محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

وجود المانع وهو نهي المولى ، لا لعدم ثبوت المقتضي له.

وهذا الجواب متين جداً ، حيث إنّ المقدمة إذا كانت محرّمة فعدم اتصافها بالوجوب الغيري لا يكشف عن عدم ثبوت المقتضي له.

الثاني : أنّه لا يصح منع المولى عن المقدمة غير الموصلة ، بل إنّه غير معقول ، والسبب في ذلك هو أنّه مستلزم إما لطلب الحاصل أو جواز تفويت الواجب مع الاختيار ، وكلاهما محال ، بيان ذلك :

أمّا الأوّل : فلأنّ وجوب ذي المقدمة مشروط بالقدرة عليه ، وهي تتوقف على جواز مقدمته شرعاً ، وهو يتوقف على الاتيان بالواجب ، لفرض أنّ المقدمة غير الموصلة محرمة ، ونتيجة ذلك هي أنّ وجوب ذي المقدمة يتوقف على الاتيان به.

وأمّا الثاني : فلما عرفت من أنّ جواز المقدمة مشروط بالاتيان بذيها وإلاّ لكانت المقدمة محرّمة ، ومع حرمتها لا يكون الواجب مقدوراً ، ولازم ذلك جواز ترك الواجب اختياراً وبلا عصيان ومخالفة ، لفرض أنّ تحصيل القدرة غير لازم. وعلى الجملة : أنّ وجوب الواجب النفسي مشروط بالقدرة عليه ، وهي تتوقف على التمكّن من المقدمة عقلاً وشرعاً ، وبما أنّ التمكن منها شرعاً في المقام منوط باتيان الواجب النفسي ، فمع عدمه لا يكون متمكناً منها ، ومع عدم التمكن لا بأس بترك الواجب اختياراً وعمداً.

وغير خفي أنّ ما أفاده قدس‌سره مبني على الخلط بين كون الايصال قيداً لجواز المقدمة ووجوب ذيها وبين كونه قيداً للواجب ، فلو كان الايصال من قبيل الأوّل لتمّ ما أفاده قدس‌سره إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك ، فانّه قيد للواجب ، وعلى هذا فلا يكون جواز المقدمة مشروطاً بالايصال الخارجي

٢٦١

ووجود الواجب النفسي ، بل الجواز تعلّق بالمقدمة الموصلة ، والمفروض تمكن المكلف منها ، ومع هذا بطبيعة الحال لا يجوز له ترك الواجب فلو ترك استحقّ العقاب عليه ، لفرض قدرته عليه فعلاً من ناحية قدرته على مقدمته الموصلة كذلك. فالنتيجة : أنّ ما أفاده قدس‌سره خاطئ جداً.

ولشيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) في المقام كلام هو : أنّه قدس‌سره حيث رأى أنّ الوجدان لا يساعد على وجوب المقدمة مطلقاً ـ سواء أكانت موصلة أم لم تكن ـ من ناحية ، ورأى أنّه لا يمكن الالتزام بوجوب خصوص الموصلة للمحاذير المتقدمة من ناحية اخرى ، فقد اختار نظرية ثانية تبعاً لنظرية المحقق صاحب الحاشية قدس‌سره (٢) وإن كان مخالفاً له في بعض النقاط ، وملخص ما أفاده قدس‌سره في المقام هو : أنّ الواجب وإن كان هو خصوص المقدمة في حال الايصال ، لمساعدة الوجدان على ذلك بناءً على ثبوت الملازمة ، إلاّ أنّه مع ذلك لم يؤخذ الايصال قيداً لاتصاف المقدمة بالوجوب ، لا بنحو يكون قيداً للواجب ولا للوجوب. أمّا الأوّل : فلما عرفت من استلزامه الدور أو التسلسل. وأمّا الثاني : فلاستلزامه التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها في الاطلاق والاشتراط ، لأنّ معنى ذلك هو أنّ وجوب المقدمة مقيد بالايصال دون وجوب ذيها ، وهو مستحيل على ضوء القول بالملازمة بينهما ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ امتناع تقييد الواجب أو وجوبه بالايصال إلى الواجب النفسي ، لا يستلزم أن يكون الواجب والوجوب مطلقين من هذه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٤٨.

(٢) هداية المسترشدين : ٢١٩.

٢٦٢

الجهة كما ذهب إليه العلاّمة الأنصاري قدس‌سره ، وذلك لما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ثبوتاً وإثباتاً ، فاستحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق وبالعكس ، وقد طبّق قدس‌سره هذه الكبرى في عدّة موارد :

منها : أنّ تقييد الأحكام الشرعية بخصوص العالمين بها مستحيل فاطلاقها كذلك ، وبما أنّ الاهمال في الواقع غير معقول ، فيثبت الاطلاق بمتمم الجعل ، ويعبّر عن ذلك بنتيجة الاطلاق. ومنها : أنّ تقييد متعلق الأمر الأوّل بقصد القربة مستحيل فاطلاقه كذلك ، وبما أنّ إهمال الواقع الأوّل من الحاكم الملتفت غير معقول فيثبت التقييد بمتمم الجعل ، ويسمى ذلك بنتيجة التقييد. ومنها : ما نحن فيه ، حيث إنّ تقييد الواجب الغيري أو وجوبه بقيد الايصال مستحيل ، فاطلاقه كذلك ، وعليه فلا بدّ من الالتزام بشق ثالث وهو الالتزام بوجوب المقدمة في حال الايصال.

