محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

الثالث : ما جاء به المحقق صاحب الكفاية (١) وشيخنا الاستاذ (٢) قدس‌سرهما من أنّ الوجدان أصدق شاهد على ذلك ، فانّ من اشتاق إلى شيء وأراده فبطبيعة الحال إذا رجع إلى وجدانه والتفت إلى ما يتوقف عليه ذلك الشيء اشتاق إليه كاشتياقه إلى نفس الواجب ، ولا فرق من هذه الجهة بين الارادة التكوينية والارادة التشريعية وإن كانتا مختلفتين من حيث المتعلق.

والجواب عنه : أنّه إن اريد من الارادة الشوق المؤكد الذي هو من الصفات النفسانية الخارجة عن اختيار الانسان وقدرته غالباً ، ففيه : مضافاً إلى أنّ اشتياق النفس إلى شيء البالغ حدّ الارادة إنّما يستلزم الاشتياق إلى خصوص مقدماته الموصلة لو التفت إليها لا مطلقاً ، أنّ الارادة بهذا المعنى ليست من مقولة الحكم في شيء ، ضرورة أنّ الحكم فعل اختياري للشارع وصادر منه باختياره وارادته.

وإن اريد منها الاختيار وإعمال القدرة نحو الفعل ، فهي بهذا المعنى وإن كانت من مقولة الأفعال ، إلاّ أنّ الارادة التشريعية بهذا المعنى باطلة ، وذلك لما تقدّم بشكل موسّع من استحالة تعلّق الارادة بهذا المعنى أي إعمال القدرة بفعل الغير.

وإن اريد منها الملازمة بين اعتبار شيء على ذمة المكلف وبين اعتبار مقدماته على ذمته ، فالوجدان أصدق شاهد على عدمها ، بداهة أنّ المولى قد لا يكون ملتفتاً إلى توقفه على مقدماته كي يعتبرها على ذمته. على أنّه لا مقتضي لذلك بعد استقلال العقل بلا بدّية الاتيان بها ، حيث إنّه مع هذا لغو صرف.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ الصحيح في المقام أن يقال : إنّه لا دليل

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٦.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٣٣٥.

٢٨١

على وجوب المقدمة وجوباً مولوياً شرعياً ، كيف حيث إنّ العقل بعد أن رأى توقف الواجب على مقدمته ورأى أنّ المكلف لا يستطيع على امتثال الواجب النفسي إلاّبعد الاتيان بها ، فبطبيعة الحال يحكم العقل بلزوم الاتيان بالمقدمة توصّلاً إلى الاتيان بالواجب ، ومع هذا لو أمر الشارع بها فلا محالة يكون إرشاداً إلى حكم العقل بذلك ، لاستحالة كونه مولوياً.

فالنتيجة في نهاية الشوط : هي عدم وجوب المقدمة بوجوب شرعي مولوي لا على نحو الاطلاق ولا خصوص حصة خاصة منها.

مقدّمة المستحب

ثمّ إنّنا لو بنينا على وجوب المقدمة شرعاً من ناحية ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، فهل تختص هذه الملازمة بخصوص ما إذا كان ذو المقدمة واجباً أم يعمّ المستحب أيضاً؟ الظاهر هو الثاني بعين ما ذكرناه من الملاك لوجوبها في الواجب ، وقد تقدّم بشكل موسّع.

٢٨٢

مقدّمة الحرام

ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) أنّ مقدمة الحرام تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : هو ما لا يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وإرادته ، فلو أتى بالمقدمة فذو المقدمة يقع في الخارج قهراً عليه بحيث لا يتمكن من تركه نظير العلّة التامّة ومعلولها ، كما إذا علم المكلف بأ نّه لو دخل في المكان الفلاني لاضطرّ إلى ارتكاب الحرام قهراً على نحو لا يقدر على التخلّف عنه ، وفي هذا القسم حكم قدس‌سره بحرمة المقدمة حرمة نفسية لا غيرية ، حيث إنّ النهي الوارد على ذي المقدمة وارد عليها حقيقة ، فانّها هي المقدورة للمكلف دونه.

الثاني : هو ما يتوسّط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وإرادته ، إلاّ أنّ المكلف يقصد باتيان المقدمة التوصل إلى الحرام ، حيث إنّه بعد إتيانها يقدر على ارتكابه ، وفي هذا القسم أيضاً حكم قدس‌سره بالحرمة ، ولكنّه تردّد بين الحرمة النفسية والغيرية من ناحية تردّده بين أنّ حرمتها تبتني على حرمة التجري أو على السراية من ذي المقدمة.

الثالث : هو ما يتوسّط بين المقدمة وذيها اختيار الفاعل وإرادته ، إلاّ أنّ إتيان المكلف بها ليس بداعي التوصل إلى الحرام ، فانّه بعد الاتيان بها وإن تمكن من ارتكابه ولكن لديه صارف عنه ، وفي هذا القسم حكم ( قدس‌سره )

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٦١.

٢٨٣

بعدم الحرمة ، إذ لا موجب لها ، فانّ الموجب لاتصاف المقدمة بالحرمة أحد أمرين : الأوّل : أن يكون إتيانها علة تامة للوقوع في الحرام. الثاني : أن يكون الاتيان بها بقصد التوصل. وكلا الأمرين مفقود في المقام.

