محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

المسمّى بالاستصحاب الاستقبالي ، فيختص بما إذا كان المتيقن سابقاً والمشكوك لاحقاً.

الثاني : أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان المستصحب بنفسه أثراً شرعياً أو ذا أثر شرعي ، وأمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك لم يجر الاستصحاب ، والمقام كذلك ، فانّ الأثر ـ وهو استقلال العقل بوجوب التعلم ـ إنّما هو مترتب على مجرّد احتمال الابتلاء من جهة دفع الضرر المحتمل ، لا على واقعه حتّى يدفعه باستصحاب عدمه.

وإن شئت قلت : إنّ الأثر في كل مورد إذا كان مترتباً على نفس الشك والاحتمال دون الواقع ، فمتى شكّ فيه فالموضوع محرز بالوجدان ، ومعه لا معنى لورود التعبد بالواقع أصلاً ، لأنّه لغو صرف ، وما نحن فيه كذلك ، فانّ الأثر فيه كما عرفت مترتب على نفس احتمال الابتلاء ، والمفروض أنّه محرز بالوجدان ، فلا بدّ من ترتيب أثره عليه ، وأمّا الابتلاء الواقعي فبما أنّه لا أثر له فلا يجري استصحاب عدمه.

ولنأخذ بالنقد عليهما :

أمّا على الأوّل : فلأ نّه لا قصور في دليل الاستصحاب عن شمول هذا القسم ، وذلك لأنّ مفاد أدلة الاستصحاب هو عدم جواز رفع اليد عن اليقين بالشك ، ولا فرق في ذلك بين كون المتيقن بهذا اليقين سابقاً والمشكوك فيه لاحقاً كما هو الغالب أو بالعكس (١) كما فيما نحن فيه. فالنتيجة : أنّ مقتضى إطلاق دليل الاستصحاب عدم الفرق في جريانه بين الامور المتقدمة والمتأخرة ، فكما يجري في الاولى كذلك في الثانية ، فما عن صاحب الجواهر قدس‌سره (٢) من الفرق

__________________

(١) [ لايخفى أنّ العكس هو الاستصحاب القهقرائي لا الاستقبالي الذي هو مورد الكلام ].

(٢) [ لم نعثر عليه في الجواهر ].

٢٠١

بينهما في غير محلّه.

وأمّا على الثاني : فلأ نّا قد ذكرنا في أوّل بحث البراءة ، وكذا في مبحث الاستصحاب ضمن التعرض لقاعدة الفراغ أنّ الحكم العقلي وإن كان غير قابل للتخصيص إلاّ أنّه قابل للتخصّص والخروج الموضوعي ، فان لزوم دفع الضرر المحتمل وقبح العقاب بلا بيان من القواعد التي قد استقلّ بها العقل ، ومع ذلك يتسبب المولى إلى رفعهما برفع موضوعهما بجعل الترخيص في مورد الاولى ، والبيان في مورد الثانية ، وليس هذا من التخصيص في شيء ، بل رفعهما برفع موضوعهما وجداناً ، فان موضوع الاولى احتمال العقاب على فعل شيء أو ترك آخر ، ومن الطبيعي أنّ هذا الاحتمال يرتفع وجداناً بجعل الشارع الترخيص في موردها.

وموضوع الثانية عدم البيان ، ومن المعلوم أنّه يرتفع كذلك بجعل الشارع البيان في موردها ، مثلاً العقل يستقل بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ في موارد الشك في حصول الامتثال بعد العلم بالتكليف ، ومع ذلك قد جعل الشارع قاعدة الفراغ في تلك الموارد ، وهي رافعة وجداناً لموضوع ذلك الحكم العقلي ، حيث إنّ موضوعه هو احتمال العقاب من ناحية احتمال أنّ العمل المأتي به خارجاً لم يكن مطابقاً للمأمور به ، ومن المعلوم أنّه لا احتمال له معها ، وإن فرضنا أنّ العمل مخالف للواقع.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان احتمال الابتلاء الذي هو موضوع للأثر ، وإن كان محرزاً بالوجدان ، إلاّ أنّ استصحاب عدم الابتلاء واقعاً إذا جرى كان رافعاً للابتلاء الواقعي تعبّداً ، وبه يرتفع الموضوع ـ وهو احتمال الابتلاء ـ فيكون المكلف ببركة الاستصحاب عالماً بعدمه ، وهذا ليس من التخصيص في الحكم العقلي بشيء بل ارتفاعه بارتفاع موضوعه.

٢٠٢

وإن شئت قلت : إنّ موضوع حكم العقل هنا هو احتمال العقاب على مخالفة الواقع ، ومن الطبيعي أنّه لا احتمال للعقاب بعد فرض التعبد الاستصحابي.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام خاطئ جداً.

