محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

[ إجزاء المأمور به الاضطراري ]

وأمّا الكلام في المسألة الثانية : وهي أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري هل هو مجزٍ عن الواقع أم لا ، فيقع في مقامين : الأوّل : فيما إذا ارتفع العذر في الوقت. الثاني : فيما إذا ارتفع في خارج الوقت.

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فليعلم أنّ محل النزاع في الإجزاء وعدمه في هذا المقام إنّما هو فيما إذا كان المأتي به في أوّل الوقت مأموراً به بالأمر الواقعي الاضطراري ، وذلك كما إذا كان الموضوع للأمر الاضطراري وجود العذر وإن كان غير المستوعب لتمام الوقت ، ففي مثله يقع الكلام في أنّ الاتيان به هل هو مجز عن الواقع أو أنّه غير مجز. وأمّا إذا كان الموضوع له العذر المستوعب لتمام الوقت فلا مجال للنزاع هنا أصلاً ، وذلك لعدم الأمر حينئذٍ واقعاً ليقال إنّ امتثاله مجزٍ عن الواقع أم لا ، وذلك كما لو اعتقد المكلف استيعاب العذر في تمام الوقت فصلّى في أوّل الوقت ثمّ انكشف الخلاف وظهر أنّ العذر لم يكن مستوعباً ، ففي مثل ذلك لا أمر واقعاً ولا ظاهراً ليقال إنّ امتثاله مجزٍ عن الواقع أو لا. وأمّا إذا قامت الحجة على الاستيعاب وصلّى في أوّل الوقت ثمّ انكشف الخلاف فهو داخل في المسألة الثالثة وهي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقع وعدم إجزائه عنه وخارج عن مسألتنا هذه.

وإن شئت فقل : إنّ محل البحث في هذه المسألة هو ما إذا كان الموضوع للأمر الواقعي الاضطراري وجود العذر في زمان الاتيان بالواجب ، لا العذر المستوعب لجميع الوقت ، وإلاّ فلا يجوز البدار حقيقة ، فان جوازه حينئذ

٤١

مستند إلى أحد أمرين : إمّا إلى القطع باستيعاب العذر ، أو إلى قيام أمارة كالبينة أو نحوها على الاستيعاب ، ومع انكشاف الخلاف في هاتين الصورتين ينكشف أنّه لا أمر اضطراري واقعاً ليقع البحث في إجزائه عن الواقع وعدمه ، نعم في الصورة الثانية الأمر الظاهري موجود ومن هنا قلنا بدخول هذه الصورة في المسألة الآتية ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ محل الكلام في إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الواقع وعدمه فيما إذا كان الأمر الاضطراري ناشئاً عن مصلحة الواقع ، وأمّا إذا كان ناشئاً عن مصلحة اخرى أجنبية عن مصلحة الواقع فهو خارج عن محل الكلام ، وذلك كالأمر في موارد التقية حيث إنّه نشأ من المصلحة الكامنة في نفس الاتقاء وهو حفظ النفس أو العرض أو المال ، ومن الطبيعي أنّ تلك المصلحة أجنبية عن مصلحة الواقع ، وعليه فلا مقتضي للإجزاء فيها من هذه الناحية ، نعم قد قلنا بالإجزاء في تلك الموارد من ناحية اخرى وهي وجود دليل خاص على ذلك كما ذكرناه في محلّه.

وبعد ذلك نقول : قد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ما هذا لفظه : تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء ، وبيان ما هو قضية كل منها من الإجزاء وعدمه ، واخرى في تعيين ما وقع عليه. فاعلم أنّه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافياً بتمام المصلحة وكافياً فيما هو المهم والغرض. ويمكن أن لا يكون وافياً به كذلك ، بل يبقى منه شيء أمكن استيفاؤه أو لا يمكن ، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب. ولا يخفى أنّه إن كان وافياً به يجزي ، فلا يبقى مجال أصلاً للتدارك لا قضاءً ولا إعادةً ، وكذا لو لم يكن وافياً ولكن لا يمكن تداركه ، ولا

٤٢

يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة إلاّلمصلحة كانت فيه ، لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدارٍ من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الأهم فافهم.

لا يقال : عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار ، لامكان استيفاء الغرض بالقضاء. فانّه يقال : هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت. وأمّا تسويغ البدار أو إيجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرّد الاضطرار مطلقاً ، أو بشرط الانتظار ، أو مع اليأس عن طروء الاختيار ذا مصلحة ووافياً بالغرض. وإن لم يكن وافياً وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت ، أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت ، فان كان الباقي ممّا يجب تداركه فلا يجزي ، بل لا بدّ من إيجاب الاعادة أو القضاء وإلاّ فيجزي. ولا مانع عن البدار في الصورتين ، غاية الأمر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين : العمل الاضطراري في هذا الحال ، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار ، أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار. وفي الصورة الثانية يجزي البدار ، ويستحب الاعادة بعد طروء الاختيار. هذا كلّه فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الأنحاء (١).