ومن ناحية ثالثة : أنّ شيخنا الاستاذ قدس‌سره قد خالف المحقق صاحب الحاشية قدس‌سره في نقطة وهي : أنّ المقدمة إذا كانت محرّمة كسلوك الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق مثلاً ، فقد ادّعى صاحب الحاشية قدس‌سره أنّ المقدمة المزبورة إنّما تتصف بالوجوب من ناحية إيصالها إلى الغريق ، وتتصف بالحرمة على تقدير عدم الايصال إليه وعصيان الأمر الوارد عليها ، وهو وجوب السلوك من حيث الانقاذ ، فالنتيجة هي تعلّق خطابين بموضوع واحد على نحو الترتب.

ولكن أورد عليه شيخنا الاستاذ قدس‌سره بأنّ اتصاف المقدمة المذكورة بالحرمة من ناحية عصيان الأمر بالواجب النفسي لا الأمر المتوجه إليها ، فانّ

٢٦٣

المزاحمة إنّما هي بين حرمتها ووجوب ذيها فلا يعقل الترتب بين خطابين متعلقين بموضوع واحد ، ومن هنا اعتبر قدس‌سره الترتب بين خطابين متعلقين كل منهما بموضوع ، وتمام الكلام في محلّه.

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده قدس‌سره من عدّة جهات :

الاولى : ما تقدّم من أنّ الالتزام بوجوب خصوص المقدمة لا يستلزم كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري ليلزم محذور الدور أو التسلسل.

الثانية : أنّ ما أفاده قدس‌سره من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق ، فقد ذكرنا بصورة موسعة في بحث التعبدي والتوصلي أنّ هذه الكبرى خاطئة جداً ولا واقع موضوعي لها أصلاً ، وذكرنا هناك أنّ استحالة التقييد بقيد في مقام الثبوت تستلزم إمّا ضرورة الاطلاق أو ضرورة التقييد بخلافه. وعلى ضوء هذا الأساس فحيث إنّ فيما نحن فيه تقييد الواجب الغيري بالايصال مستحيل وكذلك تقييده بعدم الايصال ، فالاطلاق عندئذ ضروري ، وعليه فالنتيجة ثبوت ما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره من وجوب المقدمة مطلقاً.

الثالثة : أنّ الترتب كما ذكرناه في محلّه (١) وإن كان أمراً معقولاً بل ولا مناص من الالتزام به ، إلاّ أنّه في المقام غير معقول ، والسبب في ذلك هو أنّ حرمة المقدمة إذا كانت مشروطة بعصيان الأمر بذي المقدمة فبطبيعة الحال يكون وجوبها مشروطاً بعدم عصيانه وإطاعته ، لاستحالة كون شيء واحد في زمان واحد واجباً وحراماً معاً.

__________________

(١) يأتي في ص ٣٨٥.

٢٦٤

وإن شئت قلت : إنّه لا يعقل أن يكون وجوبها مطلقاً وثابتاً على كل تقدير مع كونها محرمة على تقدير عصيان الأمر بذي المقدمة ، كيف فانّه من اجتماع الوجوب والحرمة الفعليين في شيء في زمن واحد ، فإذا كان وجوب المقدمة مشروطاً بعدم عصيان وجوب الواجب النفسي فعندئذ لا بدّ من النظر إلى أنّ وجوب الواجب النفسي أيضاً مشروط بعدم عصيانه وإطاعته أم لا ، فعلى الأوّل يلزم طلب الحاصل ، لأنّ مردّ ذلك إلى أنّ وجوب الواجب النفسي مشروط باتيانه وإطاعته وهو مستحيل ، وعلى الثاني يلزم التفكيك بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها من حيث الاطلاق والاشتراط وهو غير ممكن على القول بالملازمة بينهما كما هو المفروض.

فالنتيجة في نهاية المطاف : هي أنّ ما أفاده لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، فالصحيح على القول بوجوب المقدمة هو ما ذهب إليه صاحب الفصول قدس‌سره ولا يرد عليه شيء ممّا اورد كما عرفت.

٢٦٥

ثمرة النزاع في المسألة

ذكر الأصحاب لها عدّة ثمرات :

الاولى : صحّة العبادة إذا كان تركها مقدمة لواجب أهم ، على القول بوجوب المقدمة الموصلة ، وفسادها على القول بوجوب مطلق المقدمة.

