محاضرات في أصول الفقه

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7336-13-6
الصفحات: ٥٢٧

الأمر بالأهم يقتضي هدمه ورفعه. ومن الواضح جداً أنّا لا نعقل لزوم طلب الجمع بينهما فيما عدا هاتين الصورتين ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : أنّ مفروض كلامنا هاهنا ليس من قبيل الصورة الاولى كما هو ظاهر ، ولا من قبيل الصورة الثانية ، لما عرفت من أنّ ترك الأهم بما أنّه مأخوذ في موضوع الأمر بالمهم ، فيستحيل أن يقتضي وجوده ، ففرض اقتضائه وجوده وتحققه ، فرض عدم كونه مأخوذاً في موضوعه ، وهذا خلف.

فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين : هي عدم لزوم طلب الجمع في مفروض الكلام.

وأمّا التنافي بين الأمرين باعتبار مبدئهما : فهو أيضاً غير متحقق ، بداهة أنّه لا تنافي ولا تزاحم بين تحقق ملاك في الواجب المهم على تقدير ترك الواجب الأهم وعصيانه ، وتحقق ملاك في الواجب الأهم على وجه الاطلاق ، بل لا تنافي بين الملاكين فيما إذا كان ثبوته في المهم أيضاً على وجه الاطلاق مع قطع النظر عن تأثيرهما في جعل الحكم فعلاً.

ومن هنا يظهر أنّه لا تنافي بين إرادة المهم على تقدير عدم امتثال الأهم ، وإرادة الأهم على نحو الاطلاق.

والنكتة في جميع ذلك : هي أنّ التزاحم بين هذه الامور جميعاً إنّما نشأ من مبدأ واحد وهو عدم قدرة المكلف على الجمع بين الضدّين في مقام الامتثال. ومن المعلوم أنّ التنافي إنّما هو فيما إذا كان كل منهما مراداً للمولى ومطلوباً له في عرض الآخر ، وأمّا إذا كانت مطلوبية أحدهما مقيدة بعدم الاتيان بالآخر ، فلا تنافي بين طلبيهما في زمان واحد ، ولا بين إرادتيهما ، لتمكن المكلف عندئذ من الاتيان بالأهم والاتيان بالمهم على تقدير ترك الأهم عقلاً وشرعاً.

فالقائل باستحالة الترتب إنّما قال بها من جهة غفلته عن هذه النكتة ،

٤٢١

وتخيله أنّ فعلية طلب المهم وفعلية طلب الأهم في زمان واحد تستلزمان طلب الجمع بينهما ، إذ المفروض أنّ كل واحد منهما في هذا الزمان يقتضي إيجاد متعلقه في الخارج ، وهذا معنى طلب الجمع ، ولكنّه غفل عن أنّ مجرد فعلية اقتضائهما لذلك لا يستلزم طلب الجمع ، وإنّما يستلزم ذلك فيما إذا كان اقتضاء كل منهما على وجه الاطلاق وفي عرض الآخر ، وأمّا إذا كان اقتضاء طلب المهم مقيداً بترك الأهم من دون اقتضائه لتركه ، فلا يستلزم طلب الجمع بل مقتضاهما التفريق في مقام الامتثال كما عرفت.

وخلاصة ما ذكرناه في المقام : بعد تحليل مسألة الترتب تحليلاً علمياً عميقاً ، هو أنّ المانع من طلب الضدّين معاً ليس إلاّعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ومن الواضح أنّ ذلك المانع إنّما هو فيما إذا كان طلبهما في عرض واحد وعلى وجه الاطلاق. وأمّا إذا كان طلب أحدهما مقيّداً بترك الآخر من دون تعرضه لحال تركه أصلاً ـ كما هو المفروض ـ فلا مانع عندئذ أصلاً ، لفرض أنّ المكلف قادر على الاتيان بالأهم ، وعلى الاتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم ، والجمع بينهما غير مطلوب على الفرض ، إذن لا مانع من تعلّق الطلبين بهما على هذا النحو والتقدير ، ولا يلزم منه طلب المحال. والغفلة عن هذه النقطة الأساسية أوجبت تخيل أنّ تعلّق الأمرين بالضدّين في زمان واحد مستحيل ولو كان على نحو الترتب.

أو فقل : إنّ منشأ استحالة طلب الجمع بين الضدّين هو أنّ القدرة الواحدة لا تفي للجمع بينهما في زمان واحد ، وأمّا إذا كان طلب أحدهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر ، فالقدرة الواحدة تفي بهما ، ضرورة أنّه مع إعمال القدرة في فعل الأهم وصرفها في امتثاله ، لا أمر بالمهم أصلاً ، لعدم تحقق شرطه ، وأمّا مع عدم إعمالها فيه فلا مانع من إعمالها في فعل المهم ، ولا مانع عندئذ من فعلية أمره مع

٤٢٢

فعلية الأمر بالأهم ، ولا يلزم من فعلية كلا الأمرين في زمان واحد طلب المحال وغير المقدور أصلاً.