ملخص ما أفاده قدس‌سره بحسب مقام الثبوت أربع صور :

الاولى : أن يكون المأمور به بالأمر الاضطراري الواقعي مشتملاً على تمام مصلحة الواقع.

الثانية : أن يكون مشتملاً على بعضها مع عدم إمكان استيفاء الباقي.

الثالثة : هذه الصورة مع إمكان تدارك الباقي ولكنه ليس بحد يلزم استيفاؤه.

الرابعة : أن يكون الباقي واجب الاستيفاء والتدارك.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٤.

٤٣

ولنأخذ بالنظر إلى هذه الصور :

أمّا الصورة الاولى : فلا إشكال في الإجزاء عن الواقع وجواز البدار حقيقة وواقعاً ، لعدم الفرق حينئذ بين الفرد الاضطراري والفرد الاختياري في الوفاء بالملاك والغرض أصلاً.

وأمّا الصورة الثانية : فالصحيح فيها هو القول بالإجزاء ، وذلك لعدم إمكان تدارك الباقي من مصلحة الواقع. نعم ، لا يجوز البدار حينئذ ، ولكن لا بدّ من فرض ذلك فيما إذا كان الملاك في المأمور به بالأمر الاضطراري ، وأمّا إذا كان في أمر آخر فهو خارج عن مفروض الكلام ، كما أنّ جواز البدار واقعاً أو عدم جوازه كذلك إنّما هو بالاضافة إلى وفاء المأمور به الاضطراري بملاك الواقع أو عدم وفائه. وأمّا افتراض جوازه بملاك آخر أجنبي عن ملاك الواقع فهو فرض لا صلة له بمحل الكلام. ومن ذلك يظهر أنّ ما فرضه قدس‌سره من وجود مصلحة في نفس البدار ولأجل تلك المصلحة جاز ، في غير محلّه.

وأمّا الصورة الثالثة : فأيضاً لا مناص من القول بالإجزاء فيها ، وذلك لعدم كون الباقي من الملاك ملزماً ليجب تداركه. هذا كلّه ممّا لا كلام ولا إشكال فيه ، وإنّما الكلام والاشكال في :

الصورة الرابعة : فقد ذكر قدس‌سره أنّ المكلف مخيّر فيها بين البدار في أوّل الوقت والاتيان بعملين : العمل الاضطراري في هذا الحال يعني حال الاضطرار ، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار ، وبين الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره من التخيير في هذه الصورة غير معقول ، وذلك لأنّه من التخيير بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، وقد حققنا في

٤٤

محلّه (١) أنّ التخيير بينهما مستحيل إلاّ إذا رجع إلى التخيير بين المتباينين وتفصيل ذلك هو أنّ مردّ جواز البدار واقعاً إلى أنّ الفرد المضطر إليه مأمور به بالأمر الاضطراري الواقعي حقيقة وواف بتمام مصلحة الواقع ، وإلاّ فلا يجوز البدار كذلك قطعاً. ومردّ التخيير المزبور إلى عدم كون الفرد المضطر إليه مأموراً به كذلك وعدم كونه وافياً بتمام المصلحة ، وذلك لأنّ الشارع إذا لم يكتف بالعمل الناقص في أوّل الوقت وأوجب على المكلف الاتيان بالعمل التام الاختياري بعد رفع الاضطرار والعذر ، سواء أكان المكلف آتياً بالعمل الاضطراري الناقص في أوّل الوقت أم لم يأت به ، فبطبيعة الحال لا معنى لايجابه العمل الاضطراري الناقص وإلزام المكلف باتيانه ولو على نحو التخيير ، فانّه بلا ملاك يقتضيه.

وبكلمة اخرى : أنّ الصورة الاولى والثانية والثالثة في كلامه قدس‌سره وإن كانت من الصور المعقولة بحسب مقام الثبوت ، إلاّ أنّ الصورة الأخيرة وهي الصورة الرابعة غير معقولة ، إذ بعد فرض أنّ الشارع لم يرفع اليد عن الواقع وأوجب على المكلف الاتيان به على كل من تقديري الاتيان بالعمل الاضطراري الناقص في أوّل الوقت وعدم الاتيان به ، فعندئذٍ بطبيعة الحال لا معنى لايجابه الفرد الناقص ، حيث إنّه لا يترتّب على وجوبه أثر ، بل لازم ذلك وجوبه على تقدير المبادرة وعدمه على تقدير عدمها. وأيضاً لازم ذلك كونه مصداقاً للواجب على تقدير الاتيان به ، وعدم كونه كذلك على تقدير عدم الاتيان به ، والسر في كل ذلك ما ذكرناه من أنّ التخيير المذكور غير معقول.

فالنتيجة على ضوء ما بيّناه : أنّ الواجب هو الطبيعي الجامع بين المبدأ

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٢٢٩.

٤٥

والمنتهى ، والمفروض في المسألة هو تمكن المكلف من الاتيان بالطبيعي المزبور في وقته ، من جهة تمكّنه على إيجاد بعض أفراده في الخارج ، ومعه لا مقتضي لإيجاب الشارع الفرد الناقص الذي لا يفي بملاك الواقع.

