محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

انفكاك المعلول عن علته التامة ، وصدوره عن علته الناقصة ، فان علية القوي كما عرفت تامة فلا حالة منتظرة فيه أصلاً ، إذ الضعيف لمكان ضعفه لا يمكن أن يزاحمه ، وعلية الضعيف ناقصة لوجود المانع المزاحم له ، إذن يستند عدم الضدّ الذي يقتضيه السبب الضعيف إلى وجود السبب القوي ، فانّه مانع عن تأثير الضعيف ومزاحم له ، وإلاّ فالمقتضي له موجود. وقد سبق أنّ عدم المعلول إنّما يستند إلى وجود المانع في ظرف تحقق المقتضي وبقية الشرائط.

ولنأخذ لذلك مثالين :

الأوّل : ما إذا فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في محل واحد ، كارادة الضدّين من شخص واحد وكانت إرادته بالاضافة إلى أحدهما أقوى من إرادته بالاضافة إلى الآخر ، كما لو كان هناك غريقان وقد تعلقت إرادته بانقاذ كل واحد منهما في نفسه ، ولكن إرادته بالاضافة إلى إنقاذ أحدهما أقوى من إرادته بالاضافة إلى إنقاذ الآخر ، من جهة أنّ أحدهما عالم والآخر جاهل ، أو كان أحدهما صديقه والآخر أجنبياً عنه ، وغير ذلك من الخصوصيات والعناوين الموجبة لكثرة الشفقة والمحبة بالاضافة إلى إنقاذ أحدهما دون الآخر ، ففي مثل ذلك لا محالة يكون المؤثر هو الارادة القويّة دون الارادة الضعيفة ، فانّها لمكان ضعفها تزاحمها الارادة القوية ، وتمنعها عن تأثيرها في مقتضاها ، وتلك لمكان قوتها لا تزاحم بها. إذن عدم تحقق مقتضي الارادة الضعيفة غير مستند إلى وجود الضدّ الآخر ، ولا إلى عدم مقتضيه ، فان مقتضيه وهو الارادة الضعيفة موجود على الفرض ، بل هو مستند إلى وجود المانع والمزاحم له ، وهو الارادة القوية.

الثاني : ما إذا فرض ثبوت المقتضي لكل من الضدّين في محلّين وموضوعين ، كما إذا كان كل منهما متعلقاً لارادة شخص ، ولكن كانت إرادة أحدهما أقوى

٣٠١

من إرادة الآخر ، كما إذا أراد أحد الشخصين مثلاً حركة جسم إلى جانب وأراد الآخر حركة ذلك الجسم إلى جانب آخر وهكذا ، ففي مثل ذلك أيضاً يكون المؤثر هو الارادة الغالبة دون الارادة المغلوبة ، فعدم أثرها أيضاً غير مستند إلى وجود أثر تلك الارادة ، بل هو مستند إلى مزاحمتها بها ، لمكان ضعفها وعدم مزاحمة تلك بها لمكان قوتها.

فالنتيجة إذن : لايمكن فرض وجود صورة يستند عدم الضد في تلك الصورة إلى وجود الضدّ الآخر ، لا إلى وجود سببه ، أو عدم مقتضي نفسه.

أقول : هذا الوجه في غاية المتانة والاستقامة ، ولا مناص من الالتزام به ولا سيّما بذلك الشكل الذي بيّناه.

وذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وجهاً ثالثاً لاستحالة مقدمية عدم الضدّ للضدّ الآخر ، وإليك نصّه :

وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلاّعدم اجتماعهما في التحقق ، وحيث لا منافاة أصلاً بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة ، من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر كما لا يخفى ، فكما أنّ قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ، كذلك في المتضادين (١).

أقول : توضيح ما أفاده قدس‌سره : أنّ المنافرة والمعاندة بين الضدين كما تقتضي استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في زمن واحد ، كذلك تقتضي استحالة اجتماعهما في مرتبة واحدة ، فإذا استحال اجتماعهما في مرتبة واحدة كان

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٠.

٣٠٢

عدم أحدهما في تلك المرتبة ضرورياً وإلاّ فلا بدّ أن يكون وجوده فيها كذلك ، لاستحالة ارتفاع النقيضين عن الرتبة ، مثلاً البياض والسواد متضادان ، وقضية مضادة أحدهما مع الآخر ومعاندتهما استحالة اجتماعهما في الوجود في موضوع وفي آن واحد أو رتبة واحدة ، فكما أنّ استحالة اجتماعهما في زمان واحد تستلزم ضرورة عدم أحدهما في ذلك الزمان ، كذلك استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة تستلزم ضرورة عدم واحد منهما في تلك الرتبة ، لاستحالة ارتفاع النقيضين عن المرتبة أيضاً ، بأن لا يكون وجوده في تلك المرتبة ولا عدمه.

ومن ذلك يعلم أنّ مراده قدس‌سره من أنّه لا منافاة بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر ، بل بينهما كمال الملاءمة ، ما ذكرناه من أنّ المضادة بين شيئين لا تقتضي إلاّ استحالة اجتماعهما في التحقق والوجود في آن واحد أو رتبة واحدة ، وإذا استحال تحققهما في مرتبة فلا محالة يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة واجباً ، مثلاً عدم البياض في مرتبة وجود السواد وكذلك عدم السواد في مرتبة وجود البياض ضروري ، كيف ولو لم يكن عدم البياض في تلك المرتبة يلزم أحد محذورين : إمّا ارتفاع النقيضين عن تلك المرتبة لو لم يكن وجود البياض أيضاً في تلك المرتبة ، أو اجتماع الضدّين فيها إذا كان البياض موجوداً فيها ، وليس غرضه من ذلك نفي المقدمية والتوقف بمجرّد كمال الملاءمة بينهما ليرد عليه ما أورده شيخنا المحقق قدس‌سره (١) من أنّ كمال الملاءمة بينهما لا يدل عليه ، فان بين العلة والمعلول كمال الملاءمة ومع ذلك لا يكونان متحدين في الرتبة.

