موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

وذكر الثقفي في تاريخه عن ثعلبة بن حكيم قال : كنت جالسا عند عثمان مع أناس من أصحاب محمد من أهل بدر وغيرهم ، إذ جاء أبو ذر يتوكّأ على عصاه ، فسلم ثم قال لعثمان : يا عثمان اتّق الله ، إنك تسمع كذا وكذا وتصنع كذا وكذا ، وذكر مساوئه وانصرف وعثمان ساكت ، فلما انصرف أبو ذر قال عثمان : من يعذرني من هذا الذي لا يدع مساءة إلّا ذكرها؟!

ثم أرسل خلف علي عليه‌السلام فجاء فقال له : يا أبا الحسن! ما ترى أبا ذر لا يدع لي مساءة إلّا ذكرها؟ فقال علي عليه‌السلام لعثمان : يا عثمان إني أنهاك بحق أبي ذر ـ ثلاث مرات ـ اتركه فهو كما قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون : (إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فقال له عثمان : بفيك التراب! فقال علي عليه‌السلام : بل بفيك التراب ، وانصرف (١).

وروى الكشي بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أن عثمان أرسل إلى أبي ذر مائتي دينار مع موليين له قال لهما : قولا له : إنّ عثمان يقرئك السلام ويقول لك : هذه مائتا دينار فاستعن بها على ما نابك ، وإنه يقول : هذا من صلب مالي ، وبالله الذي لا إله إلّا هو ما خالطها حرام ولا بعثت إليك بها إلّا من حلال!

فقال أبو ذر : فهل أعطى أحدا من المسلمين مثل ما أعطاني؟ قالا : لا ، فقال : فأنا رجل من المسلمين ، ولا حاجة لي فيها وأنا من أغنى الناس ، فإن تحت هذا الكساء للدّابة رغيفا شعير من أيام ، فما أصنع بهذه الدنانير؟ حتى يعلم الله أني لا أقدر على قليل ولا كثير ، فردّاها عليه وأعلماه أن لا حاجة لي فيها ولا فيما عنده حتى ألقى الله ربّي فيكون هو الحاكم بيني وبينه (٢).

__________________

(١) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٨٨ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي (م ٤٤٧ ه‍).

(٢) رجال الكشي : ٢٧ ، الحديث ٥٣.

٣٦١

أبو ذر إلى الشام وخطبته فيها :

قال اليعقوبي : فسيّره إلى الشام إلى معاوية ، فكان إذا صلّى صلاة الصبح في المسجد الجامع بدمشق جلس واجتمع إليه الناس فيقول لهم كما كان يقول في المدينة ، وكثر من يجتمع إليه ويسمع منه (١).

فروى المفيد عن الثقفي بسنده عن ابن صهبان الأزدي الشامي قال : كان أبو ذرّ يحمد الله ويشهد له شهادة الحق ويصلّي على النبي ، ثم يقول : أما بعد ، فإنا كنّا في جاهليتنا قبل أن يبعث فينا الرسول وينزّل علينا به الكتاب ، ونحن نوفي بالعهد ونصدق الحديث ونحسن الجوار ونقري الضيف ونواسي الفقير ونبغض المتكبّر ، فلما بعث الله فينا رسوله وأنزل علينا به كتابه كانت تلك الأخلاق يرضاها الله ورسوله ، فكان أهل الإسلام أحقّ بها وأولى أن يحفظوها.

ثم إنّ الولاة قد أحدثوا أعمالا قباحا ما نعرفها من سنّة تطفى وبدعة تحيا وقائل بحق مكذّب ، وأثرة بغير تقى ، ومن مستأثر عليه من الصالحين ، ثم يقول : اللهم إن كان ما عندك خيرا لي فاقبضني إليك غير مبدّل ولا مغيّر.

وكان يبدئ هذا الكلام ويعيده (٢).

وكان يقوم كل يوم فيعظ الناس ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله ويحذرهم من ارتكاب معاصيه ، ويروي عن رسول الله ما سمعه منه في فضائل أهل بيته ويحضّهم على التمسك بعترته (٣).

وبنى معاوية دارا واسعة بدمشق وسمّاها الخضراء ، فقال له أبو ذر : يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهو الإسراف.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٢.

(٢) أمالي المفيد : ١٢١ ، م ١٤ ، الحديث ٥.

(٣) أمالي المفيد : ١٦٢ ، م ٢٠ ، الحديث ٤.

٣٦٢

وذكّره يوما بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم : إن أحدكم لفرعون هذه الامة! فقال معاوية : أما أنا فلا.

وقام يوما خطيبا فقال : أيها الناس ، إنما أنا خازن ، فمن أعطيته فالله يعطيه ، ومن حرمته فالله يحرمه! فقام إليه أبو ذر وقال له : يا معاوية ، والله لقد كذبت ، إنك لتعطى من حرمه الله ، وتمنع من أعطاه الله (١).

وجعل كلما يدخل المسجد أو يخرج منه يذكر في عثمان خصالا كلها قبيحة ، وذلك في سنة (٣٠ ه‍) (٢).

