السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]
المحقق: الشيخ قيس العطّار
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات تاسوعاء
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-90423-5-0
الصفحات: ٦٤٠
مبغض عليّ وآل عليّ في النار ، ومحبّ عليّ وآل عليّ في الجنّة..................... ٥٩٨
الطّرفة الثالثة والثلاثون......................................................... ٦٠٣
قال عليّ عليهالسلام : غسلت رسول الله صلىاللهعليهوآله أنا وحدي وهو في قميصه ، فذهبت أنزع عنه القميص ، فقال جبرئيل : لا تجرّد أخاك من قميصه ؛ فإنّ الله لم يجرّده
............................................................................ ٦٠٣
[ قال عليّ عليهالسلام ] : فغسّلته بالروح والريحان والرحمة ، والملائكة الكرام الأبرار الأخيار ، تشير لي وتمسك ، وأكلّم ساعة بعد ساعة ، ولا أقلب منه عضوا إلاّ قلب لي
............................................................................ ٦٠٥
[ قال عليّ عليهالسلام ] : ثمّ واريته ، فسمعت صارخا يصرخ من خلفي : يا آل تيم ، ويا آل عدي ، ويا آل أميّة ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) ، اصبروا آل محمّد تؤجروا ، ولا تحزنوا فتؤزروا ، ( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) ............. ٦٠٧
ثبت مصادر التوثيقات.......................................................... ٦١١
مقدّمة المؤسسة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله المعصومين لا سيّما أوّلهم مولانا أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وخاتمهم مولانا الإمام الثاني عشر المهديّ المنتظر عجّل الله فرجه وفرجنا بظهوره ولعنة الله على أعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
إنّ مؤسّسة عاشوراء للتّحقيق والدراسات جعلت جزءا من نشاطها ـ والّذي اسندته إلى مؤسسة تاسوعاء للنشر ـ مهمّة تحقيق النّصوص ونشرها بالمستوى العلمي المطلوب واللاّئق بها ، فإنّ هذه المؤسسة بالاضافة إلى نشاطها الواسع والمستمرّ منذ سنين في مجال التّحقيق حول الموضوعات الّتي تهمّ الأمّة الاسلامية وإعداد دراسات شاملة ومستوعبة لهذه الموضوعات التي تؤول نتائجها ومنتهياتها إلى من تخصّهم ، سواء الّذين أسندوا إليها القيام بأعمال تحقيقيّة أو دراسات علميّة ، أو الّذين ترتكز الاستفادة منها عندهم وتؤتى ثمارها بأيديهم.
فبالاضافة إلى مثل هذا النشاط الواسع العميق الّذي لا يقدّر قدره إلاّ المعنيّون وذوو الاختصاص ، من افراد وجماعات ومؤسّسات ، ارتأت أن تقوم بمهمّة أخرى وهي تحقيق النصوص والكتب التي ترى أنّ الأمّة بحاجة إليها ، سواء الّذي لم ينشر
من قبل أو الّذي نشر ولكن بصورة غير لائقة.
ونحمد الله سبحانه ـ وهو وليّ الحمد ـ أن تمّ من هذا الجانب من نشاط المؤسّسة تحقيق كتاب ( طرف من الأنباء والمناقب فى شرف سيّد الأنبياء وعترته الاطائب ، وطرف من تصريحه بالوصيّة بالخلافة لعليّ ابى طالب ) للسيّد رضيّ الدين عليّ بن طاوس الحسنى الحلّي ، العلاّمة والمؤلّف الشهير ، ومن أنبغ اعلام سابع قرون الهجرة النّبويّة. قام بتحقيق الكتاب الاستاذ الشيخ قيس العطّار ؛ وقدّم له مقدّمة وافية بالتعريف بالكتاب والمؤلف ومنهج التحقيق ، نسأل له التوفيق وللمؤسّسة الهداية والتّسديد فى كافة انحاء النّشاط الّتي تقوم بها ، وأن يأخذ بأيديها إلى ما يرضيه سبحانه ويرضي أولياءه المعصومين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، إنه نعم المولى ونعم النصير.
مشهد المقدّسة
١١ / ذي القعدة / ١٤٢٠
٢٨ / ١١ / ١٣٧٨
( يوم ميلاد مولانا وحامي حمانا الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام )
( مؤسسة عاشوراء للتّحقيق والدراسات )
مقدّمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق أجمعين ، أبي القاسم محمّد صلىاللهعليهوآله ، وعلى عترته وآل بيته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
وبعد :
فإنّ أوّل خلاف برز بشكل علنيّ بين المسلمين ، هو ذلك الخلاف الّذي بدأه الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب قبيل وفاة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله والتحاقه برب العالمين ، حين طلب النبيّ صلىاللهعليهوآله من المسلمين أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا ، فاعترض عمر بن الخطّاب قائلا : « إن الرّجل ليهجر ، حسبنا كتاب الله » وافترق المسلمون الحاضرون فرقتين ، واحدة تقول بما قال عمر ، وثانية تقول بضرورة تنفيذ ما طلبه النبيّ ، فكثر الاختلاف واللّغط ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : « قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع » ، حتّى قال ابن عباس : « الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله صلىاللهعليهوآله (١) ».
