محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

كما أنّه لا فرق في الالتزام بالترتب بين أن تطول مدة المعصية وارتكاب المحرّم وأن تقصر ، وبين أن تكون المعاصي متعددة وأن تكون واحدة ، ضرورة أنّ كل ذلك لا دخل له فيما هو ملاك إمكان الترتب واستحالته ، فان ملاك إمكانه كما سبق هو أنّه لا يلزم من طلب المهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه طلب الجمع ، ومن الواضح جداً أنّه لا يفرق في هذا بين العصيان الفعلي والعصيان التدريجي ، كما أنّ ملاك استحالته هو لزوم طلب الجمع من ذلك ، ولا يفرق فيه بين معصية واحدة فعلية ومعاصي عديدة تدريجية كما هو واضح.

ومثل المقام ما إذا وقعت المزاحمة بين الصلاة الفريضة في آخر الوقت وصلاة الآيات ، فانّ الأمر بصلاة الآيات حينئذ مترتب على عصيان الفريضة وتركها في مقدار من الزمان الذي يتمكن المكلف من الاتيان بصلاة الآيات ولا يكفي عصيانها في الآن الأوّل ، لفرض وجوبها في جميع آنات صلاة الآيات ، فالمكلف بعد عصيانها في الآن الأوّل وإن تمكن من جزء منها ، إلاّ أنّه لا يتمكن من بقية أجزائها ، ولكنّه حيث علم بأ نّه يعصي الأمر بالفريضة في الآن الثاني والثالث وهكذا ، علم بطروء التمكن عليه من الاتيان بها بعد الاتيان بالجزء الأوّل.

ومثله أيضاً ما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الازالة عن المسجد ووجوب الصلاة ، فانّ الأمر بالصلاة عندئذ منوط بعصيان الأمر بالازالة في الآنات التي يقدر المكلف فيها على الاتيان بالصلاة تماماً ، ولا يكفي عصيانها آناً ما ، ولكن المكلف حيث علم بعد عصيانه في الآن الأوّل بأ نّه يعصيه في الآن الثاني والثالث وهكذا ، علم بعروض التمكن من الاتيان بها تدريجاً ، وقد عرفت أنّ القدرة التدريجية كافية في مقام الامتثال ، ولا تعتبر القدرة الفعلية ، وعليه فلا مانع من الالتزام بوجوبها من ناحية الترتب ، بل لا مناص من ذلك.

وقد تبيّن لحدّ الآن : أنّ تدريجية وجود القدرة مرّة من ناحية تدريجية وجود

٥٠١

مقتضيه وتحققه في الخارج ، ومرّة اخرى من ناحية تدريجية ارتفاع مانعه ، ومرّة ثالثة من ناحية تدريجية عصيان الأمر بالأهم.

ومثال الأوّل : ما مرّ من أنّه إذا كان عند المكلف ثلج فيذوب شيئاً فشيئاً ولم يكن عنده إناء ليجمع ماءه فيه ثمّ يتوضأ أو يغتسل به ، فلا يقدر على جمعه إلاّ بمقدار يسع كفّه. أو إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار يسعه كفّه دون الزائد ، ولكنّه إذا أخذ ذلك الماء يخرج منها بهذا المقدار ثانياً وهكذا ، أو إذا كان عنده مقدار من الماء لا يفي لوضوئه أو غسله ، ولكنّه يعلم بنزول المطر بعد صرفه في غسل الوجه أو الرأس من جهة إخبار المعصوم عليه‌السلام به أو من طريق آخر ، ففي هذه الموارد وما شاكلها جميعاً لا شبهة في وجوب الوضوء أو الغسل ، بناءً على كفاية القدرة التدريجية كما هو الصحيح ، وقد تقدّم أنّ العقل مستقل بكفايتها ، وأنّ حكم العقل بذلك لم يدع مجالاً لتوهم اعتبار القدرة الفعلية في مقام الامتثال ، لتكون نتيجته سقوط وجوب الوضوء أو الغسل في تلك الموارد ، وانتقال الوظيفة إلى التيمم.