ولا يخفى أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة لمسألة اصولية ، كما ذكرنا في محلّه من أنّ ثمرة المسألة الاصولية ما يترتب عليها بلا ضم مقدمة اخرى اصولية ، وهذه الثمرة تتوقف على ضم مقدمتين اخريين الاولى : أن يكون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الآخر. الثانية : أن يكون النهي الغيري كالنهي النفسي في الدلالة على الفساد ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ المقدمتين المذكورتين غير تامتين كما حققنا ذلك في مبحث الضد بشكل موسّع فلانعيد. ومن ناحية ثالثة : أنّه على تقدير تسليم هاتين المقدمتين وتسليم وجوب المقدمة هل تظهر الثمرة المزبورة بين القولين؟ ففيه وجهان ، الصحيح هو الظهور ، بيان ذلك : هو أنّ ترك الصلاة إذا كان مقدمة لواجب أهم كازالة النجاسة عن المسجد مثلاً ، فلا محالة كان ذلك الترك واجباً ، فإذا صار الترك واجباً بطبيعة الحال كان الفعل منهياً عنه ، بناءً على أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام ، والنهي في العبادة يوجب الفساد ، هذا بناءً على القول بوجوب مطلق المقدمة.

وأمّا بناءً على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة فالصلاة في المثال

٢٦٦

المزبور لا تقع فاسدة ، وذلك لأنّ الواجب على ضوء هذا القول إنّما هو الترك الخاص وهو الترك الموصل لا مطلق الترك ، ومن الطبيعي أنّ نقيضه ـ وهو ترك هذا الترك الخاص ـ ليس عين الصلاة في الخارج ، بل هو مقارن لها لتحققه في ضمن الصلاة مرّة ، وفي ضمن الترك غير الموصل مرّة اخرى ، ومن المعلوم أنّ الحرمة الثابتة لشيء لا تسري إلى ملازمه فضلاً عن مقارنه اتفاقاً ، وعلى هذا فلا تكون الصلاة منهياً عنها لتقع فاسدة.

وأورد على ذلك شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره على ما في تقريراته (١) من أنّ هذه الثمرة ليست بتامة ، والسبب في ذلك : هو أنّ الفعل على كلا القولين ليس نقيضاً للترك ، لأنّ نقيض كل شيء رفعه ونقيض الترك رفع الترك وهو غير الفعل ، غاية الأمر على القول بوجوب مطلق المقدمة ينحصر مصداق النقيض في الفعل فحسب ، وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة فله فردان في الخارج : أحدهما : الفعل ، والآخر : الترك غير الموصل ، حيث إنّ نقيض الأخص أعم ، ومن الواضح أنّ حرمة النقيض كما تسري إلى فعل الصلاة على الأوّل ، كذلك تسري إليه على الثاني ، لفرض أنّ الفعل على كلا القولين ليس عين النقيض ، بل هو فرده وثبوت الحرمة له من باب السراية ، وبديهي أنّه لا فرق في السراية بين انحصار فرده في الفعل وعدم انحصاره فيه أبداً. فإذن تقع الصلاة على كلا القولين فاسدة فلا تظهر الثمرة بينهما.

والجواب عنه أوّلاً : أنّ الفعل لا يعقل أن يكون مصداقاً للترك ، لاستحالة كون الوجود مصداقاً للعدم لتباينهما ذاتاً واستحالة صدق أحدهما على الآخر ، كيف فانّ العدم لا تحقق له خارجاً لينطبق على الوجود. وعلى الجملة : فلا يعقل أن يكون العدم جامعاً بين الوجود والعدم المحض ، وعلى هذا فلا يكون

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٧٨.

٢٦٧

فعل الصلاة مصداقاً للنقيض ، بل هو مقارن له ، وقد تقدّم أنّ حرمة شيء لا تسري إلى مقارنه.

وثانياً : ما ذكره المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وقد بيّناه مع زيادة توضيح في مبحث الضد ، وملخصه : هو أنّ الفعل بنفسه نقيض للترك المطلق ورافع له ، بداهة أنّ نقيض الوجود هو العدم البديل له ، ونقيض العدم هو الوجود كذلك ، وهذا هو المراد من جملة أنّ نقيض كل شيء رفعه ، وليس المراد منها أنّ نقيض الترك عدم الترك ، ونقيض عدم الترك عدم عدم الترك وهكذا إلى ما لا نهاية له ، فانّه وإن عبّر به إلاّ أنّه باعتبار انطباقه على الوجود خارجاً وكونه مرآة له لا أنّه بنفسه نقيض ، وإلاّ لزم أن لا يكون الوجود نقيضاً للعدم وهو كما ترى ، ولأجل ذلك ، أي كون الوجود نقيضاً للعدم حقيقة وبالعكس ، قد ثبت أنّ النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان.

وعلى ضوء هذا الأساس ، فعلى القول بوجوب المقدمة مطلقاً ، حيث إنّ ترك الصلاة في المثال المتقدم واجب فنقيضه ـ وهو وجود الصلاة ـ بطبيعة الحال يكون منهياً عنه ، وعليه فلا محالة تقع فاسدة. وعلى القول بوجوب خصوص الموصلة بما أنّ الواجب هو الترك الموصل فحسب فلا يكون فعل الصلاة نقيضاً له ، بل هو مقارن له ، وقد تقدّم أنّ الحكم الثابت لشيء لا يسري إلى ملازمه فضلاً عن مقارنه. فالنتيجة في نهاية الشوط : هي أنّ هذه الثمرة تامة وإن لم تكن ثمرة للمسألة الاصولية على تقدير تسليم وجوب المقدمة من ناحية ، وتسليم المقدمتين المذكورتين من ناحية اخرى.