الصحيح في المقام أن يقال : إنّ المانع عن جريان الاستصحاب هنا أحد أمرين :

الأوّل : العلم الاجمالي بالابتلاء بقسم من الأحكام الشرعية في ظرفها ، ومن الواضح أنّ مثل هذا العلم الاجمالي مانع عن جريان الاصول النافية في أطرافه ، حيث إنّ جريانها في الجميع مستلزم للمخالفة القطعية العملية ، وجريانها في البعض دون الآخر مستلزم للترجيح من دون مرجّح ، فلا محالة تسقط فيستقلّ العقل بوجوب التعلم والفحص.

الثاني : أنّ ما دلّ على وجوب التعلم والمعرفة من الآيات والروايات كقوله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(٢) وقوله عليه‌السلام « هلاّ تعلّمت » (٣) وما شاكل ذلك ، وارد في مورد هذا الاستصحاب ، حيث إنّ في غالب الموارد لايقطع الانسان بل ولا يطمئن بالابتلاء ، فلو جرى الاستصحاب في هذه الموارد لم يبق تحت هذه العمومات والمطلقات إلاّموارد نادرة ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، فانّه تقييد المطلق بالفرد النادر ، ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث الاستصحاب في وجه تقديم قاعدة الفراغ عليه (٤).

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣١.

(٢) النحل ١٦ : ٤٣.

(٣) البحار ٢ : ٢٩ ، ١٨٠. وفيه : « أفلا تعلّمت ».

(٤) مصباح الاصول ٣ : ٣١٨.

٢٠٣

ثمّ إنّ الظاهر اختصاص وجوب التعلم بالموارد التي يقع ابتلاء المكلف بها عادة ، وأمّا الموارد التي يقل الابتلاء بها كبعض مسائل الشكوك والخلل وما شاكله ممّا يكون الابتلاء به نادراً جداً فلا يجب التعلم فيها لا بحكم العقل ولا بحكم الشرع.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أنّ تعلم الأحكام الشرعية واجب مطلقاً ، أي من دون فرق بين ما إذا علم المكلف الابتلاء بها أو اطمأنّ ، وبين ما إذا احتمل ذلك عادة. نعم ، فيما لا يحتمل الابتلاء كذلك لا يجب.

ينبغي التنبيه على عدّة نقاط :

الاولى : أنّ ما ذكرناه من وجوب التعلم قبل الوقت فيما إذا كان تركه موجباً إما لتفويت الملاك الملزم في ظرفه أو لفقد إحراز امتثال التكليف ولو إجمالاً ، مختص بالبالغين ، وأمّا الصبيان فلا يجب عليهم التعلم وإن علموا بفوات الواجب في وقته أو إحرازه ، والسبب في ذلك هو أنّ البالغ إذا ترك التعلم وفات الواجب منه في زمنه لم يستحقّ العقاب على فوت الواجب ، لفرض عدم قدرته عليه ، وإنّما استحقّ العقاب على تفويت الملاك الملزم فيه من ناحية تفويت مقدمته اختياراً ، وقد تقدّم أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ومن الطبيعي أنّ هذا المعنى لا يتأتى في حقّ الصبي ، وذلك لأنّ الشارع قد رفع القلم عنه ، ومقتضاه هو أنّ تركه التعلم قبل البلوغ كلا ترك ، فلا يترتب عليه أيّ أثر ، وبعد البلوغ لا يقدر على الواجب ، فإذن لا يفوت منه شيء لا الواجب الفعلي ولا الملاك الملزم حتّى يستحقّ العقاب.

وعلى الجملة : فالصبي لا يكون مشمولاً لقاعدة أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وذلك لأنّ اختيار الصبي كلا اختيار بمقتضى رفع القلم عنه ، وعليه فلا يكون للواجب في ظرفه ملاك ملزم بالاضافة إليه. نعم ، يؤدب

٢٠٤

الصبي على ارتكاب بعض المعاصي ويمرّن على الصلاة والصيام لسبع أو تسع وهو أمر آخر ، فلا صلة له بما نحن فيه.

ومن ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من لزوم التعلم على الصبي بدعوى أنّ التمسك بحديث رفع القلم لرفع وجوب التعلم غير ممكن ، وذلك لأنّ وجوبه عقلي ، وحديث الرفع لا يرفع الوجوب العقلي.

خاطئ جداً ، والوجه في ذلك : هو أنّ حكم العقل في المقام وإن كان يعمّ الصبي وغيره ، إلاّ أنّه معلّق على عدم ورود التعبد من الشارع على خلافه ، ومعه لا محالة يرتفع بارتفاع موضوعه ، والمفروض أنّ التعبد الشرعي قد ورد على خلافه في خصوص الصبي ـ وهو حديث رفع القلم ـ فان مفاده أنّ فعل الصبي كلا فعل ، فلا يترتب عليه أيّ أثر من استحقاق عقاب أو نحوه ، وعلى هذا فلا يعقل استحقاق الصبي العقاب على تفويت الملاك بعد البلوغ استناداً إلى تركه التعلم قبله.