وكانوا منعوه عطاءه من بيت المال ، فبعث إليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فسأل أبو ذر من حاملها إليه : أهو من عطائي الذي حرمتمونيه هذا العام؟ فلم يعلم ، فقال أبو ذر : فإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها (٣).

وأتى حبيب بن مسلمة الفهري إلى معاوية وقال له : إنّ أبا ذر يفسد عليك الناس بقوله كيت وكيت (٤).

ونقل المعتزلي عن الجاحظ بسنده عن جلّام بن جندل (٥) قال : كنت عاملا لمعاوية على قنّسرين والعواصم ـ في خلافة عثمان ـ فجئت يوما أسأله عن حال عملي ، إذ سمعت صارخا على باب داره يقول :

__________________

(١) بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٠ عن القسم الثاني من تقريب المعارف عن تاريخ الثقفي.

(٢) المصدر السابق ٣١ : ٢٩٣.

(٣) الشافي ٤ : ٢٩٤ ، وتلخيصه ٤ : ١١٦.

(٤) أمالي المفيد : ١٢٢ ، م ١٤ ، الحديث ٥.

(٥) كذا عن سفيانية الجاحظ ، وهو الصحيح ، وتصحّف اسم جندل إلى جندب وهو اسم أبي ذر فزعم الكشّي أنه ابنه فقال : عن جلّام بن أبي ذر ، وكانت له صحبة ١ : ٦٥ ، الحديث ١١٧ فهذا من أغلاطه.

٣٦٣

أتتكم القطار تحمل النار! اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له!

فقال لي معاوية : من عذيري من جندب بن جنادة! يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ، ثم قال : أدخلوه عليّ ، فجاءوا به يقودونه حتى أوقفوه بين يديه ، قال جلّام : وكنت أحبّ أن أرى أبا ذر فهو رجل من قومي ، فالتفتّ إليه فإذا هو ضرب (١) من الرجال أحنأ ، أسمر ، خفيف العارضين ، فقال له معاوية :

يا عدوّ الله وعدوّ رسوله! تأتينا كل يوم فتصنع ما تصنع! أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد (!) من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلك! ولكنّي استأذن فيك! فأقبل أبو ذر على معاوية وقال :

ما أنا بعدوّ الله ولا رسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله! أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر! ولقد لعنك رسول الله ودعا عليك : أن لا تشبع ، سمعت رسول الله يقول : إذا ولى الامة الأعين الواسع البلعوم ، الذي يأكل ولا يشبع ، فلتأخذ الامة حذرها منه! فقال معاوية : ما أنا ذلك الرجل. قال أبو ذر :

بل أنت ذلك الرجل ، أخبرني بذلك رسول الله ؛ مررت به فسمعته يقول : اللهم العنه ولا تشبعه إلّا بالتراب ، وسمعته يقول : است معاوية في النار!

فضحك معاوية ولكنه أمر بحبسه ، وكتب فيه إلى عثمان (٢) :

«أما بعد ، فإن أبا ذر قد حرّق قلوب أهل الشام وبغّضك إليهم ، فما يستفتون غيره ، ولا يقضى بينهم إلّا هو (٣) وإنه يصبح إذا أصبح ويمسي إذا أمسى

__________________

(١) الضرب : الخفيف اللحم. والأحنإ : الأحدب.

(٢) شرح النهج (للمعتزلي) ٨ : ٢٥٧ عن رسالة السفيانية (للجاحظ).

(٣) عن الثقفي في تاريخه ، في القسم الثاني من تقريب المعارف كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٠. وقال : وذكره الواقدي وحذفناه اختصارا.

٣٦٤

وجماعة كثيرة من الناس عنده فيقول لهم كيت وكيت ، فإن كانت لك حاجة في الناس قبلي فأقدم أبا ذر إليك ، فإني أخاف أن يفسد الناس عليك ، والسلام» (١).

فكتب إليه عثمان : «أما بعد ، فقد جاءني كتابك وفهمت ما ذكرت عن أبي ذر جنيدب! فابعث به إليّ واحمله على أغلظ المراكب وأوعرها ، وابعث معه دليلا يسير به الليل والنهار ، حتى لا ينزل من مركبه فيغلبه النوم فينسيه ذكري وذكرك (٢)! فاحمل أبا ذر على ناقة صعبة وقتب ، ثم ابعث معه من ينخس به نخسا عنيفا حتى يقدم به عليّ ، والسلام» (٣).

أبو ذر في طريقه ، وخطبته :

قال الراوي : فبعث معاوية إلى أبي ذر فأحضره وأقرأه كتاب عثمان وقال له : النجا ، الساعة! فخرج أبو ذر إلى راحلته فشدها بكورها وأنساعها ، فاجتمع إليه الناس يسألونه : أين يريد؟ فقال لهم : أخرجوني إليكم غضبا عليّ ، ويخرجوني منكم إليهم الآن عبثا بي! ولا يزال هذا الأمر شأنهم فيما بيني وبينهم فيما أرى حتى يستريح برّ أو يستراح من فاجر! وتسامع الناس بمخرجه فخرجوا معه حتى دير مرّان ، فنزل ونزلوا للصلاة ، فصلّى بهم ثم خطبهم فقال : أيها الناس ، إني موصيكم بما ينفعكم ، احمدوا الله عزوجل ، فقالوا : الحمد لله.