وإن شئت قلت : إنّ المكلف إذا كان قادراً على الاتيان بالصلاة مع الطهارة المائية مثلاً في الوقت لم تصل النوبة إلى الصلاة مع الطهارة الترابية ، لفرض أنّ الأمر الاضطراري في طول الأمر الاختياري ، ومع تمكن المكلف من امتثال الأمر الاختياري لا موضوع للأمر الاضطراري ، ولازم ذلك عدم جواز البدار هنا واقعاً ، كما أنّ جوازه كذلك ملازم للإجزاء في الوقت وخارجه. فما أفاده قدس‌سره من الجمع بين جواز البدار واقعاً وعدم الإجزاء عن الواقع جمع بين المتناقضين ثبوتاً وهو مستحيل ، فإذن لا تصل النوبة إلى البحث عنه في مقام الإثبات.

ولو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا إمكان الجمع بينهما في مرحلة الثبوت ، يقع الكلام فيه عندئذ في مرحلة الاثبات والدلالة ، يعني هل لأدلّة الأمر الاضطراري إطلاق يتمسّك به في المقام أم لا؟ ذهب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره إلى أنّ لها إطلاقاً وإليك نص ما أفاده :

وأمّا ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) وقوله عليه‌السلام « التراب أحد الطهورين » و « يكفيك عشر سنين » هو الإجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ، ولا بدّ في إيجاب الاتيان به ثانياً من دلالة دليل بالخصوص. وبالجملة فالمتّبع هو الاطلاق لو كان ، وإلاّ فالأصل ، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الاعادة ، لكونه شكاً في أصل التكليف. وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى. نعم ، لو دلّ دليله

٤٦

على أنّ سببه فوت الواقع ولو لم يكن هو فريضة كان القضاء واجباً عليه لتحقق سببه وإن أتى بالفرض ، لكنّه مجرد الفرض (١).

نتيجة ما أفاده قدس‌سره هي جواز البدار مع تمكن المكلف من الاتيان بالفعل الاختياري التام وعدم وجوب الاعادة عليه بعد ارتفاع العذر في أثناء الوقت ، وذلك من جهة إطلاق الدليل ، ومع عدمه أصالة البراءة عن وجوبها.

وقد اختار هذا القول في خصوص الطهارة الترابية جماعة منهم السيِّد الطباطبائي قدس‌سره في العروة (٢).

والصحيح في المقام أن يقال : إنّه لا إطلاق لأدلّة مشروعية التيمم بالقياس إلى من يتمكن من الاتيان بالعمل الاختياري في الوقت ، بداهة أنّ وجوب التيمم وظيفة المضطر ولا يكون مثله مضطراً ، لفرض تمكنه من الصلاة مع الطهارة المائية في الوقت ، ومجرد عدم تمكنه منها في جزء منه لا يوجب كونه مكلفاً بالتكليف الاضطراري ما لم يستوعب تمام الوقت.

وقد ذكرنا في بحث الفقه (٣) أنّ موضوع وجوب التيمم هو عدم التمكن من استعمال الماء عقلاً أو شرعاً في مجموع الوقت بمقتضى الآية الكريمة وما شاكلها ، فلو افترضنا عدم استيعاب العذر لمجموع الوقت وارتفاعه في الأثناء لم يكن المكلف مأموراً بالتيمم ، لعدم تحقق موضوعه.

وبكلمة اخرى : أنّ الواجب على المكلف هو طبيعي الصلاة مثلاً على نحو صرف الوجود كما هو الحال في جميع التكاليف الايجابية ، وعليه فطروء

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٥.

(٢) العروة الوثقى ١ : ٣٥٥ المسألة [١١٤١].

(٣) شرح العروة ١٠ : ٣٢٥.

٤٧

الاضطرار على فرد من ذلك الطبيعي لا يوجب ارتفاع الحكم منه ، وذلك لأنّ ما طرأ عليه الاضطرار ـ وهو الفرد ـ لا حكم له على الفرض ، وما هو متعلق الحكم ـ وهو الطبيعي الجامع ـ لم يطرأ عليه الاضطرار كما هو المفروض ، فإذن لا مقتضي لوجوب التيمم أصلاً. فالنتيجة : أنّ حال الأفراد الطولية كحال الأفراد العرضية من هذه الناحية ، فكما أنّ طروء الاضطرار إلى بعض الأفراد العرضية لا يوجب سقوط التكليف عن الطبيعي الجامع بينها ، فكذلك طروؤه على بعض الأفراد الطولية ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : أنّه لا إطلاق لأدلّة الأمر الاضطراري في محل الكلام ، ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّه لا يجوز التمسّك بأصالة البراءة أيضاً ، وذلك لأنّ رفع الاضطرار في أثناء الوقت كما هو المفروض في المقام كاشف عن عدم تعلّق الأمر واقعاً بالفعل الاضطراري ، ليكون الاتيان به مجزئاً عن الواقع ، بل من الأوّل كان متعلقاً بالفعل الاختياري التام ، والمفروض عدم امتثاله ، فإذن لا نشك في وجوب الاتيان به لنتمسك بأصالة البراءة عنه.