ولنأخذ بالنظر إلى هذه الأقسام ، أمّا القسم الأوّل : فتحريم المقدمة يتبع القول بوجوب مقدمة الواجب لوحدة الملاك بينهما ـ وهو توقف امتثال التكليف عليها ـ غاية الأمر ففي مقدمة الواجب يتوقف امتثال الواجب على الاتيان بها ، وفي مقدمة الحرام يتوقف ترك الحرام على تركها ، وحيث إنّا لا نقول بوجوب المقدمة فلا نقول بتحريمها. وأمّا ما أفاده قدس‌سره من أنّ النهي في هذا القسم حقيقة تعلّق بالمقدمة دون ذيها ، نظراً إلى أنّها مقدورة دونه فهو مناقض لما أفاده قدس‌سره في غير مورد من أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، فالمعلول وإن لم يكن مقدوراً ابتداءً إلاّ أنّه مقدور بواسطة القدرة على علته ، ومن الطبيعي أنّ هذا المقدار يكفي في تعلّق النهي به حقيقة ، وعليه فلا مقتضي لحرمة المقدمة.

وأمّا القسم الثاني : فلأ نّه لا موجب لاتصاف المقدمة بالحرمة الغيرية وإن قلنا بوجوب مقدمة الواجب ، وذلك لعدم توقف الاجتناب عن الحرام على ترك المقدمة ، لفرض أنّ المكلف بعد الاتيان بها قادر على ترك الحرام ، وهذا بخلاف مقدمة الواجب ، فانّ المكلف لا يقدر على الواجب عند ترك مقدمته.

وأمّا الحرمة النفسية فهي على تقديرها ترتكز على حرمة التجري ، ولكن قد حققنا في محلّه (١) أنّ التجري لا يكون حراماً وإن استحقّ المتجري العقاب عليه ، وقد ذكرنا هناك أنّه لا ملازمة بين استحقاق المتجري العقاب وحرمة التجري شرعاً. نعم ، يظهر من بعض الروايات أنّ هذه الحرمة من ناحية نيّة الحرام ، وقد تعرّضنا لهذه الروايات وما دلّ على خلافها بشكل موسّع في مبحث

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ٢٥.

٢٨٤

التجري ، فلاحظ.

وأمّا القسم الثالث : فالأمر كما أفاده قدس‌سره حيث إنّه لا موجب لاتصاف المقدمة بالحرمة أصلاً ، لعدم الملاك له ، فان ملاكه إنّما هو توقف الامتثال عليها ، والمفروض أنّ ترك الحرام لا يتوقف على تركها. فالنتيجة : أنّ مقدمة الحرام ليست بمحرّمة إلاّفي صورة واحدة ـ الصورة الاولى ـ بناءً على وجوب مقدمة الواجب شرعاً ، وبما أنّه لم يثبت فلا حرمة أصلاً.

ومن هنا يظهر حال مقدمة المكروه من دون حاجة إلى بيان.

هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء (١). وقد تمّ بعون الله تعالى وتوفيقه.

__________________

(١) [ حسب التجزئة السابقة ].

٢٨٥

مسألة الضدّ

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه

يقع الكلام في هذه المسألة من جهات :

الاولى : قد تقدّم منّا في بحث مقدمة الواجب أنّ البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته لا يختص بما إذا كان الوجوب مدلولاً لفظياً ، فان ملاك البحث يعم مطلق الوجوب ، سواء أكان مستفاداً من اللفظ أو الاجماع أو العقل ، ولذلك قلنا إنّها من المسائل الاصولية العقلية ، لا من مباحث الألفاظ (١).

وهكذا الشأن في مسألتنا هذه ، فان جهة البحث فيها في الحقيقة ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه.

ومن الواضح أنّ البحث عن تلك الجهة لا يختص بما إذا كان الوجوب مدلولاً لدليل لفظي ، بل يعمّ الجميع ، ضرورة أنّ ما هو المهم في المقام هو البحث عن ثبوت تلك الملازمة وعدمه ، ولا يفرق فيه بين أن يكون الوجوب مستفاداً من اللفظ أو من غيره ، وإن كان عنوان البحث في المسألة ـ قديماً وحديثاً ـ يوهم اختصاص محلّ النزاع بما إذا كان الوجوب مدلولاً لفظياً ، إلاّ أنّ ذلك من جهة الغلبة ، وأنّ الوجوب في الغالب يستفاد من دليل لفظي ، لا من جهة اختصاص محلّ النزاع بذلك ، كما هو واضح.

ولأجل ذلك تكون المسألة من المسائل الاصولية العقلية لا من مباحث الألفاظ ، لعدم صلتها بتلك المباحث أصلاً ، كما أنّه لا صلة لغيرها من المسائل العقلية بها.

__________________

(١) راجع ص ١١٤.

٢٨٦

الثانية : هل هذه المسألة من المسائل الاصولية أو الفقهية أو المبادئ الأحكامية؟ قالوا في ذلك وجوهاً :

١ ـ إنّها من المسائل الفقهية ، بدعوى أنّ البحث فيها عن ثبوت الحرمة لضدّ الواجب ، وعدم ثبوت الحرمة له ، وهذا بحث فقهي لا اصولي.