كما أنّ غرضه قدس‌سره من قوله : فكما أنّ قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدّم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ، كذلك في المتضادين ، هو ما

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٨٠.

٣٠٣

ذكرناه ، وليس غرضه من ذلك الاستدلال على نفي التوقف والمقدمية بقياس المساواة ، بدعوى أنّ عدم أحد الضدّين في مرتبة وجوده ، لأنّهما نقيضان والنقيضان في رتبة واحدة ، وبما أنّ وجود أحد الضدّين في مرتبة وجود الآخر لأنّ ذلك مقتضى التضاد بينهما ، كان عدم أحد الضدّين في مرتبة وجود الآخر.

وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ التقدم والتأخر والتقارن بين شيئين تارة تلاحظ بالاضافة إلى الزمان ، ومعنى ذلك أنّ الملاك في تقدّم شيء على شيء آخر أو تأخره عنه أو تقارنه معه هو نفس الزمان لا غيره ، وتارة اخرى تلاحظ بالاضافة إلى الرتبة مع تقارنهما بحسب الزمان ، وحينئذ فالملاك فيه شيء آخر غير الزمان.

أمّا إذا كان التقدم والتأخر بين شيئين أو التقارن بينهما بالزمان ، فكل ما هو متحد مع المتقدم في الزمان متقدم على المتأخر بعين الملاك الموجود في المتقدم ، وهو كونه في الزمان المتقدم ، وكل ما هو متحد مع المتأخر في الزمان متأخر عن المتقدم بعين الملاك الموجود في المتأخر ، وهو كونه في الزمان المتأخر. وكل ما هو متحد مع المقارن في الزمان مقارن لتحقق ملاك التقارن فيه ، وهذا من الواضحات فلا يحتاج إلى مؤونة بيان.

وأمّا إذا كان التقدم والتأخر بينهما بلحاظ الرتبة دون الزمان فالأمر ليس كذلك ، فانّ ما هو متحد مع المتقدم في الرتبة لا يلزم أن يكون متقدماً على المتأخر ، وكذا ما هو متحد مع المتأخر فيها أو المقارن لا يلزم أن يكون متأخراً أو مقارناً ، مثلاً العلة متقدمة على المعلول رتبة ، وما هو متحد معها في الرتبة ـ وهو العدم البديل لها ـ لا يكون متقدماً عليه ، والمعلول متأخر عن العلة رتبة وما هو متحد معه ـ وهو عدمه البديل له ـ لا يكون متأخراً عنها.

والوجه في ذلك هو : أنّ التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع لا يكون جزافاً ، بل

٣٠٤

لا بدّ أن يكون ناشئاً من ملاكٍ مقتضٍ له ، فكل ما كان فيه الملاك الموجب لتقدمه أو تأخره فهو ، وإلاّ فلا يعقل فيه التقدم أو التأخر أصلاً ، فهذا الملاك تارة يختص بوجود الشيء فلا يمكن الالتزام بالتقدم أو التأخر في عدمه ، وتارة اخرى يختص بعدمه ، فلا يعقل الالتزام به في وجوده ، فانّه تابع لوجود الملاك ، ففي كل مورد لا يوجد فيه الملاك لا يمكن فيه التقدم أو التأخر ، بل لا بدّ فيه من الالتزام بالاتحاد والمعية في الرتبة ، فان ملاك المعية انتفاء ملاك التقدم والتأخر ، لا أنّها ناشئة من ملاك وجودي.

وعلى ضوء ذلك نقول : إنّ تقدّم العلة على المعلول بملاك ترشح وجود المعلول من وجود العلة ، كما أنّ تقدّم الشرط على المشروط بملاك توقف وجوده على وجوده ، وتقدّم عدم المانع على الممنوع بملاك توقف وجوده عليه ، وأمّا عدم العلة فلا يكون متقدماً على وجود المعلول ، لعدم ملاك التقدم فيه ، كما أنّ عدم المعلول لا يكون متأخراً عن وجود العلة مع أنّه في مرتبة وجود المعلول ، لعدم تحقق ملاك التأخر فيه ، وكذا لا يكون عدم الشرط متقدماً على المشروط ، ولا عدم المشروط متأخراً عن وجود الشرط ، لاختصاص ملاك التقدم والتأخر بوجود الشرط ووجود المشروط دون وجود أحدهما وعدم الآخر.

وعلى الجملة : فما كان مع المتقدم في الرتبة كالعلة والشرط ليس له تقدّم على المعلول والمشروط ، إذ التقدم بالعلية شأن العلة دون غيرها ، والتقدم بالشرطية شأن الشرط دون غيره ، فانّ التقدم بالعلية أو الشرطية أو نحوها الثابت لشيء لا يسري إلى نقيضه المتحد معه في الرتبة ، ولذا قلنا إنّه لا تقدّم لعدم العلة على المعلول ولا للعلة على عدم المعلول ، مع أنّه لا شبهة في تقدّم العلة على المعلول ، والسر فيه ما عرفت من أنّ التقدم والتأخر الرتبيين تابعان

٣٠٥

للملاك ، فكل ما لا يكون فيه الملاك لا يعقل فيه التقدم والتأخر أصلاً ، بل لا مناص فيه من الحكم بالمعية والاتحاد في الرتبة.