ونظير ما ذكرناه من الترتب موجود في الامور التكوينية أيضاً ، وهو ما إذا كان هناك مقتضيان أحدهما يقتضي تحريك جسم عن مكان ، والآخر يقتضي بياضه على تقدير حصوله في ذلك المكان ، من دون نظر له إلى حال هذا التقدير واقتضائه حصوله فيه أصلاً ، أو كما إذا كان مقتضٍ يقتضي وجود رمّانة مثلاً في يد أحد ، ولكنّه على تقدير وقوعه من يده في الخارج كان مقتضٍ آخر يقتضي وجودها في يد شخص آخر ، فالمقتضي لأخذه موجود ـ على تقدير سقوطه من يد الأوّل ـ دون أن يكون فيه اقتضاء لسقوطه ، ونحو ذلك ، فكما لا تعقل المزاحمة بين المقتضيين التكوينيين في هذين المثالين وما شاكلهما ، فكذلك لاتعقل المزاحمة بين المقتضيين التشريعيين في محلّ البحث.

والسرّ في ذلك ليس إلاّما ذكرناه من النقطة الأساسية. هذا تمام الكلام في الدليل اللمي.

نتائج الجهات المتقدمة :

نتيجة الجهة الاولى هي : أنّ عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه في الآن الأوّل ، غير كافٍ لفعلية الأمر بالمهم على الاطلاق ، وإلى آخر أزمنة امتثاله ، بل فعليته مشروطة في كل آن وزمن بعصيانه في ذلك الآن والزمن ، فلو كان عصيانه في الآن الأوّل كافياً لفعلية أمره مطلقاً ، لزم محذور طلب الجمع بين الضدّين في الآن الثاني والثالث وهكذا ، كما سبق.

ونتيجة الجهة الثانية هي : أنّ القول بالترتب لا يتوقف عى القول باستحالة الواجب المعلّق والشرط المتأخر ، فانّ ملاك إمكان الترتب واستحالته غير ملاك إمكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر واستحالتهما ، هذا من ناحية.

٤٢٣

ومن ناحية اخرى : أنّ زمان فعلية الأمر بالأهم وزمان امتثاله وزمان عصيانه واحد ، كما أنّ زمان فعليته وزمان فعلية الأمر بالمهم واحد ، وليس الأمر بالأهم ساقطاً في زمان فعلية الأمر بالمهم ، بأن حدث الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم ، فان ذلك خارج عن محلّ الكلام في المقام ، ولا اشكال في جوازه. وما هو محلّ الكلام هو ما إذا كان كلا الأمرين فعلياً كما تقدّم.

ونتيجة الجهة الثالثة هي : أنّ انحفاظ الأمر بالأهم في زمان الأمر بالمهم ـ وهو زمان عصيان الأمر بالأهم ـ بالاطلاق على وجهة نظرنا ، ومن جهة اقتضاء الأمر لهدم هذا التقدير على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره وعلى كل منهما لا يلزم من انحفاظه في ذلك الزمان طلب الجمع بين الضدّين ، فانّ ملاك طلب الجمع إنّما هو إطلاق الخطابين وكون كل منهما في عرض الآخر ، لا ترتب أحدهما على عصيان الآخر ، فانّه يناقض طلب الجمع وينافيه ، كما تقدّم بشكل واضح.

ونتيجة الجهة الرابعة هي : أنّ خطاب المهم ـ بما أنّه مشروط بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه ـ لا نظر له إلى عصيانه رفعاً ووضعاً ، لما عرفت من أنّ الحكم يستحيل أن يقتضي وجود موضوعه أو عدمه ، وخطاب الأهم بما أنّه محفوظ في هذا الحال فهو يقتضي هدم عصيانه ورفعه ، باعتبار اقتضائه إيجاد متعلقه في الخارج ، ومن الواضح أنّ الجمع بين ما لا اقتضاء فيه وما فيه الاقتضاء لا يستلزم طلب الجمع ، بل هو في طرف النقيض مع طلب الجمع ، ولذا لو تمكن المكلف من الاتيان بهما في الخارج فلا يقعان على صفة المطلوبية ، بل الواقع على هذه الصفة خصوص الأهم دون المهم ، والمفروض أنّ المكلف قادر على الاتيان بالمهم في ظرف ترك الأهم ، فإذا كان قادراً فلا مانع من تعلّق التكليف به على هذا التقدير ، فانّ المانع عن طلب الجمع هو عدم القدرة ، وحيث لم يكن المطلوب هو الجمع فلا مانع أصلاً.

٤٢٤

وعلى ضوء هذه النتائج تترتب نتيجة حتمية ، وهي إمكان الترتب ، وأ نّه لا مناص من الالتزام به ، بل نقول : إنّ من انضمام تلك النتائج بعضها مع بعضها الآخر وملاحظة المجموع بصورة موضوعية يستنتج أنّ مسألة إمكان الترتب من الواضحات الأوّلية ، وأ نّها غير قابلة للانكار ، بحيث إنّ تصوّرها ـ بعد ملاحظة ما ذكرناه ـ يلازم تصديقها كما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّ ما ذكرناه من إمكان تعلّق الأمر بالضدّين على نحو الترتب وعدم لزوم طلب الجمع بينهما فيما إذا كان خطاب المهم مشروطاً بعصيان خطاب الأهم وترك متعلقه ، إنّما هو من جهة أنّ هذا التقييد هادم لموضوع طلب الجمع ومناقض له ، لا من جهة أنّ العصيان أمر اختياري وتعليق طلب الجمع على أمر اختياري لا مانع منه ، بداهة أنّ طلب الجمع محال مطلقاً ولو كان معلّقاً على أمر يمكن رفعه ، وعدم إيجاده في الخارج ، فلا فرق في استحالة طلب إيجاد الضدّين معاً أو النقيضين بين أن يكون مطلقاً ، وأن يكون معلّقاً على أمر اختياري ، كأن يقول الآمر إذا صعدت السطح مثلاً ، فاجمع بين الضدّين أو النقيضين ، أو إذا سافرت فاجمع بينهما إلى غير ذلك ، فانّ استحالة طلب المحال وقبحه ـ ولو مشروطاً بشرط يكون وجوده وعدمه تحت اختيار المكلف ـ من الضروريات الأوّلية.

