موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

أو خروج أو إقامة ، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه وأشدّ ما أخذه على نبيّ من أنبيائه من عهد وذمّة» وختم الكتاب.

ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة وقال لأصحابه : الحقوا ـ رحمكم الله ـ بأهلكم ، وضعوا السلاح ، وداووا جرحاكم ، فمكثوا بذلك أياما (١).

وعلموا بقدوم علي عليه‌السلام إليهم ، فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب ، فأرسلا إلى وجوه الناس وأهل الرئاسة والشرف يدعوانهم إلى خلع عليّ والطلب بدم عثمان وإخراج ابن حنيف من البصرة. فبايعهم على ذلك أزد البصرة وبنو ضبّة وقيس عيلان ، وبايعهم بنو دارم كلهم إلّا بعض بني مجاشع من ذوي الدين والفضل.

وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم فذهبا إليه فتوارى عنهما ، فلم تزل به أمّه حتى أظهرته لهما فبايعهما عن كلّ بني عمرو بن تميم وبني حنظلة إلّا بني يربوع منهم فإنهم كانوا من شيعة علي عليه‌السلام (٢).

ونكث الناكثون عهدهم :

كانت البصرة فرج الهند ـ كما كان العرب يسمّونها ـ وكان فيها بحّارة من الهند والسند ومنهم الزطّ ، وكانوا سمرا أو سودا ، ولذا كان الفرس يسمّونهم «سياه بچگان الغلمان السود» (٣) فسمّاهم العرب : السيابجة (٤) فلما جاوروا

__________________

(١) الأيام ما بين عقد الصلح ونقضه إنما كانت يومين : فلم يلبث إلّا يومين ، عن الزهري في الطبري ٤ : ٤٦٩ وزاده سيف إلى ٢٦ يوما كما فيه أيضا ٤ : ٤٧٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٠ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٣) في هامش نسخة الارشاد ١ : ٢٥٢ : أصل الكلمة : سياه بچگان.

(٤) جاءت الكلمة كذا بالياء في الارشاد ١ : ٢٥٢ وتصحفت في كثير من الكتب بالباء : سبابجة ، وذكرها الجوهري في الصحاح في سبج وقال : لفظة معرّبة ١ : ٣٢١.

٥٤١

المسلمين وعرفوا الإسلام استبصر قوم منهم وتعبّدوا ، قال المفيد : حتى أكل السجود جباههم ، فأتمنهم عثمان بن حنيف على بيت المال ودار الإمارة (١).

وقال أبو مخنف : فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما. خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما ، قد ألبسوهم الدروع وتظاهروا فوقها بالثياب ، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه ، واقيمت الصلاة ، فتقدّم عثمان للصلاة وتقدم أصحاب الزبير يقدّمونه ويؤخرون ابن حنيف ، وتقدّم السيابجة الشرط فقدّموا عثمان وأخّروا الزبير ، فغالبهم أصحاب الزبير فقدّموه وأخّروا عثمان ، واستمر هذا حتى كادت الشمس أن تطلع وتصايح الناس : الصلاة الصلاة! أصحاب محمد! فقد طلعت الشمس! فتهاون ابن حنيف وتغلّب الزبير فصلى بالناس!

فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المتسلّحين : أن خذوا عثمان بن حنيف! فتقدّم إليه مروان بن الحكم بسيفه وجرّد هو سيفه فتضاربا ثم أخذه أصحاب مروان ، وأسروه وضربوه ضرب الموت ، ونتفوا كل شعرة في رأسه ووجهه حتى حاجبيه وأشفار عينيه ، وأسروا السيابجة سبعين رجلا ، وانطلقوا بهم إلى عائشة.

فأرسلت عائشة إلى الزبير أن اقتل السيابجة فقد بلغني ما صنعوا بك! فذبحهم الزبير وابنه عبد الله كما يذبح الغنم صبرا! فكانوا أول من ضرب عنقه صبرا من المسلمين.

وقالت لأبان بن عثمان : اخرج إلى ابن حنيف فاضرب عنقه ، فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله! فسمعها ابن حنيف فناداها : يا عائشة ، إنّ أخي سهل ابن حنيف خليفة عليّ بن أبي طالب على المدينة ، فأقسم بالله لئن قتلتموني ليضعنّ

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٨١.

٥٤٢

السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم فلا يبقي أحدا منكم! فكفّوا عنه وتركوه! وخيّروه بين أن يقيم أو يلحق بعلي ، فاختار الرحيل فخلّوا سبيله ، فرحل عنهم ، وكان غدر طلحة والزبير (وعائشة) بعثمان بن حنيف أول غدر كان في الإسلام (١).

وثار له ابن جبلة في يوم الجمل الأصغر :

قال المفيد : وبلغ حكيم بن جبلة العبديّ ما صنع القوم بعثمان بن حنيف (قبل إطلاقه) وقتلهم السيابجة المسلمين الصالحين خزّان بيت المال (٢) فنادى حكيم في قومه عبد القيس : يا قوم انفروا إلى هؤلاء الضالّين الظالمين. الذين سفكوا الدم الحرام وقتلوا العباد الصالحين ، واستحلّوا ما حرّم الله تعالى. فأجابه سبعمائة منهم فأتوا المسجد ، فقال لهم : أما ترون ما صنعوا بأخي عثمان بن حنيف! لست بأخيه إن لم أنصره ، ثم رفع يديه إلى السماء ودعا : اللهم إنّ طلحة والزبير لم يريدا بما عملا القربة منك ، وما أرادا إلّا الدنيا ، اللهم فاقتلهما بمن قتلا ، ولا تعطهما ما أمّلا! ثم أخذ رمحه وركب فرسه وخرجه وتبعه أصحابه (٣).

