محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

سقوطها من حين قيامه عليها ، حيث إنّه لا يكون حجة إلاّبعد العلم بها ، فانّ موضوعه وهو الشك في البقاء لا يتحقق إلاّمن هذا الحين ، فكيف يعقل أن يكون رافعاً لحجية القاعدة في وقتها وكاشفاً عنه كذلك. نعم ، مفاده أمر سابق ولذا وجب ترتيب الأثر عليه من السابق.

ومثله ما إذا أفتى على طبق عموم بعد الفحص عن مخصصه وعدم الظفر به ، فلا يكون الظفر به بعد ذلك كاشفاً عن عدم حجية العام قبله ، حيث إنّه لا يكون حجة إلاّبعد وصوله لا مطلقاً ، نعم مدلوله كان مطلقاً وهو يحكي عن ثبوته في الشريعة المقدسة كذلك. ومن الطبيعي أنّ مقتضى حجية ذلك ثبوت مدلوله من الابتداء ، ولازم هذا هو أنّ العمل المأتي به على طبق الحجة السابقة حيث كان مخالفاً لمدلولها باطل ، لعدم كونه مطابقاً لما هو المأمور به في الواقع وهو مدلولها.

وكون الحجتين تشتركان في احتمال مخالفة مدلولهما للواقع لا يضر بذلك ، بعد إلغاء هذا الاحتمال بحكم الشارع في الحجة الثانية حسب أدلة اعتبارها ، وعدم إلغائها في الاولى ، لفرض سقوطها عن الاعتبار بقاءً. ومن الطبيعي أنّ صرف هذا الاحتمال يكفي في الحكم بوجوب الاعادة أو القضاء ، بداهة أنّه لا مؤمّن معه من العقاب ، فانّ الحجة السابقة وإن كانت مؤمّنة في ظرف حدوثها ، إلاّ أنّها ليست بمؤمّنة في ظرف بقائها ، لفرض سقوطها عن الحجية والاعتبار بقاءً بعد الظفر بالحجة الثانية وتقديمها عليها بأحد أشكال التقديم من الحكومة أو الورود أو التخصيص أو التقييد أو غير ذلك ، وعليه فلا مؤمّن من العقاب على ترك الواقع ، ولأجل ذلك وجب بحكم العقل العمل على طبق الحجة الثانية وإعادة الأعمال الماضية حتّى يحصل الأمن.

وأمّا القضاء ، فلأجل أنّ ما أتى به المكلف على طبق الحجة الاولى غير

٨١

مطابق للواقع بمقتضى الحجة الثانية ، وعليه فلا بدّ من الحكم ببطلانه ، ومعه حيث يصدق عنوان فوت الفريضة فبطبيعة الحال يجب القضاء بمقتضى ما دلّ على أنّ موضوعه هو فوت الفريضة ، فمتى تحقق ، تحقق وجوب القضاء.

إلى هنا قد انتهينا إلى هذه النتيجة : وهي أنّ مقتضى القاعدة عدم الإجزاء في جميع موارد كشف الخلاف وعدم مطابقة العمل المأتي به للواقع ، سواء أكانت من موارد التبدل في الرأي أو من موارد الرجوع إلى مجتهد آخر ، بلا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات ، والأحكام التكليفية والأحكام الوضعية ، وموارد الاصول والأمارات ، وموارد كشف الخلاف بالعلم الوجداني وكشف الخلاف بالعلم التعبدي ، إلاّفيما قام دليل خاص على الإجزاء ، كما قام في خصوص الصلاة حيث دلّ حديث لا تعاد على عدم وجوب الاعادة في غير الخمسة المذكورة فيها ، كما ستجيء الاشارة إلى ذلك من هذه الناحية إن شاء الله تعالى.

هذا كلّه بناءً على حجية الأمارات على ضوء نظرية الطريقية والكاشفية.

وأمّا بناءً على حجيتها على ضوء نظرية السببية والموضوعية ، فينبغي لنا التكلّم فيها في مقامين :

الأوّل : في بيان حقيقة السببية وأقسامها.

الثاني : في بيان ما يترتب على تلك الأقسام.

أمّا المقام الأوّل فالسببية على وجوه :

الأوّل : ما نسب إلى الأشاعرة ـ وإن كانت النسبة غير ثابتة ـ من أنّ الله تعالى لم يجعل حكماً من الأحكام في الشريعة المقدسة قبل تأدية نظر المجتهد إلى شيء ، وإنّما يدور جعله مدار تأدية نظرية المجتهد ورأيه ، فكلّ ما أدى إليه رأيه من الوجوب أو الحرمة أو غير ذلك في مورد بسبب قيام أمارة أو أصل جعل الشارع ذلك الحكم فيه ، وإذا تبدّل رأيه إلى رأي آخر كان من التبدّل في

٨٢

الموضوع وانقلاب الحكم بانقلابه ، ولا يعقل فيه كشف الخلاف أصلاً ، كيف حيث لا واقع ما وراء رأيه.

وبكلمة اخرى : أنّ هذا القول يرتكز على أساس أنّه لا مقتضي في الواقع من المصالح أو المفاسد قبل قيام الأمارة وتأديتها إلى شيء ليكون منشأ لجعل الحكم فيه ، وإنّما تحدث المصلحة أو المفسدة في فعل بسبب قيام أمارة على وجوبه أو على حرمته ، ولذا جعل الشارع الحكم على طبق ما أدت إليه. فالنتيجة : أنّ مردّ القول بهذه السببية إلى خلوّ صفحة الواقع عن الحكم قبل تأدية الأمارة إليه وقيامها عليه ، فلا يكون في حقّ الجاهل مع قطع النظر عنها حكم أصلاً.

