موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

فروى الطوسي عن أبي غانم المعلّم الأعرج البغدادي قال : إنّ عائشة بنت طلحة (التيمي) دخلت على فاطمة عليها‌السلام فرأتها تبكي فقالت لها : بأبي أنت وأمّي ، ما الذي يبكيك؟ فقالت :

أسائلتي عن هنة حلّق بها الطائر ، وحفى بها السائر ، ورفعت إلى السماء أثرا ، ورزئت في الأرض خبرا؟! إن قحيف تيم وأحيوك عديّ جاريا أبا الحسن في السباق حتى إذا تقربا بالخناق ، أسرّا له الشنئان وطويا عنه الإعلان ، حتى خبا نور الدين وقبض النبيّ الأمين ، فنطقا بفورهما ونفثا بسورهما ، وأدلّا بفدك ، فيا لها تلك من ملك ؛ إنّها عطيّة الربّ الأعلى للنجيّ الأوفى ، ولقد نحلنيها للصبيّة السواغب من نسله ونسلي ، وإنها لبعلم الله وشهادة أمينه ، فإن انتزعا منّي البلغة ومنعاني اللّمضة ، واحتسبتها يوم الحشر زلفة ، فليجدنّها آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم (١)!

موقف الأنصار :

مرّ علينا في خطبة فاطمة عليها‌السلام استنصارها من أنصار أبيها وتذكيرها إياهم به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قالت : معشر النقيبة وحضنة الإسلام ... أتقولون : مات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فخطب جليل استوسع وهنه ، واستهتر فتقه ، وفقد راتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، واكتأبت خيرة الله لمصيبته ، واكدت الآمال وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم وازيلت الحرمة بموت محمد ، فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله هتافا ، ولقبل ما خلت به أنبياء الله ورسله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(٢) ...

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢٠٤ ، الحديث ٣٥٠.

(٢) آل عمران : ١٤٤.

٨١

وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ... أما كان رسول الله أمر بحفظ المرء في ولده؟! فسرعان ما أحدثتم ...

فدونكم فاحتقبوها دبرة الظهر ناقبة الخف باقية العار ، موسومة بشنار الأبد موصولة بنار الله المؤصدة ، فبعين الله ما تفعلون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(١) ، (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ)(٢) ، (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(٣).

ولم يسجّل التاريخ أي ردّ فعل للأنصار لهذا الخطاب والعتاب سوى ما مرّ أيضا : أن واحدا منهم يدعى رافع بن رفاعة الزرقي الخزرجي رفع عقيرته إليها يقول لها : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن تكلم وذكر للناس هذا الأمر قبل أن يجري هذا العقد ما عدلنا به أحدا. ثم لم يسجل التاريخ أي صريخ جماعي عنهم لها ولزوجها وابن عمّها علي عليه‌السلام.

لكن من الممكن أن يحسب منه ما رواه المعتزلي عن الزبير بن بكار في كتابه «الأخبار الموفقيات» بسنده عن عبد الرحمن بن عوف الزهري قال : لما بويع أبو بكر واستقرّ أمره ندم قوم كثير من الأنصار على بيعتهم إياه ولام بعضهم بعضا ، وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه وهو في داره (٤).

وقد مرّ أيضا أن رجلين من البدريّين من الأنصار هما عويم بن ساعدة ومعن بن عدي عاديا زعيم الخزرج سعد بن عبادة وعبّدا الجادّة للمهاجرين أبي بكر وعمر وعمّرا أمرهما. قال ابن بكّار : فاجتمع الأنصار في مجلس ودعوهما إليهم ، فلما حضرا عيّروهما وأكبروا فعلهما للمهاجرين. فتكلم معن فقال :

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.

(٢) فصلت : ٥.

(٣) هود : ١٢٢.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٣ ، وظاهر هتافهم باسمه أن يكون ذلك قبل أن يبايع.

٨٢

يا معشر الأنصار ؛ إن الذي أراد الله بكم (!) خير مما أردتم بأنفسكم ، وقد كان منكم أمر عظيم البلاء ؛ وصغّرته العاقبة ، فلو كان لكم على قريش ما لقريش عليكم ثم أردتموهم لما أرادوكم به لم آمن عليهم منكم مثل ما آمن عليكم منهم ، فإن تعرفوا الخطأ فقد خرجتم منه وإلّا فأنتم فيه! وتكلم عويم بن ساعدة فقال :

يا معشر الأنصار ؛ إنّ من نعم الله عليكم أنه تعالى لم يرد ما أردتم لأنفسكم ، فاحمدوا الله على حسن البلاء وطول العافية وصرف هذه البليّة عنكم. وقد نظرت في أول فتنتكم وآخرها فوجدتها جاءت من الأمانيّ والحسد .. لوددت أن الله صيّر إليكم هذا الأمر بحقه فكنا نعيش فيه (١).