ومن ذلك يظهر الحال في الضدّين ، إذ يمكن أن يكون عدم أحدهما متقدماً على وجود الآخر بملاك موجب له ، ولا يكون ما هو متحد معه في الرتبة متقدماً عليه ، فمجرد اتحاد الضدّين والنقيضين في الرتبة لا يأبى أن يكون عدم الضد متقدماً على الضدّ الآخر ، مع عدم تقدّم ما هو في مرتبته عليه ، لاختصاص ملاك التقدم بعدم كل منهما بالاضافة إلى وجود الآخر ، دون عدم كل منهما بالاضافة إلى وجوده ، ودون وجود كل منهما بالاضافة إلى وجود الآخر. ولأجل ذلك كان ما هو متحد مع العلة في الرتبة ـ وهو عدمها ـ متحداً مع المعلول في الرتبة ، وكان ما هو متحد مع المعلول في الرتبة ـ وهو عدمه ـ متحداً مع العلة في الرتبة ، مع أنّ العلة متقدمة على المعلول رتبة.

ثمّ إنّ ما ذكره في النقيضين ـ من أن قضية المنافاة بينهما لا تقتضي تقدّم [ ارتفاع ] أحدهما في ثبوت الآخر ـ لا بدّ من فرضه في طرف واحد منهما ، وهو طرف الوجود دون كلا الطرفين ، وذلك لأنّ وجود الشيء يغاير عدم نقيضه ـ أعني به عدم العدم ـ مفهوماً ، وأمّا عدم الشيء فهو بنفسه نقيض الشيء ، ولا يغايره بوجه كي يقال إنّ ارتفاع الوجود يلائم نقيضه من دون أن يكون بينهما تأخر وتقدّم. مثلاً وجود الانسان يغاير عدم نقيضه ـ عدم الانسان ـ مفهوماً ، فان مفهوم عدم العدم غير مفهوم الوجود ، وإن كان في الخارج عينه. فإذن يمكن أن يقال : إنّ الشيء كالانسان متحد في الرتبة مع عدم نقيضه ، وأمّا عدم الانسان فلا يغاير عدم نقيضه ـ وجود الانسان ـ حتّى مفهوماً ، فانّ نقيضه هو الانسان ، وعدم نقيضه هو عدم الانسان. إذن فلا معنى لأن يقال : إنّ عدم الانسان متحد في الرتبة مع عدم الانسان.

٣٠٦

فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت : أنّ التمسك بقياس المساواة إنّما يصح في التقدم الزماني ، فانّ ما هو مع المتقدم بالزمان متقدم لا محالة ، دون ما إذا كان التقدم في الرتبة.

وقد عرفت أنّ غرض المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ليس التمسك بقياس المساواة لاثبات نفي المقدمية والتقدم لعدم أحد الضدّين للضدّ الآخر ، ليرد عليه ما بيّناه ، بل غرضه ما ذكرناه سابقاً. هذا غاية توجيه لما أفاده قدس‌سره في المقام.

وقد ظهر من ضوء بياننا هذا أمران :

الأوّل : بطلان ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من التمسك لاثبات كون عدم أحد الضدّين في مرتبة الضدّ الآخر ، بقياس المساواة. وقد تقدّم (١) بيانه مع جوابه مفصلاً فلا حاجة إلى الاعادة.

الثاني : بطلان ما أفاده شيخنا المحقق قدس‌سره من أنّ المعية في الرتبة كالتقدم أو التأخر الرتبي لا بدّ أن تكون ناشئة من ملاك وجودي ، فلا يكفي فيها انتفاء ملاك التقدم أو التأخر ، والوجه في ذلك : ما عرفت من أنّ التقدم أو التأخر لا بدّ أن يكون ناشئاً من ملاك وجودي موجب له ، وأمّا المعية في الرتبة فلا.

والسر في ذلك : أنّ كل شيء إذا قيس على غيره ولم يكن بينهما ملاك التقدم والتأخر فهو في رتبته لا محالة ، إذ لا نعني بالمعية في الرتبة إلاّعدم تحقق موجب التقدم والتأخر بينهما ، ضرورة أنّها لا تحتاج إلى ملاك آخر غير عدم وجود ملاك التقدم والتأخر ، فكل ما لم يكن متقدماً على شيء ولا متأخراً عنه في

__________________

(١) في ص ٣٠٠.

٣٠٧

الرتبة ، كان متحداً معه في الرتبة لا محالة.

وبعد بيان هذا نقول : إنّه يمكن المناقشة فيما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أيضاً والوجه في ذلك : هو أنّ ما أفاده قدس‌سره مبتنٍ على أصلٍ فاسد ، وهو أنّ استحالة اجتماع الضدّين أو النقيضين إنّما تكون مع وحدة الرتبة ، وأمّا مع تعددها فلا استحالة أبداً ، أو فقل : إنّه كما يعتبر في التناقض أو التضاد وحدة الزمان ، كذلك يعتبر فيه وحدة الرتبة ، ومع اختلافها فلا تناقض ولا تضاد.

ولكن هذا الأصل بمكان من الفساد ، وذلك لأنّ التضاد من صفات الوجود الخارجي ، فالمضادة والمعاندة بين السواد والبياض أو بين الحركة والسكون مثلاً إنّما هي في ظرف الخارج ، بداهة أنّه مع قطع النظر عن وجودهما في الخارج لا مضادة ولا معاندة بينهما أبداً.