وأمّا ما نسب إلى السيد العلاّمة الميرزا الكبير الشيرازي قدس‌سره من أنّه اعترف بأنّ الترتب وإن استلزم طلب الجمع ، إلاّ أنّه لا محذور فيه بعد ما كان عصيان الأهم الذي هو مأخوذ في موضوع المهم تحت اختيار المكلف ، لتمكنه من الفرار عن هذا المحذور بترك العصيان والاتيان بالأهم ، فلا يخلو ما في هذه النسبة ، ضرورة أنّ صدور مثل هذا الكلام عنه قدس‌سره في غاية البعد ، فانّه من عمدة مؤسسي الترتب في الجملة ، فكيف يعترف بهذا المحذور.

٤٢٥

ومن هنا قال شيخنا الاستاذ قدس‌سره إنّ هذه النسبة ليست مطابقة للواقع ، بل يستحيل صدور ذلك منه قدس‌سره ولعلّه تعرّض لمناسبة أنّ العصيان أمر اختياري فتوهم المتوهم منه أنّه أراد به تصحيح الترتب (١). والأمر كما أفاده قدس‌سره.

هذا تمام كلامنا في أدلة الترتب.

بقي هنا شيء تعرّض له شيخنا الاستاذ قدس‌سره لتوضيح محل البحث في المقام ولا بأس بعطف الكلام عليه.

فنقول : قد ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره (٢) أنّ الأمرين المتعلقين بفعلين إذا كان أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً على قسمين :

الأوّل : أن لا يكون أحد الخطابين المجتمعين في الزمان ناظراً إلى رفع موضوع الخطاب الآخر وهدمه.

الثاني : أن يكون أحدهما ناظراً إلى رفع موضوع الآخر.

أمّا القسم الأوّل : فالشرط الذي يترتب عليه الخطاب والأمر لا يخلو من أن يكون اختيارياً كالسفر والحضر وقصد الاقامة وما شاكل ذلك ، وأن يكون غير اختياري كزوال الشمس وغروبها وكسوفها وخسوف القمر وما يشبهها ، وعلى كلا التقديرين فعند تحقق الشرط يصير كلا الخطابين فعلياً ، وحينئذ فان كان كل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بمتعلق الآخر ، أو كان أحدهما مشروطاً بذلك دون الآخر ، فلا شبهة في استحالة وقوع متعلقيهما في الخارج على صفة المطلوبية ، وتعلّق الطلب بالجمع بينهما ، وذلك على ضوء ما بيّناه من أنّ اجتماع

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٧٣ وما بعدها.

٤٢٦

الأمرين كذلك لا يرجع إلى طلب الجمع بل يناقضه.

وأمّا إذا كانا مطلقين من هذه الناحية ، فعندئذ إن لم يكن بين متعلقيهما تضاد في الوجود الخارجي ، وتمكن المكلف من إيقاعهما في الخارج وإيجادهما فيه ، فلا إشكال في وجوبه. وأمّا إن كانت بينهما مضادة في عالم الوجود فيدخلان في كبرى باب التزاحم وتجري عليهما أحكامه من تقييد إطلاق كل واحد منهما بعدم الاتيان بالآخر إذا لم يكن في البين أهم ، وإلاّ يتعين تقييد إطلاق خطاب المهم بعدم الاتيان بالأهم دون العكس ، ولا يلزم فيه محذور طلب الجمع ونحوه كما سبق.

ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الشرط المزبور اختيارياً أو غير اختياري ، وذلك لما عرفت من أنّ الحكم لا يقتضي وجود شرطه في الخارج. إذن كونه اختيارياً لا أثر له من هذه الناحية.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان أحد الخطابين ناظراً إلى رفع موضوع الخطاب الآخر ، فهو على نحوين :

أحدهما : ما إذا كان أحد الخطابين رافعاً لموضوع الخطاب الآخر بامتثاله وإتيانه في الخارج.

ثانيهما : ما إذا كان رافعاً له بصرف وجوده وتحققه في الخارج.

أمّا النحو الأوّل : فهو من محل الكلام هنا جوازاً وامتناعاً ، باعتبار أنّ توجه خطابين كذلك إلى شخص واحد في زمان واحد هل يستلزم طلب الجمع بين متعلقيهما في الخارج كما تخيله المنكرون للترتب ، أو لا يستلزم ذلك كما هو الصحيح؟ وقد تقدّم الكلام في هذا النحو من الخطابين ضمن عدّة من الفروعات الفقهية بصورة مفصّلة ، فلا حاجة إلى الاعادة.