وكان ممن تخلّف عن بيعة أبي بكر من الأنصار فروة بن عمرو ، وكان سيدا يتصدّق من نخله كل عام بألف وسق ، ويقود فرسين في الجهاد مع رسول الله (٢) ، فانبرى لعويم بن ساعدة ومعن بن عدي وقال لهما : أنسيتما قولكما لقريش : إنا قد خلّفنا وراءنا قوما قد حلّت دماؤهم بفتنتهم! هذا والله ما لا يغفر ولا ينسى! فوثب الأنصار عليهما فأغلظوا لهما وفحشوا عليهما (٣) وأكرمتهما قريش (٤).

وموقف المهاجرين منهم :

في الخبر السابق عن عبد الرحمن بن عوف قال : كان من أشراف قريش الذين حاربوا النبيّ ثم دخلوا في الإسلام موتورين من الأنصار أناس منهم :

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٦ ، ٢٧ ، عن الموفقيات.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٨ ، ٢٩ ، عن الموفقيات. وفي كشف المحجة : ١٧٧ ، عن رسائل الكليني عن كتاب علي عليه‌السلام. وانظر قاموس الرجال ٨ : ٣٨٧ برقم ٥٨٨٦.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٧ ، عن الموفقيات.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٦ ، عن الموفقيات.

٨٣

عكرمة بن أبي جهل المخزومي الذي قتل أباه ابنا عفراء وسلبه درعه زياد بن لبيد الأنصاري يوم بدر ، والحارث بن هشام المخزومي الذي جرحه عروة بن عمرو يوم بدر ، وسهيل بن عمرو العامري الذي أسره مالك بن الدخشم يوم بدر ، وكان ذلك في أنفسهم.

فلما اعتزل الأنصار تجمّع هؤلاء ... وكثر لذلك جزعهم وكلامهم ، وكانوا أشد قريش على الأنصار.

فقام سهيل بن عمرو العامري فقال : يا معشر قريش ؛ إن هؤلاء القوم قد سمّاهم الله الأنصار وأثنى عليهم في القرآن ، فلهم بذلك حظ عظيم وشأن غالب.

وقد دعوا إلى أنفسهم ، وإلى علي بن أبي طالب ، وعليّ في بيته لو شاء لردّهم! فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته ، فإن أجابوكم وإلّا قاتلوهم! فو الله إني لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم!

ثم قام الحارث بن هشام المخزومي فقال : إن يكن الأنصار تبوأت الدار والإيمان من قبلنا ، ونقلوا رسول الله إلى دورهم من دورنا ، فآووا ونصروا وما رضوا حتى قاسمونا الأموال وكفونا الأعمال ، فإنهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه فإنهم قد خرجوا مما وسموا به! وليس بيننا وبينهم معاتبة إلّا بالسيف! وإن نزعوا عنه فقد فعلوا الأولى بهم! وهو المظنون فيهم.

ثم قام عكرمة بن أبي جهل المخزومي فقال : والله لو لا قول رسول الله : الأئمة من قريش ، ما أنكرنا إمرة الأنصار ، ولكانوا لها أهلا ، ولكنّه قول لا شك فيه ولا خيار.

وقد عجلت الأنصار ... وإن الذي هم فيه من فلتات الأمور ونزغات الشيطان! وما لا تبلغه المنى ، ولا يحمله الأمل. والله ما قبضنا عنهم الأمر ، ولا أخرجناهم من الشورى ... فأعذروا إلى القوم [فإن قبلوا ، وإلّا] فقاتلوهم! فو الله لو لم يبق من قريش كلها إلّا رجل واحد لصيّر الله هذا الأمر فيه!

٨٤

وأسف أبو سفيان أن لا يحضرهم فحضر وقال : يا معشر قريش ؛ إنه ليس للأنصار أن يتفضّلوا على الناس حتى يقرّوا بفضلنا عليهم .. وأيم الله لئن بطروا المعيشة وكفروا بالنعمة لنضربنّهم على الإسلام كما ضربونا عليه! فأما علي بن أبي طالب فأهل ـ والله ـ أن يسوّد على قريش وتطيعه الأنصار!

وبلغت هذه الأقوال إلى الأنصار (١).

جواب الأنصار :

بلغ الأنصار أقوال هؤلاء ، فاجتمعوا وقام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس فقال :

يا معشر الأنصار : إنما يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش ؛ فأمّا إذا كان من أقوام من أهل الدنيا كلهم موتور فلا يكبرن عليكم ، إنما الرأي والقول مع المهاجرين الأخيار ، فإن تكلم الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء ، فعند ذلك قولوا ما أحببتم ، وإلّا فأمسكوا.

وأجابهم شاعرهم حسّان بن ثابت بقصيدة من شعره قال :

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي ، والبلاء على رجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أيسار الجزور من الفضل

ومن بعد ذاك المال أنصاف دورنا

وكنّا أناسا لا نعيّر بالبخل

ونحمي ذمار الحيّ فهر بن مالك

ونوقد نار الحرب بالحطب الجزل

فكان جزاء الفضل منا عليهم

جهالتهم حمقا ، وما ذاك بالعدل

تنادى سهيل وابن حرب وحارث

وعكرمة الشافي لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه ، وانتزعناه دروعه

فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٣ ـ ٢٤ ، عن الموفقيات للزبير بن بكّار.