ومثال الثاني : ما إذا كان الماء ملكاً لغيره ولم يرض بالتصرف فيه إلاّ بالأخذ منه بمقدار غرفة لا يفي إلاّلغسل الوجه فحسب ، ولكنّه يعلم بأ نّه يرضى بعد غسل وجهه بالأخذ منه ثانياً وثالثاً وهكذا كما عرفت. أو إذا كان هناك مانع آخر لا يتمكن معه من الوضوء أو الغسل إلاّتدريجاً ، ففي كل ذلك لا مناص من الالتزام بوجوب الوضوء أو الغسل كما تقدّم بصورة واضحة.

ومثال الثالث : ما إذا كان الماء في الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة ، ولم يتمكن المكلف من تفريغه في إناء آخر ، كما هو مفروض الكلام هنا ، أو ما ذكرناه من الأمثلة المتقدمة ، فوقتئذ لو عصى المكلف وارتكب المحرم بالاغتراف من تلك الأواني ، فلا محالة يتمكن من الوضوء بمقدار غسل الوجه أو من

٥٠٢

الغسل بمقدار غسل الرأس مثلاً ، ولكنّه لما علم بأ نّه يعصي ويغترف منها ثانياً وثالثاً ، وهكذا علم بأ نّه قادر على الوضوء أو الغسل بالتدريج ، وعليه فلا مناص من الحكم بوجوبه بناءً على الأساسين المتقدمين هما : كفاية القدرة التدريجية في مقام الامتثال ، والالتزام بامكان الترتب وجوازه.

ومن ذلك يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من بطلان الوضوء أو الغسل في هذا الفرض لا يمكن المساعدة عليه ، والوجه في ذلك : هو أنّ ما ذكره قدس‌سره مبني على ما أسّسه من ابتناء جريان الترتب على كون العمل واجداً للملاك حين الأمر به ، وبما أنّ الوضوء أو الغسل فيما نحن فيه غير واجد له ، فان وجدانه يتوقف على كون المكلف واجداً للماء من الأوّل ، والمفروض عدمه هنا ، إذ كونه واجداً له موقوف على جواز تصرفه في الأواني ، وبما أنّه محرّم وممنوع شرعاً ، والممنوع الشرعي كالممتنع العقلي ، فلم يكن واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً.

ولكن قد عرفت فساد ما أفاده قدس‌سره وأنّ جريان الترتب في مورد لا يتوقف على ذلك ، وقد أوضحناه بصورة مفصلة فلا نعيد. هذا من ناحية الملاك. وأمّا من ناحية عدم كون المكلف واجداً للماء فأيضاً يظهر فساده ممّا ذكرناه الآن من أنّه لا فرق بين كون المكلف واجداً للماء بالفعل وكونه واجداً له بالتدريج ، فالترتب كما يجري في الأوّل كذلك يجري في الثاني من دون فرق بينهما من هذه الجهة أبداً كما عرفت بشكل واضح.

فالنتيجة قد أصبحت أنّ النقطة الرئيسية لصحة الوضوء أو الغسل في أمثال المقام هي كفاية القدرة على العمل في مقام الامتثال بالتدريج ، وعدم اعتبارها

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ١٠١.

٥٠٣

من الابتداء. وعلى ضوء هذه النقطة لا مناص من الالتزام بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب.

وأمّا الكلام في الناحية الثانية : وهي صورة تمكن المكلف من تفريغ الماء في ظرف آخر ، فلا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل حينئذ ، وذلك لأنّه واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلاً وشرعاً ، وعليه فالأمر بالطهارة المائية في حقه فعلي ، ضرورة أنّه مع تمكنه من التفريغ بدون أن يصدق عليه الاستعمال بوجه قادر عليها ، وعندئذ تتعين وظيفته بمقتضى الآية المباركة وغيرها من روايات الباب في الوضوء أو الغسل ، ولا يشرع في حقه التيمم.

ثمّ إنّه لو عصى وأخذ الماء من الأواني بالاغتراف فهل يمكن الحكم بصحة وضوئه أو غسله مع قطع النظر عن القول بالترتب وكفاية القدرة التدريجية أم لا؟

وجهان ، والصحيح هو الأوّل ، وذلك لأنّه قادر عليه فعلاً ، والمفروض أنّ مشروعيته لا تتوقف على القول بالترتب ، غاية الأمر أنّه بسوء اختياره قد ارتكب مقدمة محرمة ، ومن الواضح أنّ ارتكابها لا يضر بصحته أبداً.