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٦٢ ، م ٢٠ ، الحديث ٤ ، عن الثقفي الكوفي أيضا عن ابن صهبان الأزدي الشامي.

(٢) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٣ عن القسم الثاني من تقريب المعارف عن كتاب الدار (للواقدي).

(٣) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٠ المصدر السابق.

٣٦٥

فقال : اشهدوا أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فأجابوه بمثل ما قال. ثم قال : أشهد أن البعث حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأقرّ بما جاء من عند الله ، فاشهدوا عليّ بذلك.

فقالوا : نحن على ذلك من الشاهدين. فقال : ليبشّر من مات منكم على هذه الخصال برحمة الله وكرامته ، ما لم يكن للمجرمين ظهيرا ، ولا لأعمال الظلمة مصلحا ، ولا لهم معينا!

أيها الناس ، اجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضبا لله عزوجل إذا عصى في الأرض ، ولا ترضوا أئمتكم بسخط الله ، وإذا أحدثوا ما لا تعرفون فجانبوهم ، وازرؤوا عليهم ، وإن عذّبتم وحرمتم وسيّرتم ، حتى يرضى الله عزوجل ، فإن الله أعلى وأجلّ لا ينبغي أن يسخط برضى المخلوقين ، وغفر الله لي ولكم واستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله.

فناداه الناس : أن سلام الله عليك ورحمك يا أبا ذر يا صاحب رسول الله ، ألا نردّك إن كان هؤلاء القوم أخرجوك؟ ألا نمنعك؟

فقال أبو ذر : ارجعوا رحمكم الله ، فإني أصبر منكم على البلوى ، وإياكم والفرقة والاختلاف ، ثم مضى حتى قدم المدينة (١).

حمل أبي ذر إلى عثمان :

ذكر الواقدي في تاريخه (كتاب الدار) بسنده قال : لما ورد الكتاب على معاوية ، حمل أبا ذر على ناقة مسنّة ليس عليها إلّا قتب (خشب)

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٦١ ـ ١٦٤ ، م ٢٠ ، الحديث ٤ بسنده عن الثقفي الكوفي (٢٨٣ ه‍) عن ابن صبهان الأزدي الشامي.

٣٦٦

وبعث معه دليلا وأمره أن يسرع به (١).

وذكر الثقفي بسنده عن عبد الملك ابن أخ أبي ذر قال : حمله معاوية على ناقة صعبة عليها قتب وما عليه إلّا مسح (جل) وبعث معه من يسيّره سيرا عنيفا.

قال : وخرجت معه ، فما لبث الشيخ إلّا قليلا حتى تقرّح لحم فخذيه مما يلي القتب ، حتى قدمنا المدينة (٢).

قال الراوي : كنت في وقت الضحى مع علي عليه‌السلام في المسجد إذ أتانا رجل فقال : قد قدم المدينة أبو ذر ، فخرجت أعدو فإذا هو شيخ نحيف ، أدم طوال ، أبيض الرأس واللحية ، يمشي متقاربا ، فسلّمت عليه وقلت له : يا عمّ ما لي أراك تخطو خطوا قريبا؟ فقال : هذا عمل ابن عفّان حملني على مركب وعر وأمر بي أن اتعب ، ثم قدم بي إليه ليرى فيّ رأيه (٣).

وقال ابن أخيه عبد الملك الغفاري : بلّغنا عثمان ما لقى أبو ذر من الجهد والوجع ، فحجبه ثلاث جمعات حتى مضى نحو من عشرين يوما وأفاق أبو ذر فأرسل يدعوه ، فاعتمد على يدي حتى دخلنا عليه ، وكان متكئا فاستوى وتمثل شعرا :

لا أنعم الله بعمرو عينا

تحية السخط إذا التقينا (٤)

__________________

(١) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٣ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الواقدي.

(٢) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٠ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الثقفي.

(٣) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٣ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الواقدي.

(٤) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩١ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الثقفي الكوفي.

٣٦٧

وفي خبر المفيد عن الثقفي قال : لما أدخل أبو ذر على عثمان تمثل شعرا : «لا قرّب الله بعمر وعينا» فقال أبو ذر : والله ما سمّاني أبواي عمرا ، ولكن لا قرّب الله من عصاه وخالف أمره وارتكب هواه!

وكان كعب الأحبار حاضرا فقام وقال له : يا شيخ! ألا تتّقي الله تجيب أمير المؤمنين بهذا الكلام؟

وكان أبو ذر يتكئ على عصا فرفعها وضرب بها رأس كعب وقال له : يا ابن اليهوديّين! ما كلامك مع المسلمين! فو الله ما خرجت اليهودية من قلبك بعد!