وقال أبو مخنف : إنه خرج في ثلاثمائة من عبد القيس.

فحمل طلحة والزبير عائشة على جملها وخرجوا إلى العبدي وقومه عبد القيس ، ولذا سمّى ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر (٤).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٠ ـ ٣٢١ عن الجمل لأبي مخنف.

(٢) سيأتي خبر بخصوص خزّان بيت المال منهم ، وهؤلاء كانوا حرّاس الوالي وشرطه.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٨٣.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٢ عن الجمل لأبي مخنف وعنه أيضا في أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٨. وفي ابن الخياط : في الجمل الاولى قبل قدوم علي عليه‌السلام قتل العبدي ، تاريخ خليفة : ١٠٨.

٥٤٣

وعن المدائني البصري بسنده قال : لما كانت الليلة التي اخذ فيها عثمان بن حنيف ، وبلغ حكيم بن جبلة ما صنعوا به ، قال : لست أخاف الله إن لم أنصره!

وكان في رحبة مدينة الرزق طعام يرتزقه الناس ، فأراد عبد الله بن الزبير أن يرزق منه أصحابه فاستولى عليه ، فجاء حكيم في جماعة من ربيعة من بكر بن وائل وعبد القيس وأكثرهم منهم ، إلى ابن الزبير في مدينة الرزق. فقال له ابن الزبير : ما لك يا حكيم؟

قال حكيم : نريد أن نرتزق من هذا الطعام ، وأن تخلّوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم عليّ ، والله لو أجد أعوانا عليكم أخبطكم (أقتلكم) بهم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم ، ولقد أصبحتم وإنّ دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم من إخواننا ، أما تخافون الله عزوجل! بم تستحلّون سفك الدماء! قال ابن الزبير : بدم عثمان بن عفّان!

قال حكيم : فالذين قتلتموهم (من الحرّاس الشرط الزطّ السّيابجة) قتلوا عثمان! أما تخافون مقت الله!

فقال ابن الزبير : لا نرزقكم من هذا الطعام ، ولا نخلّي سبيل عثمان ابن حنيف حتى يخلع عليا!

فرفع حكيم رأسه وقال : اللهم إنك حكم عدل فاشهد. ثم التفت إلى قومه وقال لهم : اني لست في شك من قتال هؤلاء ، فمن كان في شك فلينصرف ، ثم حمل عليهم فقاتلهم (١).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٧٤ ـ ٤٧٥ ، واختصر الخبر ابن الخياط في تاريخه : ١١٠ بسند أتم من الطبري. وانظر وقارن أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٨ عن أبي مخنف ، ذكر هذه المقابلة بينه وبين طلحة والزبير نفسه لا ابنه عبد الله ، وذكر مطاليب العبدي بدون الارتزاق.

٥٤٤

قال المفيد : وأقبل طلحة والزبير وقد انضمّ إليهم الجمهور في كثرة من الناس ، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى والجرحى (١) وبرز إلى حكيم بن جبلة رجل من القوم فضربه بالسيف على رجله فقطعها ، فتناولها حكيم بيده ورماه بها فصرعه ، ثم صار إلى حكيم أخوه المعروف بالأشرف ، فسأله : من أصابه؟ فأشار إليه فأدركه فقتله ، ثم تكاثر الناس عليهما فقتلا (٢).

وقال أبو مخنف : شدّ رجل من الأزد على حكيم فقطع رجله ووقع هو عن فرسه ، فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه ، ثم زحف إليه فاتّكأ عليه وخنقه حتى زهقت نفسه وتوسّده ، فسئل : من قتلك؟ قال : وسادي! وقتل معه ثلاثة من إخوانه ، وكل أصحابه من عبد القيس الثلاثمائة والقليل منهم من بكر بن وائل (٣).

وبقيت من السيابجة طائفة ـ في أربعمائة ـ مستمسكين ببيت المال يقولون : لا ندفعه حتى يقدم أمير المؤمنين. فلما كان الليل سار إليهم الزبير في جيش ، فكانت القتلى يومئذ من السيابجة أربعمائة رجل ، وأسر منهم خمسون فقتلهم الزبير صبرا أيضا (٤).

قال البلاذري : قتلوهم ورئيسهم أبا سلمة الزطّي ، وكان عبدا صالحا (٥).

كانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين (٦).

__________________

(١) ويرجح أن يكون الخمسمائة المصابون منهم إنما اصيبوا اليوم.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٢ وخرج الباقون منهم حتى نزلوا على طريق الإمام عليه‌السلام ، الطبري ٤ : ٤٧٢ عن سيف.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢١ عن كتاب الجمل لأبي مخنف عن الصقعب بن زهير.

(٥) أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٨ عن أبي مخنف أيضا.

(٦) الطبري ٤ : ٤٧٤ عن سيف التميمي ، ولا تاريخ سواه!