الثمرة الثانية : ما أفاده صاحب الكفاية ( قدس‌سره ) (١) من أن نتيجة

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٣.

٢٦٨

البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدماته هي وجوب المقدمة شرعاً بناءً على الثبوت بعد ضم هذه الكبرى إلى صغرياتها.

وفيه : أنّ هذه النتيجة وإن ترتبت على هذه المسألة بناءً على ثبوت الملازمة بينهما ، إلاّ أنّها لا تصلح أن تكون ثمرة فقهية للمسألة الاصولية ، وذلك لعدم ترتب أثر عملي عليها أصلاً بعد حكم العقل بلابدّية الاتيان بالمقدمة. ومن هنا سنقول إنّ حكم الشارع بوجوب المقدمة لغو محض.

الثمرة الثالثة : أنّ المقدمة إذا كانت عبادة فعلى القول بوجوبها أمكن الاتيان بها بقصد التقرب. وأمّا على القول بعدم وجوبها فلا يمكن.

وفيه : أنّه قد تقدّم (١) أنّ عبادية المقدمة لا تتوقف على وجوبها ، فان منشأها كما عرفت أحد أمرين : إمّا الاتيان بها بقصد التوصل إلى الواجب النفسي وامتثال أمره. وإما الاتيان بها بداعي أمرها النفسي المتعلق بها كما في الطهارات الثلاث ، فالوجوب الغيري لا يكون منشأ لعباديتها أصلاً.

الثمرة الرابعة : بِرّ النذر بالاتيان بالمقدمة على القول بوجوبها فيما إذا تعلّق بفعل واجب ، وعدم حصول البِرّ به على القول بعدم وجوبها.

وغير خفي أمّا أوّلاً : أنّ مثل هذه الثمرة لا يوجب كون البحث عن وجوب المقدمة بحثاً اصولياً ، وذلك لأنّ المسألة الاصولية هي ما تقع في طريق استنباط الحكم الكلي الإلهي بعد ضم صغراها إليها بلا توسط مسألة اصولية اخرى كالقواعد التي يستنبط منها مثل وجوب الوفاء بالنذر أو نحوه ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فانّ المترتب على مسألتنا هذه إنّما هو انطباق الحكم الشرعي الكلي المعلوم المستنبط من دليله على الاتيان بالمقدمة ، ومن الواضح

__________________

(١) في ص ٢٣٦.

٢٦٩

أنّ المسألة لا تكون بذلك اصولية.

وأمّا ثانياً : فلأ نّها لو تمّت فانّما تتم على القول بوجوب مطلق المقدمة ، وأمّا بناءً على القول بوجوب خصوص الموصلة فلا تظهر إلاّ إذا أتى بذي المقدمة أيضاً ، وإلاّ لم يأت بالواجب ، وعندئذ فلا تظهر الثمرة كما لا يخفى.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الوفاء بالنذر تابع لقصد الناذر ، فان قصد من لفظ الواجب خصوص الواجب النفسي لم يكف الاتيان بالمقدمة في الوفاء به ولو قلنا بوجوبها ، وإن قصد منه مطلق ما يلزم الاتيان به ولو عقلاً ، كفى الاتيان بها وإن قلنا بعدم وجوبها. نعم ، لو كان قصده الاتيان بالواجب الشرعي من دون نظر إلى كونه نفسياً أو غيرياً ولو من ناحية عدم الالتفات إلى ذلك ، ولم يكن في البين ما يوجب الانصراف إلى الأوّل ، كفى الاتيان بالمقدمة على القول بوجوبها دون القول بعدم وجوبها.

الثمرة الخامسة : هي أنّه على القول بوجوب المقدمة لا يجوز أخذ الاجرة عليها ، لأنّه من أخذ الاجرة على الواجبات ، وعلى القول بعدم وجوبها يجوز ذلك.

وفيه أوّلاً : أنّنا قد حققنا في محلّه (١) أنّ الوجوب بما هو وجوب لا يكون مانعاً من أخذ الاجرة على الواجب ، سواء أكان وجوبه عينياً أم كان كفائياً ، توصلياً كان أم عبادياً ، إلاّ إذا قام دليل على لزوم الاتيان به مجاناً كتغسيل الميت ودفنه ونحو ذلك ، فعندئذ لا يجوز أخذ الاجرة عليه ، وبما أنّه لا دليل على لزوم الاتيان بالمقدمة مجّاناً فلا مانع من أخذ الاجرة عليه وإن قلنا بوجوبها.

وثانياً : لو تنزّلنا عن ذلك فلا بدّ من التفصيل بين المقدمات العبادية

__________________

(١) مصباح الفقاهة ١ : ٤٦٨.