وعلى الجملة : فالمضادة والمماثلة والمناقضة جميعاً من الصفات التي تعرض الموجودات الخارجية ، لا الرتب العقلية ، ضرورة أنّ الوجود والعدم إنّما يستحيل اجتماعهما في الخارج ، وكذا السواد والبياض ، والحركة والسكون ، وكل ما يكون من هذا القبيل ، ولذا لو فرضنا أنّ الضدّين كانا مختلفين في الرتبة عقلاً كان اجتماعهما خارجاً في موضوع واحد محالاً ، فالاستحالة تدور مدار اجتماعهما في الوجود الخارجي في آن واحد وفي موضوع فارد ، سواء أكانا مختلفين بحسب الرتبة أم كانا متحدين فيها ، إذ العبرة إنّما هي بالمقارنة الزمانية ، ومن المعلوم أنّ المختلفين بحسب الرتبة قد يقترنان بحسب الزمان كالعلة والمعلول.

وعليه فلا يتم ما في الكفاية من أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين تقتضي استحالة اجتماعهما في رتبة واحدة أيضاً ، فإذا استحال اجتماعهما فيها فلا محالة يكون عدم أحدهما في تلك المرتبة ضرورياً ، وإلاّ لزم إمّا ارتفاع الضدّين أو

٣٠٨

اجتماعهما ، وكلاهما محال.

والوجه فيه : ما عرفت من أنّ المعاندة والمنافرة بين الضدّين إنّما هي بلحاظ وجوديهما في الخارج وإلاّ فلا معاندة ولا مضادة بينهما أبداً ، فإذن لا مانع من أن يكون عدم أحدهما متقدماً على الآخر بالرتبة ، ولا يلزم عليه المحذور المذكور أصلاً ، وأمّا عدم تقدّم أحد الضدّين على الآخر فليس من ناحية المضادة بينهما ، ليقال إنّ قضيتها اتحادهما في الرتبة ، بل من ناحية انتفاء ملاك التقدم والتأخر.

ومن هنا لم يعدّوا من الوحدات المعتبرة في التناقض أو التضاد وحدة الرتبة ، وهذا منهم شاهد على عدم اعتبارها فيه.

وذكر المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وجهاً رابعاً لاستحالة كون عدم أحد الضدّين مقدمة للضدّ الآخر ، بأ نّه مستلزم للدور ، فانّ التمانع بينهما لو كان موجباً لتوقف وجود كل منهما على عدم الآخر من باب توقف المعلول على عدم مانعه ، لاقتضى ذلك توقف عدم كل منهما على وجود الضدّ الآخر من باب توقف عدم الشيء على وجود مانعه ، فيلزم حينئذ توقف وجود كل منهما على عدم الآخر وتوقف عدم كل منهما على وجود الآخر ، وهذا محال.

وقد اورد عليه كما في الكفاية : بأنّ توقف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر فعلي ، فانّ وجود السواد في محل متوقف فعلاً على عدم تحقق البياض فيه ، وأمّا توقف عدم الضد على وجود الآخر فهو شأني لا فعلي ، فلا دور.

والوجه في ذلك : هو أنّ وجود الضد في الخارج لا محالة يكون بوجود علته التامة من المقتضي والشرط وعدم المانع ، ومن الواضح أنّ توقف وجود المعلول

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٣٠.

٣٠٩

على جميع أجزاء علته ومنها عدم المانع فعلي ، لأنّ للجميع دخلاً فعلاً في تحققه ووجوده في الخارج ، وهذا معنى أنّ توقف وجود الضد على عدم الآخر فعلي ، فانّه من توقف وجود المعلول على عدم مانعه في ظرف تحقق المقتضي والشرط.

وأمّا عدم الضد فلا يتوقف على وجود الضدّ الآخر فعلاً ، لأنّ عدمه يستند إلى عدم المقتضي له لا إلى وجود المانع في ظرف تحقق المقتضي مع بقية الشرائط ، ليكون توقفه عليه فعلياً ، بل يحتمل استحالة تحقق المقتضي له أصلاً ، لأجل احتمال أن يكون وقوع أحد الضدّين في الخارج وعدم وقوع الآخر فيه منتهياً إلى تعلّق الارادة الأزلية بالأوّل وعدم تعلقها بالثاني ، فانّها علة العلل ، وجميع الأسباب الممكنة لا بدّ أن تنتهي إلى سبب واجب وهو الارادة الأزلية ، فيكون عدم الضد عندئذ دائماً مستنداً إلى عدم المقتضي ، لا إلى وجود المانع ، ليلزم الدور.

وما قيل : من أنّ هذا إنّما يتم فيما إذا كان الضدّان منتهيين إلى إرادة شخص واحد ، فان إرادة الضدّين من شخص واحد محال سواء أكانت الارادتان منتهيتين إلى الارادة الأزلية أم لم تنتهيا إليها ، فإذا أراد أحدهما فلا محالة يكون عدم الآخر مستنداً إلى عدم الارادة والمقتضي لا إلى وجود المانع. وأمّا إذا كان كل منهما متعلقاً لارادة شخص فلا محالة يكون عدم أحدهما مستنداً إلى وجود المانع ، لا إلى عدم ثبوت المقتضي له ، لفرض أنّ المقتضي له موجود وهو الارادة ، فإن إرادة الضدّين من شخصين ليست بمحال ، مدفوع بأنّ عدم الضد هنا أيضاً مستند إلى قصور في المقتضي ، لا إلى وجود الضدّ الآخر مع تماميته ، فانّ الارادة الضعيفة مع مزاحمتها بالارادة القوية لا تؤثر ، لخروج متعلقها عن تحت القدرة ، فلا يكون المغلوب منهما في إرادته قادراً على إيجاد متعلقها.