وإن شئت قلت : إنّ مقتضى حديث رفع القلم أو ما شاكله هو أنّ ملاك الواجب في ظرفه غير تام في حقه من ناحية التعلم والمعرفة لكي يكون تركه موجباً لتفويته واستحقاق العقاب عليه ، كما هو الحال أيضاً بالاضافة إلى سائر مقدمات الواجب.

الثانية : أنّ وجوب التعلم لا يخلو من أن يكون نفسياً أو غيرياً أو إرشادياً أو طريقياً ، فلا خامس في البين ، أمّا النفسي فهو وإن كان محتملاً وقد اختاره المحقق الأردبيلي قدس‌سره (٢) إلاّ أنّه خلاف ظواهر الآيات والروايات الدالة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٢٢.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

٢٠٥

على ذلك كما عرفت. وأمّا الوجوب الغيري فهو مبتن على أن يكون التعلم مقدمة لوجود الواجب خارجاً وترك الحرام كذلك كبقية المقدمات الوجودية ، ولكنّه ليس كذلك ، ضرورة أنّ الاتيان بذات الواجب وترك نفس الحرام لا يتوقفان عليه. نعم ، يتوقف الاتيان بالواجب إذا كان مركباً على تعلم أجزائه وشرائطه ، وذلك كالصلاة وما شاكلها ، إلاّ أنّ وجوبه لا يدور مدار القول بوجوب المقدمة ، بل هو ثابت بالآيات والروايات.

وأمّا الوجوب الارشادي بأن يكون ما دلّ عليه من الكتاب والسنّة إرشاداً إلى ما استقلّ به العقل من وجوب تعلم الأحكام ، نظير ما ذكرناه في الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، من أنّ مفادها إرشاد إلى ما استقلّ به العقل ، وهو عدم جواز العمل بالظن ، فيرد عليه : أنّه لو كان وجوبه ارشادياً لم يكن مانع من جريان البراءة الشرعية في الشبهات الحكمية قبل الفحص ، وذلك لأنّ المقتضي له ـ وهو إطلاق أدلتها ـ موجود على الفرض ، وعمدة المانع عنه إنّما هي وجود تلك الأدلة ، والمفروض أنّها على هذا التفسير حالها حال حكم العقل فغير صالحة للمانعية ، فان موضوعها يرتفع عند جريانها كحكم العقل ، ومثلها كيف يصلح أن يكون مانعاً.

وعلى الجملة : فعلى ضوء هذا التفسير كما أنّ البراءة الشرعية تجري في الشبهات الموضوعية قبل الفحص كذلك تجري في الشبهات الحكمية قبله فلا فرق بينهما عندئذ أصلاً ، فان عمدة الدليل على تقييد إطلاق أدلتها في الشبهات الحكمية بما بعد الفحص إنّما هو تلك الأدلة ، وإذا افترضنا أنّ مدلولها حكم إرشادي فهي لا تصلح لذلك. نعم ، لا تجرى البراءة العقلية ، لعدم إحراز موضوعها قبل الفحص.

فالنتيجة : أنّه يتعين الاحتمال الأخير ـ وهو كون وجوب التعلم وجوباً

٢٠٦

طريقياً ـ ويترتب عليه تنجيز الواقع عند الاصابة ، لأنّه أثر الوجوب الطريقي كما هو شأن وجوب الاحتياط ووجوب العمل بالأمارات وما شاكل ذلك ، وعليه فتكون هذه الأدلة مانعة عن جريان البراءة فيها قبل الفحص وتوجب تقييد إطلاق أدلتها بما بعده.

الثالثة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) نقل عن بعض الرسائل العملية لشيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٢) أنّه حكم فيه بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو فيما يبتلي به عامة المكلفين ، وقد تعجب قدس‌سره من ذلك ونسب الاشتباه إلى من جمع فتاواه في الرسالة ، وعلّله بأحد امور :

الأوّل : أنّ هذا مبني على كون وجوب التعلم وجوباً نفسياً كما اختاره المحقق الأردبيلي قدس‌سره (٣) وعليه فلا محالة يكون تاركه فاسقاً. وفيه : أنّه خلاف مبناه قدس‌سره حيث إنّه لم يلتزم بالوجوب النفسي.

الثاني : أنّه مبني على حرمة التجري ، وعليه فبطبيعة الحال يكون فاعله فاسقاً ويستحقّ العقاب ، وفيه : أنّه أيضاً خلاف ما بنى قدس‌سره عليه من عدم حرمة التجري وأنّ قبحه فاعلي لا فعلي ، ومعه لا موجب لكون فاعله فاسقاً ومستحقاً للعقاب.

الثالث : أن يكون مستند ذلك الفرق بين مسائل الشك والسهو وبين غيرها من المسائل ، بدعوى أنّ العادة قد جرت على ابتلاء المكلفين بها لا محالة دون غيرها ، فلأجل ذلك يجب تعلمها ومعرفتها على كل أحد ، ومن الطبيعي أنّ

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٣١.