٢٧٠

كالطهارات الثلاث وبين غيرها من المقدمات ، فانّه لو كان هناك مانع من أخذ الاجرة عليها إنّما هو عباديتها ، سواء أكانت واجبة أم لم تكن ، فلا دخل لوجوبها بما هو وجوب في ذلك أبداً ، بل ربّما يكون الشيء غير واجب فمع ذلك لا يجوز أخذ الاجرة عليه كالأذان مثلاً. فالنتيجة : أنّه لا ملازمة بين وجوب شيء وعدم جواز أخذ الاجرة عليه أصلاً ، بل النسبة بينهما عموم من وجه.

ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره (١) من أنّ جواز أخذ الاجرة على المقدمة وعدم جوازه يدوران مدار جواز أخذها على ذي المقدمة وعدم جوازه ، خاطئ جداً ، ضرورة أنّ المقدمة ليست تابعة لذيها من هذه الناحية ، ولا دليل على هذه التبعية ، وإنّما كانت تبعيتها في الوجوب فحسب ، وبعد القول بوجوبها فهي واجبة مستقلة ، فجواز أخذ الاجرة عليها أو عدم جوازه يحتاج إلى دليل ، ولا صلة له بالجواز أو عدمه على الواجب النفسي أصلاً. على أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة للمسألة الاصولية.

الثمرة السادسة : حصول الفسق بترك الواجب النفسي مع مقدماته الكثيرة على القول بوجوبها ، وعدم حصوله على القول بعدمه.

وفيه : مضافاً إلى أنّه لابدّ من فرض الكلام فيما إذا كان ترك الواجب النفسي من الصغائر دون الكبائر ، وإلاّ لكان تركه بنفسه موجباً لحصول الفسق من دون حاجة [ إلى ] ترك مقدماته ، أنّ هذه الثمرة تبتني على أمرين ، الأوّل : التفصيل بين المعاصي الكبيرة والصغيرة ، والالتزام بحصول الفسق في الاولى ، وعدم حصوله في الثانية إلاّفي فرض الاصرار عليها. الثاني : أن يكون الاصرار عبارة عن ارتكاب معاص عديدة ولو في زمن واحد ودفعة واحدة.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٥٧.

٢٧١

ولكنّ للمناقشة في كلا الأمرين مجالاً واسعاً.

أمّا الأوّل : فلما ذكرناه في محلّه من أنّه لا أساس لهذا التفصيل أصلاً ، وأ نّه لا فرق بين المعصية الكبيرة والصغيرة من هذه الناحية ، فكما أنّ الاولى توجب الفسق والخروج عن جادة الشرع يميناً وشمالاً ، فكذلك الثانية. وبكلمة اخرى :

قد ذكرنا غير مرّة أنّ الفسق عبارة عن خروج الشخص عن جادة الشرع يميناً وشمالاً ، ويقابله العدل فانّه عبارة عن الاستقامة في الجادة وعدم الخروج عنها كذلك ، ومن البديهي أنّ المعصية الصغيرة كالكبيرة توجب الفسق والخروج عن الجادة ، فإذن لاتترتب هذه الثمرة على القول بوجوب المقدمة أصلاً كما هو ظاهر.

وأمّا الثاني : فلأنّ الاصرار على المعصية عبارة عرفاً عن ارتكابها مرّة بعد اخرى ، وأمّا ارتكاب معاصي عديدة مرّة واحدة فلا يصدق عليه الاصرار يقيناً ، بداهة أنّ من نظر إلى جماعة من النِّساء الأجنبيات دفعة واحدة وإن كان يرتكب معاصي عديدة إلاّ أنّه لا يصدق على ذلك الاصرار ، وعليه فلا ثمرة. ولو تنزلنا عن جميع ذلك فأيضاً لا مجال لها ، لما قد عرفت من أنّه لا معصية في ترك المقدمة بما هو مقدمة وإن قلنا بوجوبها حتّى يحصل الاصرار على المعصية ، ضرورة أنّ المدار في حصول المعصية وهتك المولى إنّما هو بمخالفة الأمر النفسي ، فلا أثر لمخالفة الأمر الغيري بما هو أمر غيري أصلاً. أضف إلى ما ذكرناه : أنّ هذه الثمرة على تقدير تسليمها لا تصلح أن تكون ثمرة للمسألة الاصولية.

الثمرة السابعة : أنّ المقدمة إذا كانت محرّمة فعلى القول بوجوبها يلزم اجتماع الأمر والنهي دون القول بعدم الوجوب.

وقد أورد المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) على هذه الثمرة بامور

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٤.

٢٧٢

ثلاثة :

الأوّل : أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي إنّما هي ترتكز على ما إذا كان هناك عنوان تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي وقد اجتمعا في مورد واحد اتفاقاً ، وأمّا إذا كان هناك عنوان واحد تعلّق به كل من الأمر والنهي فهو خارج عن هذه المسألة وداخل في مسألة النهي عن العبادات والمعاملات ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فان عنوان المقدمة عنوان تعليلي خارج عن متعلق الأمر ، وعليه فبطبيعة الحال تعلّق كل من الأمر والنهي بشيء واحد ، وهو ما كان مقدمة بالحمل الشائع.