الثاني : ما نسب إلى المعتزلة وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لكون الحكم الواقعي بالفعل هو المؤدى ، وذلك لأنّ قيام الأمارة يوجب إحداث مصلحة أو مفسدة في متعلقه ، وحيث إنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، فبطبيعة الحال ينحصر الحكم الواقعي الفعلي فيه. وبكلمة اخرى : أنّ المعتزلة قد اعترفت بثبوت الأحكام الواقعية في الشريعة المقدسة المشترك فيها بين العالم والجاهل ، ولكن على الرغم من ذلك يقول بانحصار الأحكام الواقعية الفعلية في مؤديات الحجج والأمارات ولا حكم في غيرها إلاّشأناً واقتضاءً.

بيان ذلك : هو أنّ الأمارة القائمة على شيء لا تخلو من أن تكون مطابقة للواقع أو تكون مخالفة له ، فعلى الأوّل فهي توجب فعلية الواقع فحسب ، وعلى الثاني فحيث إنّها توجب إحداث مصلحة في المؤدى أقوى من مصلحة الواقع فهي بطبيعة الحال كما توجب اضمحلال مصلحة الواقع وجعلها بلا أثر كذلك توجب جعل الحكم على طبقها. فالنتيجة أنّها توجب انقلاب الواقع وتغييره وجعل المؤدى على خلافه.

٨٣

ثمّ إنّ السببية بهذا المعنى تمتاز عن السببية بالمعنى الأوّل في نقطة وتشترك معها في نقطة اخرى. أمّا نقطة الامتياز فهي أنّ الاولى تقوم على أساس اختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها وعدم ثبوت الحكم في حقّ الجاهل ، ولذا لا يتصور على ضوئها الخطأ في آراء المجتهدين حيث لا واقع ما عداها.

والثانية تقوم على أساس ثبوت الواقع المشترك بين العالم والجاهل ، ولذا تختص سببيّتها لجعل المؤدى في صورة المخالفة فحسب. وأمّا نقطة الاشتراك فهي أنّهما تشتركان في اختصاص الأحكام الواقعية الفعلية بمؤديات الأمارات فلا حكم واقعي فعلي في غيرها أصلاً.

الثالث : ما نسب إلى بعض الإمامية (١) وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لاحداث المصلحة في السلوك على طبق الأمارة وتطبيق العمل على مؤداها ، مع بقاء الواقع على ما هو عليه من دون أن يوجب التغيير والانقلاب فيه أصلاً ، فلو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة مثلاً ، وفرضنا أنّ الواجب في الواقع هو صلاة الظهر ، لم توجب تغيير الواقع وانقلابه وجعل غير الواجب واجباً ، بل الواجب الواقعي باق على ما كان عليه رغم أنّ الأمارة قامت على خلافه ، كما أنّ صلاة الجمعة بقيت على ما كانت عليه من عدم الوجوب في الواقع ، فوجود الأمارة وعدمها بالاضافة إلى الواقع على نسبة واحدة.

نعم ، هذه الأمارة سبب لحدوث مصلحة في السلوك على وفقها ، وبها يتدارك ما فات من مصلحة الواقع. وعلى الجملة : فكما لا دخل للأمارة في جعل الأحكام ، فكذلك لا دخل لها في فعليتها ، فالأحكام الواقعية فعلية رغم قيام الأمارات على خلافها فلا تتغير به ، والسر في ذلك هو أنّ قيام الأمارة لو كان

__________________

(١) نسبه إلى جماعة من العدلية في أجود التقريرات ٣ : ١١٧ ، وراجع فرائد الاصول ١ : ٩١.

٨٤

موجباً لحدوث المصلحة في المؤدى فبطبيعة الحال أوجب انقلاب الواقع.

وأمّا إذا لم يوجب حدوث مصلحة فيه كما هو المفروض في المقام ، فاستحال أن يكون موجباً لانقلاب الواقع. وأمّا إيجابه حدوث مصلحة في السلوك فهو غير مناف لمصلحة الواقع أصلاً ، وهذه المصلحة تختلف باختلاف السلوك كما أوضحناه في مبحث الظن (١).

وعلى ضوء هذا البيان يظهر نقطة الامتياز بين السببية بهذا المعنى والسببية بالمعنيين الأوّلين كما لا يخفى.

وبعد ذلك نقول : أمّا على ضوء السببية بالمعنى الأوّل ، فلا مناص من القول بالإجزاء ، حيث لا واقع على الفرض ما عدا مؤدى الأمارة لنبحث عن أنّ الاتيان به مجزٍ عنه أو لا ، فلو تبدل رأي المجتهد إلى رأي آخر على خلاف الأوّل كان من تبدل الموضوع لا من انكشاف الخلاف ، فالاتيان بما أدى إليه رأيه إتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي لا أنّه إتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ليقع البحث عن إجزائه عن الأوّل ، إلاّ أنّ السببية بذلك المعنى غير معقولة في نفسها ، بداهة أنّ تصوّرها في نفسه كاف للتصديق ببطلانها بلا حاجة إلى إقامة برهان عليه من لزوم دور أو نحوه ، كيف حيث إنّ هذا المعنى من السببية خلاف الضرورة من الشرع ويكذّبه الكتاب والسنّة ، إذ لازمه بطلان بعث الرسل وإنزال الكتب.