(٢) صراط النجاة : ١٧٥ مسألة ٦٨٢.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

٢٠٧

مخالفة الواجب توجب الفسق. وفيه : أنّه أبعد هذه الفروض ، لما عرفت من أنّ وجوب التعلم وجوب طريقي فلا توجب مخالفته العقاب ما لم تؤد إلى مخالفة الواقع.

والصحيح أن يقال : إنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ تارك التعلم محكوم بالفسق يقوم على أساس أنّ التجري كاشف عن عدم وجود العدالة فيه ، حيث إنّها على مسلكه قدس‌سره عبارة عن وجود ملكة نفسانية تبعث صاحبها على ملازمة التقوى ، يعني الاتيان بالواجبات وترك المحرمات ، ومن الطبيعي أنّها لا تجتمع مع التجري ـ وهو الاتيان بما يعتقد كونه مبغوضاً وترك ما يعتقد كونه واجباً ـ وهذا لا ينافي عدم استحقاقه العقاب ، فان ملاك الاستحقاق عنده ارتكاب المبغوض الواقعي أو ترك الواجب كذلك وهو غير موجود في التجري.

فالنتيجة : أنّ المتجري فاسق وإن لم يستحقّ العقاب فلا ملازمة بين الأمرين.

فما جاء به شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره في غاية المتانة والصحة.

الرابعة : أنّ المقدمة التي يبحث عن وجوبها في المسألة لا يفرق فيها بين أن تكون مقدمة لواجب مشروط أو مطلق ، والسبب في ذلك : هو أنّه بناءً على الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته لا يفرق الحال بين المطلق والمشروط ، غاية الأمر إذا كان الواجب مشروطاً فوجوب مقدمته كذلك ، فانّه في الاطلاق والاشتراط تابع لوجوب ذيها ، بداهة أنّ التفكيك بينهما في الاطلاق والاشتراط ينافي ما افترضناه من الملازمة بين وجوبيهما.

ومن هنا يظهر أنّه لا وجه لما أفاده صاحب المعالم قدس‌سره (١) من تخصيص محلّ النزاع بمقدمات الواجب المطلق ، وكذا غيره ، ولعلّ مرادهم من

__________________

(١) معالم الدين : ٦٠.

٢٠٨

الواجب المطلق هو الواجب بالوجوب الفعلي.

وممّا يدلنا على ذلك : أنّه لم يكن في الشريعة المقدسة واجب مطلق من جميع الجهات ، بل الواجبات بشتى أنواعها وأشكالها واجبات مشروطة ولا أقل بالشرائط العامّة ، غاية الأمر بعضها مشروط بالاضافة إلى شيء ومطلق بالاضافة إلى آخر ، وبعضها الآخر بالعكس ، مثلاً وجوب الحج مشروط بالاضافة إلى الاستطاعة ومطلق بالاضافة إلى الزوال ، ووجوب الصلاة مثلاً مطلق بالاضافة إلى الاستطاعة ، ومشروط بالاضافة إلى الزوال ، ووجوب الزكاة مشروط بالاضافة إلى بلوغ المال حدّ النصاب ، ومطلق بالاضافة إلى غيره من الجهات وهكذا.

فالنتيجة : أنّ عدم وجود واجب مطلق في الشريعة المقدسة دليل على أنّ مرادهم من الواجب المطلق الواجب الفعلي.

الخامسة : أنّ المقدمات الوجوبية التي اخذت مفروضة الوجود في مقام الجعل والاعتبار كالاستطاعة ونحوها خارجة عن محلّ النزاع ، ضرورة أنّه لا وجوب قبل وجودها ، وبعده يكون وجوبها تحصيل الحاصل. نعم ، يمكن وجوبها بسبب آخر كالنذر واليمين وما شاكلهما مع قطع النظر عن وجوب ذيها.

السادسة : أنّه لا إشكال في أنّ إطلاق لفظ الواجب على الواجب المطلق حقيقة ، وكذا إطلاقه على الواجب المشروط بلحاظ حصول شرطه ، وإنّما الكلام والاشكال في إطلاقه على الواجب المشروط لا بهذا اللحاظ ، فهل هو حقيقة أو مجاز ، فبناءً على نظرية شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره من رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة حقيقة ، وأمّا بناءً على نظرية المشهور من رجوعه إلى الهيئة فمجاز بعلاقة الأول أو المشارفة ، لفرض عدم تحقق

٢٠٩

الوجوب ، وقد ذكرنا في بحث المشتق أنّ إطلاقه على من لم يتلبس بالمبدأ فعلاً مجاز بالاتفاق (١).

ثمّ إن استعمال الصيغة أو نحوها ممّا دلّ على الوجوب ككلمة على في مثل قوله تعالى ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(٢) وما شاكلها في المطلق والمشروط على نحو الحقيقة ، وذلك لأنّ كلا من الاطلاق والاشتراط خارج عن معناها الموضوع له ، حيث إنّه الطبيعي المهمل فيعرض عليه الاطلاق مرّة ، والاشتراط مرّة اخرى ، والأوّل مستفاد من قرينة الحكمة ، والثاني مستفاد من ذكر المتكلم القيد في الكلام ، وقد يستفاد من ناحية الانصراف ، وتفصيل الكلام في ذلك في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.

