محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، واللّعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

١
٢

دوران الواجب بين النفسي والغيري

إذا علم بوجوب شيء وتردّد أمره بين الوجوب النفسي والغيري ، أو بين التعييني والتخييري ، أو بين العيني والكفائي فما هو مقتضى الأصل والقاعدة في ذلك؟ فهنا مسائل ثلاث :

أمّا المسألة الاولى : وهي ما إذا دار أمر الوجوب بين النفسي والغيري فالكلام فيها يقع في موردين : الأوّل : في الأصل اللّفظي. والثاني : في الأصل العملي.

أمّا المورد الأوّل : فلا ينبغي الشك في أنّ مقتضى الأصل اللفظي كعموم أو إطلاق هو النفسي ، وذلك لأنّ بيان وجوب الغيري يحتاج إلى مؤونة زائدة باعتبار أنّه قيد للواجب النفسي ، ومن الواضح أنّ الاطلاق لا يفي لبيان كونه قيداً له. وعلى الجملة : فالتقييد يحتاج إلى مؤونة زائدة ، مثلاً لو كان لقوله تعالى ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) إطلاق فمقتضاه عدم تقييد الصلاة بالطهارة أو نحوها ، فالتقييد يحتاج إلى دليل ومؤونة زائدة ، والاطلاق ينفيه ، ولازم ذلك هو أنّ وجوب الطهارة المشكوك نفسي لا غيري. وكذا إذا أخذنا باطلاق الأمر بالطهارة ، فان مقتضاه وجوبها مطلقاً ، أي سواء أكانت الصلاة واجبة أم لا ، فتقييد وجوبها بوجوب الصلاة يحتاج إلى دليل.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣.

٣

وقد تحصّل من ذلك : أنّه يمكن إثبات نفسية الوجوب بطريقين :

الأوّل : الأخذ باطلاق دليل الواجب النفسي كالصلاة مثلاً ، ودفع كل ما يحتمل أن يكون قيداً له كالطهارة أو استقبال القبلة أو نحو ذلك ، ولازم هذا هو أنّ الواجب المحتمل دخله فيه كالطهارة مثلاً نفسي ، وهذا اللاّزم حجّة في باب الاصول اللفظية.

الثاني : الأخذ باطلاق دليل الواجب المشكوك في كونه نفسياً أو غيرياً ، وذلك لأنّ وجوبه لو كان غيرياً فهو مشروط بطبيعة الحال بوجوب واجب آخر نفسي ، وإن كان نفسياً فهو مطلق وغير مقيّد به ، وعليه فإذا شكّ في أنّه نفسي أو غيري فمقتضى إطلاق دليله وعدم تقييده بما إذا وجب شيء آخر هو الحكم بكونه نفسياً ، والفرق بين الاطلاقين هو أنّ الأوّل تمسك باطلاق المادة ، والثاني تمسك باطلاق الهيئة ، فاذا تمّ كلا الاطلاقين أو أحدهما كفى لاثبات كون الواجب نفسياً.

وأمّا المورد الثاني : فسيأتي (١) الكلام فيه في بحث مقدمة الواجب إن شاء الله تعالى بشكل موسع فلا حاجة إلى البحث عنه في المقام.

__________________

(١) في ص ٢٢٢.

٤

[ دوران الواجب بين التعييني والتخييري ]

وأمّا المسألة الثانية : وهي ما إذا دار الأمر بين كون الواجب تعيينياً أو تخييرياً ، فأيضاً يقع الكلام فيها في مقامين : الأوّل : في مقتضى الأصل اللفظي.

الثاني : في مقتضى الأصل العملي.

أمّا المقام الأوّل : فبيانه يحتاج إلى توضيح حول حقيقة الواجب التخييري فنقول : إنّ الأقوال فيه ثلاثة :

الأوّل : أنّ الواجب ما اختاره المكلف في مقام الامتثال ، ففي موارد التخيير بين القصر والتمام مثلاً لو اختار المكلف القصر فهو الواجب عليه ولو عكس فبالعكس.

الثاني : أن يكون كل من الطرفين أو الأطراف واجباً تعيينياً ومتعلقاً للارادة ، ولكن يسقط وجوب كل منهما بفعل الآخر ، فيكون مردّ هذا القول إلى اشتراط وجوب كل من الطرفين أو الأطراف بعدم الاتيان بالآخر.

