدق شاهد على عدم وجود البعث الفعلي في أمثال هذه الموارد.

ولتوضيح ذلك نأخذ مثالاً : وهو أنّ المولى إذا التفت إلى الماء مثلاً ، فقد يكون عطشه فعلاً ، وعندئذ فبطبيعة الحال يأمر عبده باحضار الماء ، أي يعتبر على ذمته إحضاره كذلك ، فيكون المعتبر كالاعتبار فعلياً ، وقد يكون عطشه فيما بعد ، ففي مثله لا محالة يعتبر على ذمة عبده إحضار الماء في ظرف عطشه لا قبل ذلك ، لعدم الملاك له ، فالاعتبار فعلي والمعتبر ـ وهو كون إحضار الماء على ذمة العبد ـ أمر متأخر ، حيث إنّه على تقدير حصول العطش ، والمفروض عدم حصوله بعدُ ، ومن الطبيعي أنّ في مثل ذلك لو رجع القيد إلى المادة وكان المعتبر كالاعتبار فعلياً لكان لغواً صرفاً وبلا ملاك ومقتضٍ ، ومرجعه إلى عدم تبعية الحكم للملاك وهو خلف.

فالنتيجة : أنّ الحكم الشرعي يختلف باختلاف القيود الدخيلة في ملاكه ، فقد يكون فعلياً لفعلية ما له الدخل في ملاكه ، وقد يكون معلّقاً على حصول ما له الدخل فيه. وأضف إلى ذلك : ظهور القضايا الشرطية في أنفسها في ذلك ، أي رجوع القيد إلى الهيئة دون المادة ، وذلك لأنّها لو لم تكن نصاً في هذا فلا شبهة في أنّ المتفاهم العرفي منها هو تعليق مفاد الجملة الجزائية على مفاد الجملة الشرطية ، سواء أكانت القضية إخبارية أم كانت إنشائية.

أمّا الاولى : فمثل قولنا : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، فانّها تدل على تعليق وجود النهار على طلوع الشمس.

وأمّا الثانية : فمثل قولنا : إن جائك زيد فأكرمه ، فانّها تدل على تعليق

١٥٢

وجوب الاكرام على مجيء زيد. وحمله على كون الوجوب فعلياً والقيد ـ وهو المجيء ـ راجعاً إلى المادة وهي الاكرام خلاف الظاهر جداً ، فلا يمكن الالتزام به بدون قرينة ، بل يمكن دعوى أنّ ذلك غلط ، فان أدوات الشرط لا تدل على تعليق المعنى الافرادي.

وكيف كان ، فالصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من رجوع القيد إلى الهيئة دون المادة ، فما أفاده شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره من رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة خاطئ جداً. هذا بناءً على أن تكون الأحكام الشرعية تابعة للملاكات في أنفسها واضح ، حيث إنّ الملاك القائم في نفس الحكم قد يكون فعلياً يدعو إلى جعله واعتباره كذلك ، وقد لا يكون فعلياً وإنّما يحدث في ظرف متأخر ، فالمولى في مثله لا محالة يعتبره معلّقاً على مجيء وقت اتصافه بالملاك.

وأمّا بناءً على كونها تابعة للملاكات في متعلقاتها فالأمر أيضاً كذلك ، لا لما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّه قد يكون المانع موجوداً من الطلب والبعث الفعلي فلا بدّ من التعليق ، وذلك لأنّ عدم فعلية الأمر قد يكون من ناحية عدم المقتضي ، وذلك كالصلاة قبل دخول الوقت ، والحج قبل الاستطاعة ، والصوم قبل دخول شهر رمضان وما شاكل ذلك ، فان في أمثال هذه الموارد لا مقتضي للأمر ، فلو جعل فلا بدّ من جعله معلّقاً على فرض تحقق المقتضي له في ظرفه ، وإلاّ كان لغواً. نعم ، قد يكون المقتضي موجوداً ، ولكن لا يمكن الأمر فعلاً من جهة وجود المانع ، ففي مثل ذلك لا بأس بجعله معلّقاً على ارتفاعه. فالنتيجة : أنّ في موارد عدم المقتضي لا مانع من جعل الحكم معلّقاً على فرض تحققه في موطنه ، كما أنّه لا مانع من جعله معلّقاً على فرض

__________________

(١) كفاية الاصول : ٩٧.

١٥٣

ارتفاع المانع عند ثبوته ، أي المقتضي.