٨٥

فأما سهيل فاحتواه ابن دخشم

أسيرا ذليلا لا يمرّ ولا يحلي

وصخر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداة لوا بدر ، فمرجله يغلي

وراكضنا تحت العجاجة حارث

على ظهر جرداء كباسقة النخل

اولئك رهط من قريش تتابعوا

على خطّة ليست من الخطط الفضل

وأعجب منهم قابلوا ذاك منهم

كأنّا اشتملنا من قريش على ذحل

وكلهم ثان عن الحق عطفه

يقول : اقتلوا الأنصار يا بئس من فعل

وبلغ شعر حسّان قريشا ، فغضبوا وأمروا شاعرهم ابن أبي غرة أن يجيبه (١) فقال شعرا في جوابه. ثم أصلحوا بين الأنصار وبين الرجلين : عويم بن ساعدة ومعن بن عدي ، وانصرف الأنصار عن رأيهم ، وسكنت الفتنة (٢).

عصيان عمرو بن العاص :

قال وكان عمرو بن العاص في سفر له (٣) فقدم منه ، واجتمع يوما جمع

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٤ ـ ٢٥ ، عن الأخبار الموفقيات للزبير بن بكّار.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٩ عن الموفقيات للزبير بن بكّار.

(٣) وفي الطبري ٣ : ٢٥٨ ، عن سيف قال : كان رسول الله في منصرفه من حجة الوداع قد بعث عمرو بن العاص إلى جيفر في عمان ، فمات رسول الله وعمرو في عمان. وروى في ٣ : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ : عن ابن اسحاق قال : كان عمرو بن العاص في عمان ، فتوفّى رسول الله وعمرو بها ، فأقبل منها فمرّ بالبحرين على المنذر بن ساوى فدخل عليه والمنذر مشرف على الموت ، فسأله المنذر : كم كان رسول الله يجعل للميّت من المسلمين من ماله عند وفاته؟ قال عمرو : كان يجعل له الثلث : قال : فما ترى لي أن أصنع في ثلث مالي؟ قال عمرو : إن شئت قسمته في قرابتك ، وإن شئت جعلته صدقة محرّمة تجري من بعدك على من تصدّقت به عليه وجعلته في سبيل الخير. قال : أقسمه.

٨٦

من قريش وأخلاط من المهاجرين والأنصار ، فأفاضوا في ذكر يوم السقيفة وسعد ودعواه الأمر.

فقال عمرو بن العاص : والله لقد دفع الله عنّا عظيمة من الأنصار ، ولما دفع الله عنهم أعظم! كادوا والله أن يحلّوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه! ويخرجوا منه من أدخلوه فيه! والله لئن كانوا سمعوا قول رسول الله : الأئمة من قريش ، ثم ادّعوها لقد هلكوا وأهلكوا! وإن كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين ، ولا سعد كأبي بكر ، ولا المدينة كمكة ، ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء ، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة! وقال مقطوعة شعرية في ذلك.

وجواب الأنصار :

قال : فلما بلغ الأنصار مقالته وشعره بعثوا إليه شاعرهم الآخر النعمان بن عجلان ... فأتى عمرا وهو في جماعة من قريش فقال له : والله يا عمرو ؛ ما كرهتم من حربنا إلّا ما كرهنا من حربكم ، وما كان الله ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه. إن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الأئمة من قريش ، فقد قال : لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار. والله ما أخرجناكم من الأمر إذ قلنا : منا أمير ومنكم أمير.

فأما المهاجرون والأنصار فلا فرق بينهم أبدا ، ولكنّك يا ابن العاص وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة لقتل جعفر وأصحابه! ووترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد! ثم انصرف.

__________________

ولعل هذا أيضا من تدبيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ليبعد مثل عمرو بن العاص عن المدينة حين وفاته وخلافته.

٨٧

وموقف خالد بن سعيد الأموي :

قال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد استعمل على اليمن خالد بن سعيد بن العاص ، وهو من أوائل من أسلم من قريش (من بني أمية) فكان ذا أثر قديم في الإسلام وله عبادة وفضل ، فلما سمع مقال عمرو بن العاص غضب للأنصار وشتم عمرو بن العاص وقال لقريش : يا معشر قريش ؛ إن عمرا دخل في الإسلام حين لم يجد بدّا من الدخول فيه ، فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه ، وإنّ من كيده الإسلام تفريقه وقطعه بين المهاجرين والأنصار. والله ما حاربناهم للدين ولا للدنيا ، لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا ، وما بذلنا دماءنا لله فيهم ، وقاسمونا ديارهم وأموالهم ، وما فعلنا مثل ذلك بهم ، وآثرونا على الفقر وحرمناهم على الغنى. ولقد وصّى رسول الله بهم وعزّاهم عن جفوة السلطان. فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلف المضيّع والسلطان الجافي.