ويدفعه : ما ذكرناه في أوّل بحث الاصول من أنّ هذا التوهم قد ابتنى على كون البحث بحثاً عن حرمة الضد ابتداءً ، لتكون المسألة فقهية ، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّ البحث فيها عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه ، وعدم ثبوتها ، ومن الواضح أنّ البحث عن هذه الناحية ليس بحثاً فقهياً له صلة بأحوال فعل المكلف وعوارضه بلا واسطة.

٢ ـ إنّها من المبادئ الأحكامية.

ويدفعه أيضاً : ما ذكرناه في بحث مقدمة الواجب (١) من أنّ المبادئ لا تخلو من التصورية والتصديقية ولا ثالث لهما ، والمبادئ التصورية هي لحاظ ذات الموضوع أو المحمول وذاتياتهما ، ومن الواضح أنّ البحث عن مسألة الضد لايرجع إلى ذلك. والمبادئ التصديقية هي المقدمة التي يتوقف عليها تشكيل القياس ، ومنها المسائل الاصولية ، فانّها مبادئ تصديقية بالاضافة إلى المسائل الفقهية ، لوقوعها في كبرى قياساتها التي تستنتج منها تلك المسائل والأحكام ، ولا نعقل المبادئ الأحكامية في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية.

٣ ـ وهو الصحيح ، أنّها من المسائل الاصولية العقلية.

أمّا كونها من المسائل الاصولية : فلما قدّمناه في أوّل بحث الاصول (٢) من

__________________

(١) في ص ١١٣.

(٢) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤ ـ ٩.

٢٨٧

أنّ المسائل الاصولية ترتكز على ركيزتين :

الاولى : أن تكون استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة من باب الاستنباط والتوسيط ، لا من باب التطبيق ، أي تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها كتطبيق الطبيعي على أفراده ، والكلي على مصاديقه.

الثانية : أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجة إلى ضم كبرى اصولية اخرى ، فكل مسألة إذا ارتكزت على هاتين الركيزتين فهي من المسائل الاصولية ، وإلاّ فلا.

وعلى هذا الأساس نميِّز كل مسألة ترد علينا أنّها اصولية أو فقهية أو غيرها ، وحيث إنّ هاتين الركيزتين قد توفرتا في مسألتنا هذه ، فهي من المسائل الاصولية لا محالة ، إذ أنّها واقعة في طريق استفادة الحكم الشرعي من باب الاستنباط والتوسيط بنفسها ، بلا توسط كبرى اصولية اخرى.

وتوهم خروج هذه المسألة عن علم الاصول ، لعدم توفر الركيزة الثانية فيها ، إذ لايترتب أثر شرعي على نفس ثبوت الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه ، لتكون المسألة اصولية ، وأمّا حرمة الضد فهي وإن ثبتت من ناحية ثبوت تلك الملازمة ، إلاّ أنّها حرمة غيرية فلا تصلح لأن تكون ثمرة للمسألة الاصولية.

مندفع بما ذكرناه في أوّل علم الاصول (١) من أنّه يكفي لكون المسألة اصولية ترتب نتيجة فقهية على أحد طرفيها ، وإن لم تترتب على طرفها الآخر ، بداهة أنّ ذلك لو لم يكن كافياً في اتصاف المسألة بكونها اصولية ، للزم خروج كثير من المسائل الاصولية عن علم الاصول ، حتّى مسألة حجية خبر الواحد ، فانّه على القول بعدم حجيته لا يترتب عليها أثر شرعي أصلاً ، ومسألتنا هذه تكون

__________________

(١) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص ١١.

٢٨٨

كذلك ، فانّه تترتب عليها نتيجة فقهية على القول بعدم ثبوت الملازمة ، وهي صحة الضد العبادي ، وأمّا الحكم بفساده على القول الآخر فهو يتوقف على استلزام النهي الغيري ، كما يستلزمه النهي النفسي ، وسنتعرض إلى ذلك إن شاء الله تعالى بشكل واضح.

فالنتيجة الكلية هي : أنّ الملاك في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق الاستنباط بنفسها ولو باعتبار أحد طرفيها ، في مقابل ما ليس له هذا الشأن وهذه الخاصة كمسائل سائر العلوم.

وأمّا كونها عقلية : فلأنّ الحاكم بالملازمة المزبورة إنّما هو العقل ، ولا صلة لها بدلالة اللفظ أبداً.

الثالثة : أنّ المراد من الاقتضاء في عنوان المسألة ليس ما هو ظاهره ، بل الأعم منه ومن الاقتضاء بنحو الجزئية والعينية ، ليعم جميع الأقوال ، فان منها قولاً بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضده. ومنها قول بأنّ النهي عن الضد جزء من الأمر بالشيء. ومنها قول بأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده كما هو ظاهر لفظ الاقتضاء ، فالتعميم لأجل أن لايتوهم اختصاص النزاع بالقول الأخير.