نعم ، لو علم المولى أنّ المكلف لا يتمكن من الامتثال حين اتصاف الفعل بالمصلحة ، لكان عليه الأمر من الآن ليتهيأ لامتثاله في ظرفه ، وذلك كما إذا افترضنا أنّ المولى يعلم من نفسه أنّه سيعطش بعد ساعة مثلاً ، وعلم أنّ عبده لا يتمكن من إحضار الماء في ذلك الوقت لمانع من الموانع ، فانّه يجب عليه أن يأمره باحضاره فعلاً قبل عروض العطش عليه ، فيكون الوجوب حالياً والواجب استقبالياً ، إلاّ أنّ هذه الصورة خارجة عن محل الكلام.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي : أنّ ما تقدّم من الوجوه الأربعة لا يتم شيء منها ، فلا مانع من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة كما هو مقتضى ظاهر الجملة الشرطية ، نعم في خصوص الأحكام الوضعية قد تسالم الأصحاب على بطلان التعليق فيها ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : تختلف نتيجة تلك الوجوه على تقدير تماميتها باختلافها ، فان مقتضى الوجه الأوّل والثاني هو استحالة رجوع القيد إلى الحكم الشرعي المستفاد من الهيئة فحسب ، باعتبار أنّه معنى حرفي والمعنى الحرفي غير قابل للتقييد ، إمّا من ناحية أنّه جزئي أو من ناحية أنّه ملحوظ بلحاظ آلي ، ولا فرق في ذلك بين كونه تكليفياً أو وضعياً ، ولا يدلاّن على استحالة رجوع القيد إلى الحكم الشرعي المستفاد من المادة أصلاً ، كما في مثل قوله : إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة ، أو قال أحد : إن متّ فهذا ملك لك ، وما شاكل ذلك.

ومقتضى الوجه الثالث هو استحالة رجوع القيد إلى الحكم مطلقاً ، سواء أكان مستفاداً من الهيئة أم من المادة ، وسواء أكان حكماً تكليفياً أم كان وضعياً ، بداهة أنّ انفكاك المنشأ عن الانشاء لو كان محالاً فهو في الجميع على نسبة

١٥٤

واحدة. ومقتضى الوجه الرابع وإن كان هو عدم الفرق بين كون الوجوب مستفاداً من الهيئة أو من المادة ، إلاّ أنّه يختص بالحكم التكليفي فلا يعم الحكم الوضعي كما هو واضح.

[ تردّد القيد بين رجوعه إلى المادّة أو الهيئة ]

ثمّ إنّه نسب إلى شيخنا الأنصاري قدس‌سره في تقريراته (١) مسألة ما إذا تردد أمر القيد بين رجوعه إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة ، واستظهاره قدس‌سره رجوعه إلى المادة دون الهيئة.

ولكن غير خفي أنّ هذا الكلام منه قدس‌سره يرتكز على أحد أمرين : إمّا على التنزل عما أفاده قدس‌سره من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة ، إذ مع الاستحالة لا تصل النوبة إلى التردد والاستظهار. وإمّا على كون الوجوب مستفاداً من جملة اسمية ، وعلى هذا الفرض ، فان علم من الخارج أنّ القيد راجع إلى المادة دون الهيئة وجب تحصيله ، لفرض فعلية وجوب المقيد ، وإذا علم أنّه راجع إلى الهيئة دون المادة لم يجب تحصيله ، لفرض عدم فعلية وجوبه ، بل تتوقف فعليته على حصول القيد. وإن لم يعلم ذلك وتردد أمره بين رجوعه إلى المادة ليكون الوجوب فعلياً ، ورجوعه إلى الهيئة حتّى لا يكون فعلياً فهو مورد للنزاع والكلام. وبعد ذلك نقول : الكلام هنا يقع في مقامين :

الأوّل : في مقتضى الاصول اللفظية. الثاني : في مقتضى الاصول العملية.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٤٩.

١٥٥

أمّا المقام الأوّل (١) : فقد ذكر الشيخ قدس‌سره في مبحث التعادل والترجيح (٢) أنّه إذا دار الأمر بين العام الشمولي والاطلاق البدلي قدّم العام الشمولي على الاطلاق البدلي ، وأفاد في وجه ذلك : أنّ دلالة العام على العموم تنجيزية فلا تتوقف على أيّة مقدمة خارجية ، وهذا بخلاف دلالة المطلق على الاطلاق فانّها تتوقف على تمامية مقدمات الحكمة ومنها عدم البيان على خلافه ، ومن الطبيعي أنّ عموم العام يصلح أن يكون بياناً على ذلك ، ومعه لا تتم المقدمات. وعلى الجملة : فالمقتضي في طرف العام تام وهو وضعه للدلالة على العموم ، وإنّما الكلام في وجود المانع عنه ، والمفروض عدمه. وأمّا في طرف المطلق فالمقتضي غير تام ، فان تماميته تتوقف على تمامية مقدمات الحكمة وهي لا تتم هنا ، فان من جملتها عدم البيان على خلافه والعام بيان.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره وإن كان متيناً جداً ، إلاّ انّه خارج عن محل الكلام ، فان محل الكلام إنّما هو فيما إذا كان كل من الاطلاق البدلي والعموم الشمولي مستنداً إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، وفي مثل ذلك إذا دار الأمر بينهما هل هنا مرجّح لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي في مورد التعارض والاجتماع؟ فيه وجهان ، بل قولان : فذهب الشيخ قدس‌سره إلى الأوّل واستدلّ عليه بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ مفاد الهيئة إطلاق شمولي ، فان معناه ثبوت الوجوب على كل تقدير ـ أي تقديري حصول القيد وعدم حصوله ـ ومفاد المادة إطلاق بدلي ، فانّ معناه طلب فردٍ ما من الطبيعة التي تعلّق بها الوجوب على سبيل