وعلى الجملة : فما أتى به المكلف في الخارج من الفعل الاضطراري لا أمر به على الفرض ، وما كان متعلقاً للأمر لم يأت به ، فإذن كيف يشك في وجوب الاعادة. ومن ذلك تبيّن أنّه لا يجوز البدار هنا واقعاً ، بداهة أنّ جوازه كذلك ملازم للإجزاء ، ومن الطبيعي أنّ الإجزاء لا يمكن إلاّفي فرض وجود الأمر بالفعل الاضطراري واقعاً.

نعم ، قد ثبت جواز البدار في بعض الموارد بدليل خاص مع فرض تمكن المكلف من الفعل الاختياري التام في الوقت.

منها : موارد التقية حيث يجوز البدار فيها واقعاً وإن علم المكلف بارتفاعها في أثناء الوقت وتمكنه من العمل بلا تقيّة ، فيجوز له الوضوء تقيّة مع تمكنه منه

٤٨

بدونها في آخر الوقت أو في مكان آخر ، وهكذا. ومن هنا لا تجب الاعادة بعد ارتفاع العذر.

ومنها : ما إذا تيمم المكلف في آخر الوقت وصلّى به صلاتي الظهرين ثمّ دخل وقت المغرب وهو باق على تلك الطهارة ، جاز له أن يصلي به صلاتي المغرب والعشاء واقعاً ، وهكذا.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ في كل مورد ثبت جواز البدار واقعاً بدليل خاص نلتزم فيه بالإجزاء ، وفي كل مورد لم يثبت جوازه بدليل كذلك فلا نقول به من جهة الأدلّة العامّة.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّه لا وجه للقول بالإجزاء في هذه المسألة أصلاً.

ولكن مع ذلك ذهب شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) إلى الإجزاء فيها ، بدعوى أنّ المكلف لا يخلو من أن يكون متمكناً من الطهارة المائية في تمام الوقت أو لا يكون كذلك ، أو يكون متمكناً منها في بعضه دون بعضه الآخر فعلى الشقّين الأوّلين لا إشكال في التخيير العقلي بين الأفراد الطولية والعرضية.

وعلى الأخير ، فبما أنّ ملاك التخيير هو تساوي الأفراد في الغرض فلا يحكم العقل فيه بالتخيير بين الاتيان بالفرد الناقص والاتيان بالفرد التام يقيناً ، ولكن إذا ثبت جواز البدار مع اليأس فيما إذا فرض ارتفاع العذر في الأثناء بعد الاتيان به والامتثال ، فلا يخلو من أن يكون جوازه حكماً ظاهرياً طريقياً أو حكماً واقعياً.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٨٤.

٤٩

وعلى الأوّل : فيبتني القول بالإجزاء على القول به في المسألة الآتية وهي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الواقع بعد انكشاف الخلاف في الوقت ولا يكون له مساس بمسألتنا هذه.

وعلى الثاني : فلا مناص من الالتزام بالإجزاء ، وذلك لقيام الضرورة والاجماع القطعي على عدم وجوب ست صلوات على المكلف في يوم واحد ، وهو يكشف كشفاً قطعياً عن أنّ الفعل الناقص في حال الاضطرار ـ ولو مع فرض عدم استيعاب العذر لمجموع الوقت ـ واجد لتمام الملاك ، فيكون في هذا الحال في عرض الأفراد الواجدة واقعاً. وعلى هذا فلا مناص من القول بالإجزاء ، ضرورة أنّ الاعادة بعد استيفاء الملاك بتمامه من الامتثال بعد الامتثال.

وفيه أوّلاً : ما عرفت من عدم الدليل على جواز البدار في مفروض المسألة إلاّ في بعض الموارد.

وثانياً : على تقدير تسليم ثبوته ، لا مناص من القول بالإجزاء ، لما عرفت من الملازمة بين جواز البدار واقعاً والإجزاء.

وثالثاً : على تقدير تسليم عدم الملازمة بينهما وأنّ الإجزاء يحتاج إلى دليل ، إلاّ أنّ ما أفاده من الدليل على الإجزاء ـ وهو قيام الاجماع والضرورة ـ خاص بخصوص الصلاة ولا يعم غيرها من الواجبات ، ولا دليل آخر على الإجزاء فيها ، حيث قد عرفت أنّه لا إطلاق لدليل الأمر بالفعل الاضطراري في أمثال الموارد التي يرتفع العذر في أثناء الوقت ليتمسك باطلاقه.

وأمّا الأصل العملي ، فالظاهر أنّه لا مانع من التمسك بأصالة البراءة عن وجوب الاعادة في المقام ، والسبب في ذلك : هو أنّ جواز البدار في مفروض الكلام وإن لم يكن كاشفاً عن أنّ العمل الناقص واجد لتمام ملاك الواقع كشفاً

٥٠

قطعياً ، إلاّ أنّ احتماله موجود ، ومن الطبيعي أنّ مع هذا الاحتمال لا يمكن إحراز تعلق الأمر بالعمل الاختياري التام من الأوّل ، وذلك لأنّ العمل الاضطراري الناقص إن كان واجداً لتمام ملاكه فلا مقتضي للأمر به ، وإلاّ فلا موجب لسقوطه ، وحيث إنّنا لا ندري بوفائه بملاكه وعدم وفائه به ، فبطبيعة الحال لا نحرز وجوبه وتعلق الأمر به ، ومن المعلوم أنّ مثل هذا مورد لأصالة البراءة.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ نتيجة أصالة البراءة هي الإجزاء وعدم وجوب الاعادة.