٥٤٥

أبو الأسود وبيت مال البصرة :

كأنّ أبا الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي (والدؤل اسم دابة كابن عرس) الكناني البصري ممن مرّ على أبي ذر الغفاري بالرّبذة ، وكان أبو الأسود كاتبا ومصطحبا سوادا وبياضا للكتابة ، واستكتب أبا ذر حديثا ، قال : فقال لي أبو ذر : دخلت صدر النهار على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمسجده وإذا ليس معه إلّا علي عليه‌السلام ، فقلت له : يا رسول الله أوصني بوصية ينفعني الله بها ، فقال : نعم وأكرم بك يا أبا ذر ، أنت منّا أهل البيت ، وإني موصيك بوصية فاحفظها ، فإنها جامعة لطرق الخير وسبله ، وإنك إن حفظتها كان لك بها كفلان ، ثم قال : يا أبا ذر ... إلى آخر الوصية (١) فكأنّ أبا الأسود من هنا تعلم التشيّع لعلي عليه‌السلام ، وكان موسرا ومحاسبا ، فاستأمنه ابن حنيف حاسبا لبيت مال البصرة ولم يكن من حملة السلاح ، ولما قاتل الزبير حرّاسه السيابجة وقتلهم لم يكن معهم أبو الأسود وكانت المفاتيح معه ، فبعث الشيخان إليه فأحضروه.

فروى المفيد عنه : أنهما لما دخلاه وتأمّلا ما فيه من الذهب والفضة قالا : هذه هي الغنائم التي وعدنا الله بها وأخبرنا أنه يعجّلها لنا (٢) ، وقرأ الزبير : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ)(٣) وقال : فنحن أحق بها من أهل البصرة (٤)

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٥٢٥ ـ ٥٤١ ، الحديث ١١٦٢ ، م ١٩ ، الحديث ١ ، وعنه الطبرسيّ الولد في مكارم الأخلاق : ٤٥٨ ف ٥ ، وتنبيه الخواطر : مجموعة ورّام الحلّي ٢ : ٥١ ـ ٦٦ مرسلا ، وشرحها المجلسيّ بالفارسية بعنوان : عين الحياة ، وعرّبها السيد هاشم الميلاني ونشرت في مجلدين.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٨٥.

(٣) الفتح : ٢٠.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣٢٢ عن الجمل لأبي مخنف.

٥٤٦

وكانا في طائفة من أنصارهما معهما فاحتملا منه شيئا كثيرا ، وتقدمت عائشة بحمل مال منه لتفرّقه في أنصارها ، فلما خرجها أقفلا أبوابه وبرز طلحة ليختمه فمنعه الزبير وأراد ختمه فمنعه طلحة ، فبلغ ذلك عائشة فبعثت ابن اختها عبد الله وقالت له : يختمانه وتختم أنت عنّي فختم بثلاثة ختوم! ووكّلا به قوما من قبلهما (١)! واصطلحوا على أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ليكون على بيت مال البصرة (٢).

منازل الثعلبية والإساد وذي قار :

ونفذ الإمام عليه‌السلام من الربذة إلى ذي قار ، فلما نزل بمنزل الثعلبية أتاه ما لقي عثمان بن حنيف وحرسه ، فقام وأخبر من حضره الخبر وقال : اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير من قتل المسلمين ، وسلّمنا منهم أجمعين.

ولما انتهى إلى منزل الإساد أتاه ما لقى حكيم بن جبلة العبدي ومن قتل معه ، فقرأ : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها)(٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٨٤ ثم قال : قال أبو الأسود : لقد سمعت هذا منهما ، ورأيت بعد ذلك عليا عليه‌السلام لما دخل بيت مال البصرة ورأى ما فيه (وقد ردّ تلك الأموال إلى بيت المال ، شرح النهج ٩ : ٣٢٣) قال لها : «يا صفراء يا بيضاء غرّي غيري ، المال يعسوب الظلمة وأنا يعسوب المؤمنين» فلا والله ما التفت إلى ما فيه ولا فكّر فيما رآه منه ، وما وجدته عنده إلّا كالتراب هوانا! فعجبت من القوم ومنه عليه‌السلام ، وقويت بصيرتي فيه وقلت : اولئك ممن يريد الدنيا وهذا ممن يريد الآخرة : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٢) الطبري ٤ : ٤٧٤ عن النميري الطبري عن المدائني البصري بسنده.

(٣) الحديد : ٢٢. والخبر في الطبري ٤ : ٤٨١ عن سيف.

٥٤٧

ثم قام على غرائر الأحمال فقال : إنه أتاني خبر فضيع ونبأ جليل : إن طلحة والزبير وردا البصرة فوثبا على عاملي فضرباه ضربا مبرّحا ، وترك لا يدرى أحيّ هو أم ميت! وقتلا العبد الصالح حكيم بن جبلة في عدة من رجال مسلمين صالحين لقوا الله موفين ببيعتهم ماضين على حقّهم ، وقتلا السيابجة خزّان بيت المال للمسلمين ، قتلوا طائفة منهم صبرا واخرى غدرا!

فبكى الناس بكاء شديدا ، ورفع أمير المؤمنين يديه يدعو يقول : اللهم اجز طلحة والزبير جزاء الظالم الفاجر والخفور الغادر (١).