نتائج البحوث المتقدمة عدّة نقاط :

الاولى : أنّ المبحوث عنه في مسألة مقدمة الواجب إنّما هو عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته عقلاً.

الثانية : أنّ المسألة من المسائل الاصولية العقلية.

الثالثة : أنّ المقدمات الداخلية بالمعنى الأخص ، وهي أجزاء الواجب ، خارجة عن محل البحث ولا مقتضي لاتصافها بالوجوب الغيري أصلاً.

الرابعة : أنّ المراد من الشرط في محلّ الكلام سواء أكان شرطاً للحكم أو شرطاً للمأمور به أجنبي عن الشرط بمعنى ما له دخل في فعلية تأثير المقتضي في المقتضى ويكون من أجزاء العلّة التامة ، وعلى ضوء هذا قد أجبنا عن الاشكال على إمكان الشرط المتأخر وجوازه على تفصيل تقدّم.

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٢٤٦.

(٢) آل عمران ٣ : ٩٧.

٢١٠

الخامسة : أنّ كلام المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره مبني على الخلط بين شرائط الجعل وشرائط المجعول ، والوجود الذهني إنّما هو من شرائط الجعل دون الحكم المجعول ، والكلام إنّما هو في شرائط المجعول.

السادسة : قد تقدّم أنّ الشرط المتأخر بمكان من الامكان ، نعم وقوعه في الخارج يحتاج إلى دليل إلاّفي موردين : أحدهما : في العقد الفضولي ، حيث إنّ شرطية الاجازة بوجودها المتأخر لا يحتاج إلى دليل. وثانيهما : في الواجبات التدريجية ، فان شرطية القدرة فيها على نحو الشرط المتأخر لا يحتاج إلى مؤونة خاصة.

السابعة : أنّ ما ذهب إليه شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة ولزوم رجوعه إلى المادة قد تقدّم نقده بشكل موسع ، وقلنا إنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من أنّه لا استحالة في ذلك أصلاً ، بل مقتضى القواعد العربية وظهور القضية الشرطية هو رجوعه إلى الهيئة دون المادة.

الثامنة : أنّه لا وجه لتقديم الاطلاق الشمولي على البدلي فيما إذا كان كلاهما مستنداً إلى مقدمات الحكمة. نعم ، إذا كان أحدهما بالوضع دون الآخر تقدّم ما كان بالوضع على ما كان بالاطلاق ومقدمات الحكمة ، وعليه فلا وجه لتقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادة كما عن الشيخ قدس‌سره.

التاسعة : أنّ تقييد كل من مفاد الهيئة والمادة مشتمل على خصوصية مباينة لخصوصية الآخر ، فلا يكون في البين قدر متيقن ، وعليه فكما أنّ تقييد الهيئة لا يستلزم تقييد المادة ، كذلك لا يوجب بطلان محل الاطلاق فيها ، من دون فرق في ذلك بين كون القرينة متصلة أو منفصلة ، غاية الأمر إذا كانت القرينة

٢١١

متصلة فهي مانعة عن انعقاد أصل الظهور في الاطلاق ، وإذا كانت منفصلة فمانعة عن اعتباره وحجيته ، وأمّا ما ورد في كلمات شيخنا الأنصاري والمحقق صاحب الكفاية وشيخنا الاستاذ قدس‌سرهم من ترجيح تقييد الهيئة قد تقدّم أنّه نشأ من عدم تنقيح ما ينبغي أن يكون محلاً للنزاع في المقام.

العاشرة : أنّ الواجب المعلّق قسم من الواجب المشروط بالشرط المتأخر ، فلا وجه لجعله قسماً من الواجب المطلق كما عن الفصول ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّه لا مانع من الالتزام بالواجب المعلّق بالمعنى الذي ذكرناه ، ولا يرد عليه شيء ممّا اورد عليه. ومن ناحية ثالثة : أنّ الذي دعا صاحب الفصول قدس‌سره إلى الالتزام بالواجب المعلّق هو التفصي به عن الاشكال الوارد في جملة من الموارد على وجوب الاتيان بالمقدمة قبل إيجاب ذيها ، ولكن قد تقدّم أنّ دفع الاشكال لا يتوقف على الالتزام به ، بل يمكن دفعه بشكل آخر قد سبق تفصيله بصورة موسّعة في ضمن البحوث السالفة.

الحادية عشرة : أنّ ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ وجوب التعلم [ ليس ] بملاك وجوب سائر المقدمات ، بل هو بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل ، قد تقدّم أنّه لا يتم على إطلاقه ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ مقتضى إطلاق أدلة وجوب التعلم هو أنّ ملاك الواجب تام في ظرفه من قبله فلو ترك المكلف التعلم وأدى ذلك إلى ترك الواجب في وقته استحقّ العقاب ولو كان غافلاً حينه ، ومن هنا قلنا بوجوبه مطلقاً من دون فرق بين الواجبات المطلقة والمشروطة.