الثالث : ما اخترناه من أنّ الواجب هو أحد الفعلين أو الأفعال لا بعينه ، وتطبيقه على كل منهما في الخارج بيد المكلف كما هو الحال في موارد الواجبات التعيينية ، غاية الأمر أنّ متعلق الوجوب في الواجبات التعيينية الطبيعة المتأصلة والجامع الحقيقي ، وفي الواجبات التخييرية الطبيعة المنتزعة والجامع العنواني ، وقد ذكرنا في محله أنّه لا مانع من تعلق الأمر به أصلاً ، بل تتعلق به الصفات الحقيقية كالعلم والارادة وما شاكلهما ، وذكرنا أنّه لا واقع للمعلوم

٥

بالاجمال في موارد العلم الاجمالي ما عدا عنوان أحدهما أو أحدها حتّى في علم الله تعالى ، فاذا تعلقت به الصفات الحقيقية فما ظنّك بالحكم الشرعي الذي هو أمر اعتباري محض. وقد تقدّم منّا غير مرّة أنّ الأحكام الشرعية امور اعتبارية وليس لها واقع موضوعي ما عدا اعتبار الشارع ، ومن المعلوم أنّ الأمر الاعتباري كما يصح تعلقه بالجامع الذاتي كذلك يصح تعلقه بالجامع الانتزاعي ، فلا مانع من اعتبار الشارع أحد الفعلين أو الأفعال على ذمة المكلف ، ونتيجة ذلك هي أنّ بقاءه مشروط بعدم تحقق شيء منهما أو منها في الخارج.

وبعد ذلك نقول : إنّ مقتضى إطلاق الأمر المتعلق بشيء هو التعيين لا التخيير على جميع الأقوال في المسألة ، أمّا على القول الأوّل فواضح ، لفرض أنّ وجوب كل منهما مشروط باختيار المكلف ، ومن الطبيعي أنّ مقتضى الاطلاق عدمه ، فالاشتراط يحتاج إلى دليل زائد. وأمّا على القول الثاني فالأمر أيضاً كذلك ، لفرض أنّ وجوب كلٍ مشروط بعدم الاتيان بالآخر ، ومقتضى الاطلاق عدمه وبه يثبت الوجوب التعييني.

وأمّا على القول الثالث كما هو المختار فلأنّ مرجع الشك في التعيين والتخيير فيه إلى الشك في متعلق التكليف من حيث السعة والضيق ، يعني أنّ متعلقه هو الجامع أو خصوص ما تعلق به الأمر ، كما إذا ورد الأمر مثلاً باطعام ستِّين مسكيناً وشككنا في أنّ وجوبه تعييني أو تخييري ، يعني أنّ الواجب هو خصوص الاطعام أو الجامع بينه وبين صيام شهرين متتابعين ، ففي مثل ذلك لا مانع من الأخذ باطلاقه لاثبات كون الواجب تعيينياً لا تخييرياً ، لأنّ بيانه يحتاج إلى مؤونة زائدة وهي ذكر العدل بالعطف بكلمة ( أو ) وحيث لم يكن فيكشف عن عدمه في الواقع ، ضرورة أنّ الاطلاق في مقام الاثبات يكشف عن الاطلاق في مقام الثبوت.

٦

أو فقل : إنّ الواجب لو كان تخييرياً فبقاء وجوبه مقيد بعدم الاتيان بفرد ما من أفراده في الخارج ، ومن المعلوم أنّ مقتضى الاطلاق عدم هذا التقييد وأنّ الواجب هو الفعل الخاص. ويمكن أن يقرر هذا بوجه آخر : وهو أنّ الأمر المتعلق بشيء خاص كالاطعام مثلاً فالظاهر هو أنّ للعنوان المذكور المتعلق به الأمر دخلاً في الحكم ، فلو كان الواجب هو الجامع بينه وبين غيره ولم يكن للعنوان المزبور أيّ دخل فيه فعليه البيان ، وحيث لم يقم بيان عليه فمقتضى الاطلاق هو وجوبه الخاص ، دون الجامع بينه وبين غيره ، وهذا هو معنى أنّ الاطلاق يقتضي التعيين.

وأمّا المقام الثاني : فالكلام فيه يقع في مبحث البراءة والاشتغال (١) إن شاء الله تعالى فلا حاجة إليه هنا.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٥٣٠.