وأمّا المقام الثاني : وهو ما إذا ارتفع العذر بعد خروج الوقت ، فهل يجزي الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن القضاء في خارج الوقت أم لا؟

فقد اختار شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) الإجزاء بدعوى أنّ عدم الإجزاء في هذه الصورة غير معقول ، والوجه في ذلك : أنّ القيد المتعذر على المكلف في تمام الوقت لا يخلو من أن يكون له دخل في ملاك الواجب مطلقاً حتّى حين التعذر وعدم تمكن المكلف من إتيانه كالطهور مثلاً ، وإمّا أن لا يكون له دخل كذلك ، بل يختص دخله في ملاكه بحالة التمكن منه دون التعذر كالطهارة المائية مثلاً ، فعلى الأوّل لا يمكن الأمر بفاقده في الوقت لعدم الملاك له ، وعلى الثاني فالأمر بالفاقد له باق لفرض اشتماله على المصلحة التامة وعدم دخل القيد المتعذر فيها حال التعذر.

وعلى الجملة : فبناءً على دخل القيد مطلقاً في ملاك الواجب ومصلحته فلا يمكن الأمر بالأداء في الوقت ، لا بالاضافة إلى المأمور به من جهة انتفاء القدرة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٨٣.

٥١

على امتثاله ، ولا بالاضافة إلى الباقي من جهة عدم اشتماله على الملاك والمصلحة التامة ، إذن لا بدّ من الأمر بالقضاء في خارج الوقت ، وبناءً على عدم دخل القيد مطلقاً في ملاكه فبطبيعة الحال يتعين الأمر بالفاقد في الوقت ، لاشتماله على الفرض على تمام الملاك والمصلحة ، وعدم دخل القيد المزبور فيه في هذا الحال.

وعليه فلا أمر بالقضاء لعدم ملاك له ، فالجمع بين الأمر بالأداء في الوقت والأمر بالقضاء في خارج الوقت جمع بين المتناقضين ، ضرورة أنّ الأمر بالقضاء تابع لصدق فوت الفريضة وإلاّ فلا مقتضي له أصلاً ، ومن الطبيعي أنّ صدق فوت الفريضة يستلزم عدم الأمر بالفاقد في الوقت ودخل القيد مطلقاً في الملاك حتّى حال التعذر ، كما أنّ الأمر بالفاقد في الوقت يستلزم عدم دخل القيد المذكور في الملاك مطلقاً وهو يستلزم عدم وجوب القضاء في خارج الوقت ، لفرض عدم صدق فوت الفريضة ، إذن لا يمكن الجمع بين الأمر بالفاقد في الوقت وإيجاب القضاء في خارج الوقت.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري في الوقت مجز عن المأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي في خارج الوقت ، ولا يمكن القول بعدم الإجزاء عنه ، لما عرفت من أنّه لا يمكن الجمع بين الأمر باتيان الفاقد في الوقت وإيجاب القضاء في خارج الوقت ، وأنّ الجمع بينهما جمع بين المتناقضين ، وعليه فلا مناص من القول بالإجزاء هنا.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره قابل للنقد والمؤاخذة بحسب مقام الثبوت ، وإن كان تاماً بحسب مقام الاثبات. فلنا دعويان : الاولى : عدم تمامية ما أفاده قدس‌سره بحسب مرحلة الثبوت. الثانية : تمامية ما أفاده قدس‌سره بحسب مرحلة الاثبات.

٥٢

أمّا الدعوى الاولى : فلإمكان أن يقول قائل بأنّ الصلاة مع الطهارة المائية مثلاً مشتملة على مصلحتين ملزمتين ، أو على مصلحة واحدة ذات مرتبتين شديدة وضعيفة ، ومع تعذر القيد وهو الطهارة المائية في المثال يكون الفاقد ـ وهو الصلاة مع الطهارة الترابية ـ مشتملاً على إحدى المصلحتين الملزمتين أو على المصلحة الضعيفة ، وحيث إنّها ملزمة في نفسها فلذلك توجب الأمر بالفاقد في الوقت لاستيفائها ، ولئلاّ تفوت عن المكلف ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ المصلحة الثانية أو المرتبة الشديدة حيث إنّها كانت أيضاً ملزمة وقابلة للاستيفاء والتدارك ، والمفروض أنّه لا يمكن تداركها في الوقت ، فلا مناص من إيجاب القضاء في خارج الوقت لاستيفائها وتداركها.