وليس بالخفي أنّ بوادر الخلاف وعدم الانصياع التام لأوامر النبي صلىاللهعليهوآله كانت
__________________
(١) انظر الملل والنحل ( ج ١ ؛ ٢٩ ) وصحيح البخاري ( ج ٦ ؛ ١١ / باب مرض النبي ) وصحيح مسلم ( ج ٣ ؛ ١٢٥٩ / كتاب الوصيّة ـ الحديث ٢١ ، ٢٢ )
موجودة حتّى في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقد أرسل صلىاللهعليهوآله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة داعيا ولم يبعثه مقاتلا ، فوضع خالد السيف فيهم ؛ انتقاما لعمّه الفاكه بن المغيرة ؛ إذ كانوا قتلوه في الجاهليّة ، فبرأ رسول الله صلىاللهعليهوآله من صنعه وأرسل عليّا عليهالسلام فودى لهم الدماء والأموال (١) ، كما اعترض عمر على النبيّ صلىاللهعليهوآله في صلح الحديبيّة ، وفي وعده صلىاللهعليهوآله عن ربّه بأن يدخلوا المسجد الحرام (٢) ، وأشار على النبيّ صلىاللهعليهوآله بقتل أسارى بدر وفيهم عمّ النبيّ وبعض أرحامه (٣) ، وأمره النبيّ صلىاللهعليهوآله كما أمر الخليفة الأوّل بقتل الرجل المارق الّذي كان يصلّي فلم يطيعا النبيّ صلىاللهعليهوآله ورجعا عن قتله (٤) ، كما أنهما فرّا عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أكثر من مرّة وفي أكثر من زحف (٥) ، وكما أنّهما تخلّفا عن جيش أسامة (٦) ... إلى غير ذلك من مفردات خلاف الشيخين وصحابة آخرين لأوامر النبيّ صلىاللهعليهوآله.
ولمّا زويت الخلافة عن عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، تبدّل مسير التاريخ الإسلاميّ ، وأثّر هذا التبدّل على العقائد والفقه والتفسير والحديث وجميع العلوم الإسلاميّة ، حتّى إذا تسلّم عليّ بن أبي طالب عليهالسلام أزمّة الأمور واجهته مشاكل جمّة ، كان من أكبرها التحريفات والتبديلات الّتي أصيب بها الفكر الإسلامي ، والمسار المعوّج
__________________
(١) انظر تاريخ ابن الاثير ( ج ٢ ؛ ٢٥٥ ، ٢٥٦ )
(٢) انظر صحيح البخاري ( ج ٦ ؛ ١٧٠ ) ، صحيح مسلم ( ج ٣ ؛ ١٤١١ ) ، فتح القدير ( ج ٥ ؛ ٥٥ ) وانظر الطرائف ( ج ٢ ؛ ٤٤٠ ، ٤٤١ )
(٣) انظر صحيح مسلم ( ج ٦ ؛ ١٥٧ ) ، شرح النهج ( ج ١٤ ؛ ١٨٣ ) ، السيرة الحلبية ( ج ٢ ؛ ١٩١ )
(٤) انظر مسند أحمد ( ج ٣ ؛ ١٥ ) ، العقد الفريد ( ج ٢ ؛ ٢٤٤ ؛ ٢٤٥ )
(٥) انظر تاريخ اليعقوبي ( ج ٢ ؛ ٤٧ ) ، كشف الغمة ( ج ١ ؛ ١٩٢ ) ، شرح النهج ( ج ١٥ ؛ ٢٠ ) مغازي الواقدي ( ج ١ ؛ ٢٩٣ ) ، المستدرك للحاكم ( ج ٢ ؛ ٣٧ ) وانظر دلائل الصدق ( ج ٢ ؛ ٥٥٣ ) ونفحات الجبروت للعلاّمة المعاصر الاصطهباناتي / الجلد الأول ـ الدليل الرابع
(٦) انظر السقيفة وفدك ( ٧٤ ، ٧٥ ) ، شرح النهج ( ج ٦ ؛ ٥٢ ) ، وانظر طبقات ابن سعد ( ج ٢ ؛ ٩٠ ) و ( ج ٤ ؛ ٦٦ ) ، تاريخ اليعقوبي ( ج ٢ ؛ ١١٣ ) ، الكامل لابن الاثير ( ج ٢ ؛ ٣١٧ ) ، أنساب الأشراف ( ج ١ ؛ ٤٧٤ ) ، تهذيب تاريخ دمشق ( ج ٢ ؛ ٣٩١ ) ، أسد الغابة ( ج ١ ؛ ٦٨ ) ، تاريخ أبي الفداء ( ج ١ ؛ ١٥٦ ) ، النص والاجتهاد (٣١) ، عبد الله بن سبأ ( ج ١ ؛ ٧١ ).
الّذي رسمته السلطات الانتفاعيّة والانتهازية ، والّذي أدّى إلى شلّ الفكر القويم عند طائفة كبيرة من المسلمين.
لقد أجهدت هذه الحالة الفكريّة المشوّشة إصلاحات الإمام عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ، وأخذت منه مأخذا كبيرا ووقتا طويلا ، فأصلح عليهالسلام منها ما أصلحه وبقي قسط آخر منها مرتكزا في نفوس الناس كنتيجة سلبيّة من مخلّفات من سبقه من الرجال ، فلم يتمكّن عليهالسلام من تغييرها خارجا وإن أثبت بطلانها وخطأها على الصعيد الفكري.
روي عن سليم بن قيس ... ثمّ أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته ، فقال : « قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله صلىاللهعليهوآله متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيّرين لسنّته ، ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى موضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله لتفرق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي ، أو قليل من شيعتي الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الّذي وضعه فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليهالسلام ، ورددت صاع رسول الله صلىاللهعليهوآله كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلىاللهعليهوآله لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ... وأعطيت كما كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يعطي بالسويّة ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء ... وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله وفرضه ... وحرّمت المسح على الخفّين ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ... وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلىاللهعليهوآله في مسجده ممّن كان رسول الله أخرجه ... وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ... إذن لتفرقوا عنّي والله ، لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض
أهل عسكري ممّن يقاتل معي : « يا أهل الإسلام غيّرت سنّة عمر ، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا » ، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري. ما لقيت من هذه الأمّة من الفرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار (١) ».