الرابعة : أنّ المراد بالضد في محل البحث مطلق ما يعاند الشيء وينافيه ، سواء أكان أمراً وجودياً كالأضداد الخاصة ، أو الجامع بينها ، وقد يعبّر عن هذا الجامع بالضد العام أيضاً ، أم كان أمراً عدمياً كالترك الذي هو المسمّى عندهم بالضد العام فإنّ من الأقوال في المسألة قولاً بأنّ الأمر بالشي يقتضي النهي عن ضدّه العام وهو الترك.

وبعد بيان ذلك نقول : إنّ الكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في الضدّ الخاص.

والثاني : في الضدّ العام.

٢٨٩

[ الضدّ الخاص ]

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد استدلّ جماعة على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ، سواء أكان المراد به أحد الأضداد الخاصة أو الجامع بينها بوجهين :

الأوّل : أنّ ترك أحد الضدين مقدمة للضد الآخر ، ومقدمة الواجب واجبة ، فإذا كان الترك واجباً فالفعل لا محالة يكون محرّماً ، وهذا معنى النهي عنه.

أقول : هذا الدليل مركب من مقدمتين : إحداهما صغرى القياس. والثانية كبراه ، فلا بدّ من درس كل واحدة منهما.

أمّا المقدمة الاولى فبيانها : أنّ العلّة التامّة مركّبة من أجزاء ثلاثة : ١ ـ المقتضي وهو الذي بذاته يقتضي التأثير في مقتضاه. ٢ ـ الشرط وهو الذي يصحح فاعلية المقتضي. ٣ ـ عدم المانع وهو الذي له دخل في فعلية تأثير المقتضي. ومن الواضح أنّ العلة التامة لا تتحقق بدون شيء من هذه المواد الثلاث ، فبانتفاء واحدة منها تنتفي العلة التامة لا محالة.

ونتيجة ذلك : هي أنّ عدم المانع من المقدمات التي لها دخل في وجود المعلول ، ويستحيل تحققه بدون انتفائه. ويترتب على ذلك أنّ ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الضدّ الآخر ، لأنّ كلاً منهما مانع عن الآخر ، وإلاّ لم يكن بينهما تمانع وتضاد ، فإذا كان كل منهما مانعاً عن الآخر فلا محالة يكون عدمه مقدمة له ، إذ كون عدم المانع من المقدمات ممّا لا يحتاج إلى مؤونة بيان ، وإقامة برهان.

٢٩٠

وأمّا المقدمة الثانية : فهي أنّ مقدمة الواجب واجبة ، وقد تقدّم الكلام فيها.

فالنتيجة من ضمّ المقدمة الاولى إلى هذه المقدمة هي : أنّ ترك الضد بما أنّه مقدمة للضد الواجب ـ كما هو المفروض في المقام ـ يكون واجباً ، وإذا كان تركه واجباً ففعله حرام لا محالة ، مثلاً ترك الصلاة بما أنّه مقدمة للازالة الواجبة فيكون واجباً ، وإذا كان واجباً ففعلها الذي هو ضدّ الازالة يكون حراماً ، وهذا معنى أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد.

ولكن كلتا المقدمتين قابلة للمناقشة :

أمّا المقدمة الاولى : فقد أنكرها جماعة من المحققين منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) وقال باستحالة المقدمية ، وأفاد في وجهها أمرين :

الأوّل : أنّ المعلول وإن كان مترتباً على تمام أجزاء علته التامة ، إلاّ أنّ تأثير كل واحد منها فيه يغاير تأثير الآخر فيه ، فان تأثير المقتضي فيه بمعنى ترشحه منه ، ويكون منه الأثر والوجود ، كالنار بالإضافة إلى الاحراق ، فانّ الإحراق يترشح من النار ، وأنّها فاعل ما منه الوجود والأثر ، لا المحاذاة مثلاً أو بقية الشرائط. وأمّا تأثير الشرط فيه بمعنى أنّه مصحح لفاعلية المقتضي وتأثيره أثره ، فانّ النار لا تؤثر في الاحراق بدون المماسة والمحاذاة وما شاكلهما ، فتلك الشرائط مصححة لفاعلية النار وتأثيرها فيه ، لا أنّ الشرط بنفسه مؤثر فيه. ومن هنا إذا انتفى الشرط لم يؤثر المقتضي.

أو فقل : إنّ الشرط في طرف القابل متمم قابليته ، وفي طرف الفاعل مصحح فاعليته ، فلا شأن له ما عدا ذلك. وأمّا عدم المانع فدخله باعتبار أنّ وجوده يزاحم المقتضي في تأثيره ، كالرطوبة الموجودة في الحطب ، فان دخل عدمها في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١١.

٢٩١

الاحتراق باعتبار أنّ وجودها مانع عن تأثير النار في الاحراق ، وهذا معنى دخل عدم المانع في وجود المعلول ، وإلاّ فلا يعقل أن يكون العدم بما هو من أجزاء العلة التامة ، بداهة استحالة أن يكون العدم دخيلاً في الوجود ومؤثراً فيه.