الثانية عشرة : أنّ وجوب التعلم مختص بالبالغين فلا يجب على الصبيان قبل بلوغهم ، لعدم إحراز تمامية الملاك في حقّهم ، بل مقتضى حديث رفع القلم

٢١٢

عدمه ، وما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من عدم إمكان التمسك به قد تقدّم فساده.

الثالثة عشرة : أنّ وجوب التعلم وجوب طريقي يترتب عليه تنجيز الواقع والعقاب على تركه على تقدير المصادفة ، وليس وجوبه نفسياً كما عن المحقق الأردبيلي قدس‌سره ولا غيرياً ولا ارشادياً على تفصيل تقدّم.

الرابعة عشرة : أنّ ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره من أنّ تارك التعلم فاسق متين جداً ، ولا وجه لتعجب شيخنا الاستاذ قدس‌سره من ذلك أصلاً.

٢١٣

الواجب النفسي والغيري

قد عرّف الواجب النفسي : بأ نّه ما وجب لا لأجل التوصل به إلى واجب آخر ، والواجب الغيري : بأ نّه ما وجب لأجل التوصل به إلى واجب آخر.

وقد اورد على تعريف الواجب النفسي : بأنّ لازم ذلك صيرورة جلّ الواجبات لولا كلّها غيرية ، بداهة أنّها إنّما تجب لأجل مصالح وفوائد تترتب عليها اللاّزمة تحصيلها بحيث لولاها لم تكن واجبة. وعلى الجملة : فعلى ضوء هذا التعريف لا يكون واجب نفسي ما عدا معرفة الباري ( عزّ وجلّ ) حيث إنّها غاية الغايات فلا غاية فوقها ، وأمّا غيرها من الواجبات بشتى ألوانها وأشكالها واجبات لأجل التوصل إلى غايات مترتبة عليها ، بناءً على المسلك الصحيح وهو مسلك العدلية.

واجيب عنه كما حكى في الكفاية (١) : بأنّ تلك الغايات المترتبة عليها خارجة عن الاختيار فلا تتعلق القدرة بها ، وعليه فلا يعقل وجوبها وتعلق الخطاب بها. وأورد عليه صاحب الكفاية قدس‌سره بأ نّها وإن كانت في حد أنفسها وبلا واسطة خارجة عن إطار القدرة ، إلاّ أنّها مع الواسطة مقدورة لدخول أسبابها تحت القدرة ، ومن الطبيعي أنّ القدرة على السبب قدرة على المسبب ، وإلاّ لم يصح وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٨.

٢١٤

ذلك من المسببات مورداً لحكم من الأحكام التكليفية الشرعية كما هو واضح.

هذا وقد أجاب قدس‌سره (١) عن الاشكال المزبور بوجه آخر وإليك نصّه : فالأولى أن يقال : إنّ الأثر المترتب عليه وإن كان لازماً ، إلاّ أن ذا الأثر لمّا كان معنوناً بعنوان حسن يستقلّ العقل بمدح فاعله بل وبذم تاركه ، صار متعلّقاً للايجاب بما هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدّمةً لأمر مطلوب واقعاً ، بخلاف الواجب الغيري لتمحض وجوبه في أنّه لكونه مقدمة لواجب نفسي ، وهذا أيضاً لا ينافي أن يكون معنوناً بعنوان حسن في نفسه إلاّ أنّه لا دخل له في إيجابه الغيري ، ولعلّه مراد من فسّرهما بما امر به لنفسه ، وما امر به لأجل غيره ، فلا يتوجه عليه بأنّ جلّ الواجبات لولا الكل يلزم أن يكون من الواجبات الغيرية ، فانّ المطلوب النفسي قلّما يوجد في الأوامر ، فان جلّها مطلوبات لأجل الغايات التي هي خارجة عن حقيقتها.

وملخص ما أفاده ( قدس‌سره ) هو أنّ ملاك الواجب النفسي ما كان وجوبه لأجل حسنه في حد ذاته ، سواء أكان مع ذلك مقدمة لواجب آخر أم لم يكن ، وملاك الواجب الغيري ما كان وجوبه لأجل حسن غيره ، سواء أكان في نفسه أيضاً حسناً كالطهارات الثلاث أم لم يكن.

ويرد عليه أوّلاً : ما أورده المحقق النائيني قدس‌سره (٢) من أنّ حسن الأفعال الواجبة المقتضي لايجابها ، إن كان ناشئاً من مقدميتها لما يترتب عليها من المصالح والفوائد اللاّزمة فالاشكال باق على حاله ، وإن كان ثابتاً في حد ذاتها مع قطع النظر عمّا يترتب عليها ، فلازم ذلك أن لايكون شيء من الواجبات

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٠٨.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٤٤.