فالنتيجة هي صحة الوضوء أو الغسل في هذه الصورة مطلقاً قلنا بالترتب أم لم نقل ، قلنا بفساد الوضوء أو الغسل في الصورة الاولى أم لم نقل.

وأمّا الكلام في الناحية الثالثة : وهي صورة عدم انحصار الماء في الأواني المزبورة ، فأيضاً لا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل بالاغتراف ، سواء فيه القول بالترتب وعدمه ، وسواء فيه القول باعتبار القدرة الفعلية وعدم اعتبارها ، وذلك لفرض أنّ المكلف متمكن من الطهارة المائية بالفعل ، ولايتوقف مشروعيتها على القول بالترتب ، غاية الأمر أنّه بسوء اختياره قد ارتكب فعلاً محرماً ، وقد عرفت أنّه لا يضر بصحة وضوئه أو غسله ، بعد ما كان الماء الموجود في يده

٥٠٤

مباحاً على الفرض.

فقد تحصّل ممّا ذكرناه : أنّ الوضوء أو الغسل صحيح في جميع تلك النواحي والصور.

وقد تبيّن ممّا قدّمناه لحدّ الآن أمران :

الأوّل : أنّ الوضوء أو الغسل من الأواني إذا كان ارتماسياً فلا إشكال في فساده ، وذلك لأنّه بنفسه تصرف فيها ، وهو محرّم على الفرض ، ومن الواضح جدّاً أنّ المحرّم لا يقع مصداقاً للواجب ، ولا يفرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء فيها وعدمه ، وصورة التمكن من التفريغ في إناء آخر وعدم التمكن منه ، فانّ التوضؤ أو الاغتسال إذا كان في نفسه محرّماً فلا يمكن التقرب به ولا يقع مصداقاً للواجب ، وهذا ظاهر.

الثاني : أنّه قد ظهر فساد ما أفاده السيد العلاّمة الطباطبائي قدس‌سره في العروة في بحث الأواني وإليك نص كلامه : لا يجوز استعمال الظروف المغصوبة مطلقاً ، والوضوء والغسل منها مع العلم باطل مع الانحصار ، بل مطلقاً (١). وقال في مسألة اخرى ما لفظه : إذا انحصر ماء الوضوء أو الغسل في إحدى الآنيتين ، فان أمكن تفريغه في ظرف آخر وجب ، وإلاّ سقط وجوب الوضوء أو الغسل ووجب التيمم ، وإن توضأ أو اغتسل منهما بطل ، سواء أخذ الماء منهما بيده أو صب على محل الوضوء بهما أو ارتمس فيهما ، وإن كان له ماء آخر أو أمكن التفريغ في ظرف آخر ، ومع ذلك توضأ أو اغتسل منهما فالأقوى أيضاً البطلان (٢).

__________________

(١) العروة الوثقى ١ : ١١٦ المسألة [٣٩٨] فصل في حكم الأواني.

(٢) العروة الوثقى ١ : ١٢٠ المسألة [٤١١] فصل في حكم الأواني.

٥٠٥

فالنتيجة أنّه قدس‌سره قد حكم ببطلان الوضوء والغسل في جميع تلك الصور والنواحي ، من دون فرق بين صورتي الانحصار وعدمه ، وإمكان التفريغ في إناء آخر وعدم إمكانه.

أقول : ما أفاده قدس‌سره في المقام لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لما عرفت من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل في صورة انحصار الماء في تلك الأواني مع عدم التمكن من التفريغ في إناء آخر فضلاً عن صورة عدم الانحصار أو التمكن من التفريغ ، وعلى ذلك فمن المحتمل قوياً أن يكون نظر السيد قدس‌سره في هذا إلى أنّ المأمور به في هذه الموارد متحد مع المنهي عنه ، بمعنى أنّ الوضوء أو الغسل من الأواني ولو بالاغتراف بنفسه تصرّف فيها فيكون منهياً عنه ، وعليه فلا يمكن أن يقع مصداقاً للمأمور به ، ولأجل ذلك حكم بالبطلان مطلقاً.