فقال له عثمان : والله لا جمعتني وإياك دار وقد خرفت وذهب عقلك! أخرجوه (١).

وروى الراوندي عن الصدوق عن القمي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : دخل أبو ذر عليلا متوكئا على عصاه على عثمان ، وقد حملت إليه من بعض النواحي مائة ألف درهم فهي بين يديه ، وحوله أصحابه ينظرون إليه ويطمعون أن يقسمها فيهم. فقال أبو ذر لعثمان : ما هذا المال؟

فقال عثمان : مائة ألف درهم حملت إليّ من بعض النواحي اريد أضمّ إليها مثلها ثم أرى فيها رأيي. فقال أبو ذر : يا عثمان ، أيّما أكثر مائة ألف درهم أو أربعة دنانير؟ قال عثمان : بل مائة ألف درهم.

قال : أما تذكر إذ دخلنا أنا وأنت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشيّا ، فرأيناه كئيبا حزينا ... فلما أصبحنا أتيناه فرأيناه ضاحكا مستبشرا! فقلنا له : بآبائنا وامهاتنا أنت ، دخلنا إليك البارحة فرأيناك كئيبا حزينا ، ثم عدنا إليك اليوم فرأيناك فرحا مستبشرا؟ فقال : نعم ، كان قد بقي عندي من فيء المسلمين أربعة دنانير

__________________

(١) أمالي المفيد : ١٦٤ ، م ٢٠ ، الحديث ٤.

٣٦٨

لم أكن قسمتها وقد خفت أن يدركني الموت وهي عندي ، وقد قسمتها اليوم واسترحت منها!

فنظر عثمان إلى كعب الأحبار وقال له : يا أبا إسحاق! ما تقول في رجل أدّى زكاة ماله المفروضة ، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟

فقال كعب : لا ، ولو اتّخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شيء!

فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب ثم قال له : يا ابن اليهودية الكافرة ما أنت والنظر في أحكام المسلمين؟ قول الله أصدق من قولك حيث قال : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(١).

فقال عثمان : يا أبا ذر ، إنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك! ولو لا صحبتك لرسول الله لقتلتك! فقال أبو ذر : كذبت يا عثمان! أخبرني حبيبي رسول الله فقال : لا يفتنونك ولا يقتلونك! وأما عقلي فقد بقي منه ما أحفظ به حديثا سمعته من رسول الله فيك وفي قومك! فقال عثمان : وما سمعت من رسول الله فيّ وفي قومي؟

قال : سمعته يقول : إذا بلغ آل أبي العاص ثلاثين رجلا صيّروا مال الله دولا ، وكتاب الله دغلا ، وعباد الله خولا ، والفاسقين حزبا والصالحين حربا!

وكان حول عثمان أصحابه فقال لهم : يا معشر أصحاب محمد (!) هل سمع أحد منكم هذا من رسول الله؟ فقالوا : لا ، ما سمعنا هذا من رسول الله!

فقال عثمان : ادعوا لي عليّا ، فجاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال له عثمان : يا أبا الحسن انظر ما يقول هذا الشيخ الكذّاب! فقال علي عليه‌السلام : مه يا عثمان

__________________

(١) التوبة : ٣٤ ـ ٣٥.

٣٦٩

لا تقل كذّاب ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ : فقال الصحابة الحضور : صدق أبو ذر ، وقد سمعنا هذا من رسول الله! فعند ذلك بكى أبو ذر وقال لهم : ويلكم ، كلكم قد مدّ عنقه إلى هذا المال! ظننتم أني أكذب على رسول الله! لقد خلّفت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الجبّة وهو عني راض ، وأنتم قد أحدثتم أحداثا كثيرة ، فالله سائلكم عن ذلك ولا يسألني.

فقال عثمان : يا أبا ذر ، أسألك بحق رسول الله إلّا ما أخبرتني عن شيء أسألك عنه :

فقال أبو ذر : والله لو لم تسألني بحق محمد رسول الله أيضا لأخبرتك.

فقال : أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها؟

فقال : مكة حرم الله أعبد الله فيها حتى يأتيني الموت. فقال : لا ولا كرامة لك!

قال : المدينة حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : لا ، ولا كرامة لك! فسكت أبو ذر.

فقال عثمان : أيّ البلاد أبغض إليك أن تكون فيها؟ قال : الربذة التي كنت فيها على غير دين الإسلام. فقال عثمان : سر إليها. قال أبو ذر : الله أكبر ، قال لي حبيبي رسول الله يوما : يا أبا ذر كيف أنت إذا قيل لك : أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها؟ فتقول : مكة ، فيقال لك : لا ، ولا كرامة لك! فتقول : المدينة ، فيقال لك : لا ، ولا كرامة لك! ثم يقال لك : فأيّ البلاد أبغض إليك؟ فتقول : الربذة ، فيقال لك : سر إليها. فقلت : وإنّ هذا لكائن ، فقال : أي والذي نفسي بيده إنه لكائن. فقلت : يا رسول الله أفلا أضع سيفي على عاتقي فأضرب به قدما قدما؟ قال : لا ، اسمع واسكت ولو لعبد حبشي (١).