على أنّه لو لم يكن حكم مجعول في الواقع قبل قيام الأمارة عليه ، فالأمارة تحكي عن أيّ شيء ، وأ نّها تؤدي إلى أيّ حكم ، وهل يعقل الكشف من دون مكشوف والحكاية من دون محكي ، فلو توقف ثبوته على قيام الأمارة عليه

__________________

(١) مصباح الاصول ١ : ١١٠.

٨٥

لزم الدور أو الخلف. وأضف إلى ذلك : أنّ اختصاص الأحكام الشرعية بمن قامت عنده الأمارة خلاف الضرورة والمتسالم عليه بين الأصحاب ، وتكذّبه الاطلاقات الأوّلية ، حيث إنّ مقتضاها ثبوت الأحكام الشرعية في الواقع مطلقاً من دون فرق بين العالم والجاهل.

وأمّا على ضوء السببية بالمعنى الثاني ، فالأمر أيضاً كذلك ، يعني أنّه لا مناص من القول بالإجزاء ، حيث إنّه لا واقع على ضوئها أيضاً في مقابل مؤدى الأمارة ليقع البحث عن أنّ الاتيان به هل هو مجزٍ عنه أم لا ، بل الواقع هو مؤدى الأمارة ، فالاتيان به إتيان بالواقع ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ السببية بهذا المعنى وإن كان أمراً معقولاً بحسب مقام الثبوت ولا مانع في نفسه من الالتزام بانقلاب الواقع وتغييره بقيام الأمارة على خلافه ، بأن يكون ثبوت الواقع مقيداً بعدم ذلك ، نظير تقيد ثبوت الأحكام الواقعية بغير موارد الاضطرار والضرر والحرج وما شاكلها ، إلاّ أنّ الأدلة لا تساعد على ذلك. أمّا الاطلاقات الأوّلية ، فلأنّ مقتضاها ثبوت الأحكام الواقعية للعالم والجاهل ، ولا دليل على تقييدها بعدم قيام الأمارة على الخلاف كما قام الدليل على تقييدها بغير موارد الضرر والحرج وما شاكلهما. فالنتيجة أنّ التقييد يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه.

وأمّا أدلة الاعتبار فلا تخلو من أن تكون هي السيرة العقلائية أو تكون غيرها من الآيات أو الروايات ، فعلى كلا التقديرين لاتدل على سببية الأمارات.

أمّا على الأوّل : فواضح ، حيث إنّ سيرتهم قد جرت على العمل بها بملاك كونها طريقاً إلى الواقع وكاشفاً عنه ، وأ نّهم يعاملون معها معاملة العلم والقطع من جهة كونها منجّزة للواقع على تقدير الاصابة ، ومعذّرة على تقدير الخطأ ، وهذا هو مردّ الطريقية والكاشفية ، بداهة أنّه ليس عند العقلاء طريق اعتبروه

٨٦

من باب السببية ، هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى : أنّ الشارع قد أمضى تلك السيرة على ما هي عليه ، فالنتيجة على ضوئهما هي أنّ اعتبار الحجج والأمارات من باب الكاشفية والطريقية لا من باب السببية والموضوعية.

وأمّا على الثاني : فأيضاً كذلك ، فانّ الظاهر من الآيات والروايات هو إمضاء ما هو حجة عند العقلاء ، فلا تدلاّن على حجية شيء تأسيساً ، ومن هنا لم نجد في الشريعة المقدسة أن يحكم الشارع باعتبار أمارة تأسيساً. نعم ، قد زاد الشارع في بعض الموارد قيداً في اعتبارها ولم يكن ذلك القيد معتبراً عند العقلاء. وقد تحصّل من ذلك : أنّ الحجية التأسيسية لم توجد في الشريعة المقدّسة ، ليتوهم أنّها كانت من باب السببية. على أنّه لا ملازمة بينها وبين السببية أصلاً.

فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت : أنّ السببية بهذا المعنى وإن كانت معقولة في ذاتها ولايترتب عليها المحاذير المترتبة على السببية بالمعنى الأوّل ، إلاّ أنّها خلاف الضرورة وإطلاقات الأدلة التي تقتضي عدم اختصاص مداليلها بالعالمين بها.

وما عن شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره من أنّه قد تواترت الأخبار والآثار على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل (١) لعله أراد منها الروايات الدالّة على ثبوت الأحكام مطلقاً ، أو أراد أخبار الاحتياط والبراءة أو ما شاكلها مما يدل بالالتزام على الاشتراك ، وإلاّ فلم ترد رواية واحدة تدل على أنّ الأحكام الواقعية مشتركة بين العالمين بها والجاهلين.

وأمّا السببية بالمعنى الثالث : فالكلام يقع فيها من جهات ثلاث :

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٩١.

٨٧

الاولى : أنّنا قد حققنا في محلّه (١) أنّه لا ملزم للالتزام بهذه المصلحة التي تسمّى بالمصلحة السلوكية لتصحيح اعتبار الأمارات وحجيتها ، والسبب في ذلك : هو أنّ اعتبار الأمارات من دون أن ترتب عليه مصلحة وإن كان لغواً ، فلا يمكن صدوره من الشارع الحكيم ، إلاّ أنّه يكفي في ذلك ترتب المصلحة التسهيلية عليه ، حيث إنّ تحصيل العلم الوجداني بكل حكم شرعي لكل واحد من المكلفين غير ممكن في زمان الحضور فضلاً عن زماننا هذا ، ولو أمكن هذا فبطبيعة الحال كان حرجياً لعامة المكلفين في عصر الحضور فما ظنك في هذا العصر. ومن الواضح أنّ هذا مناف لكون الشريعة الاسلامية شريعة سهلة وسمحة. وعلى هذا الضوء فلا بدّ للشارع من نصب الطرق المؤدية غالباً إلى الأحكام الواقعية وإن كان فيها ما يؤدي على خلاف الواقع أيضاً.