ويردّه : أنّ عنوان المقدمة وإن كان عنواناً تعليلياً وخارجاً عن متعلق الأمر ، إلاّ أنّ المأمور به هو الطبيعي الجامع بين هذا الفرد المحرّم وغيره ، وعليه فيكون متعلق الأمر غير متعلق النهي ، فان متعلق الأمر هو طبيعي الوضوء أو الغسل مثلاً ، أو طبيعي تطهير البدن أو اللباس ، ومتعلق النهي حصة خاصة من هذا الطبيعي بعنوان الغصب أو نحوه ، وبما أنّ متعلق الأمر والنهي ينطبقان على هذه الحصة فهي مجمع لهما وتكون من موارد الاجتماع.

الثاني : أنّه لا يلزم في المقام اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ، وذلك لأنّ المقدمة لا تخلو من أن تكون منحصرة أو غير منحصرة ، فعلى الأوّل ، فان كان ملاك الوجوب أقوى من ملاك الحرمة فلا حرمة في البين ، وإن كان العكس فبالعكس ، وعلى الثاني فلا محالة يختص الوجوب بغير المحرّم من المقدمة ، لوضوح أنّ العقل لا يحكم بالملازمة إلاّبين وجوب شيء ووجوب خصوص مقدماته المباحة. فالنتيجة : أنّ المقدمة لا يكون مجمعاً للوجوب والحرمة.

ويردّه : أنّ الأمر وإن كان كذلك في صورة انحصار المقدمة بالمحرّمة ، إلاّ أنّه

٢٧٣

لايتم في صورة غير الانحصار ، والسبب فيه هو أنّه لا موجب لتخصيص الوجوب في هذه الصورة بخصوص المقدمة المباحة بعد ما كانت المقدمة المحرمة مثلها في الواجدية للملاك ـ وهو توقف الواجب عليها ووفائها بالغرض ـ ومجرد كون المقدمة محرّمة من ناحية انطباق عنوان المحرّم عليها لا يخرجها عن واجديتها للملاك ، إذ كما أنّ اجتماع الواجب النفسي مع عنوان محرّم لا ينافي وقوعه على صفة المطلوبية بناءً على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدم سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه متعلق الأمر ، كذلك اجتماع الواجب الغيري كالمسير إلى الحج مثلاً مع عنوان محرّم كالغصب لا ينافي وقوعه على صفة المطلوبية ، ومن الواضح أنّه لا فرق من هذه الناحية بين الواجب النفسي والغيري.

الثالث : أنّ الغرض من المقدمة إنّما هو التوصل بها إلى الواجب النفسي ، فان كانت توصلية أمكن التوصل بها إلى الواجب النفسي ، وإن كانت محرّمة سواء فيه القول بوجوب المقدمة والقول بعدمه ، ضرورة أنّه لا أثر له في ذلك أبداً ، وإن كانت تعبدية كالطهارات الثلاث ، فعندئذ إن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي صحت العبادة في مورد الاجتماع ، سواء أقلنا بوجوب المقدمة أم لم نقل ، وإن قلنا بامتناع الاجتماع وتقديم جانب النهي على جانب الأمر فلا مناص من الحكم بفسادها ، من دون فرق أيضاً بين القول بوجوب المقدمة والقول بعدم وجوبها ، فإذن لا ثمرة للقول بالوجوب من هذه الناحية.

٢٧٤

الواجب الأصلي والتبعي

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في مبحث مقدمة الواجب اموراً أربعة :

الأوّل : أنّ مسألة مقدمة الواجب من المسائل الاصولية العقلية.

الثاني : تقسيم المقدمة إلى الشرعية والعقلية والعادية من ناحية ، وإلى الداخلية والخارجية والمتقدمة والمتأخرة والمقارنة من ناحية اخرى.

الثالث : تقسيم الواجب إلى المشروط والمطلق تارة ، وإلى المنجّز والمعلّق تارة اخرى.

الرابع : بيان الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، والتعرض لما هو الواجب من المقدمة ، وبعد الانتهاء عن هذه الامور الأربعة ذكر انقسام الواجب إلى الأصلي والتبعي. وكان المناسب عليه أن يدرج هذا التقسيم في الأمر الثالث ، لأ نّه من شؤون تقسيم الواجب ، ولعل هذا كان غفلة منه قدس‌سره في مقام التأليف أو كان الاشتباه من الناسخ ، وكيف كان فالتعرض لهذا التقسيم هنا إنّما هو تبعاً للمحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وإلاّ فهو عديم الفائدة والأثر.

فنقول : إنّ الأصالة والتبعية تلاحظان مرّة بالاضافة إلى مقام الثبوت ، ومرّة اخرى بالاضافة إلى مقام الاثبات.

أمّا على الأوّل : فالمراد بالأصلي : هو ما كان متعلقاً للارادة والطلب تفصيلاً ومورداً لالتفات المولى كذلك ، والمراد بالتبعي هو ما كان متعلقاً لهما تبعاً

__________________

(١) كفاية الاصول : ٨٩ ـ ١٢٢.