وإن شئت فقلت : إنّ الفعلين المتضادين إمّا أن يلاحظا بالاضافة إلى شخص

٣١٠

واحد أو بالاضافة إلى شخصين ، فعلى الأوّل كان عدم ما لم يوجد منهما مستنداً إلى عدم تعلّق الارادة به ، فعدمه لعدم مقتضيه لا لوجود المانع ، وعلى الثاني يستند عدمه إلى عدم الشرط ، أعني به عدم القدرة على الايجاد مع تعلّق الارادة القوية بخلافه. وهذا التقريب ألخص وأمتن ، فانّه لا يتوقف على انتهاء أفعال العباد إلى الارادة الأزلية حتّى يرد عليه أنّ أفعال العباد غير منتهية إلى إرادة الله تعالى أوّلاً ، وليست إرادته سبحانه أزلية ثانياً ، كما تقدّم الكلام فيه مفصّلاً في بحث الطلب والارادة (١).

وحاصل الاعتراض على ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره ـ من أنّ وجود أحد الضدّين إذا توقف على عدم الآخر لزم الدور ، فانّ عدم الآخر أيضاً متوقف على وجود الأوّل توقف عدم الشيء على وجود مانعه ـ هو أنّ عدم أحد الضدّين لا يستند إلى وجود الآخر أبداً ، بل يستند إلى عدم المقتضي أو عدم الشرط ، فالتوقف من طرف الوجود فعلي وأمّا من طرف العدم فلا توقف إلاّعلى فرض محال وهو أن يفرض وجود المقتضي للوجود مع جميع شرائطه ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في دفع غائلة استلزام الدور.

ولكنّه يرد عليه ما أفاده في الكفاية وحاصله : أنّ المورد إذا سلّم إمكان استناد عدم أحد الضدّين إلى وجود الآخر وإن لم يتحقق ذلك خارجاً ، فمحذور الدور يبقى على حاله لا محالة ، إذ كيف يمكن أن يكون ما هو من أجزاء العلة لشيء معلولاً له بعينه. وأمّا إذا لم يسلّم ذلك ، وذهب إلى استحالة استناد عدم أحد الضدّين إلى وجود الآخر كما هو مقتضى التقريب المتقدم ، فمعناه إنكار توقف أحد الضدّين على عدم الآخر ، فانّه إذا استحال أن يكون شيء مانعاً

__________________

(١) في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤١٧.

٣١١

عن ضدّه فكيف يمكن أن يقال إنّ ضده يتوقف على عدمه توقف الشيء على عدم مانعه.

وبعبارة واضحة : أنّ المدعى إنّما هو توقف أحد الضدّين على عدم الآخر توقف الشيء على عدم مانعه ، فإذا فرض أنّه لا يمكن أن يكون مانعاً فكيف يمكن أن يكون عدمه موقوفاً عليه.

ثمّ إنّ المحقق الخوانساري قدس‌سره (١) قد فصّل بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم ، وربّما نسب هذا التفصيل إلى شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره (٢) أيضاً بدعوى أنّ وجود الضد إنّما يتوقف على عدم الضدّ الآخر إذا كان موجوداً لا مطلقاً ، بمعنى أنّ المحل إذا كان مشغولاً بأحد الضدّين فوجود الضدّ الآخر في هذا المحل يتوقف على ارتفاع ذلك الضد ، وأمّا إذا لم يكن مشغولاً به فلا يتوقف وجوده على عدمه ، ونتيجة ذلك هي أنّ عدم الضد الموجود مقدمة لوجود الضدّ الآخر دون عدم الضدّ المعدوم.

بيان ذلك : أنّ المحل إمّا أن يكون خالياً من كل من الضدّين ، وإمّا أن يكون مشغولاً بأحدهما دون الآخر.

فعلى الأوّل : فالمحل قابل لكل منهما بما هو مع قطع النظر عن الآخر ، وقابلية المحل لذلك فعليّة فلا تتوقف على شيء ، فعندئذ إذا وجد المقتضي لأحدهما فلا محالة يكون موجوداً من دون توقفه على عدم وجود الآخر ، مثلاً إذا كان الجسم خالياً من كل من السواد والبياض فقابليته لعروض كل منهما عليه عندئذ فعلية ، فإذا وجد مقتضي السواد فيه فلا محالة يكون السواد موجوداً ،

__________________

(١) حكاه عنه في مطارح الأنظار : ١٠٨.

(٢) مطارح الأنظار : ١١٢.

٣١٢

من دون أن يكون لعدم البياض دخل في وجوده أصلاً. فالنتيجة : أنّ وجود الضد في هذا الفرض لا يتوقف على عدم الضدّ الآخر.

وعلى الثاني : فالمحل المشغول بالضد لا يقبل ضداً آخر في عرضه ، بداهة أنّ المحل غير قابل بالذات لعروض كلا الضدّين معاً. نعم ، يقبل الضدّ الآخر بدلاً عنه ، وعليه فلا محالة يتوقّف وجود الضدّ الآخر على ارتفاع الضدّ الموجود ، ضرورة أنّ الجسم الأسود لايقبل البياض كما أنّ الجسم الأبيض لا يقبل السواد ، فوجود البياض لا محالة يتوقف على خلوّ الجسم من السواد ليقبل البياض ، وكذا وجود السواد يتوقف على خلوّه من البياض ، ليكون قابلاً لعروض السواد ، وهذا بخلاف الضدّ الموجود فانّه لا يتوقف على شيء عدا ثبوت مقتضيه.

أقول : إنّ مرد هذا التفصيل إلى أنّ الأشياء محتاجة إلى العلة والسبب في حدوثها لا في بقائها ، فهي في بقائها مستغنية.