ولما انتهى إلى ذي قار أتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس منهم ونزولهم على طريقه ينتظرونه ليلحقوا به ، فقال عليه‌السلام : عبد القيس خير ربيعة وفي كل ربيعة خير ، ثم قال :

يا لهف نفساه على ربيعة

ربيعة السامعة المطيعة

قد سبقتني فيهم الوقيعة

دعا عليّ دعوة سميعة

 حلّوا بها المنزلة الرفيعة

وانتهى إليه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعر! فلما رآه عليّ عليه‌السلام نظر إلى أصحابه وقال لهم : انطلق هذا من عندنا وهو شيخ فرجع إلينا وهو شاب (٢).

وروى الطبري عن المدائني عن ابن الحنفية قال : قدم عثمان بن حنيف على علي عليه‌السلام وقد نتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه ، فلما رأى عليا قال له : يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وجئتك أمرد! فقال عليه‌السلام : فأصبت أجرا وخيرا. ثم قال : إن الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب ، ثم وليهم ثالث فقالوا وفعلوا ،

__________________

(١) الكافية في إبطال توبة الخاطئة للشيخ المفيد وعنه في بحار الأنوار ٣٢ : ٩٢.

(٢) الطبري ٤ : ٤٨١ عن سيف.

٥٤٨

ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير ، ثم نكثا بيعتي وألّبا عليّ ، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما عليّ ، والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممّن قد مضى. ثم قال : اللهم فاحلل ما عقدا ، ولا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما ، وأرهما المساءة فيما قد عملا (١).

وقال المفيد : لما نظر إليه أمير المؤمنين بكى ثم قال : يا عثمان بعثتك شيخا ألحى (ذا لحية) فردّوك إليّ أمرد! ثم قال : اللهم إنك تعلم أنهم اجترؤوا عليك واستحلّوا حرماتك ، اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي ، وعجّل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي (٢) وأقام عثمان عنده يعالج ممّا به حتى وصل أهل الكوفة إلى ذي قار (٣).

وكتبوا بأخبارهم إلى الأطراف :

قالوا : وأقامت عائشة وطلحة والزبير بالبصرة وكتبوا بما صاروا إليه إلى أهل الشام (كذا) :

أما بعد ، فإنا خرجنا لإقامة كتاب الله وحدوده في الكثير والقليل والشريف والوضيع! فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم ، وخالفنا نزّاعهم وشرارهم ، وقالوا : نأخذ أمّ المؤمنين رهينة! أن أمرتهم بالحق وحثّتهم عليه ، واستبسل قتلة أمير المؤمنين ، فخرجوا إلى مضاجعهم فلم يفلت منهم مخبر ... وإننا نناشدكم الله في أنفسكم إلّا نهضتم بمثل ما نهضنا به! فنلقى الله وتلقونه وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا. وبعثوا به مع سيّار العجلي.

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٨٠.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٨٥.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٨٩.

٥٤٩

وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة (كذا) : أما بعد ، فإني أذكّركم الله والإسلام! أقيموا كتاب الله بإقامة ما فيه ، واتّقوا الله واعتصموا بحبله! وكونوا مع كتابه ، ثم إنا قدمنا البصرة فدعوناهم إلى إقامة كتاب الله بإقامة حدوده ، فأجابنا الصالحون إلى ذلك ، واستقبلنا من لا خير فيه بالسلاح وقالوا : لنتبعنّكم عثمان! فمكثنا ستا وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده وحقن الدماء أن تهراق دون من قد حلّ دمه! فأبوا واحتجّوا بأشياء ... فكان ذلك الدأب ستّة وعشرين يوما ندعوهم إلى الحق ، وأن لا يحولوا بيننا وبين الحق ، فغدروا وخانوا! وغادروني في الغلس ليقتلوني ، فلم يبرحوا حتى بلغوا سدّة بيتي ومعهم هاد يهديهم إليّ! فدارت عليهم الرحى فأطاف بهم المسلمون فقتلوهم ، وجمع الله كلمة أهل البصرة على ما أجمع عليه الزبير وطلحة! وكانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين ، وكتب عبيد الله بن كعب (١).

وكتبت إلى أهل المدينة : من أم المؤمنين عائشة زوجة النبي (٢) وابنة الصدّيق (٣) إلى أهل المدينة (كذا) : أما بعد ، فإن الله أظهر الحق ونصر طالبيه ... فاتّقوا الله عباد الله واسمعوا وأطيعوا (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) وعروة الحق ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا ، فإن الله قد جمع كلمة أهل البصرة (!) وأمّروا عليهم الزبير بن العوام فهو أمير الجنود ، والكافّة يجتمعون له على السمع والطاعة! فإذا اجتمعت كلمة المؤمنين على امرائهم عن ملأ منهم وتشاور فإنا ندخل في صالح ما دخلوا فيه ، فإذا جاءكم كتابي هذا فاسمعوا وأطيعوا وأعينوا

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٧٢ ـ ٤٧٤ عن سيف ، وتأمّل التحريف.

(٢) الأفصح : زوج النبيّ ، والتأنيث من المولّدين المتأخّرين.

(٣) الأصح أن إطلاق هذا اللقب إنما كان من إشاعات معاوية. فهو من الوهن في الخبر.

٥٥٠

على ما سمعتم من أمر الله ، وكتب عبيد الله بن كعب ، لخمس ليال من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين (١).

وكتبت إلى ضرّتها وصديقتها حفصة بنت عمر بالمدينة : «أما بعد ، فإنّا نزلنا البصرة ، ونزل عليّ بذي قار ، وقد دقّ الله عنقه كدقّ البيضة على الصفا ؛ إنه بذي قار بمنزلة الأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر عقر» (٢) ودسّته مع القشيري ابن قدامة (٣).