وجواب العاصي :

قال : ثم إن رجالا من السفهاء ومثيري الفتن من قريش اجتمعوا إلى عمرو بن العاص وأكثروا عليه من القول له : إنك رجل قريش في الجاهلية والإسلام ولسانها فلا تدع الأنصار وما قالت.

فراح إلى المسجد وفيه ناس من قريش وغيرهم ، فتكلم وقال : إن الأنصار ترى لنفسها ما ليس لها ، وأيم الله لوددت أن الله خلّى عنّا وعنهم وقضى فيهم وفينا بما أحبّ ، ولنحن الذين أفسدنا على أنفسنا : أحرزناهم عن كل مكروه وقدّمناهم إلى كل محبوب حتى أمنوا الخوف ، فلما جاز لهم ذلك صغّروا حقّنا ولم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم!

٨٨

وجواب علي عليه‌السلام :

قال : وكان الفضل بن العباس حاضرا. فرجع إلى عليّ عليه‌السلام فحدثه به ، فغضب عليه وشتمه وقال : لقد آذى الله ورسوله! يا فضل ، انصر الأنصار بيدك ولسانك فهم منك وأنت منهم.

ثم قام فأتى المسجد ، فاجتمع إليه كثير من قريش فقال لهم : يا معشر قريش ، إنّ حبّ الأنصار إيمان وبغضهم نفاق ، وقد قضوا ما عليهم وبقي ما عليكم ، واذكروا أن الله رغب لنبيّكم عن مكة فنقله إلى المدينة ، وكره له قريشا فنقله إلى الأنصار ، ثم قدمنا عليهم دارهم فقاسمونا الأموال وكفونا الأعمال ، فصرنا منهم بين بذل الغني وإيثار الفقير. ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم ، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن جمع لهم فيها بين خمس نعم فقال : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١).

ألا وإن عمرو بن العاص قد قام مقاما آذى فيه الميت والحي ، ساء به الواتر وسرّ به الموتور ، فاستحق من المستمع الجواب ومن الغائب المقت ، وإنه من أحبّ الله ورسوله أحبّ الأنصار ، فليكفف عمرو عنّا نفسه!

قال الراوي : فمشت قريش إلى عمرو بن العاص وقالوا له : أما إذ غضب علي فاكفف.

وشكر الأنصار لعلي عليه‌السلام :

قال : فلما بلغ ذلك الأنصار بعثوا إلى حسّان بن ثابت ... وقال له خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين : يا حسّان ، اذكر عليا وآله يكفك عن كل شيء. فقال فيه :

__________________

(١) الحشر : ٩.

٨٩

جزى الله عنّا والجزاء بكفّه

أبا حسن خيرا ، ومن كأبي حسن؟

سبقت قريش بالذي أنت أهله

فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنّت رجال من قريش أعزّة

مكانك ، هيهات الهزال من السمن

وأنت من الإسلام في كل موطن

بمنزلة الدّلو البطين من الرسن

غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة

أمات بها التقوى وأحيا بها الإحن

فكنت المرجّى من لؤيّ بن غالب

لما كان منهم ، والذي كان لم يكن

حفظت رسول الله فينا وعهده

إليك ، ومن أولى به منك؟ من ومن؟

ألست أخاه في الهدى ووصيّه

وأعلم منهم بالكتاب وبالسنن

فحقّك ما دامت بنجد وشيجة

عظيم علينا ، ثم بعد على اليمن

فلما بعثوا بهذا الشعر إلى عليّ عليه‌السلام خرج إلى المسجد ومن فيه من قريش فقال لهم :

يا معشر قريش ؛ إن الله جعل الأنصار أنصارا ، فأثنى عليهم في الكتاب ، فلا خير فيكم بعدهم. إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الإسلام ودفعه عن الحق (كذا) وأطفأ شرفه وفضّل غيره عليه ، يقوم مقاما فاحشا فيذكر الأنصار! فاتقوا الله وارعوا حقهم ، فو الله لو زالوا لزلت معهم ؛ لأن رسول الله قال لهم : أزول معكم حيثما زلتم.

فقالوا جميعا : رحمك الله يا أبا الحسن ، لقد قلت قولا صادقا.

فترك عمرو بن العاص المدينة وخرج منها حتى رضي عنه علي والمهاجرون (١).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٣١ ـ ٣٦ ، عن الموفقيات للزبير بن بكار.