ولمّا آل الأمر إلى ملك بني أميّة ، وعلى رأسهم معاوية ، أخذ يتلاعب بالدين كيفما شاء ويوجّه الأحكام إلى أيّ وجهة أراد ، فوضع في البلدان من يختلق الفضائل لمن لا فضيلة له ، ومن يضع المكذوبات للنيل من عليّ وآل عليّ عليهالسلام (٢) ، فالتفّ حوله المتزلّفون والوضّاعون والكذّابون من أمثال أبي هريرة وسمرة بن جندب (٣) ، وغيرهم من الطحالب الّتي تعيش في زوايا المياه ، حتّى تسنّى له أن يعلن ويجاهر بسبّ عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ظلما على المنابر (٤) ، مع أنّ معاوية ملعون عدلا على لسان القنابر (٥).
ولمّا ملك العبّاسيّون كانوا أشدّ ضراوة وقساوة على الدين وعلى أهل البيت وأتباعهم ، فراحوا يسعون ويجهدون إلى طمس فضائلهم وإطفاء نور الله الذّي خصّهم به ، فطاردوا العلويّين والشيعة واضطهدوهم سياسيّا وفكريّا ، وروّجوا للمذاهب الأخرى المضادّة لمذهب أهل البيت عليهالسلام ، وتبنّوا الآراء الفاسدة والمنحرفة لمجابهة الحقّ ، وإبعادا للمسلمين عن الالتفاف حول المنبع الثرّ والعطاء الزاخر الّذي تميّز به منهج أهل البيت عليهالسلام.
وهكذا استمرت الحكومات ، وتوالت السلطات ، وتظافرت على كتم الحقّ ونشر ما يخالفه.
__________________
(١) الكافي ( ج ٨ ؛ ٥٨ ـ ٦٣ )
(٢) انظر شرح النهج ( ج ٤ ؛ ٦٣ ) وصرّح أنّ منهم أبا هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير.
(٣) انظر شرح النهج ( ج ٤ ؛ ٧٣ ) ، نقلا عن أبي جعفر الإسكافي
(٤) انظر شرح النهج ( ج ٤ ؛ ٥٦ ، ٥٧ ) ، فرحة الغري ( ٢٤ ، ٢٥ )
(٥) انظر الصراط المستقيم ( ج ٣ ؛ ٤٧ ، ٤٨ )
إلاّ أنّ الجهود الخيّرة والمساعي المثمرة للأئمّة الطاهرين عليهمالسلام صمدت في وجه كلّ تلك الحملات المسعورة ، فربّى الأئمّة عباقرة وجهابذة وحملة للرسالة ، قارعوا الأفكار الخاطئة ونشروا وتحمّلوا أعباء الرسالة الصحيحة ، فدوّنوا المؤلّفات الّتي تصحّح كلّ ما مسّته يد التحريف والتلاعب.
وكان النصيب الأوفر من الخلاف ، والقسم الأضخم من النزاع ، قد انصبّ على مسألة الإمامة والخلافة والوصيّة لعليّ عليهالسلام ، فدار حولها الجدل والخلاف في أوّل يوم بعد وفاة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، وذلك في سقيفة بني ساعدة ، حيث احتجّ المهاجرون على الأنصار بأنّهم من قومه وعشيرته ، واحتجّت الأنصار على المهاجرين بأنّهم الّذين آووا ونصروا ، وأنّهم الأوّلون قدما في الإسلام ، وامتدّ النزاع واشتجر بينهم ، ناسين أو متناسين حقّ عليّ بن أبي طالب عليهالسلام وأولويّته بالخلافة ولو وفق ما احتجّ به الفريقان.
وعلى كلّ حال ، فقد سيطر أبو بكر بمساعدة عمر على الأمور بالقوّة والعسف ، ولم يصخ سمعا لاحتجاجات عليّ عليهالسلام المحقّة ، مبتدعا قولة « لا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم » (١) ، ومن ثمّ ادّعى من بعدها « نحن معاشر الأنبياء لا نورّث درهما ولا دينارا » (٢) ، وما إلى غيرها من مبتكرات الخلافة المتسلّطة.
من هنا نجد أنّ الصراع الفكري في مسألة الإمامة الّتي أخفى الظالمون معالمها قويّ جدّا ، فراح رواة الشيعة وعلماؤهم يؤلّفون أخذا عن أئمّتهم عليهالسلام في هذا المجال العقائديّ ،
__________________
(١) انظر كتاب سليم بن قيس (١١٧) وفيه : ثمّ ادعى أنّه سمع نبي الله يقول : إنّ الله أخبرني أن لا يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة ، فصدّقه عمر وأبو عبيدة وسالم ومعاذ. وانظر جواب علي على ذلك إذ دخل في الشورى ، في كتاب سليم أيضا (١١٩)
(٢) انظر صحيح البخاري ( ج ٥ ؛ ١٧٧ ) ، صحيح مسلم ( ج ٣ ؛ ١٣٨٠ ) ، السيرة الحلبية ( ج ٣ ؛ ٣٨٩ ). وهذا الحديث من مخترعات أبي بكر لم يرو عن غيره. قال ابن ابي الحديد : قال النقيب أبو جعفر يحيى بن محمّد البصري : إن عليا وفاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة ، يكذبون « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » ويقولون أنّها مختلقة. انظر شرح النهج ( ج ١٦ ؛ ٢٨٠ )
فدوّنوا كتبهم في الإمامة والوصيّة ـ منذ العصور الإسلاميّة الأولى ـ بشكل مرويّات عن أئمّة آل محمّد صلىاللهعليهوآله ، وخير شاهد ودليل على ذلك كتاب « سليم بن قيس الهلاليّ » الّذي يعدّ أقدم ما وصلنا في هذا المضمار ، إضافة إلى كثير في كتب أصحاب الأئمّة عليهالسلام الّتي لم يصلنا أكثرها بسبب الظلم والاضطهاد وقسوة المدرسة المقابلة الّتي تمتلك القدرة الفعليّة وتقمع المعارضين.