فالنتيجة على ضوئهما : هي أنّ الجمع بين الأمر بالفاقد في الوقت والقضاء في خارج الوقت ليس جمعاً بين المتناقضين. فما أفاده قدس‌سره من أنّ الجمع بينهما جمع بين المتناقضين خاطئ جدّاً ولا واقع موضوعي له أصلاً.

نعم ، لو كانت للصلاة مع الطهارة المائية مثلاً مصلحة واحدة شخصية ليست ذات مراتب تمّ ما أفاده قدس‌سره من عدم إمكان الجمع بين الأمر بالأداء في الوقت والأمر بالقضاء في خارج الوقت ، وذلك لما عرفت من أنّ القيد المتعذر إذا كان دخيلاً في ملاك الواجب مطلقاً حتّى حال التعذّر فلا موجب للأمر بالفاقد في الوقت ، وإلاّ فلا مقتضي للأمر بالقضاء في خارج الوقت ، ولكن حيث أمكن اشتمال الواجب في حال الاختيار والتمكن على مصلحة واحدة ذات مراتب ، أو على مصلحتين ملزمتين في مقام الثبوت فلا يتم ما أفاده قدس‌سره.

وأمّا الدعوى الثانية : فلأ نّه لا مانع من التمسك باطلاق أدلة الأمر

٥٣

الاضطراري لاثبات عدم وجوب القضاء في خارج الوقت ، وذلك لأنّ المولى إذا كان في مقام بيان تمام الوظيفة الفعلية للمكلف بهذه الأدلة ، ومع ذلك سكت عن بيان وجوب القضاء عليه في خارج الوقت ، فبطبيعة الحال كان مقتضى إطلاقها المقامي عدم وجوبه وإلاّ كان عليه البيان.

وعلى الجملة : فلا قصور في أدلة الأوامر الاضطرارية كقوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) إلخ (١) ، وقوله عليه‌السلام « التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين » (٢) وما شاكلهما غير قاصرة عن إثبات وجوب الفعل الناقص على المكلف في الوقت ، وعدم وجوب القضاء عليه في خارج الوقت. هذا إذا كان لها إطلاق ، وأمّا مع عدمه فالمرجع هو الأصل العملي ، وهو في المقام أصالة البراءة عن وجوب القضاء ، للشك فيه وعدم الدليل عليه.

وإن شئت قلت : إنّ وجوب القضاء حيث كان بأمر جديد ، سواء أكان موضوعه فوت الفريضة أم كان فوت الواقع بملاكه ، فلا علم لنا به في المقام.

أمّا على الأوّل فواضح ، لفرض عدم فوات الفريضة من المكلف في الوقت. وأمّا على الثاني فلاحتمال أن يكون المأمور به بالأمر الاضطراري مشتملاً على تمام ملاك الواقع فلا يفوت منه الواقع بملاكه ، ومن الواضح أنّ وجوب القضاء مع الشك فيه وعدم قيام دليل عليه مورد لأصالة البراءة ، ولا خصوصية له من هذه الناحية ، فنتيجة هذه المسألة هي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الواقعي وعدم وجوب قضائه في خارج الوقت.

ثمّ إنّ الاضطرار قد يكون بغير اختيار المكلف ، وقد يكون باختياره ، أمّا

__________________

(١) النِّساء ٤ : ٤٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٦٩ / أبواب التيمم ب ١٤ ح ١٢ ( نقل بالمضمون ).

٥٤

الأوّل فقد تقدّم حكمه بشكل موسع فلا نعيد. وأمّا الثاني وهو ما إذا كان الاضطرار باختياره ، كما إذا كان عنده ماء يكفي لوضوئه أو غسله فأراقه فأصبح فاقداً للماء ، أو كان عنده ثوب طاهر فنجّسه وبذلك اضطر إلى الصلاة في ثوب نجس ، أو كان متمكناً من الصلاة قائماً فأعجز نفسه عن القيام وهكذا ، فهل تشمل إطلاقات الأوامر الاضطرارية لهذه الموارد أم لا؟ وجهان والظاهر هو الثاني.

والسبب في ذلك : هو أنّ تلك الاطلاقات بمقتضى الظهور العرفي وارتكازهم منصرفة عن الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف وإرادته ، لوضوح أنّ مثل قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) إلخ (١) ظاهر بمقتضى المتفاهم العرفي فيما إذا كان عدم وجدان الماء والاضطرار إلى التيمم بطبعه وبغير اختيار المكلف ، ومنصرفة عما إذا كان باختياره. وكذا قوله عليه‌السلام « إذا قوي فليقم » (٢) وما شاكل ذلك. وعلى الجملة : فلا شبهة في أنّ الظاهر من تلك الأدلة بمقتضى الفهم العرفي هو اختصاصها بخصوص الاضطرار الطارئ على المكلف بغير اختياره ، فلا تشمل ما كان طارئاً بسوء اختياره.

وعلى هذا الضوء لا يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره وإرادته ، فلو كان عنده ماء مثلاً لم يجز إهراقه وتفويته إذا علم بعدم وجدان الماء في مجموع الوقت ، ولو فعل ذلك استحقّ العقوبة على ترك الواجب الاختياري التام أو على تفويت الملاك الملزم في محله ، ومن الواضح أنّ العقل لا يفرّق في الحكم باستحقاق العقاب بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه إذا

__________________

(١) النِّساء ٤ : ٤٣.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٩٥ / أبواب القيام ب ٦ ح ٣.