__________________

(١) الخبر بطوله في تفسير القمي ١ : ٥١ ـ ٥٣ بلا إسناد ، واختصرنا بعضه ، وصدره بإسناده في قصص الأنبياء للراوندي : ٣٠٦ بتحقيق عرفانيان ، وذيله إنما يدل على التسليم دون الرضا.

٣٧٠

تسيير أبي ذر إلى الربذة :

هذا ، وقال اليعقوبي : إنّ أبا ذر بعد تلك الجلسة أقام بالمدينة أياما ، ثم أرسل إليه عثمان وقال له : والله لتخرجنّ عنها! قال : أتخرجني من حرم رسول الله؟ قال :

نعم ، وأنفك راغم! قال : فإلى مكة؟ قال : لا ، قال : فإلى البصرة؟ قال : لا! قال : فإلى الكوفة؟ قال : لا ، ولكن إلى الربذة (١) التي خرجت منها ، حتى تموت بها!

وكان مروان حاضرا فالتفت إليه وقال له : يا مروان! أخرجه ولا تدع أحدا يكلّمه!

فحضر مروان على ناقة ومعه جمل ليحمله وأهله ، وحضر علي عليه‌السلام ومعه الحسنان وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ليشيّعوه ، فلما بصر أبو ذر بعليّ عليه‌السلام ومعه الحسنان قام إليه فقبّل يده وبكى وقال : إني إذا رأيتك ورأيت ولدك ذكرت قول رسول الله فيكم فلا أصبر حتى أبكي. فبدأ علي عليه‌السلام يكلمه فقال له مروان وهو على ناقته : إنّ أمير المؤمنين قد نهى أن يكلّمه أحد! فرفع عليّ سوطه وضرب به وجه ناقته وقال له : تنحّ! نحّاك الله إلى النار! فحمل مروان أبا ذر وامرأته وابنته على الجمل وسيّرهم ، فشيّعه علي عليه‌السلام وكلّمه وكلّمه كل واحد منهم (٢).

وقال المسعودي : إن عثمان لما قال لأبي ذر : وار وجهك عنّي ، قال أبو ذر : فأسير إلى مكة؟ قال : لا والله ، قال : فتمنعني عن بيت ربي أعبده فيه حتى أموت؟ قال : إي والله ، قال : فإلى الشام؟ قال : لا والله ، قال البصرة؟ قال : لا والله ، فاختر غير هذه البلدان. قال : لو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئا من البلدان ، ولا والله ما أختار غير ما ذكرت لك ، فسيّرني حيث شئت من البلاد. قال :

__________________

(١) كانت من قرى المدينة على طريق فيد إلى مكة قرب ذات عرق على ثلاثة أميال من المدينة ، كما في مجمع البحرين ٣ : ١٨٠ ، بل على ثلاثة أيام كما في معجم البلدان ٣ : ٢٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٢ وقال : بكلام يطول شرحه.

٣٧١

فإني مسيّرك إلى الربذة. قال : الله أكبر ، صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد أخبرني بكل ما أنا لاق! قال عثمان : وما قال لك؟ قال : أخبرني بأني أمنع عن مكة والمدينة وأموت بالربذة ويتولّى مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز! (فلم يردع ذلك عثمان) بل أمر أن يتجافاه الناس حتى يسير إلى الربذة.

وخرج أبو ذر فبعث إلى جمل له فجيء به فحمل عليه امرأته ـ وقيل : وابنته ـ وحضر مروان يسيّره عنها حتى طلع من المدينة ، فطلع عليه عليّ ومعه ابناه الحسن والحسين وأخوه عقيل وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر. فاعترض مروان وقال : يا علي ، إنّ أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر أو يشيّعوه ، فإن كنت لم تدر بذلك فقد أعلمتك!

فحمل عليه عليّ بالسوط وضرب بين اذني راحلته وقال له : تنحّ نحّاك الله إلى النار (١).

ولم يذكر اليعقوبي والمسعودي كلماتهم ، ورواها الكليني في «روضة الكافي» بسنده عن أبي جعفر الخثعمي (٢) ، قال : شيّعه أمير المؤمنين والحسنان عليهم‌السلام وعمار بن ياسر وعقيل ، فلما كان الوداع قال له علي عليه‌السلام : يا أبا ذر ، إنك إنما غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فأرحلوك عن الفناء ، وامتحنوك بالبلاء ، وو الله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقا ثم اتّقى الله عزوجل جعل له منها مخرجا ، فلا يؤنسك إلّا الحقّ ، ولا يوحشك إلّا الباطل.

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٤١ ، وروى الطوسي في الأمالي : ٧١٠ ، م ٤٢ ، الحديث ١٥١٤ عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري خبرا صدره في محاورة عثمان لأبي ذر في تخيير البلاد ثم حصر منفاه في الربذة ، وسيأتي تمام الخبر.