٩٠

وموقف الوليد بن عقبة :

قال : ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي وقال : إن الأنصار لترى لها من الحق علينا ما لا نراه ، والله لئن كانوا آووا لقد عزّوا بنا ، ولئن كانوا آسوا لقد منّوا علينا ، والله ما نستطيع مودتهم ؛ لأنه لا يزال قائل منهم يذكر ذلّنا بمكة وعزّنا بالمدينة ، ولا ينفكون يعيّرون موتانا ويغيظون أحياءنا ، فإن أجبناهم قالوا : غضبت قريش على غاربها ، ولكن قد هون عليّ ذلك منهم حرصهم على الدين أمس ، واعتذارهم من الذنب اليوم! وقال مقطوعة شعرية يهجو فيها الأنصار وشعراءها كعب بن مالك وحسّان بن ثابت ، وأفشى شعره في الناس.

فغضب حسّان بن ثابت من كلام الوليد وشعره ، فدخل المسجد وفيه قوم من قريش فوقف فيهم وقال لهم : يا معشر قريش ؛ إن أعظم ذنبنا إليكم قتلنا كفاركم ، وحمايتنا رسول الله ، وإن كنتم تنقمون منّا نقمة كانت بالأمس فقد كفى الله شرّها ، فما لنا وما لكم؟! والله ما يمنعنا من قتالكم الجبن ، ولا من جوابكم العيّ ، إنا لحيّ فعال ومقال ، ولكنّا قلنا : إنها حرب ، أولها عار وآخرها ذل ، فأغضينا عليها عيوننا ، حتى نرى وتروا ، فإن قلتم قلنا ، وإن سكتّم سكتنا.

فلم يجبه أحد من قريش. بل غضب للأنصار منهم زيد بن الخطّاب ، ويزيد بن أبي سفيان ، وضرار بن الخطاب الفهري ، فبعثوا إلى الوليد ، فلما حضر تكلم زيد فقال :

يا ابن عقبة بن أبي معيط ، أما والله لو كنت من الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، لأحببت الأنصار ، ولكنك من الجفاة في الإسلام البطاء عن الذين دخلوا فيه بعد أن ظهر أمر الله وهم كارهون.

٩١

إنا نعلم أنا أتيناهم ونحن فقراء فأغنونا ، ثم أصبنا الغنى فكفّوا عنّا ولم يزرؤونا شيئا. فأما ذكرهم ذلة قريش بمكة وعزّها بالمدينة فكذلك كنا وكذلك قال الله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ)(١) فنصرنا الله تعالى بهم وآوانا إلى مدينتهم.

وأما غضبك لقريش ، فإنا لا ننصر كافرا ولا نواد ملحدا ولا فاسقا ، ولقد قلت وقالوا ، فقطعك الخطيب وألجمك الشاعر.

وأما ذكرك الذي كان بالأمس ، فدع المهاجرين والأنصار ، فإنك لست من ألسنتهم في الرضا ، ولا نحن من أيديهم في الغضب.

وقال له يزيد بن أبي سفيان : يا ابن عقبة ، الأنصار أحق بالغضب لقتلى أحد ، فاكفف لسانك ، فإن من قتله الحق لا يغضب له.

وقال له ضرار بن الخطاب : أما والله لو لا أن رسول الله قال : «الأئمة من قريش» لقلنا : الأئمة من الأنصار ، ولكن جاء أمر غلب الرأي. فاقمع شرّك أيها الرجل ولا تكن امرأ سوء ، فإن الله لم يفرّق بين الأنصار والمهاجرين في الدنيا ، وكذلك الله لا يفرّق بينهم في الآخرة.

ثم سكت كل من الفريقين عن صاحبه وقطعوا الخلاف والعصبية ، ورضي القوم أجمعون (٢).

وإنما قدمنا كل هذه الأخبار بعد خطبة فاطمة عليها‌السلام وقبل طلبهم البيعة من علي عليه‌السلام لاشتمال هذه الأخبار على هتاف الأنصار باسم علي ، مما ظاهره أنه قبل أخذ البيعة منه.

__________________

(١) الأنفال : ٢٦.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٣٦ ـ ٣٨ ، عن الأخبار الموفقيات للزبير بن بكّار.

٩٢

وفي أخبار طلب البيعة منه عليه‌السلام يأتي ذكر بريدة بن الحصيب الأسلمي ، وقد مرّ أنه كان حامل راية أسامة في بعثه إلى مؤتة ، وسيأتي أنه حملها معه إليها في آخر ربيع الأول أو أول ربيع الآخر وغاب خمسة وثلاثين يوما : عشرون في خروجه وخمسة عشر في رجعته (١) فرجع في خامس جمادى الأولى ، فتكون مطالبة البيعة بعد ذلك. وسيأتي أيضا أن أخبار الردّة وردت المدينة قبل خروج أسامة منها ، ولذا نبدأ بها.

فما حال أهل مكة؟

كان على مكة عند وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله عتّاب بن أسيد الأموي ، فروى ابن هشام عن أبي عبيدة قال : لما توفى رسول الله وبلغ ذلك أهل مكة أراد أكثرهم الرجوع عن الإسلام ، وهمّوا به! حتى خافهم عتّاب بن أسيد فتوارى عنهم! فلذلك قام فيهم سهيل بن عمرو المخزومي فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر وفاة رسول الله وقال : إنّ ذلك لم يزد الإسلام إلّا قوّة! فمن رابنا ضربنا عنقه!