وأمّا النحو الثاني : وهو ما إذا كان الخطاب بصرف وجوده رافعاً لموضوع

٤٢٧

الآخر ، فهو خارج عن محل البحث والكلام ، وذلك لامتناع اجتماع الخطابين حينئذ في زمان واحد ، إذ المفروض أنّه بمجرد تحقق أحد الخطابين يرتفع الخطاب الآخر بارتفاع موضوعه ، فلا يمكن فرض اجتماعهما في زمان واحد ، بداهة أنّ فعلية الحكم تتوقف على فعلية موضوعه ، ومن الواضح أنّها مستحيلة في فرض وجود الرافع لموضوعه ، فيكون المقام نظير الأمارات القائمة في موارد الاصول ، فانّها رافعة لموضوعها ، ولا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها ، وقد عرفت أنّ محل البحث هنا هو ما إذا كان الخطابان مجتمعين في زمان واحد ، وأمّا إذا لم يكونا مجتمعين فيه ، فلا يكونان داخلين في محل البحث ، وقد ذكر قدس‌سره لذلك فروعاً كثيرة :

١ ـ مسألة الحج : ببيان أنّ موضوعها ـ وهو الاستطاعة ـ يرتفع بصرف تحقق خطاب آخر وهو الخطاب بأداء الدين مثلاً ، فانّه بمحض وجوده رافع لموضوع الخطاب بالحج ، ومعه لا يكون المكلف مستطيعاً إذا لم يكن المال الموجود عنده وافياً بأداء الدين ومصارف الحج معاً ، نعم هو وافٍ بالمصارف وحدها ، فلو لم يكن مديوناً لكان مستطيعاً وكان الحج واجباً عليه ، ولكن دينه مانع عن وجوبه ورافع لموضوعه ، وعليه فلو لم يؤدّ دينه وعصى أمره وحج ، فلا يكون حجه من حجة الاسلام ، ولا يكون مجزئاً ، لعدم جريان الترتب في ذلك.

وعلى الجملة : فهذا خارج عن محل الكلام في المقام ، لعدم امكان اجتماع الخطاب بأداء الدين والخطاب بالحج في زمان واحد ، ففي زمان تحقق الخطاب بأداء الدين يرتفع موضوع الخطاب بالحج ، والمفروض أنّ الخطاب بأداء الدين في زمان عصيانه وترك متعلقه أيضاً موجود ، لما سبق مفصّلاً من أنّ التكليف ثابت في حال عصيانه أيضاً. وعلى هذا فلا يمكن فرض وجود الخطاب بالحج

٤٢٨

مترتباً على عصيان الأمر بأداء الدين. هذا بناءً على ما هو المعروف من تفسير الاستطاعة بالتمكن من أداء فريضة الحج عقلاً وشرعاً.

وأمّا بناءً على تفسيرها بالتمكن من الزاد والراحلة وأمن الطريق كما في الرواية (١) ـ وهو الصحيح ـ فالتكليفان متزاحمان ولا مانع من اجتماعهما على نحو الترتب ، فانّه عند عصيان الأمر بأداء الدين متمكن من الزاد والراحلة ، وعندئذ فلا مانع من وجوب الحج عليه ، بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه.

٢ ـ إنّ الخطاب باخراج الخمس في بعض الموارد بصرف وجوده وتحققه رافع لموضوع وجوب الزكاة ومانع عنه ، وذلك كما إذا فرضنا أنّ شخصاً ملك عشرين شاة في أوّل محرّم مثلاً ، ثمّ ملك عشرين شاة اخرى في آخره ، فإذا مضى على الطائفة الاولى حول كامل تعلّق الخطاب باخراج الخمس منها ، وهو أربع من تلك الشياه. ومن المعلوم أنّ هذا الخطاب بصرف وجوده مانع عن وجوب الزكاة ورافع لموضوعه وهو بلوغها حدّ النصاب ـ أعني به أربعين شاة ـ فان هذه الأربعة عندئذ صارت ملكاً للإمام عليه‌السلام والسادة ، فلم يبق في ملك المالك إلاّست وثلاثون شاة ، وهي غير بالغة حدّ النصاب الذي هو موضوع لوجوب إخراج الزكاة.

أو إذا فرضنا أنّه ملك أربعين شاة أثناء سنة التجارة من الأرباح ، فعندئذ لا محالة بمجرد إكمال سنة التجارة ، وقبل تمامية حول الزكاة تعلّق الخطاب بإخراج الخمس منها ، الموجب لخروجها عن كونها ملكاً طلقاً له بمشاركة الإمام عليه‌السلام والسادة إيّاه في ذلك المال ـ أعني به الشياه ـ ومن الواضح أنّها بذلك تخرج عن موضوع وجوب الزكاة ، إذ لم يبق في ملكه الطلق بعد خروج ثمان

__________________

(١) راجع الوسائل ١١ : ٣٣ / أبواب وجوب الحج وشرائطه ب ٨.

٤٢٩

منها إلاّ اثنتان وثلاثون شاة ، وهي لا تبلغ حدّ النصاب ، ففي هذا المثال وما شاكله لا يمكن القول بالترتب ، إذ الخطاب بإخراج الخمس بصرف تحققه وفعليته مانع عن وجوب الزكاة ورافع لموضوعه ، لا بامتثاله وإتيانه في الخارج ، ليمكن الالتزام بوجوب الزكاة في ظرف عصيان الخطاب بالخمس وعدم امتثاله.

وعلى الجملة : ففعلية الخطاب باخراج الزكاة إنّما هي بفعلية موضوعه ، وهو بلوغ المال النصاب ، وهذا المال وإن كان في نفسه داخلاً في النصاب مع قطع النظر عن وجوب إخراج الخمس منه ، إلاّ أنّ وجوب ذلك مخرج له عن كونه ملكاً تاماً له بمشاركة الإمام عليه‌السلام والسادة إيّاه في ذلك المال ، فبذلك يخرج عن موضوع وجوب الزكاة. وأمّا الباقي في ملكه فليس يبلغ حدّ النصاب ، هذا بناءً على ما أفاده شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ الرافع لموضوع وجوب الزكاة في مثل هذا المورد صرف تحقق الخطاب باخراج الخمس وفعليته.