فلما وصل الكتاب إلى حفصة استبشرت به ، ودعت صبيان بني تميم وعديّ وأمرت جواريها أن يضربن بالدفوف ويقلن :

ما الخبر ما الخبر؟

عليّ كالأشقر

إن تقدّم نحر

وإن تأخّر عقر

فلما بلغ أمّ سلمة مسرّة اولئك النسوة من تيم وعدي بالكتاب الواصل إليهن من أم المؤمنين عائشة ، بكت وطلبت ثيابها وقالت : لأخرج إليهن وأقع بهنّ!

وكانت أمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) حاضرة فقالت لها : أنا أنوب عنك فأنا أعرف منك. ثم لبست ثيابها وتخفّرت وتنكّرت ، واستصحبت جواريها متخفّرات ، ومضت حتى دخلت عليهن كأنها من النظّارة ، ثم كشفت عنها نقابها وأبرزت وجهها وتوجّهت إلى حفصة وقالت لها : إن تظاهرت أنت واختك (عائشة) على أمير المؤمنين ، فقد تظاهرتما على أخيه رسول الله من قبل ، فأنزل الله فيكما ما أنزل (٥) والله من وراء حربكما!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٩٩ ـ ٣٠٠ عن الواقدي.

(٢) مثل قاله لقيط بن زرارة وكان على فرس أشقر. انظر الأمثال لابن سلّام : ٢٦٢.

(٣) الطبري ٤ : ٤٧٢.

(٤) كذا ، وقد مرّ الخبر أنها ماتت من قبل ، فالراجح أنها زينب الكبرى ولكنّ أمّ كلثوم اشتهرت أكثر.

(٥) من الآيتين ٣ و٤ من التحريم.

٥٥١

فأظهرت حفصة خجلا وانكسرت وقالت : إنهنّ إنما فعلن هذا بجهل! ثم فرّقتهنّ فانصرفن (١).

وبلغ النقل إلى الوالي سهل بن حنيف الأنصاري الأوسي ، فأنشا شعرا :

عذرنا الرجال بحرب الرجال

فما للنساء وما للسّباب؟

أما حسبنا ما اتينا به

 ـ  لك الخير ـ من هتك ذاك الحجاب؟

ومخرجها اليوم من بيتها

يعرّفها الذنب نبح الكلاب!

إلى أن أتانا كتاب لها

مشوم ، فيا قبح ذاك الكتاب  )!

خطبة طلحة بعد الوقعة :

بعد وقعة الجمل الأصغر أو الأولى ، وبعد أن سرّح طلحة عثمان بن حنيف خوفا من حيف أخيه سهل بن حنيف في المدينة ، قام طلحة خطيبا فيمن حضره من أهل البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله توفي وهو عنّا راض وكنّا مع أبي بكر حتى مات وهو عنا راض ، ثم كان عمر بن الخطاب فسمعناه وأطعناه حتى قبض وهو عنا راض ، فأمرنا بالتشاور في أمر الخلافة من بعده ، واختار ستة نفر رضيهم للأمر ، فاستقام أمرنا على رجل من الستة ولّيناه واجتمع رأينا عليه وهو عثمان ، وكان أهلا لذلك ، فبايعناه وسمعناه وأطعناه.

وأحدث ـ بعد ذلك ـ أحداثا لم تكن على عهد أبي بكر وعمر ، فكرهها الناس منه! ولم يكن لنا بدّ مما صنعناه!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٧٦ ، ونقله المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١٤ : ١٣ عن المدائني والواقدي وأبي مخنف عن الحسن البصري.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ١٤ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

٥٥٢

ثم أخذ هذا الرجل (عليّ) الأمر دوننا من غير مشورتنا ، وتغلّب عليه ، ونحن وهو فيه شرع سواء ، فاتي بنا إليه واللجّ (سيف الأشتر) على أعناقنا فبايعناه كرها!

والذي نطلب الآن منه ـ أيها الناس ـ أن يدفع إلى ورثة عثمان قاتليه ـ فإنّه قتل مظلوما ـ ويخلع عنه هذا الأمر ويعتزله ، ليتشاور المسلمون فيمن يكون لهم إماما ؛ كسنّة عمر بن الخطاب في الشورى ، فإذا استقام رأينا ورأي أهل الإسلام على رجل بايعناه!

فقام إليه رجل من متقدّمي عبد القيس والتفت إلى الناس وقال لهم : أيها الناس انصتوا أتكلّم لكم! وعرفه ابن الزبير أنه من عبد القيس فخاف منطقه فقال له : ويلك ما لك وللكلام؟! فقال الرجل له : ما لي وللكلام! أنا والله للكلام! ثم حمد الله وأثنى عليه وذكر النبيّ فصلّى عليه ثم التفت إليهما وقال لهما :

يا معاشر المهاجرين : كنتم أول الناس إسلاما ، بعث الله نبيّه محمدا بينكم فدعاكم فأسلمتم ، ثم أسلمنا لإسلامكم ، فكنتم فيه القادة ونحن لكم تبع ، ثم توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبايعتم رجلا منكم لم تستأذنونا في ذلك فسلّمنا لكم ، ثم توفي ذلك الرجل واستخلف عمر بن الخطاب فو الله ما استشارنا في ذلك (ولكن) رضيتم فرضينا وسلّمنا ، ثم إنّ عمر جعلها شورى في ستة نفر ، فاخترتم واحدا منهم فسلّمنا لكم واتبعناكم.