__________________

(١) [ لم يُذكر فيما يأتي المقام الثاني ].

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٧٩٢.

١٥٦

البدل ، وعلى ضوء هذا ، فإذا دار الأمر بين تقييد إطلاق الهيئة وتقييد إطلاق المادة تعيّن الثاني ، وذلك لأنّ رفع اليد عن الاطلاق البدلي أولى من رفع اليد عن الاطلاق الشمولي.

وغير خفي أنّ هذا الوجه ينحل إلى دعويين : الاولى : دعوى كبروية وهي تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي. الثانية : دعوى أنّ مسألتنا هذه من صغريات تلك الكبرى الكلية.

وقد ناقش المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره في الكبرى بعد تسليم أنّ المقام من صغرياتها بما إليك لفظه : فلأنّ مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شمولياً بخلاف المادة ، إلاّ أنّه لايوجب ترجيحه على إطلاقها ، لأنّه أيضاً كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، غاية الأمر أنّها تارةً تقتضي العموم الشمولي واخرى البدلي ، كما ربّما يقتضي التعيين أحياناً كما لا يخفى.

وترجيح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل كون دلالته بالوضع ، لا لكونه شمولياً ، بخلاف المطلق فانّه بالحكمة فيكون العام أظهر فيقدّم عليه ، فلو فرض أنّهما في ذلك على العكس ، فكان عام بالوضع دلّ على العموم البدلي ، ومطلق باطلاقه دلّ على الشمول ، لكان العام يقدّم بلا كلام (١).

وهذا الذي أفاده قدس‌سره من منع الكبرى في غاية الصحة والمتانة ولا مناص عنه ، ضرورة أنّ الملاك في الجمع الدلالي إنّما هو بأقوائية الدلالة والظهور ، ومن الطبيعي أنّ ظهور المطلق في الاطلاق الشمولي ليس بأقوى من ظهوره في الاطلاق البدلي ، لفرض أنّ ظهور كل منهما مستند إلى تمامية مقدمات الحكمة

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٦.

١٥٧

وبدونها فلا مقتضي له. نعم ، لو كان ظهور أحدهما مستنداً إلى الوضع والآخر إلى مقدمات الحكمة ، قدّم ما كان بالوضع على ما كان بالمقدّمات كما عرفت.

وأمّا شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) فقد اختار مقالة شيخنا الأنصاري قدس‌سره من تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق البدلي ، وخالف بذلك المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره واستدلّ على ذلك بامور ثلاثة :

الأوّل : أنّ الاطلاق الشمولي عبارة عن انحلال الحكم المعلّق على الطبيعة المأخوذة على نحو مطلق الوجود ، فيتعدد الحكم بتعدد أفرادها في الخارج أو أحوالها ، ويثبت لكل فرد منها حكم مستقل ، وذلك مثل لا تكرم فاسقاً ، فانّ الفاسق لوحظ على نحو مطلق الوجود موضوعاً لحرمة الاكرام ، فطبعاً تتعدد الحرمة بتعدد وجوده خارجاً ، فيثبت لكل فرد منه حرمة مستقلة. والاطلاق البدلي عبارة عن حكم واحد مجعول للطبيعة على نحو صرف الوجود القابل للانطباق على كل فرد من أفرادها على البدل.

وبكلمة اخرى : أنّ الحكم في الاطلاق الشمولي بما أنّه مجعول على الطبيعة الملحوظة على نحو مطلق الوجود ، فبطبيعة الحال ينحل بانحلالها ويتعدد بتعدد أفرادها ، وفي الاطلاق البدلي بما أنّه مجعول على الطبيعة الملحوظة على نحو صرف الوجود ، فلا محالة لا ينحل بانحلالها ولا يتعدد بتعدد وجودها ، بل هو حكم واحد ثابت لفرد ما منها ، ونتيجة ذلك هي تخيير المكلف في تطبيق ذلك على أيّ فرد منها شاء وأراد.

وعلى هذا الأساس فإذا دار الأمر بين رفع اليد عن الاطلاق البدلي والتحفّظ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣٥.