٧

[ دوران الواجب بين العيني والكفائي ]

وأمّا المسألة الثالثة : وهي ما إذا دار الأمر بين الواجب الكفائي والعيني ، فيقع الكلام فيها أيضاً تارة في مقتضى الأصل اللفظي ، وتارة اخرى في مقتضى الأصل العملي.

أمّا الكلام في المورد الأوّل : فبيانه يحتاج إلى توضيح حول حقيقة الوجوب الكفائي فنقول : إنّ ما قيل أو يمكن أن يقال في تصويره وجوه :

الأوّل : أن يقال : إنّ التكليف متوجه إلى واحد معيّن عند الله ولكنه يسقط عنه بفعل غيره ، لفرض أنّ الغرض واحد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر.

الثاني : أن يقال : إنّ التكليف في الواجبات الكفائية متوجه إلى مجموع آحاد المكلفين من حيث المجموع ، بدعوى أنّه كما يمكن تعلق تكليف واحد شخصي بالمركب من الامور الوجودية والعدمية على نحو العموم المجموعي كالصلاة مثلاً إذا كان الغرض المترتب عليه واحداً شخصياً ، كذلك يمكن تعلقه بمجموع الأشخاص على نحو العموم المجموعي.

الثالث : أن يقال : إنّ التكليف به متوجه إلى عموم المكلفين على نحو العموم الاستغراقي فيكون واجباً على كل واحد منهم على نحو السريان ، غاية الأمر أنّ وجوبه على كلٍ مشروط بترك الآخر.

الرابع : أن يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه ، المعبّر عنه

٨

بصرف الوجود ، وهذا الوجه هو الصحيح.

بيان ذلك ملخّصاً : هو أن غرض المولى كما يتعلق تارة بصرف وجود الطبيعة ، واخرى بمطلق وجودها ، كذلك يتعلق تارة بصدوره عن جميع المكلفين واخرى بصدوره عن صرف وجودهم. فعلى الأوّل ، الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر. وعلى الثاني ، فالواجب كفائي بمعنى أنّه واجب على أحد المكلفين لا بعينه المنطبق على كل واحد منهم ويسقط بفعل بعض عن الباقي ، وهذا واقع في العرف والشرع.

أمّا في العرف : فكما إذا أمر المولى أحد عبيده أو خدّامه بفعل في الخارج من دون أن يتعلق غرضه بصدوره من شخص خاص منهم ، ولذا أيّ واحد منهم قام به وأوجده في الخارج حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة.

وأمّا في الشرع : فأيضاً كذلك ، كما في أمره بدفن الميت أو كفنه أو نحو ذلك ، حيث إنّ غرضه لم يتعلق بصدوره عن خصوص واحد منهم ، بل المطلوب وجوده في الخارج من أيّ واحد منهم كان ، وذلك لأنّ نسبة ذلك الغرض الوحداني إلى كل واحد من أفراد المكلفين على السوية ، فعندئذٍ تخصيص واحد معيّن منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجاً بلا مخصص ومرجح ، وتخصيص المجموع منهم على نحو العموم المجموعي بتحصيل ذلك الغرض ، مع أنّه بلا مقتض وموجب باطل بالضرورة كما برهن في محله ، وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي أيضاً بلا مقتض وسبب بعد افتراض أنّ الغرض واحد يحصل بفعل بعض منهم ، فاذن يتعيّن وجوبه على واحد منهم على نحو صرف الوجود.

وبعد ذلك نقول : إنّ مقتضى إطلاق الدليل هو الوجوب العيني على جميع هذه الوجوه والاحتمالات.

٩

أمّا على الوجه الأوّل : فواضح ، لأنّ سقوط التكليف عن شخص بفعل غيره يحتاج إلى دليل ، وإلاّ فمقتضى إطلاقه عدم سقوطه به. أو فقل : إنّ مردّ هذا إلى اشتراط التكليف بعدم قيام غيره بامتثاله وهو خلاف الاطلاق.

وأمّا على الوجه الثاني : فمضافاً إلى أنّه في نفسه غير معقول فأيضاً الأمر كذلك ، لأنّ مقتضى إطلاق الدليل هو أنّ كل واحد من أفراد المكلف موضوع للتكليف. وجعل الموضوع له مجموع أفراده على نحو العموم المجموعي بحيث يكون كل فرد من أفراده جزءه لاتمامه خلاف الاطلاق ، وعند احتماله يدفع به.