وأمّا بناءً على ما حققناه في محلّه ، فالأمر ليس كما أفاده قدس‌سره والوجه في ذلك : هو أنّ الترتب وإن كان غير جارٍ بين هذين الخطابين وما شاكلهما ، ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره بل لأجل ما ذكرناه من أنّ الرافع لموضوع وجوب الزكاة إنّما هو تعلّق الخمس بالربح ، وكون غير المالك شريكاً معه في خمس هذا المال ، وبذلك يخرج عن كونه ملكاً طلقاً له بمشاركة غيره إيّاه في ذلك ، فعندئذ يخرج عن موضوع وجوب الزكاة ، لفرض عدم بلوغ الباقي في ملكه حدّ النصاب ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى : أنّ المفروض ـ كما حقق في محلّه (١) ـ أنّ الخمس إنّما تعلّق

__________________

(١) شرح العروة ٢٥ : ٢٧٥ ذيل المسألة ٧٢ [٢٩٤٨].

٤٣٠

بالربح من حين وجوده ، ولا يتوقف تعلقه به على إكمال سنة التجارة ، غاية الأمر أنّ الشارع قد رخّص المالك في التصرف في الأرباح إلى حين إكمال السنة ، وهذا مجرد ترخيص في التصرف من قبل الشارع في المال المشترك بينه وبين غيره ، فلا ينافي كون خمسها ملكاً للغير.

فالنتيجة على ضوء هاتين الجهتين : هي أنّ موضوع وجوب الزكاة يرتفع من حين تعلّق الخمس بها ، وهو أوّل زمان تحققها وحصولها في الخارج ، سواء أتحقق الخطاب باخراج الخمس في ذلك الزمان أم لم يتحقق ، فانّه لا دخل لتحقق الخطاب وفعليته في ذلك أبداً ، مثلاً في المثالين المتقدمين بمجرد أنّ المالك ملك أربعين شاة أثناء سنة التجارة أو عشرين شاة ، تعلّق بها الخمس الموجب لخروجها عن كونها ملكاً طلقاً له بمشاركة غيره إيّاه فيها ، فبذلك تخرج عن موضوع وجوب الزكاة ، ضرورة أنّه بعد صيرورة أربع منها في المثال الأوّل ، وثمان منها في المثال الثاني ملكاً لغير المالك ، لم يبق في ملكه ما يبلغ حدّ النصاب ، فيرتفع الموضوع من زمان حصول ذلك الربح وهو زمان ملك المالك أربعين أو عشرين شاة ، ولا يتوقف ارتفاعه على وجود الخطاب وتحققه أصلاً ، بداهة أنّ الموجب لارتفاعه إنّما هو صيرورة خمس تلك الأرباح ملكاً لغير المالك ، فانّه يمنع عن بلوغها حدّ النصاب ، لا وجود الخطاب ، إذ الالزام بالاخراج إنّما يتحقق بعد مضي الحول وتمام السنة. نعم ، يستحبّ الاخراج من زمان الربح لا أنّه واجب.

٣ ـ ما إذا تعلّق الخطاب باخراج شيء زكاة ، فانّه في بعض الموارد بنفسه وبصرف وجوده مانع عن وجوب الخمس ورافع لموضوعه ، وذلك كثيراً ما يتفق في الغلات الأربع ، كما إذا ملك المكلف أثناء سنة التجارة من الغلاّت مقداراً يبلغ حدّ النصاب فوجب عليه إخراج زكاته ، وهي مقدار عشر هذا

٤٣١

المال مثلاً ، فيخرج بذلك هذا العشر عن فاضل المؤونة الذي هو موضوع وجوب الخمس.

أو فقل : إنّ تعلّق الخطاب باخراج الزكاة عن ذلك المال يخرجه عن كونه ملكاً طلقاً له بمشاركة الفقير إيّاه في عشر ذلك ، وعليه فلا يكون عشره من فاضل مؤونته ليتعلق به الخمس. ولا يفرق في عدم تعلّق الخمس به بين أن يخرجه ويعطي للفقير أم لا ، فلا يمكن اجتماع هذين الخطابين في زمان واحد ليمكن تصحيح وجوب الخمس بالترتب. هذا بناءً على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

وأمّا بناءً على وجهة نظرنا فقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الرافع للموضوع في أمثال هذا المورد ليس الخطاب بصرف وجوده وتحققه ، بل الرافع له هنا هو نفس تعلّق الزكاة بعين هذا المال الموجب لخروجه عن كونه ملكاً تاماً له بمشاركة الفقير إيّاه في ذلك المال ، فبذلك يخرج عشره عن فاضل المؤونة من جهة أنّه صار ملكاً لغيره ، ومن الواضح جداً أنّه لا دخل في ذلك لوجود الخطاب باخراج الزكاة وعدم وجوده أصلاً ، وهذا بمكان من الوضوح.