ولكن ممّا ذكرناه ظهر فساده ، والوجه فيه : أنّ الوضوء أو الغسل بعد أخذ الماء منها بالاغتراف ليس تصرفاً فيها بشيء ، ضرورة أنّ ما هو التصرف في الآنية إنّما هو تناول الماء منها وأخذه ، وأمّا التصرفات الواقعة بعده فلا يصدق على شيء منها عرفاً أنّه تصرف فيها ، لوضوح أنّ صبه على الأرض أو استعماله في الطهارة الخبثية أو سقيه للحيوان أو إعطاءه لشخص آخر أو غير ذلك جميعاً تصرفات خارجية ، فليس شيء منها تصرفاً في الآنية ليكون مشمولاً للروايات الناهية عن استعمالها ، ومن المعلوم أنّ التوضؤ أو الاغتسال به أيضاً من هذه التصرفات فلا تشمله الروايات.

وعلى الجملة : فالذي هو استعمال للآنية إنّما هو تناول الماء منها وأخذه ، وأمّا التصرّف في الماء بعد أخذه واستعماله بنحو من أنحاء الاستعمال ، سواء أكان في الوضوء أو الغسل أو كان في غيره ، فلا شبهة في أنّه ليس باستعمال

٥٠٦

للآنية قطعاً ، بداهة أنّه استعمال للماء حقيقة وليس باستعمال لها بوجه ، وهذا واضح جداً.

ومن هنا ذهب كثير من الفقهاء إلى صحة الوضوء أو الغسل في صورة عدم انحصار الماء فيها كما عرفت ، ومن المعلوم أنّه إذا كان بنفسه تصرّفاً فيها ومصداقاً للمحرّم ، لم يكن وجه للقول بالصحة أبداً ، بناءً على حرمة التصرف فيها مطلقاً كما هو مختارهم ، لاستحالة كون المحرّم مصداقاً للمأمور به.

فالنتيجة : أنّ ما أفاده السيد قدس‌سره في المقام لايرجع إلى أساس صحيح.

بقي الكلام في أمر : وهو أنّ ما ذكرناه حول أواني الذهب والفضة يبتني على وجهة نظر المشهور من حرمة استعمال الآنيتين مطلقاً من دون اختصاصها بالأكل والشرب ، وعليه فحالهما حال الأواني المغصوبة.

وأمّا بناءً على القول بعدم حرمة سائر الاستعمالات من الوضوء والغسل وإزالة النجاسات وغيرها ممّا يعدّ عرفاً استعمالاً لهما ، فلا إشكال عندئذ في صحة الوضوء أو الغسل من الآنيتين مطلقاً ولو كان ارتماسياً.

وقد ذكرنا في بحث الفقه (١) أنّ القول بذلك لا يخلو عن وجه ، والوجه في ذلك ملخصاً : أنّ جميع ما استدلّوا به على حرمة غير الأكل والشرب من الاستعمالات يرجع إلى وجوه ثلاثة وكلّها قابل للمناقشة :

الأوّل : الاجماع كما ادّعاه غير واحد منهم. ويردّه : مضافاً إلى أنّه لم يثبت في نفسه لاقتصار جماعة على خصوص الأكل والشرب وعدم تعرّضهم لغيرهما ، أنّه اجماع منقول لم يقم دليل على اعتباره كما ذكرناه في محلّه (٢). على أنّه محتمل

__________________

(١) شرح العروة ٤ : ٢٨٢.

(٢) مصباح الاصول ٢ : ١٥٦.

٥٠٧

المدرك لو لم يكن معلوماً. وعليه فلا أثر له.

الثاني : رواية موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه‌السلام « آنية الذهب والفضة متاع الّذين لا يوقنون » (١) بتقريب أنّ المتاع ما ينتفع به ، فالرواية تدل على حرمة الانتفاع من الآنيتين وأ نّه خاص لغير الموقنين ، ومقتضى إطلاقها حرمة جميع استعمالاتهما حيث إنّ استعمال الشيء انتفاع به.