١٥٨

على الاطلاق الشمولي وبين العكس ، تعيّن الأوّل ، والسبب فيه : هو أنّ رفع اليد عن الاطلاق البدلي لا يوجب إلاّتضييق سعة انطباقه على أفراده وتقييدها على بعضها دون بعضها الآخر من دون تصرف في الحكم الشرعي أصلاً ، وهذا بخلاف التصرف في الاطلاق الشمولي ، فإنّه يوجب رفع اليد عن الحكم في بعض أفراده ، ومن المعلوم أنّه إذا دار الأمر بين التصرف في الحكم ورفع اليد عنه ، وبين رفع اليد عن التوسعة مع المحافظة على الحكم تعيّن الثاني. وعلى هذا الضوء لو دار الأمر بين رفع اليد عن إطلاق مثل أكرم عالماً ، وإطلاق مثل لا تكرم فاسقاً ، تعيّن رفع اليد عن إطلاق الأوّل دون الثاني.

ولنأخذ بالنقد عليه ، أمّا أوّلاً : فلأنّ ما ذكره قدس‌سره من الوجه لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي لا يصلح لذلك ، فانّه صرف استحسان عقلي فلا أثر له في أمثال المقام ، ولا يكون وجهاً عرفياً للجمع بينهما ، فانّ الملاك في الجمع العرفي إنّما هو بأقوائية الدلالة والظهور وهي منتفية في المقام ، والسبب فيه : أنّ ظهور كل منهما في الاطلاق بما أنّه مستند إلى مقدمات الحكمة فلا يكون أقوى من الآخر ، وبدون ذلك فلا موجب للتقديم أصلاً.

وإن شئت قلت : إنّه لا شبهة في حجية الاطلاق البدلي في نفسه ، ولا يجوز رفع اليد عنه بلا قيام دليل أقوى على خلافه ، وحيث إنّ ظهور المطلق في الاطلاق الشمولي ليس بأقوى من ظهوره في البدلي ، فلا مقتضي لتقديمه عليه أبداً.

وأمّا ثانياً : فلأنّ الاطلاق البدلي وإن كان مدلوله المطابقي ثبوت حكم واحد لفرد ما من الطبيعة على سبيل البدل ، إلاّ أنّ مدلوله الالتزامي ثبوت أحكام ترخيصية متعددة بتعدد أفرادها ، فاطلاقه من هذه الناحية شمولي ، فلا

١٥٩

فرق بينه وبين الاطلاق الشمولي من هذه الجهة ، غاية الأمر أنّ شموله بالدلالة المطابقية ، وشمول ذاك بالدلالة الالتزامية.

وبكلمة اخرى : قد ذكرنا غير مرّة أنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وعدم دخلها في الحكم ، وعليه فإذا لم يقيد الشارع حكمه بفرد خاص من الطبيعة بل جعل على نحو صرف الوجود ، فلا محالة يستلزم عقلاً ثبوت الترخيص شرعاً في تطبيقها على أيّ فرد من أفرادها شاء المكلف. ومن هنا ذكرنا أنّ ثبوت حكم وجوبي بالاطلاق وعلى نحو صرف الوجود يستلزم عقلاً ثبوت الترخيص في التطبيق شرعاً بالاضافة إلى تمام الأفراد. وعلى ضوء هذا البيان فرفع اليد عن الاطلاق البدلي أيضاً يستلزم رفع اليد عن الحكم والتصرف فيه ، لفرض أنّ إطلاقه إنّما هو بدلي بالاضافة إلى الحكم الوجوبي وأمّا بالاضافة إلى الحكم الترخيصي فهو شمولي كالاطلاق الشمولي فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً. فإذن لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر ، ومجرد اختلافهما في نوع الدلالة لا يوجب الترجيح كما هو ظاهر.

الثاني : أنّ ثبوت الاطلاق في كل من الشمولي والبدلي وإن توقف على مقدمات الحكمة ، إلاّ أنّ الاطلاق البدلي يزيد على الاطلاق الشمولي بمقدمة واحدة ، وتلك المقدمة هي إحراز تساوي أفراد الطبيعة في الوفاء بغرض المولى من دون تفاوت بينها في ذلك أصلاً ، والسبب فيه : أنّ مقدمات الحكمة تختلف زيادة ونقيصة باختلاف الموارد ، ففي موارد إثبات الاطلاق الشمولي تكفي مقدمات ثلاث : الاولى : ثبوت الحكم للطبيعة الجامعة دون حصة خاصة منها. الثانية : كون المتكلم في مقام البيان. الثالثة : عدم نصب قرينة على الخلاف ، فإذا تمت هذه المقدمات تمّ الاطلاق ، ومقتضاه ثبوت الحكم لتمام أفرادها على اختلافها ومراتب تفاوتها.

١٦٠