ومن ذلك البيان يظهر طولية أجزاء العلة التامة ، فانّ مانعية المانع متأخرة رتبة عن وجود المقتضي ، وعن وجود جميع الشرائط ، كما أنّ شرطية الشرط متأخرة رتبة عن وجود المقتضي ، فان دخل الشرط في المعلول إنّما هو في مرتبة وجود مقتضيه ، ليكون مصححاً لفاعليته ، لما عرفت آنفاً من أنّ الشرط في نفسه لا يكون مؤثراً فيه. ودخل عدم المانع إنّما يكون في ظرف تحقق المقتضي مع بقية الشرائط ، ليكون وجوده مزاحماً له في تأثيره ويمنعه عن ذلك.

وعلى ضوء ذلك قد اتضح استحالة اتصاف المانع بالمانعية إلاّفي ظرف وجود المقتضي مع سائر الشرائط ، كما أنّه يستحيل اتصاف الشرط بالشرطية إلاّ فيما إذا كان المقتضي موجوداً ، مثلاً الرطوبة في الجسم القابل للاحتراق لا تتصف بالمانعية إلاّفي ظرف وجود النار ومماستها مع ذلك الجسم ، ليكون عدم الاحتراق مستنداً إلى وجود المانع ، وأمّا إذا لم تكن النار موجودة ، أو كانت ولم تكن مماسة مع ذلك الجسم فلا يمكن أن يستند عدم الاحتراق إلى وجود المانع.

ولنأخذ مثالاً لتوضيح ذلك : إذا فرضنا أنّ النار موجودة والجسم القابل للاحتراق مماس لها ، ومع ذلك لم يحترق ، إذن نفتش عن سبب ذلك وما هو ، وبعد الفحص يتبيّن لنا أنّ سببه الرطوبة الموجودة في ذلك الجسم وهي التي توجب عدم قابليته للاحتراق وتأثير النار فيه ، فيكون عدمه مستنداً إلى وجود المانع. وكذا إذا فرض أنّ اليد الضاربة قويّة والسيف حاد ، ومع ذلك لا أثر للقطع في الخارج ، فلا محالة عدم قبول الجسم للانقطاع والتأثر بالسيف من

٢٩٢

جهة المانع وهو صلابة ذلك الجسم ، لوجود المقتضي المقارن مع شرطه.

وأمّا إذا فرض أنّ النار موجودة ، ولكن الجسم القابل للاحتراق لم يكن مماساً لها ، أو أنّ اليد الضاربة كانت قوية ولكن السيف لم يكن حاداً ، فعدم المعلول عندئذ لا محالة يستند إلى عدم الشرط ، لا إلى وجود المانع ، فالمانع في هذه اللحظة يستحيل أن يتصف بالمانعية فعلاً ، فان أثره المنع عن فعلية تأثير المقتضي ، ولا أثر له في ظرف عدم تحقق الشرط.

وكذلك إذا لم تكن النار موجودة ، أو كانت اليد الضاربة ضعيفة جداً أو مشلولة ، فعدم المعلول عندئذ لا محالة يستند إلى عدم مقتضيه ، لا إلى عدم المماسة أو الرطوبة ، أو إلى عدم حدّة السيف ، أو صلابة الجسم كل ذلك لم يكن.

وهذا من الواضحات خصوصاً عند المراجعة إلى الوجدان ، فانّ الانسان إذا لم يشته أكل طعام فعدم تحققه يستند إلى عدم المقتضي ، وإذا اشتهاه ولكن لم يجد الطعام فعدم الأكل يستند إلى عدم الشرط ، وإذا كانت الشروط متوفرة ولكنّه منع عن الأكل مانع ، فعدمه يستند إلى وجود المانع وهكذا.

وبعد بيان ذلك نقول : إنّه يستحيل أن يكون وجود أحد الضدّين مانعاً عن وجود الضدّ الآخر ، لما سبق من أنّ المانع إنّما يتصف بالمانعية في لحظة تحقق المقتضي مع بقية الشرائط.

ومن الواضح البيّن أنّ عند وجود أحد الضدّين يستحيل ثبوت المقتضي للضدّ الآخر ، ليكون عدمه مستنداً إلى وجود ضدّه ، لا إلى عدم مقتضيه ، والوجه في ذلك : هو أنّ المضادة والمنافرة بين الضدّين والمعلولين تستلزم المضادة والمنافرة بين مقتضييهما ، فكما يستحيل اجتماع الضدّين في الخارج ، فكذلك يستحيل اجتماع مقتضييهما فيه ، لأنّ اقتضاء المحال محال.

٢٩٣

أو فقل : إنّ عدم الضد إنّما يستند إلى وجود الضدّ الآخر في فرض ثبوت المقتضي له ، وهذا غير معقول ، كيف فان لازم ذلك هو أن يمكن وجوده في عرض وجود ذلك الضد ، والمفروض أنّه محال ، فالمقتضي له أيضاً محال ، بداهة أنّ استحالة اقتضاء المحال من الواضحات الأوّلية ، وإلاّ فما فرض أنّه محال لم يكن محالاً ، وهذا خلف.

ولنأخذ مثالاً لذلك : إنّ وجود السواد مثلاً في موضوع لو كان مانعاً عن تحقق البياض فيه فلا بدّ أن يكون ذلك في ظرف ثبوت المقتضي له ، ليكون عدمه ـ البياض ـ مستنداً إلى وجود المانع ، وهو وجود السواد ، لا إلى عدم مقتضيه. وثبوت المقتضي له محال وإلاّ لكان وجوده ـ البياض ـ في عرض وجود الضدّ الآخر ـ السواد ـ ممكناً ، وحيث إنّه محال فيستحيل ثبوت المقتضي له ، لأنّ اقتضاء المحال محال.