وبكلمة اخرى : أنّ المصلحة التسهيلية بالاضافة إلى عامة المكلفين تقتضي ذلك. نعم ، من كان مباشراً للإمام عليه‌السلام كعائلته ومتعلقيه يمكن له تحصيل العلم في كل مسألة بالسؤال منه عليه‌السلام وكيف كان ، فمع وجود هذه المصلحة لا مقتضي للالتزام بالمصلحة السلوكية أصلاً.

الثانية : أنّنا قد أثبتنا في الجهة الاولى أنّه لا موجب ولا مقتضي للالتزام بها أصلاً ، ولكنا نتكلم في هذه الجهة من ناحية اخرى وهي : أنّ في الالتزام بها محذوراً أو لا؟ فيه وجهان.

فذهب شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٢) وتبعه فيه شيخنا الاستاذ

__________________

(١) مصباح الاصول ١ : ١١٠ ـ ١١٣.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٩١.

٨٨

( قدس‌سره ) (١) إلى أنّه لا محذور في الالتزام بها أصلاً ، ولكن الصحيح هو أنّه لايمكن الالتزام بها ، وذلك لاستلزام القول بها التصويب وتبدل الحكم الواقعي ، والسبب فيه هو أنّنا إذا افترضنا قيام مصلحة في سلوك الأمارة التي توجب تدارك مصلحة الواقع ، فالايجاب الواقعي عندئذ تعييناً غير معقول ، كما إذا افترضنا أنّ القائم بمصلحة إيقاع صلاة الظهر مثلاً في وقتها أمران : أحدهما : الاتيان بها في الوقت. الثاني : سلوك الأمارة الدالة على وجوب صلاة الجمعة في تمام الوقت من دون كشف الخلاف فيه ، فعندئذ امتنع للشارع الحكيم تخصيص الوجوب الواقعي بخصوص صلاة الظهر ، لقبح الترجيح من دون مرجّح من ناحية ، وعدم الموجب له من ناحية اخرى ، بعد ما كان كل من الأمرين وافياً بغرض المولى ، فعندئذ لا مناص من الالتزام بكون الواجب الواقعي في حق من قامت عنده أمارة معتبرة على وجوب صلاة الجمعة مثلاً هو الجامع بينهما على نحو التخيير : إمّا الاتيان بصلاة الظهر في وقتها ، أو سلوك الأمارة المذكورة ، ومعه كيف يعقل أن يكون الحكم الواقعي مشتركاً بين العالم والجاهل ، فانّه بطبيعة الحال يكون تعيينياً في حقّ العالم ، وتخييرياً في حقّ الجاهل. وهذا خلاف الضرورة والاجماع وإطلاقات الأدلة التي مقتضاها عدم الفرق بينهما بالاضافة إلى الأحكام الواقعية.

فالنتيجة : أنّ مردّ هذه السببية إلى السببية بالمعنى الثاني في انقلاب الواقع وتبدله فلا فرق بينهما من هذه الناحية.

الثالثة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) قد ذكر أنّ حال هذه السببية

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١١٧.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٩٣.

٨٩

حال الطريقية في عدم اقتضائها الإجزاء ، فكما أنّ الإجزاء على ضوء القول بالطريقية يحتاج إلى دليل وإلاّ فمقتضى القاعدة عدمه ، فكذلك على ضوء القول بهذه السببية ، توضيح ما أفاده قدس‌سره هو أنّ المصلحة القائمة بسلوك الأمارة تختلف باختلاف السلوك ـ وهو الزمان الذي لم ينكشف الخلاف فيه ـ فان كان السلوك بمقدار فضيلة الوقت فكانت مصلحته بطبيعة الحال بمقدار يتدارك بها مصلحتها فحسب ، لأنّ فوتها مستند إليه دون الزائد ، وأمّا مصلحة أصل الوقت فهي باقية فلا بدّ من استيفائها بالاعادة ، وإن كان بمقدار تمام الوقت وكان انكشاف الخلاف في خارجه فطبعاً كانت مصلحته بمقدار يتدارك بها مصلحة تمام الوقت الفائتة ، وأمّا مصلحة أصل العمل فهي باقية فلا بدّ من استيفائها بالقضاء في خارج الوقت.

ولنأخذ لتوضيح ذلك مثالاً : وهو ما إذا افترضنا أنّ الواجب في الواقع هو صلاة الظهر ، ولكن الأمارة المعتبرة قامت على وجوب صلاة الجمعة في يومها ، والمكلف قد قام بالعمل على طبق هذه الأمارة وأتى بصلاة الجمعة ثمّ انكشف الخلاف ، فعندئذ إن كان كشف الخلاف في ابتداء الوقت فالمتدارك هو خصوص مصلحة وقت الفضيلة دون مصلحة نفس العمل في تمام الوقت ، لفرض أنّ سلوكها كان بهذا المقدار ، فإذن لا محالة تجب الاعادة ، وإن كان في خارج الوقت ، فالمتدارك هو مصلحة الوقت خاصة دون المصلحة القائمة بذات العمل في الواقع ، ومن الطبيعي أنّها تقتضي الاتيان به في خارج الوقت ، وإن لم ينكشف الخلاف إلى ما دام العمر ، فالمتدارك هو تمام مصلحة الواقع. وقد تحصّل من ضوء هذا البيان : أنّ الالتزام بالسببية بهذا الاطار لايستلزم التصويب في شيء ، بل هي في طرف النقيض معه ، حيث إنّ حالها حال الطريقية في النتيجة ـ وهي عدم اقتضائها للإجزاء ـ فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره بيان ذلك : هو أنّا قد حققنا في