٢٧٥

وارتكازاً ومورداً للالتفات كذلك. ومن هنا يظهر أنّ هذا التقسيم لا يجري في الواجب النفسي ، بداهة أنّه لا يتصف إلاّبالأصالة ، فلا يعقل أن تكون الارادة المتعلقة به إرادة تبعية وارتكازية ، فالتقسيم خاص بالواجب الغيري.

وأمّا على الثاني : فالمراد بالأصلي هو ما كان مقصوداً بالافهام من الخطاب بحيث تكون دلالة الكلام عليه بالمطابقة ، وبالتبعي هو ما لم يكن كذلك ، بل كانت دلالة الكلام عليه بالتبعية والالتزام ، ولكن على هذا فالواجب لا ينحصر بهذين القسمين ، بل هنا قسم ثالث : وهو ما لم يكن الواجب مقصوداً بالافهام من الخطاب أصلاً لا أصالة ولا تبعاً ، كما إذا كان الواجب مدلولاً لدليل لبي من إجماع أو نحوه ، هذا إذا علم بالأصالة والتبعية.

وأمّا إذا شكّ في واجب أنّه أصلي أو تبعي ، فحيث لا أثر لذلك فلا أصل في المقام حتّى يعيّن أحدهما لا لفظاً ولا عملاً. نعم ، لو كان لهما أثر عملي فمقتضى الأصل هو كون الواجب تبعياً إذا كان عبارة عما لم تتعلق به الارادة المستقلة ، وأمّا إذا كان عبارة عما تعلقت به الارادة التبعية فلا يكون موافقاً للأصل.

٢٧٦

مقتضى الأصل في المسألة

والبحث فيه يقع في مقامين : الأوّل : في مقتضى الأصل العملي. الثاني : في مقتضى الأصل اللفظي.

أمّا المقام الأوّل : فقد أفاد المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره أنّه لا أصل في المسألة الاصولية يعيّن الملازمة عند الشك في ثبوتها أو عدمها ، والسبب فيه ما ذكرناه من أنّ هذه الملازمات وإن لم تكن من سنخ الموجودات الخارجية من الأعراض والجواهر ، إلاّ أنّها امور واقعية أزلية كاستحالة اجتماع النقيضين والضدين والدور والتسلسل وما شاكل ذلك ، حيث إنّها لم تكن محدودة بحد خاص ، بل هي امور أزلية ولها واقع موضوعي.

وعلى هذا الضوء فان كانت الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ثابتة فهي من الأزل ، وإن لم تكن ثابتة فكذلك ، ومن الطبيعي أنّ ذلك لن يدع مجالاً للأصل في المقام. وأمّا في المسألة الفرعية فقد أفاد قدس‌سره أنّه لا مانع من الرجوع إلى اصالة عدم وجوب المقدمة بتقريب أنّها قبل إيجاب الشارع الصلاة مثلاً لم تكن واجبة لفرض عدم وجوب ذيها ، وبعد إيجابها شكّ في وجوبها ، ومعه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم الوجوب أو أصالة البراءة عنه.

ولنأخذ بالنظر إلى ما أفاده قدس‌سره. أمّا ما أفاده بالاضافة إلى المسألة الاصولية من أنّه لا أصل فيها ، فمتين جداً ولا مناص عنه كما عرفت.

وأمّا ما أفاده بالاضافة إلى المسألة الفرعية من وجود الأصل فيها فانّه قابل

٢٧٧

للمؤاخذة ، وذلك لأنّ الأصل فيها لايخلو من أن يكون البراءة أو الاستصحاب.

والاولى : لا تجري بكلا قسميها : أمّا العقلية ، فلأ نّها واردة لنفي المؤاخذة والعقاب ، والمفروض أنّه لا عقاب على ترك المقدمة وإن قلنا بوجوبها ، والعقاب إنّما هو على ترك الواجب النفسي. وأمّا الشرعية ، فبما أنّها وردت مورد الامتنان فيختص موردها بما إذا كانت فيه كلفة على المكلف ليكون في رفعها بها امتناناً ، والمفروض أنّه لا كلفة في وجوب المقدمة حيث لا عقاب على تركها. على أنّ العقل يستقل بلزوم الاتيان بها لتوقف الواجب عليها ، سواء أقلنا بوجوبها أم لم نقل ، فإذن أيّ أثر ومنّة في رفع الوجوب عنها بعد لا بدّية الاتيان بها على كل تقدير.

والثاني ـ وهو الاستصحاب ـ فأيضاً لايجري ، لأنّ موضوعه وإن كان تاماً ، إلاّ أنّه لا أثر له بعد استقلال العقل بلزوم الاتيان بها. وعلى الجملة : فلا يترتب أيّ أثر على استصحاب عدم وجوبها بعد لا بدّية الاتيان بها على كل تقدير ، ومعه لا معنى لجريانه.