بيان ذلك : أنّ الحادث إذا كان في بقائه غير محتاج إلى المؤثر كان وجود الحادث المستغني عن العلة مانعاً عن حدوث ضدّه ، فلا محالة يتوقف حدوث ضدّه على ارتفاعه. وأمّا إذا كان الحادث محتاجاً في بقائه إلى المؤثر ، فان لم يكن لضدّه مقتضٍ فعدمه يستند إلى عدم مقتضيه ، وإن كان له مقتضٍ ولم يكن شرطه متحققاً فعدمه يستند إلى عدم شرطه ، وإن كان شرطه أيضاً موجوداً ومع ذلك كان معدوماً فهو مستند إلى وجود مقتضي البقاء المانع من تأثير مقتضي ضدّه. إذن لا فرق بين الضدّ الموجود وغير الموجود في أنّ وجود الشيء لا يتوقف على عدم ضدّه ، بل يتوقف على عدم مقتضي ضدّه إذا كان مقتضي الشيء وشرطه موجوداً في الخارج.

إذا عرفت ذلك فلنأخذ بدرس هذه النقطة ـ استغناء البقاء عن المؤثر ـ مرّة في الأفعال الاختيارية ، ومرّة اخرى في الموجودات التكوينية.

٣١٣

أمّا في الأفعال الاختيارية التي هي محلّ الخلاف في المسألة : فهي بديهية البطلان ولو سلّمنا أنّها صحيحة في الموجودات التكوينية ، والوجه في ذلك ما ذكرناه في بحث الطلب والارادة من أنّ الفعل الاختياري مسبوق باعمال القدرة والاختيار ، وهو فعل اختياري للنفس ، وليس من مقولة الصفات ، وواسطة بين الارادة والأفعال الخارجية ، فالفعل في كل آن يحتاج إليه ، ويستحيل بقاؤه بعد انعدامه وانتفائه.

أو فقل : إنّ الفعل إذا كان تابعاً لاعمال قدرة الفاعل فلا محالة كان الفاعل إذا أعمل قدرته فيه تحقق في الخارج ، وإن لم يعملها فيه استحال تحققه ، وكذا إن استمرّ على إعمال القدرة فيه استمرّ وجوده ، وإن لم يستمر عليه استحال استمراره ، وهذا واضح.

وعلى الجملة : لا فرق بين حدوث الفعل الاختياري وبقائه في الحاجة إلى السبب والعلة ـ وهو إعمال القدرة ـ فان سرّ الحاجة وهو إمكانه الوجودي وفقره الذاتي كامن في صميم ذاته ووجوده ، مع أنّ البقاء هو الحدوث ، غاية الأمر أنّه حدوث ثانٍ ووجود آخر في مقابل الوجود الأوّل ، والحدوث هو الوجود الأوّل غير مسبوق بمثله ، وعليه فإذا تحقق فعل في الخارج من الفاعل المختار كالتكلّم مثلاً ، الذي هو مضاد للسكوت ، أو الحركة التي هي مضادة للسكون ، أو الصلاة التي هي منافية للازالة ، فهذا الفعل كما أنّه في الآن الأوّل بحاجة إلى إعمال القدرة فيه والاختيار ، كذلك بحاجة إليه في الآن الثاني والثالث وهكذا ، فلا يمكن أن نتصور استغناءه في بقائه عن الفاعل بالاختيار.

وعلى هذا الضوء لا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم ، إذ كما أنّ تحقق كل منهما في الزمان الأوّل كان متوقفاً على وجود مقتضيه ـ الاختيار وإعمال القدرة ـ كذلك تحققه في الزمان الثاني كان متوقفاً عليه. وقد أشرنا آنفاً أنّ

٣١٤

نسبة بقاء الضدّ الموجود في الآن الثاني كنسبة حدوث الضدّ المعدوم فيه في الحاجة إلى المقتضي وفاعل ما منه الوجود ، فكما أنّ الأوّل لا يتوقف على عدم الثاني فكذلك الثاني لا يتوقف على عدم الأوّل.

أو فقل : إنّ كل فعل اختياري ينحل إلى أفعال متعددة بتعدد الآنات والأزمان ، فيكون في كل آنٍ فعل صادر بالارادة والاختيار ، فلو انتفى الاختيار في زمان يستحيل بقاء الفعل فيه ، ولذلك لا فرق بين الدفع والرفع عقلاً إلاّ بالاعتبار وهو أنّ الدفع مانع عن الوجود الأوّل والرفع مانع عن الوجود الثاني ، فكلاهما في الحقيقة دفع ، ومثال ذلك : ما إذا أراد المكلف فعل الازالة دون الصلاة ، فكما أنّ تحقق كل واحدة منهما في الزمن الأوّل كان منوطاً باختياره وإعمال القدرة فيه ، فكذلك تحقق كل منهما في الزمن الثاني كان منوطاً باختياره وإعمال القدرة فيه ، فهما من هذه الناحية على نسبة واحدة.

فالنتيجة : أنّ احتياج الأفعال الاختيارية إلى الارادة والاختيار من الواضحات الأوّلية ، فلا يحتاج إلى مؤونة بيان وإقامة برهان.

وأمّا في الموجودات التكوينية : فالأمر أيضاً كذلك ، إذ لا شبهة في حاجة الأشياء إلى علل وأسباب فيستحيل أن توجد بدونها.

وسرّ حاجة تلك الأشياء بصورة عامة إلى العلة وخضوعها لها ، هو أنّ الحاجة كامنة في ذوات تلك الأشياء لا في أمرٍ خارج عنها ، فانّ كل ممكن في ذاته مفتقر إلى الغير ومتعلق به ، سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن ، ضرورة أنّ فقره كامن في نفس وجوده ، وإذا كان الأمر كذلك فلا فرق بين الحدوث والبقاء في الحاجة إلى العلّة ، فانّ سرّ الحاجة وهو إمكان الوجود لا ينفك عنه ، كيف فإنّ ذاته عين الفقر والامكان ، لا أنّه ذات لها الفقر.