وغير خفي أنّ الرواية ضعيفة سنداً ودلالة. أمّا سنداً فلأ نّها ضعيفة بسهل ابن زياد وموسى بن بكر على طريق الكافي ، وبموسى بن بكر على طريق آخر رواها عنه البرقي. وأمّا دلالةً فمع إمكان المناقشة في أصل دلالتها على الحرمة باعتبار أنّ مجرد اختصاص الانتفاع بهما لغير الموقنين لا يدل على حرمة الانتفاع لهم ، أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أنّ الانتفاع من كل متاع بحسب ما يناسبه ، فالانتفاع بالكتاب إنّما هو بمطالعته ، والانتفاع بالفرش إنّما هو بفرشه ، وباللباس بلبسه وهكذا. ومن الواضح جداً أنّ الانتفاع بالآنيتين ظاهر في استعمالهما في الأكل والشرب فلا يشمل غيرهما ، لكون الأواني معدّة لذلك. إذن فالرواية ظاهرة في حرمة الأكل والشرب منهما فلا تشمل سائر الانتفاعات والاستعمالات.

الثالث : ما ورد من النهي عن أواني الذهب والفضة وهي روايات كثيرة :

منها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « أنّه نهى عن آنية الذهب والفضة » (٢).

ومنها : صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال : « سألت أبا الحسن الرضا

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٠٧ / أبواب النجاسات ب ٦٥ ح ٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٠٦ / أبواب النجاسات ب ٦٥ ح ٣.

٥٠٨

عليه‌السلام عن آنية الذهب والفضة ، فكرههما » (١).

ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله عليه‌السلام « أنّه كره آنية الذهب والفضة والآنية المفضضة » (٢) بتقريب أنّه لا معنى لتعلّق النهي والكراهة بالأعيان والذوات ، نعم الكراهة بمعنى الصفة النفسانية المعبّر عنها بالكراهة التكوينية الحقيقية وإن أمكن تعلقها بالذوات بما هي بأن يكون الشيء مبغوضاً بذاته ، كما أنّه قد يكون محبوباً كذلك ، إلاّ أنّ الكراهة بالمعنى الشرعي لا معنى لتعلقها بها أبداً ، ومن المعلوم أنّه لم يرد من الكراهة في هاتين الصحيحتين الكراهة التكوينية ، ضرورة أنّ الظاهر منهما هو أنّ الإمام عليه‌السلام في مقام بيان الحكم الشرعي ، لا في مقام إظهار كراهته الشخصية وهذا واضح ، وعليه فلا بدّ من تقدير فعل من الأفعال فيها ، ليكون هو المتعلق للنهي والكراهة ، وبما أنّه لا قرينة على التخصيص ببعض منها دون بعضها الآخر ، فلا محالة يكون المقدّر هو مطلق الانتفاعات والاستعمالات.

ولكن قد ظهر الجواب عنه بما تقدّم من أنّ المقدر في كل مورد بحسب ما يناسب ذلك المورد ، ومن هنا ذكروا أنّ المقدر في مثل النهي عن الامّهات هو النكاح ، فانّه المناسب للمقام والأثر الظاهر من النساء ، كما أنّ المقدر في مثل النهي عن الميتة والدم وما شاكلهما هو الأكل ، وهكذا.

وفيما نحن فيه بما أنّ الأثر الظاهر من الاناء هو استعماله في الأكل والشرب ، فلا محالة ينصرف النهي عنه إلى النهي عن الأكل والشرب فلا يشمل غيرهما.

وعلى الجملة : فالنهي في أمثال هذه الموارد بمناسبة الحكم والموضوع

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٠٥ / أبواب النجاسات ب ٦٥ ح ١.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٠٨ / أبواب النجاسات ب ٦٥ ح ١٠.

٥٠٩

منصرف إلى النهي عن الأثر الظاهر من الشيء ، فلا يعم مطلق أثره.

ونتيجة ذلك : هي أنّ المقدر في تلك الصحاح بمقتضى الفهم العرفي هو خصوص الأكل والشرب دون مطلق الاستعمال والانتفاع ، فإذن لا دليل على حرمة استعمال الآنيتين في غير الأكل والشرب ، وعليه فلا مانع من الوضوء أو الغسل بهما مطلقاً ولو كان ارتماسياً ، كما أنّه لا مانع من غيره ، وتمام الكلام في ذلك في بحث الفقه (١).

وقد تحصّل ممّا ذكرناه أمران : الأوّل : الوضوء أو الغسل الترتيبي من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة صحيح مطلقاً ، سواء أكان الماء منحصراً فيها أم لم يكن ، وسواء أتمكن المكلف من التفريغ في إناء آخر أم لم يتمكن ، وسواء أخذ الماء منها دفعة واحدة أم بالتدريج. الثاني : أنّ الوضوء أو الغسل الارتماسي باطل على جميع هذه التقادير والفروض.