(٢) ورواه المعتزلي عن الجوهري بسنده عن عكرمة عن ابن عباس عن ذكوان مولى أمّ هانئ وكان حاضرا حافظا ، شرح النهج ٨ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

٣٧٢

ثم تكلم عقيل فقال : يا أبا ذر ، أنت تعلم أنا نحبّك ، ونحن نعلم أنك تحبّنا ، وأنت قد حفظت فينا ما ضيّع الناس إلّا القليل ، ولذلك أخرجك المخرجون وسيّرك المسيّرون ، فثوابك على الله عزوجل. واعلم أن استعفاءك البلاء من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس! فدع اليأس والجزع وقل : حسبي الله ونعم الوكيل.

ثم تكلّم الحسن عليه‌السلام فقال : يا عمّاه! إن القوم قد أتوا إليك ما ترى ، وإن الله تعالى بالمنظر الأعلى ، فدع عنك ذكر الدنيا بذكر فراقها ، وشدة ما يرد عليك لرخاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيّك وهو عنك راض إن شاء الله.

ثم تكلّم الحسين عليه‌السلام فقال : يا عمّاه! إن الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما ترى وهو كل يوم في شأن ، إن القوم منعوك دنياهم ومنعتهم دينك ، فما أغناك عما منعوك وما أحوجهم إلى ما منعتهم ، فعليك بالصبر ، فإن الخير في الصبر من الكرم.

ثم تكلّم عمّار رضى الله عنه فقال : يا أبا ذر ، أوحش الله من أوحشك! وأخاف من أخافك! إنه والله ما منع الناس أن يقولوا الحقّ إلّا الركون إلى الدنيا والحبّ لها! ألا إنّما الطاعة مع الجماعة ، والملك لمن غلب عليه ، وإنّ هؤلاء القوم دعوا الناس إلى دنياهم فأجابوهم إليها ووهبوا لهم دينهم! فخسروا الدنيا والآخرة وهو الخسران المبين.

ثم تكلّم أبو ذر رضى الله عنه فقال : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي هذه الوجوه ، فإني إذا رأيتكم ذكرت رسول الله بكم ، ومالي بالمدينة شجن ولا سكن غيركم ، وإنه ثقل على عثمان جواري بالمدينة كما ثقل على معاوية بالشام ، فآلى أن يسيّرني إلى بلدة فطلبت إليه أن يكون ذلك إلى الكوفة فزعم أنه يخاف أن أفسد على أخيه (١) الناس بالكوفة وآلى بالله أن يسيّرني إلى بلدة لا أرى فيها أنيسا ،

__________________

(١) يعني الوليد بن عقبة أخا عثمان لامّه.

٣٧٣

ولا أسمع بها حسيسا ، وإني والله ما اريد إلّا الله عزوجل صاحبا ، ومالي مع الله من وحشة ، حسبي الله لا إله إلّا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين (١).

وجاء مختصره في خبر المفيد عن الثقفي قال : قال عثمان : أخرجوه من بين يديّ حتى تركبوه قتب ناقته بغير وطاء ثم انخسوا به وتعتعوه حتى توصلوه الربذة ، فنزّلوه بها من غير أنيس ، حتى يقضى الله ما هو قاض! ولا يشيّعه أحد من الناس!

فأخرجوه بالعصي متعتعا.

وبلغ ذلك أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام فبكى حتى بلّ لحيته بدموعه وقال : أهكذا يصنع بصاحب رسول الله؟! إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم اجتمع إليه أبناء عمه العباس : الفضل وقثم وعبد الله وعبيد الله (كذا) فنهض ومعه الحسنان حتى لحقوا أبا ذر فشيّعوه ، وبكى أبو ذر وقال : بأبي وجوها إذا رأيتها ذكرت بها رسول الله وشملتني البركة برؤيتها ، ثم رفع يديه وقال :

اللهم إني احبّهم ولو قطّعت إربا إربا في محبّتهم ما زلت عنها ابتغاء وجهك والدار الآخرة. ثم قال لهم : ارجعوا رحمكم الله ، والله أسأل أن يخلفني فيكم أحسن الخلافة.

فودّعه القوم ورجعوا باكين لفراقه (٢).

__________________

(١) روضة الكافي : ١٧٥ ، الحديث ٢٥١ ، وروى الرضيّ شطرا منه في نهج البلاغة الخطبة ١٣٠. هذا ولم يذكر معهم المقداد فلعلّه لأنه كان يعيش بداره بالجرف على فرسخ من المدينة ، كما في أنساب الأشراف ١ : ٢٠٥.

(٢) أمالي المفيد : ١٦٤ ـ ١٦٥ ، م ٢٠ ، الحديث ٤. هذا ولو كان ابن عباس حاضرا لما كان يروى كلماتهم عن ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها كما مرّ في الحاشية.