بسبب هذا الصراع الفكريّ والعقائديّ ، كثرت التآليف في الإمامة عموما بجميع تفاصيلها ومفرداتها ، وفي الوصيّة ـ وصيّة النبي صلىاللهعليهوآله بالخلافة لعليّ وأبنائه الأئمّة المعصومين عليهمالسلام ـ خصوصا ، وهو ما يهمّنا في هذا البحث ، باعتبار أنّ كتاب « الطّرف » مختصّ بوصيّة النبيّ صلىاللهعليهوآله لعليّ عليهالسلام بالإمامة له ولولده عليهمالسلام ، وكيفيّة أخذه صلىاللهعليهوآله البيعة لعليّ عليهالسلام ، ووصيّته له بأن يدفنه هو ولا يدفنه غيره ، وما إلى ذلك من مواضيع تدور كلّها في مدار الوصيّة.
وبنظرة عجلى حول ما ألّف تحت عنوان « الوصيّة » ، وجدنا الكتب التالية للمتقدّمين :
١ ـ « الوصيّة والإمامة » لأبي الحسن عليّ بن رئاب الكوفيّ ، من أصحاب الصادق والكاظم عليهماالسلام ، ممّا يعني أنّه كان حيّا بعد سنة ١٤٨ ه. ق. وهي سنة تولّي الإمام الكاظم عليهالسلام للإمامة.
٢ ـ « الوصيّة والردّ على منكريها » ، لشيخ متكلّمي الشيعة ، أبي محمّد ، هشام ابن الحكم الكوفي ، المتوفّى سنة ١٩٩ ه.
٣ ـ « الوصيّة » لمحمّد بن سنان ؛ أبي جعفر الزاهريّ ، من ولد زاهر مولى عمرو ابن الحمق الخزاعيّ ، يروي عن عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام ، توفّي سنة ٢٢٠ ه.
٤ ـ « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد البجلي ، أبي موسى الضرير ، الراوي عن الكاظم عليهالسلام ، وأبي جعفر الثاني الإمام الجواد عليهالسلام ، توفّي سنة ٢٢٠ ه.
٥ ـ « الوصيّة » لأبي إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سعيد الثقفي ، وهو من ولد عمّ المختار الثقفيّ ، توفّي سنة ٢٨٣ ه.
٦ ـ « الوصيّة » أو « إثبات الوصيّة » للمؤرّخ الثبت العلاّمة النسّابة ، عليّ بن الحسين ابن عليّ المسعوديّ الهذليّ ، صاحب كتاب « مروج الذهب » ، المتوفّى سنة ٣٤٦ ه.
٧ ـ « الوصيّة » لأبي العبّاس أحمد بن يحيى بن فاقة الكوفيّ ، الراوي عن أبي الغنائم محمّد بن عليّ البرسيّ ، المتوفى سنة ٥١٠ ه ، يرويه عن مؤلّفه السيّد أبو الرضا فضل الله الراونديّ.
وأمّا الكتب الّتي ألّفت تحت عنوان « الإمامة » والّتي تتضمّن مرويّات وبحوث الوصيّة فهي كثيرة قديما وحديثا ، ممّا يعسر إحصاؤها وعدّها جميعا ، حتّى أنّ العلاّمة المتتبّع الآغا بزرك الطهرانيّ (رض) قال :
الإمامة من المسائل الكلاميّة الّتي قلّ في مؤلّفي الأصحاب من لم يكن له كلام فيها ، ولو في طيّ سائر تصانيفه ، أو مقالة مستقلّة ، أو رسالة ، أو كتاب في مجلّد ، أو مجلّدات إلى العشرة فما فوقها ، فأنّى لنا بإثبات الكلّ أو الجلّ (١) ...
ثمّ عدّ من كتب أصحاب الأئمّة عليهمالسلام وسائر الرواة والكتّاب ما يقارب المائة مصنّف ومؤلّف من مؤلّفات الشيعة الإماميّة (٢) ، وهي جميعا تحتوي في مطاويها على البحوث والمرويّات المتعلّقة بالوصيّة.
وعلى كلّ حال ، فإنّ كتابنا « الطّرف » له ارتباط وثيق بكتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد البجليّ ، وهذا ما يقتضي أن نبحث هذه الزاوية المهمّة ، ثمّ نبحث حياة السيّد عليّ بن طاوس مؤلّف « الطّرف » ، ومن بعده ما يتعلّق بعيسى ابن المستفاد البجليّ.
اسم الكتاب
لقد اختلفت النسخ الخطيّة ، والمطبوعة القديمة ، بل وحتّى السيّد ابن طاوس نفسه في تعيين اسم الكتاب كاملا ، بحيث نجد أنّ النسخة الواحدة تذكر في بدايتها له
__________________
(١) الذريعة ( ج ٢ ؛ ٣٢٠ )
(٢) انظر الذريعة ( ج ٢ ؛ ٣٢٠ ـ ٣٤٣ )
اسما ، ثمّ تعود في خاتمتها فتذكر اسما آخر ، ويذكر له السيّد ابن طاوس في إجازته اسما ، وفي كشف المحجّة اسما آخر ، وهذا ما يحدو بنا أن نذكر ما اطّلعنا عليه في هذا المجال ، ثمّ نرجّح اسم الكتاب في خاتمة المطاف.