وأمّا الجهة الثالثة : فيقع الكلام فيها في مقامين : الأوّل : في الوضوء أو الغسل في الأرض المغصوبة. الثاني : في الفضاء المغصوب.

أمّا المقام الأوّل : فالكلام فيه يقع في موردين : الأوّل : ما إذا فرض انحصار الماء في مكان مغصوب بحيث إنّ المكلف لا يتمكن من الوضوء أو الغسل إلاّفي ذلك المكان. الثاني : ما إذا فرض عدم انحصار الماء فيه.

أمّا المورد الأوّل : فالظاهر أنّه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مثل المقام الذي لم يتحد فيه المأمور به مع المنهي عنه خارجاً ، حيث إنّ المأمور به هو الغسلتان والمسحتان مثلاً ، والمنهي عنه هو الكون في الدار وهو من مقولة الأين ، فيستحيل أن ينطبق على المأمور به ،

__________________

(١) شرح العروة ٤ : ٢٨٢.

٥١٠

نعم هما أمران متلازمان في الخارج ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّه لا دليل على سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الوجودية ، بل قد عرفت الدليل على عدمها ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : أنّ وظيقته ابتداءً وإن كانت هي التيمم ، ولو صلّى معه فلا إشكال في صحة صلاته باعتبار أنّه لم يتمكن من الوضوء أو الغسل شرعاً وإن تمكن تكويناً ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ مشروعية الوضوء أو الغسل منوطة بالتمكن من استعمال الماء عقلاً وشرعاً ، ولا يكفي مجرد التمكن منه عقلاً إذا كان ممنوعاً من قِبَل الشرع ، وفي المقام بما أنّ الوضوء أو الغسل يتوقف على ارتكاب محرّم وهو التصرف في مال الغير ، فلا يتمكن المكلف منه. إذن فوظيفته التيمم ، لكونه فاقداً للماء ، ولكنّه لو عصى ودخل في الدار المغصوبة فتوضأ أو اغتسل به ، فلا إشكال في صحته بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب.

وأمّا المورد الثاني : فلا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل ولو قلنا بالفساد في المورد الأوّل ، ولا تتوقف صحته على القول بالترتب ، لفرض أنّه مأمور بالطهارة المائية ، لتمكنه منها ، غاية الأمر أنّ المكلف بسوء اختياره قد ارتكب المحرّم بدخوله في المكان المزبور وتوضأ أو اغتسل فيه ، ومن الواضح أنّ ارتكاب محرّم مقدمة للوضوء أو الغسل أو في أثنائه إذا لم يكن متحداً معه لا يوجب فساده ، هذا كلّه فيما إذا لم يكن الفضاء مغصوباً بل كان مباحاً أو مملوكاً للمتوضئ.

وأمّا المقام الثاني : وهو الوضوء أو الغسل في الفضاء المغصوب ، فالظاهر بطلان الوضوء فحسب دون الغسل ، أمّا الوضوء فمن جهة المسح حيث يعتبر فيه إمرار اليد وهو نحو تصرف في ملك الغير فيكون محرّماً ، ومن الواضح جداً أنّ المحرّم لا يقع مصداقاً للواجب ، ولا يفرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء

٥١١

وعدمه ، كما هو ظاهر. نعم ، لو أوقع المسح في غير الفضاء المغصوب لصحّ وضوءه على الأقوى ، وإن كان الأحوط تركه.

ومن هنا استشكلنا في صحة التيمم في الفضاء المغصوب من جهة أنّ المعتبر فيه إمرار اليد وهو نحو تصرف فيه ، ولا يفرق في هذا بين وجود المندوحة وعدمها.

وأمّا الغسل فحيث إنّه لا يعتبر فيه إمرار اليد فلا يكون تصرّفاً فيه ، وإن كان الأحوط تركه أيضاً.