فعند ذلك كفّ الناس عمّا همّوا به وتراجعوا ، وظهر عتّاب بن أسيد (٢).

وأما سائر الردّات :

فقد مرّ في خبر ارتداد مسيلمة الكذّاب وقومه من بني حنيفة من تميم : أن ذلك كان في آخر سنة عشر للهجرة ، كما عن ابن اسحاق في السيرة (٣).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٥.

(٢) ابن هشام في السيرة ٤ : ٢١٦.

(٣) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ٢٤٧.

٩٣

ثم كانت أول ردّة عن الإسلام في اليمن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله مع الأسود العنسي المذحجي ذي الخمار في عامة مذحج بعد حجة الوداع كما عن سيف في الطبري (١).

ثم مرّ فيه أيضا عن ابن عامر الأسدي قال : ثم لم نلبث إلّا قليلا حتى ادّعى طلحة بن خويلد الفقعسيّ الأسدي النبوة ، واتّبعه قومه وقوي أمره وعسكر في سميراء (٢).

ثم مرّ عنه فيه أيضا أن رسول الله في منصرفه من حجة الوداع كان قد بعث عمرو بن العاص إلى جيفر ، فمات رسول الله وعمرو في عمان (٣) وفيه عن ابن إسحاق قال : فتوفّى رسول الله وعمرو في عمان ، فأقبل حتى مرّ بالبحرين على المنذر بن ساوى فدخل عليه وهو مشرف على الموت ... واجتمع بنو ربيعة بالبحرين وارتدّوا عن الإسلام وقالوا : نردّ الملك في آل المنذر فملّكوا المنذر بن النعمان الغرور. ولكنّ الجارود بن عمرو حين بلغه وفاة رسول الله وارتداد العرب ثبت هو على الإسلام وقال : أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله ، واكفّر من لا يشهد ، وتبعه قومه (٤).

ثم مرّ عمرو بن العاص على قرّة بن هبيرة العامري فنزل عليه وحوله عسكره ، فقال قرة لعمرو : يا هذا ، إنّ العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة (الزكاة) فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع ، وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم! وقدم عمرو على أبي بكر فأخبره (٥).

__________________

(١) الطبري ٣ : ١٨٥.

(٢) الطبري ٣ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٣) الطبري ٣ : ٢٥٨.

(٤) الطبري ٣ : ٣٠٣.

(٥) الطبري ٣ : ٢٥٩.

٩٤

ومرّ صدر خبر ارتداد طليحة بن خويلد الأسدي الفقعسيّ ودعواه النبوّة ، وتوجيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرار بن الأزور إلى عمّاله على بني أسد في ذلك ، وأمرهم بالقيام في ذلك على من ارتدّ منهم.

ومن تمام الخبر : أنّه كان هناك حلف في الجاهلية بين بني أسد وغطفان وطيّئ ، وقبيل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اجتمعت غطفان مع أسد على طيّئ فأزاحوها عن دارها ، فانقطع ما بين أسد وغطفان وبين طيّئ.

ثم كره زعيم من أسد ما كان من غطفان فقطع ما بينه وبينهم وأجلاهم ، وأرسل إلى طيّئ فأعاد حلفهم وردّهم إلى دورهم ، واشتد ذلك على غطفان.

فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام عيينة بن حصن في غطفان وقال لهم : قد مات محمد وبقي طليحة ، وإني لمجدّد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة ، فو الله لئن نتّبع نبيّا من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتّبع نبيّا من قريش! فطابقوه على رأيه.

فلما طابق غطفان وتابعوا لطليحة ارفضّ من كان مع سنان وضرار بن الأزور وقضاعى ومن كان قام بشيء من أمر النبي في بني أسد ، وهربوا إلى المدينة وأخبروا به أبا بكر.

وقدمت وفود من بني أسد وغطفان وطيّئ وقضاعة وهوازن إلى المدينة فنزلوا على وجوه المسلمين للعاشر من متوفّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم أتوا أبا بكر فأخبروه خبرهم وما أجمع عليه ملؤهم على أن يعفوا من الزكاة ، فردّهم أبو بكر وأجّلهم يوما وليلة ، فتطايروا إلى عشائرهم (١).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، عن سيف. هذا وقد أسلف الطبري فيه ٣ : ٢٤٤ عن سيف نفسه عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن الوفد لذلك إنما كان من بني عبس وذبيان ويقال لهم بني عبد مناة ، فالتضخيم في الخبر اللاحق من سيف.

٩٥

هذا ما رواه الطبري عن سيف بن عمر التميمي ، والطبري من مصادر المسعودي فلعلّه لهذا قال : وارتدّت العرب بعد استخلاف أبي بكر بعشرة أيام ثم لم يرووا أيّ ردّ فعل لأبي بكر في تلك الأيام ، بل روى الطبري عن المدائني أن أول حروب الردّة كان في أواخر جمادى الأولى أو أوائل جمادى الثانية (١) ثم لم يرووا خبرا عن علة هذا التأخير سبعين يوما.