وعليه فإذا كان المقتضي لأحدهما موجوداً فلا محالة يكون المقتضي للآخر معدوماً ، إذن يكون عدمه دائماً مستنداً إلى عدم مقتضيه ، لا إلى وجود المانع.

هذا بالاضافة إلى إرادة شخص واحد في غاية الوضوح ، بداهة استحالة تحقق إرادة كل من الضدين في آن واحد من شخص واحد ، فلا يمكن تحقق إرادة كل من الصلاة والإزالة في نفس المكلف ، فان أراد الإزالة لم يمكن تحقق إرادة الصلاة ، وإن أراد الصلاة لم يمكن تحقق إرادة الازالة ، فترك كل واحدة منهما عند الاشتغال بالاخرى مستند إلى عدم المقتضي له ، لا إلى وجود المانع مع ثبوت المقتضي.

وأمّا بالإضافة إلى إرادة شخصين للضدين فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّ إحدى الارادتين لا محالة تكون مغلوبة للارادة الاخرى ، لاستحالة تأثير كلتيهما معاً ، وعندئذ تسقط الإرادة المغلوبة عن صفة الاقتضاء ، لاستحالة اقتضاء المحال

٢٩٤

وغير المقدور ، لفرض أنّ متعلقها خارج عن القدرة فلا تكون متصفة بهذه الصفة ، فيكون وجودها وعدمها سيّان.

وقد تحصّل من ذلك : أنّ المانع بالمعنى الذي ذكرناه ـ وهو ما يتوقف على عدمه وجود المعلول في الخارج ـ ما كان مزاحماً للمقتضي في تأثيره أثره ، ومانعاً عنه عند وجدانه الشرائط ، وهذا المعنى مفقود في الضدّين كما مرّ.

فالنتيجة إذن : أنّه لا وجه لدعوى توقف أحد الضدّين على عدم الآخر ، إلاّ تخيل أنّ المنافاة والمعاندة بينهما تقتضي التوقف المزبور ، ولكنّه خيال فاسد ، ضرورة أنّ ذلك لو تمّ لكان تحقق كل من النقيضين متوقفاً على عدم الآخر أيضاً ، لوجود الملاك فيه ، وهو المعاندة والمنافاة. مع أنّ بطلان ذلك من الواضحات فلا يحتاج إلى مؤونة بيان وإقامة برهان.

ونلخّص ما أفاده قدس‌سره في عدّة نقاط :

الاولى : أنّ مانعية المانع في مرتبة متأخرة عن مرتبة وجود المقتضي ووجود الشرط ، فيكون استناد عدم المعلول إلى وجود المانع في ظرف ثبوت المقتضي مع بقية الشرائط ، وإلاّ فالمانع لا يكون مانعاً كما سبق.

الثانية : أنّ وجود كل من الضدّين بما أنّه يستحيل في عرض الآخر ويمتنع تحققه في الخارج ، فثبوت المقتضي له في عرض ثبوت المقتضي للآخر أيضاً محال ، لأنّ اقتضاء المحال محال كما عرفت.

الثالثة : أنّ المعاندة والمنافاة بين الضدّين لو كانت مقتضية للتوقف المذكور لكانت مقتضية له بالإضافة إلى النقيضين أيضاً ، وبطلانه غني عن البيان.

ولنأخذ الآن بدرس هذه النقاط :

أمّا النقطة الاولى : فهي في غاية الصحة والمتانة على البيان المتقدم.

٢٩٥

وأمّا النقطة الثانية : فللمناقشة فيها مجال واسع ، وذلك لأنّه لا مانع من ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في نفسه ، مع قطع النظر عن الآخر ، ولا استحالة فيه أصلاً.

والوجه في ذلك هو : أنّ كلاً من المقتضيين إنّما يقتضي أثره في نفسه مع عدم ملاحظة الآخر ، فمقتضي البياض مثلاً إنّما يقتضيه في نفسه سواء أكان هناك مقتضٍ للسواد أم لم يكن ، كما أنّ مقتضي السواد إنّما يقتضيه كذلك ، وإمكان هذا واضح ، ولا نرى فيه استحالة ، فانّ المستحيل إنّما هو ثبوت المقتضي لكل من الضدّين بقيد التقارن والاجتماع لا في نفسه ، أو اقتضاء شيء واحد بذاته لأمرين متنافيين في الوجود ، وهذا مصداق قولنا اقتضاء المحال محال ، لا فيما إذا كان هناك مقتضيان كان كل واحد منهما يقتضي في نفسه شيئاً مخصوصاً وأثراً خاصاً مع قطع النظر عن ملاحظة الآخر.