٥٥

كان كذلك ، فكما يحكم بقبح الأوّل واستحقاق العقوبة عليه ، فكذلك في الثاني هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : قد اتضح مما ذكرناه أنّه لا أمر في موارد الاضطرار الاختياري لنبحث عن أنّ امتثاله مجزٍ عن الواقع أم لا؟ هذا حسب ما تقتضيه القاعدة.

ولكن في باب الصلاة خاصة قد علمنا من الخارج عدم سقوطها من المكلف بحال ، فلو عجّز نفسه باختياره عن الصلاة قائماً أو مع الطهارة المائية أو في ثوب طاهر ، وجبت الصلاة عليه قاعداً أو مع الطهارة الترابية أو في ثوب متنجس ، وإن استحقّ العقاب على ترك ما هو وظيفة المختار ، لأنّ الاضطرار إذا كان بسوء الاختيار لم يمنع من العقاب.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر الأوّل عن المركب بسقوط جزئه أو قيده ، وإثبات الأمر للفاقد يحتاج إلى دليل ، والأدلة الاضطرارية تختص بصورة الاضطرار غير الاختياري ، ولا تشمل الاضطرار الاختياري ، وعندئذ ففي كل مورد من موارد الاضطرار الاختياري قام دليل خاص على وجوب الاتيان بالفاقد كما في باب الصلاة فهو ، وإلاّ فلا يجب. هذا كلّه في غير موارد التقية.

وأمّا فيها فالظاهر عدم الفرق بين صورتي الاختيار وغيره ، وذلك لاطلاق أدلة التقية ، ومقتضاه جواز الاتيان بالعمل تقية مع التمكن من الاتيان بدونها ، ومن هنا أفتى المشهور بأنّ من تمكن من الصلاة في موضع خال عن التقية لا يجب عليه ذلك ، بل يجوز له الاتيان بها مع العامة تقية ، وكذلك الحال في الوضوء.

فالنتيجة : أنّ في موارد التقية يجوز للمكلف تعجيز نفسه باختياره عن

٥٦

الاتيان بالعمل بدونها ، كما يجوز له البدار إليها ، ولا تجب الاعادة إذا ارتفعت في الأثناء ولا القضاء إذا ارتفعت في خارج الوقت. ولكن قد أشرنا في ضمن البحوث السالفة أنّ موارد التقية خارجة عن محل الكلام في المقام.

إلى هنا قد انتهينا إلى عدّة نتائج :

الاولى : أنّ الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري لا يجزي عن الواقع إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت.

الثانية : أنّ الاتيان به مجزٍ عنه إذا كان العذر مستوعباً لتمام الوقت.

الثالثة : أنّ إطلاقات الأوامر الاضطرارية لا تشمل الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف وإرادته إلاّفي موارد التقية.

الرابعة : ثبوت الملازمة بين تعلق الأمر بالفعل الاضطراري واقعاً وبين الإجزاء عن الواقع ، أو فقل : ثبوت الملازمة بين جواز البدار واقعاً والإجزاء ، هذا بحسب نظريتنا من وجود الملازمة بين تعلق الأمر بالفعل الاضطراري واقعاً وبين الإجزاء عن الواقع في مقام الثبوت ، ومعه لا حاجة في الرجوع إلى أدلة اخرى لاثبات ذلك ولا تصل النوبة إلى البحث عن وجود هذه الأدلة في مقام الاثبات.

ولكن لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بمقالة صاحب الكفاية قدس‌سره فعندئذ بطبيعة الحال نحتاج في إثبات ذلك إلى التماس دليل اجتهادي أو أصل عملي.

وأمّا الدليل الاجتهادي فصوره أربع :

الاولى : أن يكون كل من دليل الأمر الاضطراري ودليل اعتبار الجزئية أو الشرطية مطلقاً.

٥٧

الثانية : أن يكون لدليل اعتبار الجزئية أو الشرطية إطلاق دون دليل الأمر الاضطراري.

الثالثة : بعكس ذلك ، بأن يكون لدليل الأمر الاضطراري إطلاق دون دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية.

الرابعة : أن لا يكون لشيء من الدليلين إطلاق.

أمّا الصورة الاولى : فلا ينبغي الشك في أنّ إطلاق دليل الأمر الاضطراري يتقدم على إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية ، وذلك لحكومته عليه ، ومن الطبيعي أنّ إطلاق دليل الحاكم يتقدم على إطلاق دليل المحكوم كما هو الحال في تقديم جميع الأدلة المتكفلة لاثبات الأحكام بالعناوين الثانوية كأدلة لا ضرر ولا حرج وما شاكلهما على الأدلة المتكفلة لاثباتها بالعناوين الأوّلية. وعلى ضوء ذلك فقضية إطلاق الأمر الاضطراري من ناحية وتقديمه على إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية من ناحية اخرى هي الإجزاء وعدم وجوب الاعادة حتّى فيما إذا ارتفع الاضطرار في الوقت فضلاً عن خارج الوقت ، والسبب في ذلك : هو أنّ الاطلاق كاشف عن أنّ الفعل الاضطراري تمام الوظيفة وأ نّه وافٍ بملاك الواقع وإلاّ لكان عليه البيان ، ولازمه بطبيعة الحال عدم إعادة العمل حتّى في الوقت فما ظنّك بخارج الوقت.