وأمّا على الوجه الثالث : فالأمر ظاهر ، ضرورة أنّ قضيّة الاطلاق عدم الاشتراط ، فالاشتراط يحتاج إلى دليل خاص.

وأمّا على الوجه الرابع : فأيضاً الأمر كذلك ، حيث إنّ حاله بعينه هو حال الوجه الثالث في الوجوب التخييري فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، غاية الأمر أنّ الأوّل متعلق بالمأمور به والثاني بالمكلفين. وعلى الجملة ففيما إذا ورد الأمر متوجهاً إلى شخص خاص أو صنف مخصوص وشككنا في أنّه كفائي أو عيني ، يعني أنّ موضوعه هو الجامع بينه وبين غيره أو خصوص هذا الفرد أو ذاك الصنف ، فلا مانع من التمسك بالاطلاق لاثبات كونه عينياً.

ويمكن أن يقرّب هذا بوجه آخر : وهو أنّ ظاهر الأمر المتوجه إلى شخص خاص أو صنف مخصوص هو أنّ لخصوص عنوانه دخلاً في الموضوع ، ومتى لم تكن قرينة على عدم دخله وأنّ الموضوع هو طبيعي المكلف فاطلاق الدليل يقتضي دخله ، ولازم ذلك هو كون الوجوب عينياً لا كفائياً.

وأمّا الكلام في المورد الثاني : وهو مقتضى الأصل العملي فيقع في مبحث

١٠

البراءة والاشتغال وسيجيء (١) إن شاء الله تعالى أنّ مقتضى الأصل هناك البراءة دون الاشتغال. إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ مقتضى الأصل اللفظي في المسائل الثلاث هو كون الواجب نفسياً تعيينياً عينياً.

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٥٣٠ [ لكنّه لم يصرّح هناك بالدوران بين العيني والكفائي ].

١١

الأمر عقيب الحظر

إذا وقع الأمر عقيب الحظر أو توهمه فهل يدل على الوجوب كما نسب إلى كثير من العامّة (١) ، أو على الاباحة كما هو المعروف والمشهور بين الأصحاب ، أو هو تابع لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علة النهي لا مطلقاً؟ وجوه بل أقوال.

والتحقيق هو أنّه لا يدل على شيء من ذلك ، من دون فرق بين نظريتنا في مفاد الصيغة وما شاكلها ونظرية المشهور في ذلك. أمّا على ضوء نظريتنا فلأنّ العقل إنّما يحكم بلزوم قيام المكلف بما أمر به المولى بمقتضى قانون المولوية والعبودية إذا لم تقم قرينة على الترخيص وجواز الترك ، وحيث يحتمل أن يكون وقوع الصيغة أو ما شاكلها عقيب الحظر أو توهمه قرينة على الترخيص فلا ظهور لها في الوجوب بحكم العقل.

وإن شئت قلت : إنّها حيث كانت محفوفة بما يصلح للقرينية فلا ينعقد لها ظهور فيه. إذن فحمل الصيغة أو ما شاكلها في هذا الحال على الوجوب يقوم على أساس أمرين :

أحدهما : أن تكون الصيغة موضوعة للوجوب.

وثانيهما : أن تكون أصالة الحقيقة حجة من باب التعبد كما نسب إلى السيِّد

__________________

(١) راجع المحصول ١ : ٢٣٦ ، منهاج الوصول : ٧٦.

١٢

( قدس‌سره ) (١) وحيث إنّه لا واقع موضوعي لكلا الأمرين على ضوء نظريتنا فلا مقتضي لحملها على الوجوب أصلاً ، ومن هنا يظهر أنّه لا مقتضي لحملها عليه على ضوء نظرية المشهور أيضاً ، فانّ الصيغة أو ما شابهها على ضوء هذه النظرية وإن كانت موضوعة للوجوب إلاّ أنّه لا دليل على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد ، وإنّما هي حجة من باب الظهور ولا ظهور في المقام ، لما عرفت من احتفافها بما يصلح للقرينية ، ومن ذلك يظهر أنّه لا وجه لدعوى حملها على الاباحة أو تبعيتها لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علّة النهي ، وذلك لأنّ هذه الدعوى تقوم على أساس أن يكون وقوعها عقيب الحظر أو توهمه قرينة عامّة على إرادة أحدهما بحيث تحتاج إرادة غيرهما إلى قرينة خاصة ، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك ، لاختلاف موارد استعمالها فلا ظهور لها في شيء من المعاني المزبورة.