٣٧٤

عثمان وعلي عليه‌السلام :

وروى الخبر السابق المعتزلي عن الجوهري بسنده عن ابن عباس وزاد : أن مروان رفع ذلك إلى عثمان ، فأرسل عثمان على علي عليه‌السلام فقال له : ما حملك على ردّ رسولي وتصغير أمري؟ فقال علي عليه‌السلام : أما رسولك فأراد أن يردّ وجهي فرددته ، وأ ما أمرك فلم اصغّره ، فقال عثمان : أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر؟ قال : أو كلّما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟ قال عثمان : أفقد مروان من نفسك! قال : من ما ذا؟ قال : من شتمه وجذب راحلته ، قال : أما راحلته فراحلتي بها ، وأما شتمه إيّاي ؛ فو الله لا يشتمني شتمة إلّا شتمتك مثلها لا أكذب عليك! قال عثمان : ولم لا يشتمك؟ كأنك خير منه؟ قال علي عليه‌السلام : إي والله ومنك؟ ثم قام وخرج.

فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار يشكو إليهم عليا عليه‌السلام ، فأتوا عليا عليه‌السلام وقالوا له : لو أتيت إلى مروان واعتذرت إليه! فقال : أما مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه ، وأما عثمان فإن أحبّ أتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه ، فقبل عثمان وأخبروا عليا ، فأتاه بنو هاشم فأتى معهم إلى عثمان.

وتكلّم علي عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما ما وجدت عليّ فيه من كلام أبي ذر ووداعه فو الله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ، ولكن أردت به قضاء حقّه. وأما مروان فإنه اعترض يريد ردّي عن قضاء حقّ الله عزوجل فرددته ردّ مثلي مثله ، وأما ما كان منّي إليك فإنك أغضبتني فأخرج الغضب منّي ما لم أرده.

فتكلّم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما ما كان منك إليّ فقد وهبته لك ، وأمّا ما كان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك ، وأما ما حلفت عليه فأنت الصادق البرّ ، فأدن يدك ، ومدّ يده إليه فأخذ بيده (١).

__________________

(١) شرح النهج (للمعتزلي) ٨ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ، والراوي ابن عباس ولم ينصّ على حضوره مع بني هاشم ، وروى الخبر المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٢ مرسلا مختصرا.

٣٧٥

أبو ذر وعثمان وعلي عليه‌السلام :

روى الطوسي بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري : أن أبا ذرّ أقام مدة بالرّبذة ثم أتى إلى المدينة ، فدخل على عثمان والناس عنده سماطين ، فقال : يا أمير المؤمنين! إنك أخرجتني من أرضي إلى أرض ليس بها زرع ولا ضرع إلّا. شويهات ، وليس لي خادم إلّا الحرّة (امرأته) ولا ظل يظلّني إلّا شجرة ، فأعطني خادما وشويهات أعيش بها.

فحوّل عنه وجهه! فتحول عنه إلى السماط الآخر وقال قوله ، فقال له حبيب بن مسلمة الفهري (؟!) : يا أبا ذر ، لك عندي خادم وخمسمائة شاة وألف درهم! فقال له أبو ذر : أنا إنما أسأل حقّي في كتاب الله ، أعط خادمك وألفك وشويهاتك من هو أحوج إليها مني.

وجاء علي عليه‌السلام ، فقال له عثمان : ألا تغني عنّا سفيهك هذا؟ يعني أبا ذر!

فقال علي عليه‌السلام : إنه ليس بسفيه ، فلقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «ما أظلّت الخضراء ...» فأنزله بمنزلة مؤمن آل فرعون : (إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)(١) فقال له عثمان : بفيك التراب! فقال علي عليه‌السلام : بل بفيك التراب (٢) ؛ انشد بالله من سمع رسول الله يقول ذلك

__________________

(١) غافر : الآية ٢٨.

(٢) نقل مثله قبله المرتضى في الشافي ٤ : ١٦٦ وتلخيصه ٤ : ١١٨ عن الواقدي ، وقال بعد الآية : فأجابه عثمان بجواب غليظ لم احب ذكره فأجابه عليه‌السلام بمثله. ونقله المعتزلي في شرح النهج ٨ : ٢٥٩ عن الواقدي ، وقال : ولم نذكر الجوابين تذمّما منهما ، وليس عن الشافي. ونقل المجلسي الخبر عنهما والجواب الغليظ عن تقريب المعارف للحلبي ، كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٤٦.

٣٧٦

لأبي ذر؟ وكان أبو هريرة حاضرا فقام وشهد به ، وقام معه عشرة آخرون فشهدوا بذلك (١).

عثمان يشكو عليا عليه‌السلام :

وعند العشاء طرق على العباس بن عبد المطلب وهو يتعشى مع رجال أهله فدخل الخادم وقال : هذا أمير المؤمنين بالباب ، ودخل وجلس ، فلما فرغوا من العشاء قام الآخرون وبقي العباس وابنه عبد الله ـ وهو الراوي ـ قال : فتكلّم عثمان وقال لأبي :

يا خال ، أشكو إليك ابن أخيك ـ يعني عليا عليه‌السلام ـ فإنه أكثر من شتمي ونطق في عرضي ، وأنا أعوذ بالله من ظلمكم بني عبد المطلب ، إن يكن هذا الأمر لكم فقد سلّمتموه إلى من هو أبعد مني ، وإن لا يكن لكم فقد أخذت حقي.