والبرهان على ذلك : أنّه لولا ما ذكرناه من إمكان ثبوت المقتضي لكل منهما في نفسه ، لم يمكن استناد عدم المعلول إلى وجود مانعه أصلاً ، لأنّ أثر المانع كالرطوبة مثلاً لا يخلو من أن يكون مضاداً للمعلول ـ وهو الاحراق ـ وأن لا يكون مضاداً له ، فعلى الفرض الأوّل يستحيل ثبوت المقتضي للمعلول والممنوع ، ليكون عدمه مستنداً إلى وجود مانعه ، لفرض وجود ضدّه وهو أثر المانع ، وقد سبق أنّ عند وجود أحد الضدّين يستحيل ثبوت المقتضي للآخر ، فيكون عدمه من جهة عدم المقتضي ، لا من جهة وجود المانع مع ثبوت المقتضي له. وعلى الفرض الثاني فلا مقتضي لكونه مانعاً منه ، بداهة أنّ مانعية المانع من جهة مضادة أثره للممنوع ، فإذا فرض عدم مضادته له فلا موجب لكونه مانعاً أصلاً.

وقد تبيّن لحدّ الآن أنّه لا مانع من أن يكون أحد الضدّين مانعاً عن الآخر

٢٩٦

ليستند عدمه إليه ، لا إلى عدم مقتضيه ، لفرض إمكان ثبوته في نفسه ، بحيث لولا وجود الضدّ الآخر لكان يؤثّر أثره ، ولكن وجوده يزاحمه في تأثيره ويمنعه عن ذلك ، مثلاً إذا فرض وجود مقتضٍ لحركة شيء إلى طرف المشرق ووجد مقتضٍ لحركته إلى طرف المغرب ، فكل من المقتضيين إنّما يقتضي الحركة في نفسه إلى كل من الجانبين ، مع عدم ملاحظة الآخر ، فعندئذ كان تأثير كل واحد منهما في الحركة إلى الجانب الخاص متوقفاً على عدم المانع منه ، فإذا وجدت إحدى الحركتين دون الاخرى فلا محالة يكون عدم هذه مستنداً إلى وجود الحركة الاولى ، لا إلى عدم مقتضيها ، فانّ المقتضي لها موجود على الفرض ، ولولا المانع لكان يؤثر أثره ، ولكنّ المانع ـ وجود تلك الحركة ـ يزاحمه في تأثيره.

وعلى الجملة : فلا ريب في إمكان ثبوت المقتضيين في حد ذاتهما ، حتّى إذا كانا في موضوع واحد أو محل واحد ، كارادتين من شخص واحد ، أو سببين في موضوع واحد ، فضلاً عمّا إذا كانا في موضوعين أو محلّين ، كارادتين من شخصين ، أو سببين في موضوعين ، إذ لا مانع من أن يكون في شخص واحد مقتضٍ للقيام من جهة ، ومقتضٍ للجلوس من جهة اخرى ، وكلا المقتضيين موجود في حد ذاتهما مع الغض عن الآخر ، فعندئذ إذا وجد أحد الفعلين دون الآخر فعدم هذا لا محالة يكون مستنداً إلى وجود ذاك ، لا إلى عدم مقتضيه ، لفرض أنّ المقتضي له موجود ، وهو يؤثر أثره لولا مزاحمة المانع له.

ونتيجة ما ذكرناه هي : أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أن أحد الضدّين إذا كان موجوداً يستحيل ثبوت المقتضي للآخر لا يتم ، ومنشأ ذلك غفلته قدس‌سره عن نقطة واحدة هي تخيل أنّ المقام من موارد الكبرى المتسالم عليها ، وهي أنّ اقتضاء المحال محال ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ،

٢٩٧

فانّ المقام أجنبي عنه ، فان اقتضاء المحال إنّما يتحقق في أحد موردين :

الأوّل : ما إذا كان هناك شيء واحد يقتضي بذاته أمرين متنافيين في الوجود.

الثاني : ما إذا فرض هناك ثبوت المقتضي لكل من الضدّين بقيد الاجتماع والتقارن ، ومن الواضح أنّه لا صلة لكلا الموردين بالمقام ، وهو ما إذا كان هناك مقتضيان كان كل واحد منهما يقتضي شيئاً مخصوصاً ، وأثراً خاصاً في نفسه ، بلا ربط له بالآخر ، وهذا هو مراد القائلين بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، فانّهم بعد ما تسالموا على الكبرى ـ وهي وجوب مقدمة الواجب ـ قد نقحوا الصغرى ـ وهي كون عدم أحد الضدّين مقدمة للضدّ الآخر ـ بالشكل الذي بيّناه ، ثمّ أخذوا النتيجة بضمّ الصغرى إلى الكبرى وهي حرمة الضد.

وأمّا النقطة الثالثة : فيرد عليها أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين لو سلّم اقتضاؤها للتوقف المزبور ، فلا يسلم اقتضاؤها له بين النقيضين ، إذ لا يعقل التوقف بين النقيض وعدم نقيضه ، بداهة أنّ عدم الوجود عين العدم البديل له فكيف يعقل توقف ذلك العدم على عدم الوجود ، لأنّه من توقف الشيء على نفسه وهو محال ، مثلاً عدم الانسان عين العدم البديل له فلا يكاد يمكن توقف العدم البديل له على عدمه ، بداهة أنّ توقف شيء على شيء يقتضي المغايرة والاثنينية بينهما في الوجود ، فضلاً عن المغايرة في المفهوم. ومن الظاهر أنّه لا مغايرة بين عدم الانسان مثلاً والعدم البديل له لا خارجاً ولا مفهوماً.