فالنتيجة : أنّها مجملة ، فارادة كل واحد من تلك المعاني تحتاج إلى قرينة.

__________________

(١) لاحظ الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١٣.

١٣

المرّة والتكرار

لا إشكال في انحلال الأحكام التحريمية بانحلال موضوعاتها كما تنحل بانحلال المكلفين خارجاً ، ضرورة أنّ المستفاد عرفاً من مثل قضية لا تشرب الخمر أو ما شاكلها انحلال الحرمة بانحلال وجود الخمر في الخارج ، وأ نّه متى ما وجد فيه خمر كان محكوماً بالحرمة ، كما هو الحال في كافة القضايا الحقيقية.

وأمّا التكاليف الوجوبية فأيضاً لا إشكال في انحلالها بانحلال المكلفين وتعددها بتعددهم ، بداهة أنّ المتفاهم العرفي من مثل قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(١) أو ما شاكله ، هو تعدد وجوب الحج بتعدد أفراد المستطيع خارجاً. وأمّا انحلالها بانحلال موضوعاتها فيختلف ذلك باختلاف الموارد فتنحل في بعض الموارد دون بعضها الآخر.

ومن الأوّل : قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(٢) وقوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(٣) وما شاكلهما ، حيث إنّ المتفاهم العرفي منهما هو الانحلال وتعدد وجوب الصلاة ووجوب الصوم عند تعدد الدلوك والرؤية.

ومن الثاني : قوله تعالى ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) إلخ ، حيث إنّ المستفاد

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٣) البقرة ٢ : ١٨٥.

١٤

منه عرفاً عدم انحلال وجوب الحج بتعدّد الاستطاعة خارجاً في كل سنة ، بل المستفاد منه أنّ تحقق الاستطاعة لدى المكلف يقتضي وجوب الحج عليه فلو امتثل مرّة واحدة كفى ولا يلزمه التكرار بعد ذلك وإن تجددت استطاعته مرّة ثانية.

وبعد ذلك نقول : إنّ صيغة الأمر أو ما شاكلها لا تدل على التكرار ولا على المرّة في كلا الموردين ، واستفادة الانحلال وعدمه إنّما هي بسبب قرائن خارجية وخصوصيات المورد لا من جهة دلالة الصيغة عليه وضعاً.

وبكلمة اخرى : أنّ المرّة والتكرار في الأفراد الطولية والوحدة والتعدد في الأفراد العرضية جميعاً خارج عن إطار مدلول الصيغة مادة وهيئة ، والوجه في هذا واضح ، وهو أنّ الصيغة لو دلت على ذلك فبطبيعة الحال لا تخلو من أن تدل عليه بمادتها أو بهيئتها ولا ثالث لهما ، والمفروض أنّها لا تدل بشيء منهما على ذلك.

أمّا من ناحية المادة : فلفرض أنّها موضوعة للدلالة على الطبيعة المهملة المعراة عنها كافة الخصوصيات ، منها المرّة والتكرار والوحدة والتعدد فلا تدل على شيء منها.

وأمّا من ناحية الهيئة : فقد تقدّم في ضمن البحوث السالفة أنّها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج ، فلا تدل على خصوصية زائدة على ذلك ، كالانحلال وعدمه أصلاً.

فالنتيجة : أن هذا النزاع لا يقوم على أساس صحيح وواقع موضوعي ، فعندئذٍ إن قام دليل من الخارج على تقييد الطلب بإحدى الخصوصيات المذكورة فهو ، وإلاّ فالمرجع ما هو مقتضى الأصل اللفظي أو العملي.