ثم إن الرجل أحدث أحداثا أنكرتموها فحصرتموه وخلعتموه وقتلتموه وما استشرتمونا في ذلك.

ثم بايعتم عليّ بن أبي طالب وما استشرتمونا في بيعته فرضينا وسلّمنا وكنا لكم تبعا ؛ فو الله ما ندري بما ذا نقمتم عليه : هل استأثر بمال؟! أو حكم بغير ما أنزل الله؟! أو أحدث حدثا منكرا؟! فحدّثونا به نكن معكم! فو الله ما نراكم إلّا قد ظللتم بخلافكم له!

٥٥٣

فناداه ابن الزبير : ما أنت وذاك؟! فهمّ قوم أن يثبوا عليه فمنعه قومه.

وقام عظيم آخر من عبد القيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ؛ إنه قد كان أوّل هذا الأمر وقوامه المهاجرين والأنصار بالمدينة ، ولم يكن لأحد من أهل الأمصار أن ينقضوا ما أبرموا ولا يبرموا ما نقضوا ، فكانوا إذا رأوا رأيا كتبوا به إلى الأمصار فسمعوا لهم وأطاعوا.

وإنّ عائشة وطلحة والزبير كانوا أشدّ الناس على عثمان حتى قتل وبايع الناس عليا وبايعه في جملتهم طلحة والزبير ، وجاءنا نبأهما ببيعتهما له فبايعناه ، فلا ـ والله ـ ما نخلع خليفتنا ولا ننقض بيعتنا!

فصاح عليه طلحة والزبير ، فأخذوه ، فأمرا بنتف لحيته كابن حنيف فنتفوها (١)!

وكأنّ عبد القيس لم تستطع هنا أن تمنع عنه إلّا بالقتال وقد أكل منهم ، فقرّروا أن يخرجوا من المسجد ثم يخرجوا من البصرة إلى طريق الإمام عليه‌السلام إليها ليلتحقوا به فينتقموا من هؤلاء الأشقياء.

وكأنّه لما خرج هؤلاء من البلد أراد طلحة أن يخطب ودّ من بقي من أهل البصرة فخطبهم فقال فيما قال : يا معشر المسلمين ؛ إن الله قد جاءكم بامّ المؤمنين ، وقد عرفتم بحقها ومكانها من النبيّ ومكان أبيها في الإسلام ، وها هي تشهد لنا أنا لم نكذبكم فيما أخبرناكم به ، ولا غرّرناكم فيما دعوناكم إليه من قتال علي بن أبي طالب وأصحابه ، الصادّين عن الحق!

ولسنا نطلب ملكا ولا خلافة! وإنما نحذّركم أن تغلبوا على أمركم وتقصّروا دون الحق! وقد رجونا أن يكون عندكم عون لنا على طاعة الله وإصلاح الامة! فإنّ أحقّ من عناه أمر المسلمين ومصلحتهم أنتم يا أهل البصرة لتمكّنكم في الدين!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٠٧.

٥٥٤

وإنّ عليا لو عمل الجدّ في نصرة امتكم لاعتزل هذا الأمر حتى تختار الامة لأنفسها من ترضاه!

فنادى بعض من حضر : أهلا وسهلا ومرحبا بام المؤمنين! والحمد لله على إكرامنا بها! وانتم عندنا ثقة ورضا ، وأنفسنا مبذولة لكم ، ونموت على طاعتكم ورضاكم!

ثم قام جمع منهم إلى عائشة فسلّموا عليها وقالوا لها : قد علمنا أن أمّنا لم تخرج إلينا إلّا لثقتها بنا ، وأنها تريد الإصلاح وحقن الدماء وإطفاء الفتنة ، والالفة بين المسلمين! وإنا ننتظر أمرها في ذلك! فإن أبى عليها أحد قاتلناه حتى يفيء إلى الحق (١).

ومن أخبار ذي قار (٢) :

قال المفيد : ولما نزل بذي قار أمر من حضره بتجديد بيعتهم ، ثم خطبهم فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

قد جرت امور صبرنا فيها ـ وفي أعيننا القذى ـ تسليما لأمر الله تعالى ، فيما امتحننا به رجاء الثواب على ذلك ، وكان الصبر عليها أمثل من أن يفترق المسلمون وتسفك دماؤهم.

ثم قال : نحن أهل بيت النبوة وأحقّ الخلق بسلطان الرسالة ، ومعدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الامة. وهذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة ،

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٢) ذو قار معرّب محرّف عن الفارسية : قار قير گير ، وهي المادة المعروفة الحاصلة من النفط ، موضع قرب الناصرية اليوم بين العراقين : الكوفة والبصرة على حافة بادية الحجاز.

٥٥٥

ولا من ذرية الرسول ، حين رأيا أن الله قد ردّ علينا حقّنا بعد أعصر ، فلم يصبرا حولا واحدا ولا شهرا كاملا! حتى وثبا عليّ دأب الماضين قبلهما ليذهبا بحقّي ويفرّقا جماعة المسلمين عنّي. ثم دعا عليهما (١).

وقال : والله لنظهرنّ على هذه الفرقة ، ولنقتلنّ هذين الرجلين (طلحة والزبير) ولنستبيحنّ عسكرهما (٢).