إنّ النسخة « أ » صرّحت في بدايتها أنّ اسم الكتاب « طرف من الأنباء والمناقب ، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب ، وطرف من تصريحه بالوصيّة والخلافة لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام ».
ثمّ كتب في آخرها : تمّت صورة ما وجدته من هذا الكتاب الموسوم ب « طرف الأنباء والمناقب في شرف سيّد الأنبياء والأطائب ، وطرف من تصريحه وتنصيصه لخلافة عليّ بن أبي طالب عليهالسلام ».
وإذا لاحظنا المطبوعة من الكتاب ، والّتي طبعت في النجف الأشرف عام ١٣٦٩ ه. ق. عن نسخة سقيمة مغلوطة ، وجدنا عنوان الكتاب في الصفحة الأولى ، هكذا « الطّرف من المناقب في الذريّة الأطائب » ، مع أنّ المصرّح به في آخر الكتاب هو : تمّت صورة ما وجدته من نسخة هذا الكتاب الشريف الموسوم بكتاب « طرف من الأنباء والمناقب ، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب ، وطرف من تصريحه بالوصيّة والخلافة لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام » ، وهذا ما يعني توافق ما في بداية نسخة « أ » مع ما في آخر نسخة « ب ».
وقد أورد الآغا برزگ الطهراني « رض » في « الذريعة » اسم الكتاب مطابقا لما في بداية « أ » وآخر « ب » مع إضافة ألف ولام في بداية عنوانه ، فقال : « الطّرف من الأنباء والمناقب ، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب ، وطرف من تصريحه بالوصيّة والخلافة لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام (١) ».
وأورد السيّد ابن طاوس اسم الكتاب في إجازته مطابقا لما في بداية « أ »
__________________
(١) الذريعة ( ج ١٥ ؛ ١٦١ )
وآخر « ب » أيضا ، مع إبداله الواو العاطفة ـ في قوله « والخلافة » ـ بالباء المتعلّقة بالوصيّة ، فصارت « بالوصيّة بالخلافة » ، وإليك نصّ عبارته : « طرف من الأنباء والمناقب ، في شرف سيّد الأنبياء والأطائب ، وطرف من تصريحه بالوصيّة بالخلافة لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام (١) ».
وما أن تقاربت الأسماء حتّى برز اسم الكتاب بشكل آخر في « كشف المحجّة » حيث سماّه ب « طرف الأنباء والمناقب ، في شرف سيّد الأنبياء وعترته الأطائب (٢) ».
وأمّا النسختان « ج » « هـ » فلم تتعرّضا للاسم أبدا ، وإنّما كتب اسم كتاب « الطّرف » من مفهرسي مكتبة الآستانة الرضويّة على مشرّفها السلام.
واكتفت النسخة « د » في بدايتها ، والنسخة « و » في بدايتها ونهايتها ، بالتعبير بكتاب الطّرف ، وهذا تساهل واضح واختصار دأب عليه الكتّاب والمؤلّفون والفضلاء في غير مقام التدقيق العلميّ.
والعجب أنّ كاتب النسخة « أ » من الفضلاء ـ كما ستقف على ذلك في وصف النسخ ـ وقد بذل جهدا عظيما في تحرّي الدقّة والضبط ومقابلة نسخته مع نسخ أخرى ، ورجّح وأحسن التلفيق في أكثر الموارد ، ومع هذا نراه يغفل عن اختلاف اسم الكتاب ومغايرة ما في فاتحته لما في خاتمته.
وأعجب منه ما في بداية نسخة « ب » من اقتضاب مخلّ ، عمّا في آخر النسخة من اسم تفصيليّ للكتاب ، ولا أدري هل أنّ طابع الكتاب تصرّف بالعنوان حتّى جعله كما مرّ عليك ، أم أنّ النسخة الّتي طبع عنها كانت مبتلاة بنفس هذا الاختلاف والاقتضاب.
ومهما كان الأمر ، فإنّ الطريقة العلميّة توجب علينا أن نلتزم بما هو أقرب لمراد المؤلّف « رض » ، وبما أنّ عنوان الكتاب في إجازات ابن طاوس مقارب جدّا
__________________
(١) الإجازات للسيّد ابن طاوس ، المطبوع في البحار ( ج ١٠٧ ؛ ٤٠ )
(٢) كشف المحجة (١٩٠)
لما في بداية « أ » وآخر « ب » وما في الذريعة من جهة ، ولأنّ علماءنا في إجازاتهم يتحرّون الدقّة في ضبط ما يجيزون روايته عنهم ، رأينا أنّ ما في الإجازات هو أقرب لمراده « رض ».
على أنّ ما في « كشف المحجّة » أيضا لا يمكن التغاضي عنه ، لأنّه في الواقع بعض العنوان الذي في الإجازات بسقوط الحرف « من » ، وبذكر الموصوف لفظا ، أي قوله « وعترته الأطائب » ، وهذا المقدار ممّا يتساهل فيه في أسماء وعناوين الكتب ، خصوصا أنّ السيّد يذكر مؤلّفاته بأسماء مختلفة متقاربة بعضها من بعض ، ومن راجع مؤلّفاته عرف صحّة ما نقول ، ويكفيك أن تلقي نظرة سريعة على « كشف المحجّة » و « إجازاته » و « سعد السعود » لترى تعدّد تسمياته لكتبه بعناوين وأسماء متقاربة ، وسنثبت بعض ذلك في أثناء تعدادنا لمؤلّفاته ومصنّفاته ، فمن هنا ساغ لنا أن نرجّح أنّ اسم الكتاب هو « طرف من الأنباء والمناقب ، في شرف سيّد الأنبياء وعترته الأطائب ، وطرف من تصريحه بالوصيّة بالخلافة لعليّ بن أبي طالب عليهالسلام ».