٤ ـ ما إذا كان المكلف مديوناً بدين صرفه في مؤونة سنته ، فالخطاب بأدائه بصرف تحققه وفي نفسه يخرج ربح هذه السنة عن عنوان فاضل المؤونة إن كان دينه مستوعباً لتمام الربح ، كما إذا كان مائة دينار وربحه أيضاً كذلك ، وإن لم يكن مستوعباً لتمامه كما إذا كان دينه خمسين ديناراً وربحه في تلك السنة مائة دينار ، فيخرج عن الربح بمقدار الدين عن فاضل المؤونة ، فلا يتعلق به الخمس دون الزائد ، وعلى هذا لو عصى الأمر بأداء الدين ولم يؤدّ دينه فلا يجب عليه إخراج الخمس عنه بمقدار دينه ، هذا بناءً على مسلك شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

٤٣٢

والصحيح أنّ الرافع لموضوع وجوب الخمس هنا إنّما هو نفس وجوب الدين ، إذ معه لا يتحقق له في هذه السنة ربح ليتعلق به الخمس ، لا الخطاب بأدائه ، فانّه لا دخل له في ذلك أصلاً ، ولذا لو فرض أنّه لم يكن خطاب بأدائه لمانع من الموانع لم يتعلق به الخمس أيضاً ، لعدم الموضوع له ، وهو الفاضل عن مؤونة السنة. هذا إذا كان دينه من جهة الصرف في المؤونة. وأمّا إذا كان دينه من غير تلك الجهة ، كما إذا كان من ناحية الضمان أو نحوه ، فهل هو أيضاً رافع لموضوع وجوب الخمس أم لا ، ففيه كلام وإشكال ، وتمام الكلام في باب الخمس (١) إن شاء الله تعالى.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه : أنّ هذه الفروعات وما شاكلها جميعاً خارجة عن محل الكلام في المسألة ، ولا يجري الترتب في شيء منها ، ولكن لا من ناحية ما ذكره شيخنا الاستاذ قدس‌سره من أنّ عدم جريانه من جهة أنّ أحد الخطابين رافع لموضوع الخطاب الآخر بصرف وجوده وتحققه ، فلا يمكن اجتماعهما في زمان واحد ، بل لما ذكرناه من أنّ الرافع له شيء آخر ، وهو المانع عن اجتماعهما في زمان واحد ، ولا دخل لوجود الخطاب وعدمه في ذلك أبداً.

نعم ، ما ذكره قدس‌سره بالاضافة إلى الأمارات وأ نّها رافعة لموضوع الاصول وأ نّه لا يبقى مجال لجريانها بعد ورودها صحيح ، بل لا يختص هذا بالأمارات والاصول ، فيعم جميع موارد الحكومة والورود ، إذ لا يبقى موضوع لدليل المحكوم والمورود بعد ورود دليل الحاكم والوارد ، ولكن قياس هذه الفروعات بتلك الموارد قياس مع الفارق.

ونتائج أبحاث الترتب إلى هنا عدّة نقاط :

__________________

(١) شرح العروة ٢٥ : ٢٦٩ ذيل المسألة ٧١ [٢٩٤٧].

٤٣٣

الاولى : أنّ البحث عن الترتب إنّما يكون ذا ثمرة إذا لم يمكن تصحيح العبادة المزاحمة لواجب أهم بالأمر ولا بالملاك ، وإلاّ فلا تترتب على البحث عنه ثمرة كما عرفت.

الثانية : أنّ البحث عن هذه المسألة بحث عقلي لا يرتبط بعالم اللفظ أبداً.

الثالثة : أنّ ما كان محلاً للبحث هو ما إذا كان الواجبان المتزاحمان مضيّقين ، أحدهما أهم من الآخر ، وأمّا إذا كانا موسّعين ، أو كان أحدهما موسّعاً والآخر مضيّقاً ، فقد سبق أنّ هاتين الصورتين خارجتان عن محل البحث والكلام.

نعم ، ذكر شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ الصورة الأخيرة داخلة في محل الكلام. ولكن قد عرفت أنّ ما ذكره إنّما يتم على مسلكه قدس‌سره لا مطلقاً ، كما تقدّم تفصيلاً.

الرابعة : أنّ إمكان الترتب كافٍ لوقوعه فلا يحتاج وقوعه إلى دليل ، فالبحث فيه متمحض في جهة إمكانه.

الخامسة : أنّ الترتب لا يجري في أجزاء واجب واحد وشرائطه ، فإذا دار الأمر بين القيام في الركعة الاولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية مثلاً فلا يجري الترتب فيه ، لعدم كونهما من المتزاحمين ليترتب عليهما أحكامهما ومنها الترتب. نعم ، ذكر جماعة منهم شيخنا الاستاذ قدس‌سره أنّ التزاحم يجري بينهما كما يجري بين واجبين نفسيين ، ولكن قد عرفت فساد ذلك.

السادسة : أنّه لا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على نحو الترتب على إحراز الملاك فيه ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث قد أنكر جريانه فيما لم يحرز كونه واجداً للملاك ، وقلنا إنّ الترتب لا يتوقف على ذلك ، والأصل فيه ما تقدّم من أنّه لا يمكن إحراز الملاك في شيء مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به ، من دون فرق في ذلك بين اعتبار القدرة في موضوع التكليف عقلاً أو شرعاً.