وعلى أساس ذلك فكما أنّ الأشياء في حدوثها في أمسّ الحاجة إلى سبب

٣١٥

وعلّة ، فكذلك في بقائها ، فلا يمكن أن نتصور وجوداً متحرراً عن تلك الحاجة.

أو فقل : إنّ النقطة التي تنبثق منها حاجة الأشياء إلى مبدأ الايجاد ليست هي حدوثها ، لأنّ هذه النظرية تستلزم تحديد حاجة الممكن إلى العلّة من ناحيتين : المبدأ والمنتهى.

أمّا من ناحية المبدأ ، فلأ نّها توجب اختصاص الحاجة بالحوادث وهي الأشياء الحادثة بعد العدم ، وأمّا إذا فرض أنّ للممكن وجوداً مستمراً بصورة أزلية لم تكن فيه حاجة إلى المبدأ ، وهذا لا يطابق مع الواقع ، إذ الممكن يستحيل وجوده من دون علة وسبب ، وإلاّ انقلب الممكن واجباً وهذا خلف.

وأمّا من ناحية المنتهى ، فلأنّ الأشياء على ضوء هذه النظرية تستغني في بقائها عن المؤثر ، ومن الواضح أنّها نظرية خاطئة لا تطابق الواقع ، كيف فان حاجة الأشياء إلى ذلك المبدأ كامنة في صميم وجودها كما عرفت.

تلخّص : أنّ هذه النظرية بما أنّها تستلزم هذين الخطأين في المبدأ ، وتوجب تحديده في نطاق خاص وإطار مخصوص ، فلا يمكن الالتزام بها.

والصحيح : أنّ منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ وخضوعها له خضوعاً ذاتياً هو إمكانها الوجودي وفقرها الواقعي.

وعلى ضوء هذا البيان قد اتضح أنّه لا فرق بين الضدّ الموجود والضدّ المعدوم ، فكما أنّ الضدّ المعدوم يحتاج في حدوثه إلى سبب وعلة ، كذلك الضدّ الموجود يحتاج في وجوده في الآن الثاني والثالث وهكذا ، إلى سبب وعلة ولا يستغني عنه في لحظة من لحظات وجوده ، ونسبة حاجة الضدّ الموجود في بقائه إلى السبب والعلة والضدّ المعدوم في حدوثه إلى ذلك على حد سواء.

أو فقل : إنّ المحل كما أنّه في نفسه قابل لكل من الضدّين حدوثاً ، فان قابليته

٣١٦

لذلك ذاتية ، كما أنّ عدم قابليته لقبول كليهما من ذاتياته ، فوجود كل منهما وعروضه لذلك المحل منوط بتحقق علته ، فعلة أيّ منهما وجدت كان موجوداً لا محالة ، كذلك حال المحل في الآن الثاني ، فانّه قابل لكل منهما بعين تلك النسبة ، فانّ بقاء الضدّ الموجود أو حدوث الضدّ الثاني منوط بوجود علته ، فكما أنّ وجود الضدّ المعدوم في هذا الآن منوط بتحقق علته ، كذلك بقاء الضدّ الموجود ، فنسبة تحقق علة وجود ذلك الضد ، وتحقق علة وجود الضدّ الموجود في ذلك الآن على حدّ سواء ، وعليه فعلّة وجود أيّ منهما وجدت في تلك الحال كان موجوداً لا محالة ، بلا فرق بين الضدّ الموجود والمعدوم.

وقد تبين ممّا مرّ أنّ المعلول يرتبط بالعلة ارتباطاً ذاتياً ويستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر ، فلا يعقل بقاء المعلول بعد ارتفاع العلة ، كما لا يمكن أن تبقى العلة والمعلول غير باق ، وقد عبّر عن ذلك بالتعاصر بين العلة والمعلول زماناً.

وقد يناقش في ذلك الارتباط : بأ نّه مخالف لظواهر عدة من الموجودات الكونية التي هي باقية بعد انتفاء علتها ، فهي تكشف عن عدم صحة قانون التعاصر ، وأ نّه لا مانع من بقاء المعلول واستمرار وجوده بعد انتفاء علّته ، وذلك كالعمارات التي بناها البنّاؤون وآلاف من العمال ، فانّها بعد انتهاء عملية العمارة والبناء تبقى سنين متطاولة. وكالجسور والطرق ووسائل النقل المادية والمكائن والمصانع وما شاكلها ممّا شاده المهندسون والفنّانون في شتى ميادين العلم ، فانّها بعد أن انتهت عمليتها بيد هؤلاء الفنّانين والعمّال تبقى إلى أمد بعيد من دون علّة مباشرة لها. وكالجبال والأحجار والأشجار ونحوها من الموجودات الطبيعية على سطح الأرض ، فانّها باقية ولم تكن في بقائها بحاجة إلى علة مباشرة لها.

والخلاصة : أنّ المناقش قد عارض قانون التعاصر بظواهر تلك الأمثلة

٣١٧

التي تكشف بظاهرها عن أنّ المعلول لا يحتاج في استمرار وجوده وبقائه إلى علة ، بل هو باقٍ مع انتفاء علته.

والجواب عن تلك المناقشة : أنّها قد نشأت عن عدم فهم معنى العلية فهماً صحيحاً كاملاً ، وقد تقدّم بيان ذلك ، وقلنا هناك إنّ حاجة الأشياء إلى مبدأ وسبب كامنة في صميم ذاتها ولا يمكن أن تملك حريتها بعد حدوثها.