بين الطّرف والوصيّة
إنّ « كتاب » الطّرف يحتوي على ثلاث وثلاثين طرفة ، دوّنها السيّد ابن طاوس بعد ذكره لمقدّمة أوضح فيها أحقّيّة مذهب الإماميّة الاثني عشريّة على نحو الإجمال.
وكتاب « الطّرف » يعدّ بمنزلة المتمّم أو المستدرك لكتاب « الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف » ، فإنّ السيّد ابن طاوس سمّى نفسه في كتاب « الطرائف » ب « عبد المحمود بن داود » تعمية وتقيّة من الخلفاء العبّاسيّين الّذين لا يحتملون سماع الحقّ ، وينكلون بكلّ من يفوه به.
وفيما يتعلّق بهذه النكتة نقل عن خطّ الشهيد الثاني ، أنّه قال : إنّ التسمية بعبد المحمود لأنّ كلّ العالم عباد الله المحمود ، والنسبة إلى داود إشارة إلى « داود ابن الحسن المثنّى » أخ الإمام الصادق عليهالسلام في الرضاعة ، وهو المقصود بالدعاء المشهور
بدعاء أمّ داود ، وهو من جملة أجداد السيّد ابن طاوس « رض » (١).
وقد اعتمد السيّد ابن طاوس بشكل كبير جدّا في « الطرائف » على كتب أبناء العامّة ورواتهم ، وعلى ما اتّفق على نقله جميع المسلمين في كتبهم للوصول إلى الحقّ وإثبات أحقّيّة مذهب الإماميّة ، وبعد باقي المذاهب عن طريق الحقّ وجادّة الصواب ، وأنّ المذاهب الأربعة وأتباعها لم يلتزموا بما ورد عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من طرقهم وطرق غيرهم في ولاية وإمامة عليّ بن أبي طالب عليهالسلام وباقي ولده من أئمّة أهل البيت عليهمالسلام.
ونفس هذا النهج في إخفاء اسمه سلكه في كتاب « الطّرف » ، فلم يصرّح باسمه بالمرّة ، وإنّما قال : « تأليف بعض من أحسن الله إليه وعرّفه ما الأحوال عليه » ، قال الآغا بزرك الطهرانيّ « رض » : « وما صرّح في الطّرف باسمه تقيّة » (٢) ، فهو كما كان يتّقي في عدم تصريحه باسمه في « الطرائف » ، كذلك اتّقى فلم يصرّح به في « الطّرف ».
لكنّ « الطّرف » يمتاز عن « الطرائف » ، بأنّه اختصّ بذكر ما ورد صريحا من طرق آل محمّد صلىاللهعليهوآله في إثبات الولاية والإمامة والوصيّة لعلي بن أبي طالب عليهالسلام ، وما لا مجال فيه من النصوص للتأويل والتمحّل والحمل على الوجوه البعيدة والغريبة ، فكأنّه « رض » أراد تتميم أو استدراك ما فات من كتاب « الطرائف ».
وقد صرّح السيّد ابن طاوس بذلك في مقدّمة « الطّرف » ، قائلا : « وقد رأيت كتابا يسمّى كتاب « الطرائف في مذاهب الطوائف » ، فيه شفاء لما في الصدور ، وتحقيق تلك الأمور ، فلينظر ما هناك من الأخبار والاعتبار ، فإنّه واضح لذوي البصائر والأبصار ، وإنّما نقلت هاهنا ما لم أره في ذلك الكتاب من الأخبار المحقّقة أيضا في هذا الباب » (٣).
__________________
(١) انظر مقدّمة الطرائف (١٠)
(٢) الذريعة ( ج ١٥ ؛ ١٦١ )
(٣) انظر نهاية مقدّمة المؤلّف من كتاب الطّرف
وقال في كشف المحجّة : « يتضمّن كشف ما جرت الحال عليه في تعيين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لأمّته من يرجعون بعد وفاته إليه ، من وجوه غريبة ، ورواية من يعتمد عليه (١) ».
وقال في إجازاته : « وممّا صنّفته وأوضحت فيه من السبيل بالرواية ورفع التأويل كتاب « طرف من الأنباء » ... وهو كتاب لطيف جليل شريف (٢) ».
ولذلك نرى أنّ النسخ الخطّيّة ، تشير إلى أنّه « تكملة الطرائف » ، بل ووضعت النسخة « أ » ملحقة بكتاب « الطرائف » ، وأشير إلى أنّ « الطّرف » تكملة « للطرائف » وتتمّة له ، ولهذا قال الآغا بزرك الطهرانيّ « رض » : « والطّرف استدراك للطرائف » (٣).
ولو لا أنّ السيّد ابن طاوس كان يصرّح بأسماء كتبه ومؤلّفاته وتفاصيل حياته في مطاوي كتبه ، لالتبس علينا أمر « الطرائف » و « الطّرف » واسم مؤلّفهما ، لكنّ تصريحه في « إجازاته » و « كشف المحجّة » بنسبة الكتابين إليه ، ونسبة جميع العلماء هذين الكتابين له ، رفع الالتباس ولم يبق أدنى شكّ في أنّهما من مؤلّفات السيّد ابن طاوس « رض ».
والواقع أنّ الغالبيّة العظمى من محتويات كتاب « الطّرف » مأخوذة من كتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد البجلي ، فإنّ السيّد ابن طاوس أورد ثلاثا وثلاثين طرفة في كتابه ، منقولة عن عيسى بن المستفاد ، باستثناء :
١ ـ الطّرفة الثانية ، فإنّه رواها عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عليّ بن أبي طالب عليهالسلام.
٢ ـ الطّرفة السابعة ، فإنّه رواها عن عيسى بن المستفاد ، ثمّ روى مضمونها بروايتين أخريين.