٢١٥

ـ وهو كونها مقدمة لواجب آخر ـ نظير صلاة الظهر حيث إنّها واجبة لنفسها ومقدمة لواجب آخر وهو صلاة العصر ، وصلاة المغرب فانّها مع كونها واجبة لنفسها مقدمة لصلاة العشاء أيضاً ، وأفعال الحج فانّ المتقدم منها واجب لنفسه ومقدمة للمتأخر. فالنتيجة : أنّه لا وقع لهذا التقسيم أصلاً على ضوء ما أفاده قدس‌سره.

وثانياً : أنّ دعوى الحسن الذاتي في جميع الواجبات النفسية دعوى جزافية ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، والسبب في ذلك : هو أنّ جلّ الواجبات النفسية لم تكن حسنة بذاتها وفي نفسها كالصوم والحج والزكاة والخمس وما شاكل ذلك ، فان ترك الأكل والشرب مثلاً في نهار شهر رمضان ليس في نفسه حسناً ، بداهة أنّه لا فرق بينه فيه وبين الأكل والشرب في غيره ذاتاً مع قطع النظر عن الأمر ، وكذا الحال في مناسك الحج. نعم ، الأمر المتعلق بها يكشف عن وجود مصلحة ملزمة فيها إلاّ أنّها أجنبية عن حسنها الذاتي. نعم ، بعض الواجبات حسن ذاتاً كالسجود والركوع وما شاكلهما مع قطع النظر عن تعلق الأمر به ، وأمّا الحسن العقلي فهو أجنبي عن حسن الفعل ذاتاً ، حيث إنّه من باب حسن الاطاعة فيعرض عليه بعد الأمر به باعتبار أنّ إتيانه يكون إطاعة للمولى.

ومنع شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) عن تعلق الأمر بمثل هذه الغايات والمسببات ، بيان ذلك : أنّه قدس‌سره قسّم الغايات إلى أصناف ثلاثة :

الأوّل : ما يترتب على الفعل الخارجي من دون توسط أمر اختياري أو غير اختياري بينه وبين ذلك الفعل ، وذلك كالزوجية المترتبة على العقد ، والطهارة

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٥٧ ، ١٦٧ ، ٢٤٣.

٢١٦

كانت الغاية من هذا القبيل فلا مانع من تعلق التكليف بها ، لأنّها مقدورة بواسطة القدرة على سببها.

الثاني : ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط أمر اختياري خاصة ، وذلك كالصعود على السطح وطبخ اللحم وما شاكلهما ، حيث إنّ وجود كل منها في الخارج يتوقف على عدّة من المقدمات الاختيارية. وفي هذا الصنف أيضاً لا مانع من تعلق التكليف بنفس الغاية والغرض ، بملاك أنّ الواسطة مقدورة.

الثالث : ما يترتب على الفعل الخارجي بتوسط أمر خارج عن اختيار الانسان ، فتكون نسبة الفعل إليه نسبة المعدّ إلى المعد له ، لا نسبة السبب إلى المسبب والعلة إلى المعلول ، وذلك كحصول الثمر من الزرع ، فانّه يتوقف زائداً على زرع الحب في الأرض وجعل الأرض صالحة لذلك وسقيها على مقدمات اخرى خارجة عن اختيار الانسان ، فالمقدمات الاختيارية مقدمات إعدادية فحسب ، ومثل ذلك شرب الدواء للمريض ، فانّ تحسّن حاله يتوقف على مقدمة اخرى خارجة عن اختياره ، وفي هذا الصنف لا يمكن تعلق التكليف بالغاية القصوى والغرض الأقصى لخروجها عن الاختيار.

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانّ نسبة الأفعال الواجبة بالاضافة إلى ما يترتب عليها من المصالح والفوائد نسبة المعدّ إلى المعدّ له ، حيث تتوسط بينهما امور خارجة عن اختيار المكلف ، وعليه فلا يمكن تعلق التكليف بتلك المصالح والغايات ، لفرض خروجها عن إطار القدرة.

ولنأخذ بالنقد عليه وذلك لأنّ ما أفاده قدس‌سره بالاضافة إلى الغرض الأقصى والغاية القصوى وإن كان صحيحاً ولا مناص عنه ، لوضوح أنّ الأفعال الواجبة بالنسبة إليها من قبيل العلل المعدّة إلى المعدّ لها ، لفرض أنّها خارجة عن اختيار المكلف وقدرته ، مثلاً النهي عن الفحشاء الذي هو الغاية القصوى