نعم ، المغايرة المفهومية بين عدم العدم والوجود ثابتة ، لكنّه لا تغاير بينهما في الخارج ، مثلاً الانسان مغاير مفهوماً مع عدم نقيضه وهو العدم البديل له ، ولكنهما متحدان عيناً وخارجاً ، فان عدم عدم الانسان عين الانسان في الخارج ، إذن لا معنى لتوقف تحقق أحد النقيضين على عدم الآخر.

وهذا بخلاف الضدّين ، فانّه لمكان المغايرة بينهما مفهوماً وخارجاً لا يكون

٢٩٨

توقف أحدهما على عدم الآخر من توقف الشيء على نفسه.

فما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين لو اقتضت توقف أحدهما على عدم الآخر لثبت ذلك في النقيضين أيضاً ، لا يرجع إلى معنى محصّل أصلاً.

الوجه الثاني : أنّ عدم أحد الضدّين لو فرض ثبوت المقتضي له أيضاً يستند إلى وجود مقتضي الآخر ، لا إلى وجود نفسه ، بيان ذلك : أنّ الصور المتصورة في المقام ثلاثة لا رابع لها.

الاولى : أن يكون المقتضي لكل من الضدّين موجوداً.

الثانية : أن لا يكون المقتضي لشيء منهما موجوداً ، عكس الاولى.

الثالثة : أن يكون المقتضي لأحدهما موجوداً دون المقتضي للآخر.

أمّا الصورتان الأخيرتان فالأمر فيهما واضح ، فان عدم ما لا مقتضي له مستند إلى عدم مقتضيه ، لا إلى وجود الضدّ الآخر.

وإنّما الكلام في الصورة الاولى فنقول : إنّ المقتضيين الموجودين في عرض واحد لا يخلوان من أن يكونا متساويين في القوة ، وأن يكون أحدهما أقوى من الآخر.

أمّا على الأوّل : فلا يوجد شيء من الضدّين ، لاستحالة تأثير كل منهما أثره معاً ، وتأثير أحدهما المعيّن فيه دون الآخر ترجيح من دون مرجح ، أو خلف إن فرض له مرجح. ومن ذلك يعلم أنّ المانع من وجود الضد مع فرض ثبوت مقتضيه إنّما هو وجود المقتضي للضدّ الآخر ، لا نفس وجود الضد. وفي هذا الفرض بما أنّ كلاً من المقتضيين يزاحم الآخر في تأثيره ويمنعه عن ذلك ، فان تأثير كل منهما منوط بعدم المانع عنه ، ووجود مقتضي الضدّ الآخر مانع ،

٢٩٩

فلا محالة يكون عدم كل من الضدّين مستنداً إلى وجود المقتضي للآخر لا إلى نفسه.

وأمّا على الثاني : فيؤثر القوي في مقتضاه ، ويكون مانعاً عن تأثير المقتضي الضعيف ، والضعيف لا يمكن أن يكون مانعاً من القوي.

بيان ذلك : أنّ القوي لمكان قوته يزاحم الضعيف ويمنعه من التأثير في مقتضاه ، فنفس وجوده موجب لفقد شرط من شرائطه وهو عدم المزاحم ، فانّه شرط تأثيره ومصحح فاعليته ، فيكون عدم القوي شرطاً لتأثير الضعيف ، ووجوده مانعاً منه.

وعلى هدى ذلك يعلم أنّ عدم تمامية علية الضعيف مستند إلى تمامية علية القوي ووجوده ، وبما أنّ الضعيف لا يمكن أن يزاحم القوي في تأثيره يكون تامّ الاقتضاء والفاعلية ، فهو بصفته كذلك يزاحم الضعيف ويمنعه عن تأثيره في معلوله ، فعدم مزاحمة الضعيف بالتالي منته إلى ضعف في نفسه بالاضافة إلى المقتضي الآخر ، إذ لو كان قوياً مثله لزاحمه في تأثيره لا محالة ، فعدم قابليته لأن يزاحم الآخر وقابلية الآخر لأن يزاحمه لأجل عدم قوته بالإضافة إليه ، وإن كان قوياً في نفسه وتامّ الفاعلية والاقتضاء مع قطع النظر عن مزاحمة الآخر له ، ولذا لو لم يكن القوي في البين لأثّر الضعيف في مقتضاه ، ففي هذا الفرض يستند عدم الضد إلى وجود المقتضي القوي للضدّ الآخر ، لا إلى نفس وجوده ، ولا إلى عدم مقتضي نفسه ، فانّه موجود على الفرض ، ولكنّ المانع منعه عن تأثيره وهو وجود المقتضي القوي.

وعلى الجملة : ففيما إذا كان المقتضيان متفاوتين بالقوة والضعف ، فيستحيل أن يؤثر الضعيف في مقتضاه ، لأنّ تأثير كل مقتضٍ مشروط بعدم المانع المزاحم له ، والقوي لمكان قوته مزاحم له ومع ذلك لو أثّر الضعيف دون القوي للزم

٣٠٠