__________________
(١) كشف المحجّة (١٩٥)
(٢) إجازات السيّد ابن طاوس المطبوعة في البحار ( ج ١٠٧ ؛ ٤٠ ) وانظر الذريعة ( ج ١٥ ؛ ١٦١ )
(٣) الذريعة ( ج ١٥ ؛ ١٦٢ )
٣ ـ الطّرفة الثامنة ، فإنّه رواها عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجذ ، أنّ رجلا قال لعليّ عليهالسلام : ...
٤ ـ الطّرفة التاسعة ، فإنّه رواها عن الصادق ، عن أبيه عليهماالسلام.
٥ ـ الطرفتين الخامسة عشر والسادسة عشر ، فإنّه رواهما عن كتاب « خصائص الأئمّة » للشريف الرضيّ « رض » ، لكنّهما أيضا ينتهيان إلى عيسى بن المستفاد ، عن الإمام الكاظم عليهالسلام ، فإنّ سندهما هو : حدّثني هارون بن موسى ، حدّثني أحمد بن محمّد بن عمّار العجليّ الكوفي ، حدّثني عيسى الضرير ، عن الكاظم عليهالسلام.
٦ ـ الطّرفة الخامسة والعشرين ، فإنّه رواها عن عيسى ، عن الكاظم ، عن أبيه عليهماالسلام ، ثمّ نقل روايتها بألفاظ أخرى عن محمّد بن جرير الطبريّ في كتابه « مناقب أهل البيت » بهذا السند : أبو جعفر ، حدّثنا يوسف بن عليّ البلخيّ ، قال : حدّثني أبو سعيد الآدميّ بالري ، قال : حدّثني عبد الكريم بن هلال ، عن الحسين بن موسى بن جعفر ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر ، عن أبيه ، عن جدّه عليهالسلام.
فإذا تأمّلنا في هذه المستثنيات ، وجدنا أنّ الطّرفة السابعة مروية عن عيسى أيضا ، وإن عضّدها بروايتين أخريين ، وأنّ الطرفتين الخامسة عشر والسادسة عشر وإن رواهما عن الشريف الرضيّ « رض » في كتاب « خصائص الأئمّة » إلاّ أنّ سندهما ينتهي أيضا إلى عيسى بن المستفاد ، عن الكاظم عليهالسلام ، ويظهر أنّه نقلهما عن الشريف الرضيّ « رض » إشارة إلى اعتماد الرضيّ على كتاب « الوصيّة » ، وزيادة في توثيق المطلب المروي.
وأمّا الطّرفة الخامسة والعشرون ، فإنّه أيضا صرّح بروايته لها عن عيسى ، عن الكاظم عليهالسلام ، ومن ثمّ عضّدها بما رواه أبو جعفر الطبريّ بنفس المعنى وبإسناد آخر ـ ليس فيه عيسى بن المستفاد ـ ينتهي إلى الإمام الكاظم عليهالسلام ، وذلك توثيقا لصحّة ما رواه عيسى في كتاب الوصيّة.
يبقى أنّ الطّرفة التاسعة أسندت إلى الإمام الصادق عليهالسلام مباشرة ، ولم ينقلها
عن الكاظم عليهالسلام ، عن أبيه الصادق عليهالسلام ، وهذا ما يشعر أنّ الرواية مرويّة بطريق ليس فيه عيسى بن المستفاد ، أو أنّ فيه عيسى فيلزم كونه من أصحاب الصادق عليهالسلام أيضا ، مع أنّ الرجاليّين لم يصرّحوا إلاّ بروايته عن الإمام الكاظم عليهالسلام وإدراكه للجواد عليهالسلام ، وإن ذهب بعض الرجاليين خطأ إلى أنّه ممّن روى عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام كما سيأتي.
لكنّ الحقيقة هي أنّ هذه الطّرفة مرويّة أيضا عن الكاظم ، عن أبيه الصادق عليهماالسلام ، لأنّ العلاّمة البياضيّ صرّح بأنّ إسناد هذه الطّرفة هو نفس إسناد الطّرف السابقة ، فإنّه بعد أن قال : « ما أسند عيسى بن المستفاد في كتاب الوصيّة إلى الكاظم إلى الصادق عليهماالسلام (١) » ، قال في بداية الطّرفة التاسعة : « بالإسناد المتقدّم ... » (٢) ، وهذا صريح بأنّ هذه الطّرفة مرويّة أيضا عن عيسى في كتاب « الوصيّة » ، وكذلك نقل هذه الطّرفة العلاّمة المجلسيّ مصدّرا إيّاها بقوله : « وبهذا الإسناد ، عن الكاظم ، عن أبيه عليهماالسلام قال ... » (٣) ، ممّا يدلّ صراحة على أنّها مرويّة عن عيسى في كتاب الوصيّة ، إلاّ أنّ التساهل في ذكر اسم الإمام المروي عنه مباشرة في متن النسخ سبّب ما قد يتوهّم من أنّ عيسى رواها عن الصادق عليهالسلام مباشرة ، أو أنّه ليس براو لهذه الطّرفة.
وعلى هذا ، فتبقى الطرفتان الثانية والثامنة فقط من كتاب « الطّرف » ليستا ممّا روي في كتاب الوصيّة لابن المستفاد ، وتبقى إحدى وثلاثون طرفة الأخرى كلّها عن كتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد.