بعث أسامة ثانية :

روى الطبري عن سيف بن عمر قال : بعد الغد من متوفّى رسول الله [وبيعة أبي بكر] نادى مناديه : ألا لا يبقينّ بالمدينة أحد من جند أسامة إلّا خرج إلى معسكره بالجرف (٢).

وروى الواقدي قال : لما بويع أبو بكر أمر بريدة بن الحصيب الأسلمي حامل لواء أسامة أن يذهب به إلى دار أسامة ولا يحلّه حتى يغزوهم به. فروى عن بريدة قال : فذهبت به إلى دار أسامة. ثم خرج به إلى معسكرهم الأول (٣).

وقد مرّ أن وصول وفود المرتدين إلى المدينة كان للعاشر من متوفّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه فتكون هذه الأخبار عن استعادة بعث اسامة قبل انتشار أخبار الارتداد.

وفي «إعلام الورى» ولعله عن أبان بن الأحمر البجلي قال : قيل لأبي بكر : لو حبست جيش أسامة ـ وفيه عامّة المهاجرين ـ لمن يأباك (أو يأتيك) من العرب (٤)؟!

__________________

(١) الطبري ٣ : ٢٤١ ، وكذلك في تاريخ الخلفاء للسيوطي ١ : ٨٨.

(٢) الطبري ٣ : ٢٢٣.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٠ ـ ١١٢١.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٧٢.

٩٦

ونرى تفصيل هذا المجمل لدى الواقدي قال :

اجتمع أبو عبيدة بن الجرّاح ، وسعد بن أبي وقّاص ، وسعيد بن زيد وعثمان إلى عمر فدخلوا إلى أبي بكر وقالوا له : إنّا لا نأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء ، فلو استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بجرانه (يستقرّ) وتعود المرتدّة إلى ما خرجوا منه ، أو يفنيهم السيف! ثم تبعث اسامة حينئذ ، فنحن (لا) نأمن أن تزحف الروم إلينا! (أما الآن) فاجعلهم عدّة لأهل الردّة ترمي بهم في نحورهم!

فلما استوعبوا كلامهم قال لهم أبو بكر : فهل منكم أحد يريد أن يقول شيئا؟

قالوا : لا. فقال : إن رسول الله كان ينزل له الوحي من السماء وكان يقول : أنفذوا جيش أسامة! فو الذي نفسي بيده لا بدأت بأوّل منه!

ولكن لا غنى بنا عن عمر فاكلّم أسامة فيه يخلّفه يقيم عندنا.

ثم مشى أبو بكر إلى دار أسامة وكلّمه أن يترك عمر ، ففعل أسامة.

وخرج وأمر مناديه ينادي : عزمة مني أن لا يتخلّف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله ، فإني لن أوتى بأحد أبطأ عن الخروج معه إلّا ألحقته به ماشيا! فلم يتخلّف عن البعث أحد ، وهم ألف فارس وألفا راجل راحل.

ويوم ارتحالهم من الجرف خرج أبو بكر يشيّعهم أو يشايعهم ، فسار ساعة إلى جنب أسامة ثم قال له : إني سمعت رسول الله يوصيك ، فانفذ لأمر رسول الله ، فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه وإنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله (١).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢١ ـ ١١٢٢. وإنما هذا التنفيذ يكون بناء على هذه الأخبار بعد انتشار أخبار ارتداد الأعراب ، لا بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا بعد بيعة الخليفة مباشرة كما مرّ.

٩٧

قال الواقدي : وخرج أسامة لهلال ربيع الآخر (١) على فرس سبحة التي قتل أبوه عليها (٢) فمرّ سريعا على بلاد قضاعة ومنها جهينة وهم لم يرتدوا حتى نزل وادي القرى ، فقدّم حريث العذريّ عينا له ، فخرج حتى انتهى إلى أبنى ثم رجع حتى لقى أسامة قبل أبنى بمسيرة ليلتين فأخبره خبرهم وأنهم لا جموع لهم وهم غارّون (٣).

وانتهى إلى أبنى :

فلما انتهى إلى أبنى ينظر إليها منظر العين في العشرين من ربيع الآخر (٤) عبّأ أصحابه وقال لهم : اذكروا الله في أنفسكم واخفضوا أصواتكم ، وجرّدوا سيوفكم واجعلوها غارة ، فضعوا سيوفكم في من أشرف لكم ، واجتمعوا ولا تفترقوا ولا تمعنوا في الطلب.