ونلخص نتائج الأبحاث المتقدمة في عدّة نقاط :

١ ـ قد سبق أنّه يمكن تصحيح الجهر في موضع الخفت وبالعكس ، والاتمام في موضع القصر ، بالالتزام بالترتب في مقام الجعل ، ولا يرد عليه شيء ممّا أورده شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

٢ ـ قد تقدّم أنّ التضاد الدائمي بين متعلقي الحكمين وإن كان يوجب دخولهما في باب التعارض دون باب التزاحم ، كما هو واضح ، إلاّ أنّه لا يمنع من الالتزام بالترتب بينهما في مقام الجعل ، بأن يكون جعل أحدهما مترتباً على عدم الاتيان بمتعلق الآخر ، غاية الأمر أنّ وقوع الترتب في هذا المقام يحتاج إلى دليل ، والدليل موجود في المسألتين كما عرفت.

٣ ـ أنّ المأمور به ليس خصوص الجهر والخفت في فرض وجود القراءة ، والقصر والتمام في فرض وجود الصلاة ، ليكونا من الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، بل المأمور به هو القراءة الجهرية والاخفاتية في المسألة الاولى ، والصلاة قصراً وتماماً في المسألة الثانية ، وعليه فيكونان من الضدّين لهما ثالث. على أنّ القصر والتمام لا يكونان من الضدّين لا ثالث لهما حتّى في فرض وجود الصلاة.

٥١٢

٤ ـ أنّه لا ملزم لكون الشرط لفعلية الخطاب المترتب عصيان الخطاب المترتب عليه ، بل قد عرفت أنّ الشرط في الحقيقة والواقع هو ترك امتثاله وعدم الاتيان بمتعلقه ، فانّه نقطة انطلاق إمكان الترتب لا غيره. وعلى هذا الأساس فلا يلزم المحذور المتقدم.

٥ ـ قد ظهر أنّ الترتب كما يجري في المقام يجري في موارد العلم الاجمالي ، والشبهات قبل الفحص ، والموارد المهمة بناءً على وجوب الاحتياط فيها. نعم ، لا يجري في خصوص موارد الشبهات البدوية التي تجري أصالة البراءة فيها.

٦ ـ أنّ جريان الترتب في مورد يرتكز على ركائز ثلاث : ١ ـ وصول الخطاب المترتب عليه إلى المكلف صغرىً وكبرىً. ٢ ـ عدم الاتيان بمتعلقه في الخارج. ٣ ـ إحراز ذلك.

٧ ـ أنّ مخالفة الخطاب الطريقي بما هو لا توجب العقاب ، والعقاب في صورة مصادفته للواقع إنّما هو على مخالفة الواقع لا على مخالفته.

٨ ـ قد ذكرنا وجهاً آخر أيضاً لدفع الإشكال عن المسألتين ، وهو أنّه لا موجب لاستحقاق العقاب أصلاً ، فانّ الواجب في الواقع إمّا هو خصوص الجهر مثلاً عند الجهل بوجوب الخفت في المسألة الاولى ، وخصوص التمام عند الجهل بوجوب القصر في المسألة الثانية ، وإمّا هو أحد فردي الواجب التخييري ، وعلى كلا التقديرين لا معنى للعقاب.

٩ ـ أنّا لا نعقل التضاد بين الملاكين مع عدم المضادة بين الفعلين.

١٠ ـ أنّ الترتب لا يجري بين الواجبين أحدهما موسع والآخر مضيق ، فانّ البحث عن الترتب إمكاناً وامتناعاً يتفرع على تحقق التزاحم بين الحكمين ، فإذا فرض أنّه لا مزاحمة بينهما وتمكن المكلف من الجمع بينهما في مقام الامتثال فلا

٥١٣

موضوع له ، وما نحن فيه كذلك ، فانّ المكلف متمكن من الجمع بينهما من دون أيّة منافاة.

١١ ـ ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ المكلف إذا التفت إلى تنجس المسجد مثلاً أثناء الصلاة ، فلا يتوقف الحكم بصحتها على القول بالترتب ، وهذا بخلاف ما إذا علم بتنجسه قبل الشروع بها ، أو كان الواجب ممّا لا يحرم قطعه ، ووجهه هو أنّ دليل وجوب الازالة لبّي فلا يشمل هذه الصورة ، ولكن قد عرفت فساد ذلك ، وأنّ دليل حرمة قطع الصلاة على تقدير تسليمها أيضاً لبّي ، والروايات لا تدل على ذلك.

١٢ ـ أنّه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل من الأواني المغصوبة أو أواني الذهب والفضة فيما إذا أخذ الماء منها دفعة واحدة بمقدار يكفي له ، لأنّ المكلف بعد الأخذ واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلاً وشرعاً.