١٥

أمّا الأصل اللفظي ، كأصالة الاطلاق أو العموم إذا كان ، فلا مانع من التمسك به لاثبات الاكتفاء بالمرة الواحدة في الأفراد الطولية ، وهذا لا من ناحية أخذها في معنى هيئة الأمر أو مادته ، لما عرفت من عدم دلالة الصيغة عليه بوجه ، بل من ناحية أن متعلق الأمر هو صرف الطبيعة ، وهو وإن كان كما يصدق بالمرة الواحدة يصدق بالتكرار ، إلاّ أنّ الاكتفاء به في ضمن المرّة الواحدة من جهة صدق الطبيعة عليها خارجاً الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر ، وعندئذ فلا يبقى مقتض للتكرار أصلاً ، كما أنّه لا مانع من التمسك به لاثبات الاكتفاء بوجود واحد في الأفراد العرضية ، وهذا لا من ناحية أخذ الوحدة في معنى الأمر ، لما عرفت من عدم أخذها فيه ، بل من ناحية صدق الطبيعة عليه خارجاً الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر فلا يبقى مقتض للتعدد.

وأمّا الأصل العملي في المقام ، فهو أصالة البراءة عن اعتبار الأمر الزائد. وعلى الجملة : أنّ ما هو ثابت على ذمة المكلف ولا شك فيه أصلاً هو اعتبار طبيعي الفعل ، وأمّا الزائد عليه وهو تقييده بالتكرار أو بعدمه في الأفراد الطولية أو تقييده بالتعدد أو بعدمه في الأفراد العرضية فحيث لا دليل على اعتباره ، فمقتضى الأصل هو البراءة عنه ، فإذا جرت أصالة البراءة عن ذلك في كلا الموردين ثبت الاطلاق ظاهراً ، ومعه يكتفى بطبيعة الحال بالمرة الواحدة ، لصدق الطبيعة عليها الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر ، كما إذا أمر المولى عبده باعطاء درهم للفقير فأعطاه درهماً واحداً يحصل به الامتثال ، لصدق الطبيعي عليه وعدم الدليل على اعتبار أمر زائد ، هذا لا إشكال فيه.

١٦

[ الامتثال بعد الامتثال ]

وإنّما الاشكال والنزاع في إتيان المأمور به ثانياً بعد إتيانه أوّلاً ، ويُسمّى ذلك بالامتثال بعد الامتثال ، فهل يمكن ذلك أم لا؟ فيه وجوه ، ثالثها : التفصيل بين بقاء الغرض الأقصى وعدمه ، وقد اختار المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره هذا التفصيل وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصّه :

والتحقيق أنّ قضية الاطلاق إنّما هو جواز الاتيان بها مرّة في ضمن فرد أو أفراد ، فيكون إيجادها في ضمنها نحواً من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد ، لا جواز الاتيان بها مرّة أو مرّات ، فانّه مع الاتيان بها مرّة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الأمر فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى بحيث يحصل بمجرّده ، فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانياً بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالاً واحداً ، لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الأمر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلاً.

وأمّا إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض ، كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلاً ، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقاً ، كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الإجزاء (١).

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٩.

١٧

والصحيح هو عدم جواز الامتثال بعد الامتثال ، وذلك لأنّ مقتضى تعلق الأمر بالطبيعة بدون تقييدها بشيء كالتكرار أو نحوه حصول الامتثال بايجادها في ضمن فردٍ ما في الخارج ، لفرض انطباقها عليه قهراً ، ولا نعني بالامتثال إلاّ انطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج ، ومعه لا محالة يحصل الغرض ويسقط الأمر ، فلا يبقى مجال للامتثال مرّة ثانية ، لفرض سقوط الأمر بالامتثال الأوّل وحصول الغرض به ، فالاتيان بها بداعيه ثانياً خلف. ومن هنا سنذكر إن شاء الله تعالى في مبحث الإجزاء أنّ الاتيان بالمأمور به بجميع أجزائه وشرائطه علة تامة لحصول الغرض وسقوط الأمر ، فعدم الاجزاء غير معقول ، بل لو لم يكن الامتثال الأوّل مسقطاً للأمر وموجباً لحصول الغرض لم يكن الامتثال الثاني أيضاً كذلك ، لفرض أنّه مثله فلا تفاوت بينهما ، على أنّه لا معنى لجواز الامتثال ثانياً بعد فرض بقاء الأمر والغرض.