وأمّا الصورة الثانية : فمقتضى إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية هو عدم سقوطهما في حال الاضطرار ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه لا إطلاق لدليل الأمر الاضطراري على الفرض. فالنتيجة بطبيعة الحال هي عدم الإجزاء ووجوب الاعادة إذا عادت القدرة للمكلف.

وأمّا الصورة الثالثة : فهي بعكس الصورة الثانية تماماً ، يعني أنّ مقتضى

٥٨

إطلاق دليل الأمر الاضطراري من ناحية وعدم إطلاق دليل اعتبار الجزئية أو الشرطية من ناحية اخرى ، هو الإجزاء لا محالة وعدم وجوب الاعادة عند إعادة القدرة.

وأمّا الصورة الرابعة : فحيث إنّه لا إطلاق لكل من الدليلين فالمرجع فيها هو الاصول العملية ، وقد اختلفت كلمات الأعلام فيها فذهب المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى أنّ الأصل هنا يقتضي البراءة عن وجوب الاعادة بتقريب أنّ الفعل الاضطراري حيث كان متعلقاً للأمر واقعاً ولذا جاز البدار إليه ، والمفروض أنّ المكلف أتى به ، فعندئذ إذا ارتفع العذر في الوقت وعادت القدرة فبطبيعة الحال شكّ في أصل وجوب الاعادة وهو مرجع لأصالة البراءة ، كما إذا شكّ في وجوب القضاء.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره مبني على جواز البدار واقعاً في مثل المقام ، فعندئذ لا مناص من القول بالإجزاء ، لما تقدّم من الملازمة بينه وبين وفاء المأمور به بالأمر الاضطراري بتمام ملاك الواقع وإجزائه عنه ، وعليه فلو شكّ في وجوب الاعادة بعد ارتفاع العذر فطبعاً يكون شكّاً في أصل التكليف ، ومقتضى الأصل عدمه ، إلاّ أنّك قد عرفت في ضمن البحوث السابقة أنّه لا دليل على جواز البدار واقعاً فيما إذا لم يكن العذر مستوعباً لمجموع الوقت كما هو المفروض في المقام ، وعليه فلا مناص من القول بعدم الإجزاء ووجوب الاعادة بعد ارتفاع العذر.

وذهب بعض الأعاظم قدس‌سره (٢) إلى أنّ مقتضى الأصل هنا الاشتغال

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٥.

(٢) نهاية الأفكار ١ : ٢٣٠.

٥٩

دون البراءة ، وقد قرّب ذلك بوجهين :

الأوّل : أنّ الشك في وجوب الاعادة فيما إذا ارتفع العذر في الوقت نشأ من الشك في القدرة على استيفاء المصلحة الباقية من العمل الاختياري ، وهذا وإن كان شكاً في أصل التكليف ، ومقتضى الأصل فيه البراءة ، إلاّ أنّه لما كان ناشئاً من الشك في القدرة فالمرجع فيه هو قاعدة الاشتغال ، لما تقرر في محلّه (١) من أنّ الشك في التكليف إذا كان ناشئاً عن الشك في القدرة على الامتثال فهو مورد لحكم العقل بالاشتغال دون البراءة كما لا يخفى.

الثاني : أنّ المقام داخل في كبرى مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، ببيان أنّا نعلم إجمالاً بأنّ الجامع بين الفعل الاضطراري والاختياري مشتمل على مقدار من المصلحة ، ولكنّا نشك في أنّ المقدار الباقي من المصلحة الملزمة أيضاً قائم بالجامع لتكون نتيجته التخيير بين الاتيان بالفعل الاضطراري والاتيان بالفعل الاختياري ، ولازم ذلك هو إجزاء الاتيان بالفعل الاضطراري عن الواقع ، لأنّ المكلف مع الاتيان به قد امتثل الواجب في ضمن أحد فرديه ـ وهو الاضطراري ـ أو أنّه قائم بخصوص الفرد الاختياري ، لتكون نتيجته التعيين ، ولازمه عدم إجزائه عنه ، لفرض أنّه غير وافٍ بتمام مصلحته ، فلا بدّ عندئذ من الاتيان به ثانياً ، وحيث إنّنا لا نحرز هذا ولا ذاك بالخصوص ، فبطبيعة الحال نشك في أنّ التكليف في المقام هل تعلق بالجامع أو بخصوص الفرد الاختياري ، وهذا معنى دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والمرجع فيه التعيين بقاعدة الاشتغال.

ولنأخذ بالنقد على كلا الوجهين :

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٦٥.

٦٠