وقد تنبّه العلاّمة البياضيّ إلى كون كتاب « الطّرف » أو غالبيّته العظمى هو ما في كتاب « الوصيّة » لابن المستفاد ، فقال : « فصل نذكر فيه شيئا ممّا نقله ابن طاوس
__________________
(١) الصراط المستقيم ( ج ٢ ؛ ٨٩ )
(٢) الصراط المستقيم ( ج ٢ ؛ ٩٠ )
(٣) بحار الأنوار ( ج ٢٢ ؛ ٤٧٨ )
من الطّرف ... » (١) ، ثمّ قال : « ما أسند عيسى بن المستفاد في كتاب « الوصيّة » إلى الكاظم ، إلى الصادق عليهماالسلام » (٢).
ونقل المجلسيّ كثيرا من الطّرف ، فقال : « كتاب « الطّرف » للسيّد عليّ بن طاوس نقلا من كتاب « الوصيّة » للشيخ عيسى بن المستفاد الضرير ، عن موسى ابن جعفر ، عن أبيه عليهماالسلام (٣) » ، وقال في نهاية ما أخرجه منه : « انتهى ما أخرجناه من كتاب « الطّرف » ممّا أخرجه من كتاب « الوصيّة » لعيسى بن المستفاد ، وكتاب « خصائص الأئمّة » للسيّد الرضيّ ... وعيسى وكتابه مذكوران في كتب الرجال ... » (٤).
وقال الآغا بزرك الطهرانيّ (رض) في معرض كلامه عن كتاب الطّرف : « وفيه ثلاث وثلاثون طرفة ، في كلّ طرفة حديث واحد ، وأكثرها من كتاب عيسى بن المستفاد يعني كتاب « الوصيّة » كما عبّر به النجاشيّ » (٥).
إنّ ما نقله لنا السيّد ابن طاوس في كتابه هذا على صغر حجمه ، يعدّ كنزا نفيسا من كنوز مرويّات الإمامة والوصيّة ـ ولو لا ما نقله عنه لضاعت مرويّاته فيما ضاع في تراث المسلمين لأسباب شتّى ، لكنّنا لا ندري هل أنّ السيّد ابن طاوس نقل كلّ ما في كتاب « الوصيّة » أم انتخب منه ما أراد فقط؟ ـ لأنّ ظاهر القرائن تدلّ على أنّ كتاب « الوصيّة » كان موجودا عند السيّد ابن طاوس « رض » ، ولذا قال الآغا بزرك « رض » : « وقد أكثر النقل عنه ابن طاوس المتوفّى سنة ٦٦٤ ه في « طرف من الأنباء » ، فيظهر وجوده عنده في التاريخ المذكور » (٦).
__________________
(١) الصراط المستقيم ( ج ٢ ؛ ٨٨ )
(٢) الصراط المستقيم ( ج ٢ ؛ ٨٩ )
(٣) بحار الأنوار ( ج ٢٢ ؛ ٤٧٦ )
(٤) بحار الأنوار ( ج ٢٢ ؛ ٤٩٥ ) وقال في مرآة العقول ( ج ٣ ؛ ١٩٣ ) « وأورد أكثر الكتاب السيّد ابن طاوس في كتاب الطّرف من الأنباء ».
(٥) الذريعة ( ج ١٥ ؛ ١٦١ )
(٦) الذريعة ( ج ٢٥ ؛ ١٠٣ )
وإذا صحّ هذا الاستظهار ، فمن الراجح جدّا أنّ كتاب « الوصيّة » فقد فيما فقد من تراث إسلامي في حملات التتر الهمجيّة على بغداد ، وحرقهم لمكتباتها ، وإلقائهم لكتبها في دجلة حتّى صار ماء دجلة أسود ، وحتّى عبرت الدوابّ والخيل عليها ، وكان من جملة ما فقد مكتبة ابن طاوس الضخمة ، والّتي جعل لها فهرستا مفصلا سماّه « الإبانة في معرفة أسماء كتب الخزانة » ، وقد كانت تضمّ في سنة ٦٥٠ ه ، ألفا وخمسمائة كتابا (١).
ومكتبته وفهرستها « الخزانة » من المفقودات اليوم ، لكنّه أشار في مواضع مختلفة من كتاب « المحجّة » إلى أنّ فيها أكثر من سبعين مجلّدا في الدعوات ، وأنّ فيها كتبا جليلة في تفسير القرآن ، والأنساب ، والنبوّة والإمامة ، والزهد ، وتواريخ الخلفاء والملوك وغيرهم ، وفي الطبّ والنجوم ، واللّغة والأشعار ، والكيمياء والطّلسمات والعوذ والرقى والرمل ، وفيها كتب كثيرة في كلّ فنّ من الفنون (٢).
فمن الراجح إذن أنّ كتاب « الوصيّة » كان من جملة كتبه ، وأنّه فقد فيما فقد منها ومن غيرها من مكتبات بغداد ، أمّ الدنيا وعاصمتها آنذاك ، ولكن هل نقله لنا السيّد ابن طاوس كلّه ، أو نقل بعضه؟!
ربّما تكون إجابة هذا السؤال عسيرة جدّا وضربا من الحدس والتخمين ، لكنّ المقطوع به عندنا ، أنّ السيّد ابن طاوس لم ينقل لنا صدر الطّرفة الرابعة عشر ، والّتي نقلها الكلينيّ (رض) في الكافي وعنه المجلسيّ في البحار ، بسند الكلينيّ إلى عيسى بن المستفاد ، عن الكاظم ، عن الصادق ٨ ، وهذا ما يجعلنا نميل إلى أنّ السيّد ابن طاوس لم ينقل كلّ ما في « الوصيّة » ، وإنّما نقل ما اختاره منه ، وأضاف إليه بعض مرويّات من طرق أخرى ، وعضّد بعض طرفه بطرق وأسانيد أخرى ، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
__________________
(١) انظر الذريعة ( ج ١ ؛ ٥٨ )
(٢) انظر مقدّمة كتاب اليقين ( ٧٩ ـ ٨٠ )