٩٠

مورده (١) أنّ القول بأنّ القضاء تابع للأداء لا يمكن إتمامه بدليل ، والسبب فيه هو أنّ هذا القول يقوم على أساس أن تكون للصلاة مصلحتان ملزمتان : إحداهما تقوم بذات الصلاة. والاخرى تقوم بحصة خاصة منها ـ وهي الصلاة في الوقت ـ وعلى هذا فبطبيعة الحال يتعلق بها أمران : أحدهما بطبيعي الصلاة على نحو الاطلاق. والآخر بحصة خاصة منها ، ومن المعلوم أنّ سقوط الأمر الثاني بسقوط موضوعه كخروج الوقت لا يستلزم سقوط الأمر الأوّل ، لعدم الموجب له ، فعندئذ إن ترك المكلف الصلاة في الوقت عصياناً أو نسياناً وجب عليه الاتيان بها في خارج الوقت ، فانّ سقوط الأمر المتعلق بالصلاة المقيدة في الوقت لا يستلزم سقوط الأمر المتعلق بها على نحو الاطلاق ، وهذا معنى القول بكون القضاء تابعاً للأداء.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره إنّما يتم على ضوء هذا القول ، ولكنه خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً ، والسبب في ذلك : ما ذكرناه في الدورات السابقة ، وسنذكره إن شاء الله تعالى في هذه الدورة أيضاً ، من أنّ حال تقييد المأمور به كالصلاة مثلاً بالوقت كحال تقييده بغيره من القيود ، فكما أنّ المتفاهم العرفي من تقييده بأمر زماني هو وحدة المطلوب لا تعدده ، وأنّ المأمور به هو الطبيعي المقيد بهذا القيد ، فكذلك المتفاهم العرفي من تقييده بوقت خاص ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

هذا في التقييد بالمتصل واضح ، كقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(٢) حيث لايستفاد منه عرفاً إلاّ أمر واحد متعلق بحصة خاصة

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٢٤٧ وما بعدها.

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

٩١

من الصلاة ـ وهي الصلاة في هذا الوقت الخاص ـ لفرض عدم انعقاد ظهور للمطلق في الاطلاق.

وأمّا إذا كان التقييد بدليل منفصل فقد يتوهم تعدد المطلوب ببيان أنّه لا يوجب انقلاب ظهور المطلق في الاطلاق إلى التقييد ، غاية الأمر أنّه يدل على أنّه مطلوب في الوقت أيضاً. فالنتيجة هي تعدد المطلوب ، بمعنى أنّ الفعل مطلوب في الوقت لأجل دلالة هذه القرينة المنفصلة ، ومطلوب في خارجه لأجل إطلاق الدليل الأوّل.

ولكن هذا التوهم خاطئ جداً ، وذلك لعدم الفرق في ذلك بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة ، فكما أنّ القرينة المتصلة تدل على التقييد وعلى كون مراد المولى هو المقيد بهذا الزمان الخاص ، فكذلك القرينة المنفصلة ، فانّها تدل على تقييد إطلاق دليل المأمور به وكون المراد الجدي من الأوّل هو المقيد. نعم ، فرق بينهما من ناحية اخرى ، وهي أنّ القرينة المتصلة مانعة عن ظهور الدليل في الاطلاق ، ومعها لا ينعقد له ظهور ، والقرينة المنفصلة مانعة عن حجية ظهوره في الاطلاق دون أصله.

ولكن من الواضح أنّ مجرد هذا لا يوجب التفاوت بينهما في محل الكلام ، ضرورة أنّهما تشتركان في سقوط الاطلاق عن الحجية والكاشفية عن المراد الجدي وعدم إمكان التمسك به ، غاية الأمر على الأوّل سقوطه عنها بسقوط موضوعها ، وعلى الثاني سقوطه عنها فحسب من دون سقوط موضوعها.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ دليل التقييد بمقتضى الفهم العرفي كاشف عن أنّ مراد المولى من الأوّل كان هو المقيد ولم يكن المطلق مراداً له أصلاً ، ولا فرق في ذلك بين كون القيد زماناً أو زمانياً ، ولولا ذلك ـ أي كشف دليل التقييد بمقتضى الظهور العرفي عما عرفت ـ لانسدّ باب حمل المطلق على المقيد.

٩٢

فالنتيجة على ضوء هذا البيان أمران :

الأوّل : أنّ القضاء يحتاج إلى أمر جديد ، فلا أصل للقول بأ نّه تابع للأداء ، فلو ترك المكلف الصلاة في الوقت عصياناً أو نسياناً فالأمر بها في خارج الوقت يحتاج إلى دليل.

الثاني : أنّ سلوك الأمارة في مجموع الوقت إذا كان وافياً بمصلحة الصلاة في الوقت كما هو مقتضى القول بالسببية بهذا المعنى ، لا مناص من القول بالإجزاء ، وبذلك يفترق القول بهذه السببية عن القول بالطريقية ، حيث إنّ مقتضى القاعدة على القول بالطريقية هو عدم الإجزاء ، ومقتضى القاعدة على القول بها هو الإجزاء. فالصحيح أنّ السببية بهذا المعنى تشترك مع السببية بالمعنى الأوّل والثاني في هذه النتيجة ، لا مع الطريقية. فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ حالها حال الطريقية من هذه الناحية خاطئ جداً ، ولا يمكن المساعدة عليه بوجه.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أنّ الأمارات على القول بالسببية بتمام أشكالها تفيد الإجزاء ، وعدم الإجزاء يحتاج إلى دليل ، وعلى القول بالطريقية لا تفيد الإجزاء ، فالإجزاء يحتاج إلى دليل ، من دون فرق في ذلك بين الأمارات والاصول العملية ، ومن دون فرق فيه بين كون كشف الخلاف بالعلم الوجداني والعلم التعبدي. وقد تقدّم جميع ذلك في ضمن البحوث السالفة بشكل موسع. هذا كلّه فيما إذا علم حال الأمارة من ناحية السببية أو الطريقية.