٤٣٤

السابعة : أنّه لا فرق في جريان الترتب بين ما إذا كانت القدرة معتبرة في موضوع التكليف بالمهم عقلاً ، وما إذا كانت معتبرة فيه شرعاً كما في الوضوء ، خلافاً لشيخنا الاستاذ قدس‌سره حيث منع عن جريان الترتب في الثاني بدعوى أنّ نفس التكليف بالأهم رافع لموضوع وجوب الوضوء لا امتثاله ، ولكن قد عرفت فساده ، وأنّ نفس التكليف بالأهم لا يكون رافعاً لموضوعه ، لفرض أنّ التصرف في الماء الموجود عنده مباح وليس بحرام ، غاية الأمر يجب صرفه في واجب أهم كحفظ النفس المحترمة أو نحوه ، ولكن المكلف عصى ولم يصرفه فيه. إذن يكون المكلف واجداً للماء ولا مانع من صرفه في الوضوء لا عقلاً كما هو واضح ، ولا شرعاً لأنّ التصرّف في هذا الماء مباح له على الفرض ، والعصيان إنّما هو من جهة ترك ذلك الواجب ، لا من جهة التصرف فيه ، وعليه فعلى القول بامكان الترتب لا مانع من الالتزام به في مثل المقام. نعم ، لو كان التصرف في الماء في نفسه حراماً فلا يمكن تصحيح الوضوء بالترتب ، لأنّ نفس الحرمة رافعة لموضوع وجوبه لا امتثالها.

الثامنة : أنّ ما دلّ على إمكان الترتب امور ثلاثة : الوجدان ، الدليل الإنّي الدليل اللمي.

التاسعة : أنّ الترتب قد وقع في عدّة من الفروعات الفقهية ولا مناص من الالتزام به في تلك الفروعات ، كما تقدّمت جملة منها فلاحظها.

العاشرة : أنّ الواجب الأهم إذا كان آنيّاً غير قابل للدوام والبقاء ، وكان الواجب المهم تدريجياً قابلاً لذلك ، فلا يتوقف ثبوت الأمر بالمهم على القول بامكان الترتب ، ولذا قلنا إنّ هذا الفرض خارج عن محل الكلام ، فان ما كان محلاً للكلام هو ما إذا لم يمكن إثبات الأمر بالمهم مع قطع النظر عن القول بالترتب.

٤٣٥

الحادية عشرة : أنّ محل الكلام هو ما إذا كان كل من الواجب الأهم والمهم تدريجياً أو كان كلاهما آنياً.

الثانية عشرة : أنّ شرط فعلية الأمر بالمهم هو عصيان الأمر بالأهم مستمراً إلى آخر أزمنة امتثال الأمر بالمهم على نحو الشرط المتأخر ، لا صرف وجود عصيانه في الآن الأوّل ، وإن تبدل بالاطاعة في الآن الثاني ، فانّ هذا لا يدفع محذور طلب الجمع بين الضدّين في الآن الثاني والثالث كما تقدّم.

الثالثة عشرة : أنّ زمان المعتبر والمجعول ـ وهو زمان فعلية الحكم بفعلية موضوعه ـ دائماً متحد مع زمان الواجب ، وهو زمان عصيانه وامتثاله ، بناءً على القول باستحالة الواجب المعلّق والشرط المتأخر ، وأمّا بناءً على القول بامكانهما ـ كما هو الصحيح ـ فلا مانع من أن يكون زمان المعتبر مقدّماً على زمان الواجب كما سبق.

الرابعة عشرة : أنّه لا فرق في القول بامكان الترتب واستحالته بين القول بامكان الواجب المعلّق والشرط المتأخر والقول باستحالتهما ، فان ملاك الامكان والاستحالة في الترتب شيء وهناك شيء آخر كما عرفت.

الخامسة عشرة : أنّ الأمر بالأهم ثابت حال عصيانه وامتثاله ، كما أنّه ثابت حال الأمر بالمهم على ما تقدّم.

السادسة عشرة : أنّ ثبوت الأمر بالأهم في حالي عصيانه وامتثاله إنّما هو بالاطلاق على وجهة نظرنا ومن جهة ثبوت المؤثر حال تأثيره على وجهة نظر شيخنا الاستاذ قدس‌سره.

السابعة عشرة : أنّ اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد لايستلزم طلب الجمع ، بل هو يناقضه ويعانده بملاك تقييد مطلوبية المهم بترك الأهم ،

٤٣٦

وقد تقدّم أنّ اقتضاء اجتماع الأمرين للجمع بين متعلقيهما في الخارج يتصور في صور ، وما نحن فيه ليس بشيء منها.

الثامنة عشرة : أنّ النقطة التي ينطلق منها إمكان الترتب بل ضرورته هي أنّه لا تنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم في ذاتهما ، مع قطع النظر عن اقتضائهما للاتيان بمتعلقيهما ، فالمنافاة إنّما هي بين متعلقيهما من ناحية عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما ، ومن الواضح أنّ هذه المنافاة ترتفع بتقييد فعلية الأمر بالمهم بترك الأهم وعصيان أمره ، مع عدم اقتضائه لعصيانه وتركه ، لما عرفت من استحالة اقتضاء الحكم لوجود موضوعه في الخارج ، وعلى ضوء ذلك فلا منافاة بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم أصلاً ، لا بالذات كما عرفت ، ولا باعتبار اقتضائهما لمتعلقيهما ، فان متعلق الأمر بالأهم مطلوب على الاطلاق وليس في عرضه مطلوب آخر ليزاحمه ، وعلى تقدير تركه وعدم الاتيان به فالمهم حينئذ مطلوب ، والمفروض أنّه في هذا الظرف مقدور للمكلف عقلاً وشرعاً ، فإذا كان كذلك فلا مانع من تعلّق الأمر به ، وليس فيه تكليف بالمحال والجمع أبداً ، ومجرد ثبوت الأمر بالأهم في هذا الحال لا ينافيه لا ذاتاً ولا اقتضاءً ، ولعلّ المنكرين للترتب لم ينظروا إلى هذه النقطة نظرة عميقة صحيحة ، بل نظروا إليها نظرة سطحية ، وتخيّلوا أنّ اجتماع الأمر بالأهم والأمر بالمهم في زمان واحد غير معقول. وكيف ما كان فامكان الترتب على ضوء بياننا هذا قد أصبح أمراً ضرورياً ، فلا مناص من الالتزام به أصلاً.