١٣ ـ أنّ المأمور به هنا غير متحد مع المنهي عنه ، فانّ المأمور به هو الغسلتان والمسحتان مثلاً والمنهي عنه هو أخذ الماء من الآنية.

١٤ ـ قد تقدّم أنّه لا دليل على اعتبار القدرة الفعلية في ابتداء العمل وعند الشروع في الامتثال ، بل تكفي القدرة على نحو التدريج ، ولا يحكم العقل بأزيد من ذلك ، ولا يفرق في هذا بين أن تكون تدريجية القدرة من ناحية تدريجية مقتضيها ، أو من ناحية تدريجية ارتفاع مانعها ، أو من ناحية تدريجية ارتكاب معصية المولى.

١٥ ـ صحة الوضوء أو الغسل الترتيبي من الأواني مطلقاً وعلى جميع الصور المتقدمة ، من صورة انحصار الماء وعدمه ، وصورة إمكان التفريغ في إناء آخر وعدم إمكانه ، بناءً على ما حققناه من صحة الترتب.

٥١٤

١٦ ـ أنّ ما ذكرناه من النزاع مبتنٍ على ما هو المشهور من حرمة استعمال الآنيتين مطلقاً. وأمّا بناءً على عدم حرمة استعمالهما في غير الأكل والشرب كما لا يخلو عن وجه ، فلا موضوع لهذا النزاع أصلاً.

١٧ ـ أنّ صحة الوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة مبنية على ما هو الصحيح من عدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه خارجاً ، وعدم سراية الحكم من متعلقه إلى ملازماته الاتفاقية. إذن لا مانع من الالتزام بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب ، ولا فرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء وعدمه كما هو واضح.

١٨ ـ فساد الوضوء في الفضاء الغصبي على الأقوى من جهة حرمة المسح ، بلا فرق بين صورتي الانحصار وعدمه.

٥١٥
٥١٦

فهرس الموضوعات

٥١٧
٥١٨

فهرس الموضوعات

دوران الواجب بين النفسي والغيري............................................ ٣

مقتضى الأصل اللفظي في المقام............................................... ٣

دوران الواجب بين التعييني والتخييري.......................................... ٥

حقيقة الواجب التخييري.................................................... ٥

مقتضى الأصل اللفظي في المقام............................................... ٦

دوران الواجب بين العيني والكفائي............................................. ٨

حقيقة الوجوب الكفائي..................................................... ٨

مقتضى الأصل اللفظي في المقام............................................... ٩

دلالة الأمر عقيب الحظر أو توهّمه............................................ ١٢

دلالة الأمر على المرة أو التكرار.............................................. ١٤

الامتثال بعد الامتثال........................................................ ١٨

توهّم جواز تكرار الامتثال في موردين....................................... ١٩

دلالة الأمر على الفور أو التراخي............................................ ٢١

٥١٩

الاستدلال ببعض الآيات على الفور......................................... ٢٣

نتائج البحوث السابقة..................................................... ٢٦

مبحث الإجزاء

كون بحث الاجزاء بحثا عقليا............................................... ٣٠

معنى « على وجهه » في عنوان البحث ..................................... ٣٠

المراد بالاقتضاء في المقام ................................................... ٣١

المراد من الاجزاء في المقام ................................................. ٣٣

الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار................................. ٣٣

الفرق بين هذه المسألة ومسألة تبعية القضاء للأداء ........................... ٣٤

إجزاء كل مأمور به عن أمره................................................. ٣٦

توهم جواز الامتثال بعد الامتثال في موردين ................................. ٣٦

إجزاء المأمور به الاضطراري عن المأمور به الاختياري........................... ٤١

١ ـ زوال العذر في الوقت ............................................... ٤١

تحرير محل النزاع ......................................................... ٤١

نقد كلام صاحب الكفاية في المقام ......................................... ٤٢

الكلام في اطلاق أدلة الأمر الاضطراري بالنسبة إلى من يتمكن من العمل الاختياري ٤٦

دعوى المحقق النائيني الاجزاء في المقام ....................................... ٤٩

٢ ـ زوال العذر بعد خروج الوقت ....................................... ٥١

كلام المحقق النائيني في المقام ................................................ ٥١

٥٢٠