وأمّا إذا شكّ في ذلك ولم يعلم أنّ اعتبارها على نحو السببية حتّى تفيد الإجزء ، أو على نحو الطريقية حتّى لا تفيده ، فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره التفصيل بين الاعادة والقضاء وإليك نص كلامه :

وأمّا إذا شكّ ولم يحرز أنّها على أيّ الوجهين ، فأصالة عدم الاتيان بما يسقط

٩٣

معه التكليف مقتضية للاعادة في الوقت ، واستصحاب عدم كون التكليف بالواقع فعلياً في الوقت لا يجدي ولا يثبت كون ما أتى به مسقطاً إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، وقد علم اشتغال ذمته بما يشك في فراغها عنه بذلك المأتي به.

وهذا بخلاف ما إذا علم أنّه مأمور به واقعاً وشكّ في أنّه يجزي عما هو المأمور به الواقعي الأوّلي ، كما في الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناءً على أن تكون الحجية على نحو السببية ، فقضية الأصل فيها كما أشرنا إليه عدم وجوب الاعادة للاتيان بما اشتغلت به الذمة يقيناً ، وأصالة عدم فعلية التكليف الواقعي بعد رفع الاضطرار وكشف الخلاف. وأمّا القضاء فلا يجب بناءً على أنّه فرض جديد وكان الفوت المعلّق عليه وجوبه لا يثبت بأصالة عدم الاتيان إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، وإلاّ فهو واجب كما لايخفى على المتأمِّل ، فتأمّل جيدا (١).

وملخّص ما أفاده قدس‌سره ما يلي : أمّا وجوب الاعادة فيما إذا انكشف الخلاف في الوقت ، فلأجل أنّ الذمة قد اشتغلت بتكليف فعلي يقيناً ويشك في أنّ الاتيان بمؤدى الأمارة يفيد الإجزاء عما اشتغلت به الذمة أو لا يفيد ، ومنشأ الشك هو الشك في كيفية حجية الأمارة وأ نّها هل تكون على نحو السببية أو على نحو الطريقية ، ومع هذا الشك تجرى أصالة عدم الاتيان بما يسقط معه التكليف الواقعي وهي مقتضية للاعادة ، بل يكفي في وجوبها نفس الشك في الفراغ. وأمّا القضاء فبما أنّه بفرض جديد وقد اخذ في موضوعه عنوان الفوت وهو في المقام غير محرز فلا يجب.

ولنأخذ بالنظر على ما أفاده قدس‌سره أمّا ما أفاده بالنسبة إلى عدم وجوب القضاء فمتين جداً ولا مناص عنه. وأمّا ما أفاده بالاضافة إلى وجوب

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٧.

٩٤

الاعادة في الوقت فهو قابل للنقد والمؤاخذة ، والسبب في ذلك ما قدمناه في ضمن البحوث السابقة من أنّ مقتضى القاعدة على القول بالسببية بالمعنى الأوّل والثاني هو الإجزاء ، بل لا مناص عنه ، حيث إنّه لا واقع على ضوء هذين القولين ما عدا مؤدى الأمارة ، وكذا الحال على القول بالسببية بالمعنى الثالث.

وعلى القول بالطريقية هو عدم الإجزاء.

وعلى هذا الضوء فإذا شككنا في أنّ حجية الأمارة على نحو السببية والموضوعية أو على نحو الطريقية والكاشفية ، فبطبيعة الحال إذا عملنا بها وأتينا بما أدّت إليه ثمّ انكشف لنا بطلانها وعدم مطابقتها للواقع ، وإن كنّا نشك في الإجزاء وعدمه ، إلاّ أنّ المورد ليس من موارد التمسك بقاعدة الاشتغال ، بل هو من موارد التمسك بقاعدة البراءة.

والوجه فيه : هو أنّ حجية الأمارة إن كانت من باب السببية والموضوعية لم تكن ذمة المكلف مشغولة بالواقع أصلاً ، وإنّما تكون مشغولة بمؤاداها فحسب ، حيث إنّه الواقع فعلاً وحقيقة فلا واقع غيره. وإن كانت من باب الطريقية والكاشفية اشتغلت ذمته به ، وبما أنّه لا يدري أنّ حجيتها كانت على الشكل الأوّل أو كانت على الشكل الثاني ، فبطبيعة الحال لا يعلم باشتغال ذمته بالواقع ليكون المقام من موارد قاعدة الاشتغال ، فإذن لا مناص من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الاعادة ، حيث إنّه شكّ في التكليف من دون العلم بالاشتغال به.