الحسن عليه‌السلام في الكوفة :

قال أبو مخنف : لما نزل علي عليه‌السلام بذي قار وأبطأ عليه أخبار ابن عباس (٣) وابن أبي بكر ولم يدر ما صنعا ، بعث إلى الكوفة ابنه الحسن عليه‌السلام مع عمار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة (٤) وزيد بن صوحان العبدي ومعهم كتاب إلى أهل الكوفة

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٤٩ مرسلا.

(٢) الأمالي للمفيد : ٣٣٥ ، م ٣٩ ، الحديث ٥ بسنده عن المنهال بن عمرو الكوفي عن رجل من تميم قال : كنا مع أمير المؤمنين علي بذي قار ونحن نرى أنا سنتخطّف في يومنا فسمعته يقول : وذكر الخبر ثم قال : فأتيت عبد الله بن العباس وقلت له : أما ترى إلى ابن عمّك وما يقول؟! فقال : لا تعجل حتى ننظر ما يكون!

فلما كان من أمر البصرة ما كان أتيته فقلت له : لا أرى ابن عمك إلّا قد صدق! فقال : ويحك! إنا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كنا نتحدّث أن النبيّ عهد إليه ثمانين عهدا لم يعهد شيئا منها إلى أحد غيره! فلعلّ هذا مما عهده إليه.

ولعلّ فيه ما يؤيّد أنهم في خروجهم من المدينة كانوا ستمائة ، وعند مرورهم بطيّئ وأسد انشدّ إليهم منهم ستمائة آخرون فكانوا جميعا ألفا ومائتين ولم يكونوا أربعة آلاف أو يزيدون!

(٣) هذا على قول أبي مخنف وإلّا فالسابقان المحمدان ابن أبي بكر وابن جعفر.

(٤) مرّ خبر عن حضوره في المدينة عند الخروج منها بدون خبر عن من خلفه في مصر.

٥٥٦

(دون الأشعري). وتلقاهم ناس من أهل الكوفة إلى القادسية (١) ، فلما دخلوا الكوفة قرءوا الكتاب عليهم وفيه : «من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين ، أما بعد ، فإني خرجت مخرجي هذا إمّا ظالما وإمّا مظلوما ، وإمّا باغيا وإمّا مبغيّا عليّ! فأنشد الله رجلا بلغه كتابي هذا إلّا نفر إليّ ، فإن كنت مظلوما أعانني ، وإن كنت ظالما استعتبني! والسلام» (٢).

وروى الطوسي بطريقه إلى أبي الصلت الأهوازي بسنده عن الباقر عليه‌السلام عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال : قال علي عليه‌السلام في ذي قار : والله إنه ليحزنني أن أصل إلى هؤلاء في قلّة من معي! فأرسل إلى الكوفة ابنه الحسن عليه‌السلام وعمّار بن ياسر وقيس بن سعد بن عبادة ، وكتب معهم كتابا إليهم.

فلما قدموا الكوفة خطب الحسن الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ثم ذكر عليا وسابقته في الإسلام وبيعة الناس له ، وخلاف من خالفه ، ثم أمر بكتاب علي عليه‌السلام فقرئ عليهم :

__________________

(١) وروى القاضي المغربي في شرح الأخبار ١ : ٣٨٣ الحديث ٣٢٤ : أنه لما بلغ أهل الكوفة قدوم الحسن بن علي مع عمار بن ياسر وكان قد انتهى إليهم أن عمارا سمع من رسول الله في ذلك شيئا ، فأجمع جمع منهم على أن يوجّهوا للقائه هند ابن عمرو الجملي المذحجي ليسأل عمارا عما سمعه من رسول الله في ذلك. فمضى هند حتى لقيهما وهما نازلان بموضع يقال له قاع البيضة ، فخلا بعمار ثم قال له : كلمة قصيرة من طويلة : أنا رائد القوم ، والرائد لا يكذب أهله ، وقد أرسلوني إليك لتخبرني بما سمعت من رسول الله في هذا الأمر. فقال عمار : أشهد بالله لقد أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن اقاتل مع عليّ الناكثين والقاسطين والمارقين.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ١٠ ـ ١١ عن كتاب الجمل لأبي مخنف ، ونحوه القاضي النعمان المصري في شرح الأخبار ١ : ٣٨٣ ، الحديث ٣٢٤ ، وفي نهج البلاغة ك ٧٥ مرسلا ، وفي وقعة صفين : ١٥ : أنه أرسلهم من منزل عذيب الهجانات.

٥٥٧

«بسم الله الرحمنِ الرحیم ، أما بعد ، فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه :

إن الناس طعنوا عليه ، وكنت رجلا من المهاجرين اكثر استعتابه وأقل عيبه ، وكان هذان الرجلان أهون سيرهما فيه الوجيف (السريع) وقد كان من أمر عائشة فيه فلتة غضب ، فأتيح له قوم فقتلوه.

ثم إن الناس بايعوني غير مستكرهين ، وكان هذان الرجلان من أول من بايع على ما بويع عليه من كان قبلي.