ثم خرّب حرثهم وحرّق نخلهم ومنازلهم فصارت أعاصير من الدخان .. وما شعروا إلّا بالقوم قد شنوا الغارة عليهم ينادون بشعارهم : يا منصور أمت ، وأجالوا الخيل في عرصاتهم ، فمن أشرف لهم قتلوه ، ومن قدروا عليه سبوه أصابوا ما قرب منهم ولم يمعنوا في الطلب في قتل أحد منهم. وعرّفهم أسير بقاتل زيد بن حارثة فقتل أسامة قاتل أبيه. ثم أقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنم ، فأسهم أسامة للفرس سهمين ولصاحبه سهما ، وأخذ لنفسه مثل ذلك.

وعند المساء أمرهم بالرحيل ودليلهم حريث العذريّ أمامهم في ليلتهم.

__________________

(١) مغازى الواقدي ٣ : ١١٢٥ ، وانظر الطبري ٣ : ٢٤٠.

(٢) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٣.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٢.

(٤) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٥.

٩٨

وكانت هناك قرية يقال لها : كثكث ، كان أهلها قد اعترضوا لزيد بن حارثة فأصابوا من أطرافه ، فهم اليوم اعترضوا لأسامة في رجوعه ، فناهضهم وحرّق عليهم وأسر منهم أسيرين وساق من أنعامهم وهربوا ، فحمل معه الأسيرين ، وطوى البلاد حتى انتهى إلى وادي القرى في تسع ليال.

ومن وادي القراى بعث بشيره بسلامة المسلمين وأنهم قد أغاروا على العدوّ فأصابوهم.

ثم اقتصد في السير من وادي القرى إلى المدينة فسار البقية في ستة أيام ، فكان مجموع عودته خمسة عشر يوما ومجموع سفرته خمسة وثلاثين يوما (١).

وفي «إعلام الورى» ولعله عن أبان أيضا قال : فما كان بين خروج أسامة ورجوعه إلى المدينة إلّا نحو من أربعين يوما (٢).

ولما قدم المدينة خرج إليه أهلها رجالا ونساء سرورا بسلامتهم ، وأمامه بريدة بن الحصيب الأسلمي يحمل لواءه حتى انتهى به إلى المسجد فدخله وصلّى ركعتين ثم انصرف (٣).

وعرف أن أبا بكر قد عزله ، فقام على باب المسجد ثم صاح : يا معشر المسلمين! عجبا لرجل استعملني عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فتأمّر عليّ وعزلني (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٤ ـ ١١٢٥.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٧٢ ، ونقل الأربعين يوما خليفة بن الخياط (م ٢٤٠ ه‍) في تاريخه : ٥٠ عن الزهري. والطبري في تاريخه ٣ : ٢٤١ عن المدائني ، وقال : ويقال : بل سبعين يوما ، ثم أبعد عن سيف عن عكرمة في ثلاثة أشهر ٣ : ٣١٩.

(٣) مغازي الواقدي ٣ : ١١٢٤ ـ ١١٢٥.

(٤) إعلام الورى ١ : ٢٧٢ ، وفي الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم ٢ : ٢٩٧ عن العقد الفريد ، وليس في العقد الفريد المطبوع المنشور.

٩٩

بريدة وبيعة أبي بكر :

فروى المرتضى عن الثقفي بسنده عن الثمالي عن الصادق عليه‌السلام : أن بريدة قدم من الشام وقد بايع الناس أبا بكر (١).

وروى ابن طاوس عن كتاب «المعرفة» للأسدي الرواجني بسنده : أن بريدة أتى عمران بن الحصين الخزاعي وذكّره بأمر رسول الله يوما في حائط رجل من الأنصار كل من دخل عليه أن يسلّم على عليّ بإمرة المؤمنين ، ومنهم أبو بكر وعمر ، فقال عمران : قد أذكر ذا.

فقال له بريدة : فانطلق بنا إلى أبي بكر فنسأله عن هذا الأمر ، فإنه لا يخبرنا عن رسول الله بكذب ولا يكذب على رسول الله ، فإن كان عنده عهد من رسول الله عهده إليه ـ بعد ذلك الأمر ـ أو أمر ، أمر به.

فانطلقا فدخلا على أبي بكر فذكرا له ذلك اليوم وقالا له : وأنت كنت ممن سلّم عليه بإمرة المؤمنين؟ فقال أبو بكر : قد أذكر ذلك. فقال بريدة :

فلا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتأمّر على عليّ بعد أن سمّاه رسول الله بأمير المؤمنين ، فإن كان عندك عهد من رسول الله عهده إليك أو أمر أمرك به بعد هذا فأنت عندنا مصدّق؟!

فقال أبو بكر : لا والله ما عندي عهد من رسول الله ولا أمر أمرني به ، ولكنّ المسلمين رأوا رأيا (؟!) فتابعتهم على رأيهم!

فقال بريدة : لا والله مالك ولا للمسلمين خلاف رسول الله!

فجاء عمر فقصّ أبو بكر كلامهما ، فقال عمر : ولكن عندي المخرج من ذلك ، لا تجتمع النبوة والملك في أهل بيت واحد!

__________________

(١) تلخيص الشافي ٣ : ٥٠ ، وعن الثقفي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٦٦.

١٠٠