وبكلمة اخرى : أنّ الشك فيما نحن فيه وإن أوجب حدوث العلم الاجمالي بوجود تكليف مردد بين تعلقه بالفعل الذي جيء به على طبق الأمارة السابقة وبين تعلقه بالواقع الذي لم يؤت به على طبق الأمارة الثانية ، إلاّ أنّه لا أثر لهذا العلم الاجمالي ، ولا يوجب الاحتياط والاتيان بالواقع على طبق الأمارة

٩٥

الثانية ، وذلك لأنّ هذا العلم حيث قد حدث بعد الاتيان بالعمل على طبق الأمارة الاولى كما هو المفروض فلا أثر له بالاضافة إلى هذا الطرف ، وعليه فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن الطرف الآخر ، ومن هنا ذكرنا في محلّه (١) أنّ أحد طرفي العلم الاجمالي أو أطرافه إذا كان فاقداً للأثر فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الطرف الآخر ، كما إذا افترضنا أنّ المكلف علم بوجوب الصوم عليه في يوم الخميس مثلاً من ناحية النذر أو نحوه فأتى به في ذلك اليوم ، ثمّ في يوم الجمعة تردّد بين كون الصوم المزبور واجباً عليه في يوم الخميس أو في هذا اليوم ، وحيث لا أثر لأحد طرفي هذا العلم الاجمالي ، وهو كونه واجباً عليه في يوم الخميس ، لفرض أنّه أتى به ، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوبه في هذا اليوم.

وما نحن فيه من هذا القبيل بعينه ، فانّ المكلف إذا أتى بصلاة القصر مثلاً على طبق الأمارة الاولى ، ثمّ انكشف الخلاف في الوقت وعلم بأنّ الواجب في الواقع هو الصلاة تماماً ، فعندئذ وإن حدث للمكلف العلم الاجمالي بوجوب صلاة مرددة بين القصر والتمام ، فانّ الأمارة إن كانت حجيتها من باب السببية فالواجب هو الصلاة قصراً ، وإن كانت من باب الطريقية فالواجب هو الصلاة تماماً ، ولكن حيث لا أثر لهذا العلم الاجمالي بالاضافة إلى أحد طرفيه ـ وهو وجوب الصلاة قصراً ـ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب الصلاة تماماً.

نعم ، لو حدث هذا العلم الاجمالي قبل الاتيان بالقصر لكان المقام من موارد قاعدة الاشتغال ووجوب الاحتياط بالجمع بين الصلاتين ، إلاّ أنّ هذا الفرض

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٤٢٣.

٩٦

خارج عن مورد الكلام ، كما أنّ فرض وجود علم إجمالي آخر بين وجوب الصلاة تماماً مثلاً وبين وجوب شيء آخر خارج عنه.

إلى هنا قد استطعنا أن نصل إلى هذه النتيجة : وهي أنّ مقتضى القاعدة عند الشك في اعتبار أمارة أنّه على نحو السببية أو على نحو الطريقية هو الإجزاء ، إعادة وقضاء ، فالتفصيل بينهما كما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره خاطئ ولا واقع له أصلاً.

[ ثم إنّه ] لا بأس بالاشارة إلى عدّة خطوط :

الأوّل : ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ محل النزاع في الإجزاء وعدمه إنّما هو في الأمارات القائمة على متعلقات الأحكام ، كما لو قامت على عدم شرطية شيء مثلاً وكان في الواقع شرطاً ، أو قامت على عدم جزئية شيء كالسورة مثلاً وكان في الواقع جزءاً ، وهكذا ، من دون فرق في ذلك بين القول بحجيتها من باب السببية والقول بحجيتها من باب الطريقية ، غاية الأمر أنّها تفيد الإجزاء على الفرض الأوّل ، ولا تفيده على الفرض الثاني.

وأمّا الأمارات القائمة على نفس الأحكام الإلهية كما لو فرض قيامها على وجوب صلاة الجمعة مثلاً فهي خارجة عن محل النزاع ولا تفيد الإجزاء مطلقاً ولو على القول بالسببية ، والوجه في ذلك : هو أنّ قيامها عليه وإن أوجب حدوث مصلحة ملزمة فيها على ضوء هذا القول ، إلاّ أنّ تلك المصلحة أجنبية عن مصلحة الواقع ولا صلة لها بها أصلاً ، وعليه فبطبيعة الحال لا يكون الاتيان بها مجزئاً عن الواقع بعد فرض بقائه على ما هو عليه من الملاك. نعم ، في خصوص هذا المثال قد قام دليل من الخارج على عدم وجوب كلتيهما في يوم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٧.

٩٧

واحد ، وأمّا في غير هذا المثال فلا مانع من الالتزام بتعدد الواجب عند قيام الأمارة على وجوب شيء آخر غير ما هو واجب في الواقع ، كما إذا افترضنا أنّ الواجب في الواقع هو إكرام زيد العالم مثلاً ، ولكن الأمارة قامت على وجوب إعطاء درهم لفقير جاهل ، والمفروض أنّه غير واجب ، وحيث إنّها توجب إحداث مصلحة فيه ، فلا محالة يصير الاعطاء واجباً واقعاً ، ولكن من الواضح أنّ الاتيان به لا يجزي عن الواجب الواقعي ولا يتدارك به مصلحته ، بل هو باقٍ على ما هو عليه من الملاك الملزم ، وعلى هذا لو انكشف الخلاف وجب الاتيان به لا محالة سواء أكان في الوقت أو خارجه.

ولنأخذ بالمناقشة عليه ، بيان ذلك : أنّنا نتكلم في الأمارات القائمة على نفس الأحكام الشرعية مرّةً على القول بحجيتها من باب الطريقية والكاشفية المحضة ، ومرّة اخرى على القول بحجيتها من باب السببية والموضوعية ، ونقول :

إنّه لا فرق بين الأمارات القائمة على متعلقات التكاليف والقائمة على نفسها على كلا القولين. أمّا على القول الأوّل : فلما عرفت من أنّ مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء ، من دون فرق بينهما في هذه النقطة أصلاً. وأمّا على القول الثاني فأيضاً لا فرق بينهما في الدلالة على الإجزاء. أمّا على السببية بالمعنى الأوّل فواضح ، حيث لا حكم على ضوئها في الواقع غير ما أدّت إليه الأمارة. وأمّا على السببية بالمعنى الثاني فالحكم في الواقع وإن كان مجعولاً إلاّ أنّ الأمارة توجب انقلابه وانحصاره في المؤدى لنظرها إليه.