نعم ، لا مانع من الرجوع إلى الأصل من ناحية اخرى ، وهي ما ذكرناه سابقاً من الثمرة فيما إذا كانت المقدمة محرّمة وقد توقف عليها واجب أهم ، فعندئذ لا بدّ من ملاحظة دليل حرمة المقدمة ، فان كان لدليلها إطلاق أو عموم ، لزم التمسك به في غير مقدار الضرورة ـ وهو خصوص المقدمة الموصلة ـ وإن شئت قلت : إنّ القدر المتيقن هو رفع اليد عن تحريم خصوص تلك المقدمة ، وأمّا غيرها ، فان كان إطلاق في البين فلا مناص من التمسك به لاثبات حرمتها ، لعدم ضرورة تقتضي رفع اليد عنها ، وإن لم يكن إطلاق فالمرجع هو أصل البراءة عن حرمة المقدمة غير الموصلة للشك فيها وعدم دليل عليها. فالنتيجة هي سقوط الحرمة عن المقدمة مطلقاً ، سواء أكانت موصلة أم لم تكن ، أمّا عن

٢٧٨

الاولى فمن ناحية المزاحمة ، وأمّا عن الثانية فمن ناحية أصالة البراءة.

هذا على القول بوجوب مطلق المقدمة ، وأمّا على القول بوجوب خصوص الموصلة ، أو خصوص ما قصد به التوصل ، فالساقط إنّما هو الحرمة عنه فحسب دون غيره كما سبق.

وأمّا المقام الثاني : فقد استدلّ على وجوب المقدمة بأدلة ثلاثة :

الأوّل : ما عن الأشاعرة (١) وملخصه : أنّ المولى إذا أوجب شيئاً فلا بدّ له من إيجاب جميع مقدمات ذلك الشيء ، وإلاّ ـ أي وإن لم يوجب تلك المقدمات ـ فجاز تركها ، وهذا يستلزم أحد محذورين : إمّا أن يبقى وجوب ذي المقدمة بحاله ، وهو محال لأنّه تكليف بما لا يطاق ، أو لا يبقى وجوبه بحاله بل يصير مشروطاً بحصول مقدمته ، فيلزم عندئذ انقلاب الواجب المطلق إلى المشروط.

وغير خفي أنّ عدم إيجاب الشارع المقدمة مع إيجاب ذيها لا يستلزم أحد هذين المحذورين أبداً ، والسبب في ذلك : ما تقدّم من أنّه يكفي في القدرة على ذي المقدمة القدرة على مقدمته فلا تتوقف على الاتيان بها خارجاً ولا على وجوبها شرعاً ، بداهة أنّه لا صلة لوجوب المقدمة بالقدرة على ذيها ، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى : أنّ الشارع وإن لم يوجب المقدمة إلاّ أنّ العقل يستقل بلا بدّية الاتيان بها بحيث لو لم يأت بها وأدّى ذلك إلى ترك ذي المقدمة لكان عاصياً بنظر العقل واستحقّ العقاب على مخالفته ، لفرض أنّه خالف تكليف المولى باختياره ، فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي أنّه لا يلزم من بقاء وجوب ذي المقدمة بحاله تكليف بما لا يطاق ، لما عرفت من أنّه مقدور في هذا

__________________

(١) المعتمد في اصول الفقه ١ : ٩٤.

٢٧٩

الحال ، وعليه فلا موجب للانقلاب أصلاً. والحاصل : أنّ ترخيص المولى بترك المقدمة معناه أنّه لا يعاقب عليه ، لا أنّه لا يعاقب على ترك ذيها بعد تمكن المكلف من الاتيان بمقدماته.

الثاني : ما عن المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره (١) من أنّ الأوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات تدلنا على إيجاب المقدمة حين إرادة ذيها مثل قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(٢) وقوله عليه‌السلام « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (٣) وما شاكل ذلك ، ومن الواضح أنّه لا بدّ من أن يكون لهذه الأوامر ملاك ، وهو لا يخلو من أن يكون غير ملاك الواجب النفسي أو يكون هو المقدمية ، فعلى الأوّل يلزم أن تكون تلك الأوامر أوامر نفسية وهو خلاف الفرض ، فإذن يتعين الثاني ، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى : أنّه لا خصوصية لهذه الموارد التي وردت فيها تلك الأوامر ، فإذن بطبيعة الحال يتعدى منها إلى غيرها ونقول بوجوب المقدمة مطلقاً.

ولنأخذ بالنقد عليه : وهو أنّ الأوامر المزبورة مفادها إرشاد إلى شرطية شيء دون الوجوب المولوي الغيري ، ويدلنا على ذلك أمران : الأوّل : أنّ المتفاهم العرفي من أمثال تلك الأوامر هو الارشاد دون المولوية. الثاني : ورود مثل هذه الأوامر في أجزاء العبادات كالصلاة ونحوها والمعاملات ، ومن الطبيعي أنّ مفادها هو الارشاد إلى الجزئية لا الوجوب المولوي الغيري ، كيف حيث قد تقدّم أنّ الجزء لا يقبل الوجوب الغيري.

__________________

(١) كفاية الاصول : ١٢٦.

(٢) المائدة ٥ : ٦.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / أبواب النجاسات ب ٨ ح ٢.

٢٨٠