وإن شئت قلت : إنّ لأمر واحد ليس إلاّ امتثالاً واحداً ، فعندئذ إن سقط الأمر بالامتثال الأوّل لم يعقل امتثاله ثانياً وإلاّ وجب ذلك ، ضرورة أنّ حدوث الغرض كما يوجب حدوث الأمر ، كذلك بقاؤه يوجب بقاءه ، فجواز الامتثال بعد الامتثال عندئذ لا يرجع إلى معنى معقول. نعم ، إذا أتى المكلف بما لا ينطبق عليه المأمور به خارجاً وجب عليه الاتيان به مرّة ثانية ، إلاّ أنّه ليس امتثالاً بعد الامتثال ، لفرض أنّ الأوّل ليس امتثالاً له.

ومن ضوء هذا البيان يظهر نقطة الخطأ في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وهي الخلط بين الغرض المترتب على وجود المأمور به في الخارج من دون دخل شيء آخر فيه ، وبين غرض الآمر كرفع العطش مثلاً ، حيث إنّ حصوله يتوقف على فعل نفسه وهو الشرب زائداً على الاتيان بالمأمور به ، ومن الطبيعي

١٨

أنّ المكلف لا يكون مأموراً بايجاده وامتثاله ، لخروجه عن قدرته واختياره ، فالواجب على المكلف ليس إلاّتمكين المولى من الشرب وتهيئة المقدمات له ، فانّه تحت اختياره وقدرته وهو يحصل بصرف الامتثال الأوّل. وكيف كان ، فان حصل الغرض من الامتثال الأوّل وسقط الأمر لم يعقل الامتثال الثاني إلاّ تشريعاً ، وإن لم يحصل وجب ذلك ثانياً ، وعلى كلا التقديرين فلا معنى لجوازه أصلاً.

نعم ، قد يتوهم جواز ذلك في موردين :

أحدهما : في صلاة الآيات ، حيث قد ورد فيها أنّ من صلّى صلاة الآيات فله أن يعيد صلاته مرّة ثانية ما دامت الآية باقية (١) ، وهذا يدل على جواز الامتثال مرّة ثانية بعد الامتثال الأوّل.

وثانيهما : في الصلاة اليومية ، حيث قد ورد فيها أنّ من صلّى فرادى واقيمت الجماعة فله أن يعيد صلاته مرّة اخرى فيها (٢) ، وهذا أيضاً يدل على جواز الامتثال بعد الامتثال.

ولكن هذا التوهم خاطئ في كلا الموردين ولا واقع له.

أمّا في المورد الأوّل : فهو لا يدل على أزيد من استحباب الاعادة مرّة ثانية بداعي الأمر الاستحبابي ، بداهة أنّ الأمر الوجوبي قد سقط بالامتثال الأوّل فلا تعقل الاعادة بداعيه.

وبكلمة اخرى : أنّ صلاة الآيات متعلقة لأمرين : أحدهما أمر وجوبي والآخر أمر استحبابي ، غاية الأمر أنّ الأوّل تعلق بصرف طبيعة الصلاة والثاني

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٤٩٨ / أبواب صلاة الكسوف والآيات ب ٨ ح ١.

(٢) الوسائل ٨ : ٤٠١ / أبواب صلاة الجماعة ب ٥٤ ح ١.

١٩

تعلق بها بعنوان الاعادة ، ويستفاد الأمر الثاني من الروايات الواردة في المقام ، وعليه فالاعادة بداعي الأمر الاستحبابي لا بداعي الأمر الأوّل ، لتكون من الامتثال بعد الامتثال ، كيف فلو كانت بداعي الأمر الأوّل لكانت بطبيعة الحال واجبة ، وعندئذ فلا معنى لجوازها.

فالنتيجة : أنّه لا إشعار في الروايات على ذلك فما ظنك بالدلالة.

وأمّا في المورد الثاني : فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّه لايستفاد منها إلاّ استحباب الاعادة جماعة ، فإذن تكون الاعادة بداعي الأمر الاستحبابي لا بداعي الأمر الأوّل ، وإلاّ لكانت واجبة وهذا خلف. نعم ، هنا روايتان صحيحتان ففي إحداهما أمر الإمام بجعل الصلاة المعادة فريضة ، وفي الاخرى يجعلها فريضة إن شاء. ولكن لا بدّ من رفع اليد عن ظهورهما أوّلاً بقرينة عدم إمكان الامتثال ثانياً بعد الامتثال ، وحملهما على جعلها قضاءً عما فات منه من الصلاة الواجبة ثانياً ، أو على معنى آخر ، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث الإجزاء (١) إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في ص ٤٠.

٢٠