وبكلمة اخرى : أنّ الأحكام الفعلية الواقعية على ضوء هذه النظرية منحصرة في مؤديات الأمارات فلا حكم واقعي فعلي في غيرها ، وعليه فلا مقتضي لوجوب الاعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف. وعلى الجملة : فإذا افترضنا أنّ الأمارة قامت على وجوب صلاة الجمعة مثلاً ، أفادت أنّ الواجب الواقعي

٩٨

الفعلي هو صلاة الجمعة دون صلاة الظهر ، لفرض أنّها ناظرة إلى الواقع وتفيد انحصاره ، وفي مثله كيف يمكن دعوى عدم الإجزاء ، بداهة أنّه لا بدّ فيه من الالتزام باشتمال المؤدى على مصلحة ملزمة وافية بمصلحة الواقع ومسانخة لها ، إذ لو كان مشتملاً على مصلحة اخرى غير مرتبطة بالواقع لزم الخلف ـ وهو عدم دلالة الأمارة على انحصار الواقع في مؤداها وعدم نظرها إليه ـ مع أنّ مثل هذا الكلام يجري في الأمارات القائمة على متعلقات التكاليف أيضاً.

نعم ، لو قلنا بعدم نظر الأمارة القائمة على حكم شرعي إلى تعيين الواقع وبعدم دلالتها على انحصاره ، بل تدل على ثبوت ما أدت إليه فحسب كما في المثال الذي ذكرناه ، لتمّ ما أفاده قدس‌سره إلاّ أنّه مجرد فرض في الأمارات القائمة على الأحكام الواقعية ولا واقع موضوعي له أصلاً.

الثاني : ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ محل النزاع في هذه المسألة هو ما إذا كان الفعل متعلقاً للأمر الاضطراري أو الظاهري حقيقة وواقعاً ، وأمّا إذا لم يكن متعلقاً للأمر أصلاً لا واقعاً ولا ظاهراً ، بل كان مجرد تخيل وتوهم بدون واقع له ، كما في موارد الاعتقادات الخاطئة ، مثل أن يعتقد الانسان بكون مائع مخصوص ماءً ثمّ انكشف له خلافه وأ نّه لم يكن ماءً ، أو قطع بأ نّه متوضئ ثمّ بان خلافه وهكذا ، فهو خارج عن محل النزاع. ومن هذا القبيل تبدل رأي المجتهد في غالب الموارد ، حيث يظهر له مثلاً ضعف سند الرواية بعد أن قطع بأنّ سندها صحيح ، وهكذا.

وهذا الذي أفاده قدس‌سره متين جداً ولا مناص عنه.

الثالث : أنّه لا فرق فيما ذكرناه من عدم الإجزاء فيما إذا انكشفت مخالفة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٨.

٩٩

الأمارة للواقع ، بين الأحكام الكلية والموضوعات الخارجية ، وإن كان القول بعدم الإجزاء في الأحكام الكلية أظهر من القول به في الموضوعات ، وذلك لما عرفت من استلزام القول بالإجزاء التصويب ، وقد تقدّم (١) أنّه في الأحكام الكلية إمّا محال أو باطل بالضرورة والاجماع. مضافاً إلى أنّه خلاف إطلاقات الأدلة.

وأمّا الموضوعات الخارجية فالتصويب في نفس تلك الموضوعات من ناحية تعلق العلم بها أو الأمارة غير معقول ، ومن ثمة لا قائل به فيها أصلاً ، بداهة أنّ تعلق العلم بموضوع خارجي أو قيام الأمارة عليه لا يوجب تغييره وانقلابه عما هو عليه. وأمّا التصويب من جهة الحكم المتعلق بها ، فالظاهر أنّه لا مانع منه في نفسه ، ولا دليل على بطلانه ، فإن ما دلّ من الاجماع والضرورة على اشتراك العالم والجاهل يختص بالأحكام الكلية ، ولا يعمّ الموارد الجزئية.

وعلى هذا الضوء فيمكن دعوى اختصاص الأحكام الشرعية بالعالمين بالموضوعات الخارجية لا مطلقاً ، بأن يكون العلم بها مأخوذاً في موضوعها ، كما نسب اختصاص الحكم بنجاسة البول بما إذا علم بوليته إلى بعض الأخباريين ، ومن هنا يمكن القول بالإجزاء في موارد مخالفة الأمارة للواقع في الشبهات الموضوعية ، لامكان القول بالتصويب فيها ، ولا يلزم فيه محذور مخالفة الاجماع والضرورة كما يلزم من القول به في موارد مخالفة الأمارة للواقع في الشبهات الحكمية ، إلاّ أنّ القول بالتصويب فيها باطل من ناحية مخالفته لظواهر الأدلة الدالة على اعتبار الأمارات والطرق المثبتة للأحكام على موضوعاتها الخارجية ، حيث إنّ مقتضاها طريقية تلك الأمارات إلى الواقع وكاشفيتها عنه من دون دخل لها فيه أصلاً ، كما هو الحال في الأمارات القائمة على الأحكام الكلية ، بلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.

__________________

(١) في ص ٨٥.

١٠٠