والوجه في ذلك هو : أنّ علة تلك الأشياء والظواهر حدوثاً غير علتها بقاءً ، وبما أنّ المناقش لم ينظر إلى علة تلك الظواهر لا حدوثاً ولا بقاءً نظرة عميقة صحيحة ، وقع في هذا الخطأ ، لأنّ ما هو معلول المهندسين والبنّائين وآلاف العمال في بناء العمارات والدور وصنع الطرق والجسور والوسائل المادية الاخرى من المكائن والسيارات وغيرها ، إنّما هو نفس عملية صنعها وتصميمها نتيجة عدة من الحركات والجهود التي يقوم بها العمال ، ونتيجة تجميع المواد الخام من الحديد والخشب والآجر وغيرها من المواد لتصنيع السيارات وتعمير العمارات وتركيب سائر الآلات ، وهذه الحركات هي المعلولة للعمال والصادرة عنهم ، ولذا تنقطع تلك الحركات بمجرد إضراب العمّال عن العمل وكف أيديهم عنها.

وأمّا بقاء تلك الظواهر والأشياء على وضعها الخاص ، فهو معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية وحيويتها ، وقوة الجاذبية العامة التي تفرض عليها المحافظة على وضعها ، نظير اتصال الحديد بما فيه القوة الكهربائية ، فانّها تجذب الحديد بقوة جاذبية طبيعية تجرّه إليها آناً فآناً بحيث لو سلبت منه تلك القوة لا نقطع منه الجذب لا محالة.

ومن ذلك تظهر حال بقية الأمثلة ، فان بقاء الجبال على وضعها الخاص وموضعها المخصوص ، وكذا الأحجار والأشجار والمياه وما شاكلها لخصائص طبيعية كامنة في صميم موادها ، والقوة الجاذبية العامة التي تفرض على جميع

٣١٨

الأشياء الكونية ، وقد صارت عمومية تلك القوة في يومنا هذا من الواضحات ، وقد أودعها الله ( سبحانه وتعالى ) في صميم هذه الكرة الأرضية للتحفظ على الكرة وما عليها على وضعها ونظامها الخاص ، في حين أنّها تتحرك في هذا الفضاء الكوني بسرعة هائلة.

وعلى الجملة : فبقاء تلك الظواهر والموجودات الممكنة واستمرار وجودها في الخارج معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية المحافظة على هذه الظاهرة من ناحية ، والقوة الجاذبة من ناحية اخرى.

فبالنتيجة : المحافظ على الموجودات الطبيعية على وضعها الخاص وموضعها المخصوص ، هي خصائصها والجاذبية التي تخضع تلك الظواهر لها ، ولا تملك حريتها حدوثاً وبقاءً. إذن فلا وجه لتوهم أنّ تلك الظواهر في بقائها واستمرار وجودها مالكة لحريتها ولا تخضع لمبدأ وسبب.

ونتيجة ذلك نقطتان متقابلتان :

الاولى : بطلان نظرية أنّ سرّ الحاجة إلى العلة هو الحدوث ، لأنّ تلك النظرية مبنية على أساس عدم فهم معنى العلية فهماً صحيحاً وتحديد حاجة الأشياء إلى العلة في إطار خاص ونطاق مخصوص لا يطابق مع الواقع.

الثانية : صحّة نظرية أنّ سرّ الحاجة إلى العلة هو إمكان الوجود ، فان تلك النظرية قد ارتكزت على أساس فهم معنى العلية فهماً صحيحاً مطابقاً للواقع ، وأنّ حاجة الأشياء إلى المبدأ كامنة في صميم وجودها فلا يمكن أن نتصور وجوداً متحرراً عن ذلك المبدأ.

وقد تلخّص : أنّ الأشياء ـ بشتّى ألوانها وأشكالها ـ خاضعة للمبدأ الأوّل خضوعاً ذاتياً ، وهذا لا ينافي أن يكون تكوينها وإيجادها بمشيئة الله تعالى

٣١٩

وإعمال قدرته كما فصّلنا الحديث ـ من هذه الناحية ـ في بحث الطلب والارادة (١) وقد وضعنا هناك الحجر الأساسي للفرق بين زاوية الأفعال الاختيارية وزاوية المعاليل الطبيعية.

ثمّ إنّا لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا صحة نظرية أنّ منشأ الحاجة هو الحدوث في الموجودات التكوينية ، وأ نّها تملك حريتها في البقاء ولا تخضع لمبدأ ، إلاّ أنّها بديهية البطلان في الأفعال الاختيارية التي هي محل الكلام في المسألة ، ضرورة أنّ الفعل الاختياري يستحيل بقاؤه بعد ارتفاع الارادة والاختيار. إذن لا وجه للتفصيل بين الضدّ الموجود والمعدوم.

ويجدر بنا أن نختم الحديث عن مقدمية عدم الضد للضد الآخر وعدم مقدميته ، وقد عرفت استحالة مقدميته ، هذا بحسب الصغرى.

وأمّا الكبرى : وهي وجوب مقدمة الواجب ، فقد تقدّم الكلام فيها ، وقلنا هناك إنّه لا دليل على ثبوت الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدمته ، وما ذكروه من الأدلة على ذلك قد ناقشناها واحداً بعد واحد ، بل ذكرنا هناك ـ مضافاً إلى أنّ الوجدان حاكم بعدم ثبوت الملازمة بينهما ـ أنّ إيجاب المقدمة شرعاً لغو محض فلا يترتب عليه أثر أصلاً.

__________________

(١) في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب ص ٤٠٠.

٣٢٠