التاسعة عشرة : أنّه لا تنافي ولا تزاحم بين الملاك القائم بالمهم في ظرف ترك الأهم وعصيان أمره ، والملاك القائم بالأهم على وجه الاطلاق ، كما أنّه لا تنافي بين إرادة المهم في هذا الظرف وإرادة الأهم على الاطلاق كما عرفت.

العشرون : أنّ الخطاب الناظر إلى موضوع خطاب آخر على قسمين :

٤٣٧

أحدهما : ما كان رافعاً لموضوعه بصرف وجوده وتحققه ، وقد مثّل شيخنا الاستاذ قدس‌سره لذلك بفروع كثيرة ، ولكن قد عرفت أنّ الرافع للموضوع في تلك الفروعات ليس هو صرف وجود الخطاب ، بل الرافع له شيء آخر كما عرفت.

وثانيهما : ما كان رافعاً له بامتثاله والاتيان بمتعلقه ، وقد تقدّم أنّ القسم الأوّل خارج عن محل الكلام ، ولا يمكن فيه فرض الترتب ، والقسم الثاني داخل فيه.

٤٣٨

أدلّة استحالة الترتّب ونقدها

الأوّل : ما أفاده المحقق صاحب الكفاية قدس‌سره وإليك نصّه :

قلت : ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آتٍ في طلبهما كذلك ، فانّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما ، إلاّ أنّه كان في مرتبة الأمر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعلية الأمر بالأهم في هذه المرتبة وعدم سقوطه بعدُ بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص ، أو العزم عليها مع فعلية الأمر بغيره أيضاً ، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضاً.

لا يقال : نعم ، لكنّه بسوء اختيار المكلف حيث يعصي فيما بعدُ بالاختيار ، فلولاه لما كان متوجهاً إليه إلاّ الطلب بالأهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار.

فانّه يقال : استحالة طلب الضدّين ليست إلاّلأجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته لا تختص بحال دون حال ، وإلاّ لصحّ فيما علّق على أمر اختياري في عرض واحد بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب ، مع أنّه محال بلا ريب ولا إشكال.

إن قلت : فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك ، فانّ الطلب في كل منهما في الأوّل يطارد الآخر ، بخلافه في الثاني فانّ الطلب بغير الأهم لا يطارد طلب الأهم ، فانّه يكون على تقدير عدم الاتيان بالأهم ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه وعدم عصيان أمره.

٤٣٩

قلت : ليت شعري كيف لا يطارده الأمر بغير الأهم ، وهل يكون طرده له إلاّ من جهة فعليته ومضادّة متعلقه له (١). وعدم إرادة غير الأهم على تقدير الاتيان به لا يوجب عدم طرده ، لطلبه مع تحققه على تقدير عدم الاتيان به وعصيان أمره ، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير مع ما هما عليه من المطاردة من جهة المضادة بين المتعلقين ، مع أنّه يكفي الطرد من طرف الأمر بالأهم ، فانّه على هذا الحال يكون طارداً لطلب الضد ـ كما كان في غير هذا الحال ـ فلا يكون له معه أصلاً بمجال (٢).

أقول : ملخص ما أفاده قدس‌سره هو أنّ اجتماع الأمر بالمهم والأمر بالأهم في زمان واحد كما هو المفروض في محل الكلام ، يقتضي الجمع بينهما في ذلك الزمان ، لما عرفت من أنّ نسبة الحكم إلى متعلقه نسبة المقتضي إلى مقتضاه في الخارج ، وعلى هذا فكما أنّ الأمر بالأهم يقتضي ايجاد متعلقه في الزمان المزبور ، فكذلك الأمر بالمهم يقتضي إيجاده فيه ، لفرض كونه فعلياً في ذلك الزمان ، إذ لا معنى لفعلية الأمر في زمان إلاّ اقتضاءه إيجاد متعلقه فيه خارجاً ودعوته إليه فعلاً ، وعلى هذا فلا محالة يلزم من اجتماعهما في زمان واحد المطاردة بينهما في ذلك الزمان من جهة مضادة متعلقيهما في الوجود ، مع أنّ الأمر بالمهم لو لم يقتض طرد الأهم فالأمر به لا محالة يقتضي طرد الأمر بالمهم ، وهذا يكفي في استحالة طلبه.

وغير خفي أنّ صدور هذا الكلام منه قدس‌سره غريب ، والوجه في ذلك : هو أنّه لا يعقل أن يكون الأمر بالمهم طارداً للأمر بالأهم ، بداهة أنّ طرده له

__________________

(١) [ في المصدر هكذا : ومضادّة متعلقه للأهم ، والمفروض فعليته ومضادّة متعلقه له ].

(٢) كفاية الاصول : ١٣٤.

٤٤٠