٢١٧

من الصلاة فلا يترتب عليها ترتب المعلول على العلة التامة ، بل ترتبه عليها متوقف على مقدمة اخرى خارجة عن اختيار المكلف وإطار قدرته ، إلاّ أنّه لا يتم بالاضافة إلى الغرض القريب وهو حيثية الاعداد للوصول إلى الغرض الأقصى ، حيث إنّه لا يتخلف عنها ، فيكون ترتبه عليها من ترتب المعلول على العلة التامة والمسبب على السبب ، وبما أنّ السبب مقدور للمكلف فلا مانع من تعلق التكليف بالمسبب ، فيكون المقام نظير الأمر بزرع الحب في الأرض ، فانّ الغرض الأقصى منه ـ وهو حصول النتاج ـ وإن كان خارجاً عن اختيار المكلف ، إلاّ أنّ الغرض المترتب على الزرع من غير تخلف ـ وهو إعداد المحل للانتاج ـ مقدور له بالقدرة على سببه لا محالة ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : بما أنّ هذا الغرض المترتب على تلك الأفعال ترتب المسبب على السبب لزومي على الفرض ، فبطبيعة الحال يتعين تعلق التكليف به ، لكونه مقدوراً من جهة القدرة على سببه ، وعلى ذلك يبقى إشكال دخول الواجبات النفسية في تعريف الواجب الغيري بحاله.

فالصحيح في المقام أن يقال : أمّا بناءً على نظرية صاحب المعالم قدس‌سره (١) من أنّ الأمر بالمسبب عين الأمر بالسبب ، فيكون جميع الأفعال واجباً بالوجوب النفسي ، فليس هنا واجب آخر ليكون وجوبها لأجل ذلك الواجب ، لفرض أنّ الأمر بالغاية عين الأمر بتلك الأفعال ، إلاّ أنّ هذه النظرية خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً.

وأمّا بناءً على نظرية المشهور كما هو الحق ، وهي أنّ حال السبب حال بقية المقدمات فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً ، فلأنّ المصالح والغايات المترتبة

__________________

(١) لاحظ معالم الدين : ٦١.

٢١٨

على الواجبات ليست قابلة لتعلق التكليف بها ، فانّ تعلق التكليف بشيء يرتكز على أمرين : الأوّل : أن يكون مقدوراً للمكلف. الثاني : أن يكون أمراً عرفياً وقابلاً لأن يقع في حيّز التكليف بحسب أنظار العرف ، وتلك المصالح والأغراض وإن كانت مقدورة له للقدرة على أسبابها ، إلاّ أنّها ليست ممّا يفهمه العرف العام ، لأنّها من الامور المجهولة عندهم وخارجة عن أذهان عامّة الناس ، فلا يحسن توجيه التكليف إليها ، ضرورة أنّ العرف لا يرى حسناً في توجه التكليف بالانتهاء عن الفحشاء أو باعداد النفس للانتهاء عن كل أمر فاحش.

فالنتيجة في نهاية الشوط هي : أنّه لا مناص من الالتزام بتعلق الوجوب النفسي بنفس الأفعال دون الغايات المترتبة عليها ، فإذن يصدق عليها أنّها واجبة لا لأجل واجب آخر ، وعليه فلا إشكال. نعم ، تلك الغايات داعية للمولى على إنشاء وجوب تلك الأفعال واعتبارها على ذمة المكلف.

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ هنا قسماً آخر من الواجب لا يكون نفسياً ولا غيرياً ، وذلك كالمقدمات المفوّتة مثل غسل الجنب ليلاً لصوم غد ، وركوب الدابة ونحوه للاتيان بالحج في وقته ، بناءً على استحالة الواجب التعليقي. أمّا أنّه ليس بواجب غيري ، فلأنّ الواجب الغيري على مسلك المشهور ما كان وجوبه معلولاً لوجوب واجب نفسي ومترشحاً منه ، فلا يعقل وجوبه قبل إيجابه ، وأمّا أنّه ليس بواجب نفسي فلأنّ الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب ، والمفروض أنّ ترك هذا الواجب لايستوجب العقاب عليه ، وإنّما يستحق المكلف على ترك ذي المقدمة.

وأمّا بناءً على ما هو الصحيح ـ من أنّ وجوب المقدمة إنّما نشأ من ملاك الواجب النفسي لا من وجوبه نفسه ـ فانّه واجب غيري ، وذلك لأنّ ما هو المشهور من أنّ وجوب المقدمة معلول لوجوب ذيها ومترشح منه خاطئ جداً

٢١٩

ولا واقع موضوعي له أصلاً ، بداهة أنّ وجوبها على القول به كوجوب ذيها فعل اختياري للمولى وصادر منه بالارادة والاختيار ، فلا معنى لكونه معلولاً ومترشحاً منه ، فانّه واجب غيري ، فانّ المولى الملتفت إذا توجه إلى شيء ورأى فيه مصلحة ملزمة فبطبيعة الحال اشتاق إليه ، فعندئذ لو كانت له مقدمة بحيث لا يمكن الاتيان به في ظرفه بدون الاتيان بها ، فلا محالة اشتاق إليها بتبع اشتياقه إلى ذيها ، فهذا الشوق الناشئ من وجود الملاك الملزم الكامن في ذيها هو المنشأ لوجوبها الغيري. هذا كلّه فيما إذا علم أنّه واجب نفسي أو غيري.

٢٢٠