ثم إنهما استأذناني في العمرة وليسا يريدانها ، فنقضا العهد وآذنا بحرب ، وأخرجا عائشة من بيتها ليتّخذانها فئة ، وقد سارا إلى البصرة اختيارا لها ، وها أنا أسير إليكم اختيارا لكم ، ولعمري ما إياي تجيبون ، ما تجيبون إلّا لله ورسوله ، ولن اقاتلهم وفي نفسي منهم (حرج) وقد بعثت إليكم بابني الحسن ، وعمّار بن ياسر ، وقيس بن سعد ، مستنفرين لكم ، فكونوا عند ظنّي بكم ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله» (١).

فلما قرئ الكتاب على الناس قام شريح بن هانئ الحارثي الهمداني المذحجي فقال : والله لقد أردنا أن نركب إلى المدينة حتى نعلم علم عثمان ، فقد أنبأنا الله به ونحن في بيوتنا ، وقد رضينا بأمير المؤمنين ونطيع أمره ولا نتخلف عن دعوته ، والله لو لم يستنصرنا لنصرناه ، سمعا وطاعة!

فلما سمع الحسن عليه‌السلام ذلك قام خطيبا فقال :

أيها الناس ، إنه قد كان من أمير المؤمنين عليّ ما تكفيكم جملته ، وقد أتيناكم مستنفرين لكم ؛ لأنكم جبهة الأمصار (٢) ورؤساء العرب ، وقد كان من نقض طلحة

__________________

(١) راجع وقارن بكتابه إليهم من الربذة وانظر الفروق بينهما ، وانظر الجمل للمفيد : ٢٥٩.

(٢) وفي الجمل للمفيد : ٢٤٥ : الأنصار ، خطأ.

٥٥٨

والزبير وخروجهما بعائشة ما قد بلغكم ، وهو من ضعف النساء وضعف رأيهن ، كما قال الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ)(١).

وايم الله لو لم ينصره أحد لرجوت أن يكون له في من أقبل معه من المهاجرين والأنصار ، ومن يبعث الله له من نجباء الناس كفاية ، فانصروا الله ينصركم ، وجلس.

فقام عمّار بن ياسر ـ دون الحسن بمرقاة ـ وقال :

يا أهل الكوفة ، إن كانت غابت عنكم أبداننا فقد انتهت إليكم امورنا : إنّ قاتلي عثمان لا يعتذرون إلى الناس وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاجّيهم ، أحيا الله من أحيا وقتل من قتل.

وإن طلحة والزبير أوّل من طعن وآخر من أمر (٢) ثم بايعا أول من بايع ، فلما أخطأهما ما أمّلا نكثا بيعتهما على غير حدث كان.

وهذا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستنفركم ، وقد أظلّكم في المهاجرين (هو) والأنصار (قيس) فانصروه ينصركم الله ، ثم سكت وجلس.

ثم قام قيس بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ؛ إن هذا الأمر لو استقبلنا به الشورى لكان عليّ أحق الناس به ، في سابقته وهجرته وعلمه ، وكان قتال من أبى ذلك حلالا ، فكيف والحجة قامت على طلحة والزبير فقد بايعاه ، وإنما خلعاه حسدا! ثم قال شعرا :

جزى الله أهل الكوفة اليوم نصره

أجابوا ولم يأتوا بخذلان من خذل

وقالوا : عليّ خير حاف وناعل

رضينا به من ناقض العهد من بدل

هما أبرزا زوج النبيّ تعمّدا

يسوق بها الحادي المنيخ على جمل

__________________

(١) النساء : ٣٤.

(٢) فكان مصرّا عليه إلى آخر الأمر.

٥٥٩

فما هكذا كانت وصاة نبيّكم

وما هكذا الإنصاف أعظم بذا المثل

فهل بعد هذا من مقال لقائل

ألا قبّح الله الأمانيّ والعلل

فقام النجاشي شاعر الكوفة فأنشأ يقول :

رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا

عليا وأبناء النبيّ محمد

وقلنا لهم : أهلا وسهلا ومرحبا

نمدّ يدينا من هوى وتودّد

فمرنا بما ترضى ، نجبك إلى الرضا

بصمّ العوالي والصفيح المهنّد

وتسويد من سوّدت غير مدافع

وإن كان من سوّدت غير مسوّد

فإن نلت ما تهوى فذاك نريده

وإن تخط ما تهوى فغير تعمّد

فلما سكتوا قام أبو موسى فخطب فقال : أما بعد فإن الله حرّم دماءنا وأموالنا فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ... (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)(١) وقال : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)(٢).

خطاب الأشعري وشعوره :

قال المفيد : فلما فرغ القوم من كلامهم قام أبو موسى الأشعري فقال : أيها الناس ، أطيعوني تكونوا جرثومة من جراثيم العرب ، يأوي إليكم المظلوم ويأمن فيكم الخائف ، إنا ـ أصحاب محمد ـ أعلم بما سمعنا : «الفتنة إذا أقبلت أشبهت وإذا أدبرت أسفرت» وإن هذه فتنة نافذة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصّبا والدّبور ، وتنكب أحيانا فلا يدرى من أن تأتي.

شيموا سيوفكم ، وقصّروا رماحكم ، وقطّعوا أوتاركم والزموا البيوت.

__________________

(١) النساء : ٢٩.

(٢) النساء : ٩٣ ، والخبر في أمالي الطوسي : ٧١٨ ـ ٧٢٠ الحديث ١٥١٨ ، وراجع وقارن بالجمل للمفيد : ٢٤٣ ـ ٢٤٧ ، والإمامة والسياسة ١ : ٦٥ ـ ٦٨.

٥٦٠