فتكلّم العباس فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر ما خصّ الله به قريشا عامة وما خصّ به بني عبد المطلب خاصة ثم قال : وبعد فما حمدتك لابن أخي ولا حمدت ابن أخي فيك (!) ولكن ما هو وحده ولقد نطق غيره ، فلو إنك هبطت مما صعدت وصعدوا مما هبطوا لكان ذلك أقرب.

فقال له عثمان : يا خال ، أنت وذلك فقال : أفلا نكلّم بذلك عنك؟ قال : نعم أعطهم عنّي ما شئت! وقام وخرج ولكن لم يلبث أن رجع فوقف وسلّم وقال : يا خال ، لا تعجل بشيء حتى أعود إليك!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧١٠ ، م ٤٢ ، الحديث ١٥١٤ وعنه في بحار الأنوار ٢٢ : ٤٠٤ ، الحديث ١٥ واستغنى عن ذيله ووعد باتمامه في كتاب الفتن ولم يأت به فيه ، وإنما نقل القول عن تقريب المعارف للحلبي كما مرّ.

٣٧٧

فاستقبل العباس القبلة ورفع يديه وقال : اللهم اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه! فما مرّت جمعة حتى مات (١) لأربع عشرة من شهر رجب الحرام عام (٣٢ ه‍) (٢).

وأبو ذر في الربذة :

كان عثمان قد حرم أبا ذر عطاءه من بيت المال ، ومرّ في خبر الطوسي أنه رجع من الربذة يطالبه حقه من عثمان فلم يسعفه بطلبه ، وعرض بعضهم عليه إبلا وغنما كثيرا فأبى إلّا حقّه ، ثم ليس في الخبر شيء عمّا كان يعيش به أبو ذر في الربذة.

وجاء ذلك في خبر في «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام : أنه كانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم ، أو نزل به ضيف ، أو رأى بأهل الماء الذين معه خصاصة ، نحر لهم الجزور أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم بقرم (٣) اللحم فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضّل عليهم (٤).

وروى الصدوق في «معاني الأخبار» خبرا عن نعيم بن قعنب أنه كان من زوّاره في الرّبذة ، قال : أتيت الربذة فالتمست أبا ذر فقالت لي امرأة أو امرأته : ذهب يمتهن لأهله ، وإذا به قد أقبل وأمامه ناقتان في عنق كل واحدة قربة ماء ، فقمت إليه وسلمت عليه ، ودخل منزله ... ثم جاء بطبق فيه طير كالقطاة مطبوخ أو مشويّ فقدّمها لي وقال : كل وصلّ ركعتين ثم أكل معي (٥).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧١٠ ، م ٤٢ ، الحديث ١٥١٥. ولعله عن الموفّقيات ، كما عنه في شرح النهج للمعتزلي ٩ : ١٣ ، وفي أنساب الأشراف ٥ : ١٣.

(٢) الدرجات الرفيعة : ٩٩ ، وذكر السنة في التنبيه والإشراف : ٢٥٥ وله (٨٨) عاما.

(٣) القرم : شهوة اللحم.

(٤) فروع الكافي ٥ : ٦٨ ، وجاء في تحف العقول : ٢٥٨.

(٥) معاني الأخبار : ٣٠٥ مختصرا.

٣٧٨

ولعلّ هذا كان بعد وفاة ابنه ذرّ ، الذي ليس فيما بأيدينا أيّ خبر عنه سوى ما أسنده ابن قتيبة (م ٢٧٦ ه‍) عن عمر بن جرير المهاجري قال : لما واراه التراب وقف على قبره وقال :

رحمك الله يا ذرّ ، ما علينا بعدك من خصاصة ، وما بنا إلى أحد مع الله حاجة ، وما يسّرني أني كنت المقدّم قبلك ، ولو لا هول المطّلع لتمنّيت أن أكون مكانك ، لقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، فيا ليت شعري ما ذا قلت وما قيل لك؟

ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إني قد وهبت حقي في ما بيني وبينه له ، فهب حقك فيما بينك وبينه له (١) أو قال : اللهم إنك قد فرضت لك عليه حقوقا وفرضت لي عليه حقوقا ، فإني قد وهبت له ما فرضت لي عليه من حقوقي ، فهب له ما فرضت عليه من حقوقك فإنك أولى بالحق وأكرم منّي (٢) أو فإنك أحقّ بالجود مني. وزاد في صدره عنه : مسح القبر بيده وقال : والله إن كنت بي بارّا ، ولقد قبضت وإني عنك لراض (٣).

وقال القمي بعدها : وكانت لأبي ذر غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء يقال له النقّاب فماتت كلّها ... وماتت أهله.

ثم نقل عن ابنته (ذرّة) قالت : بقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئا وأصابنا الجوع ، فقال لي أبي : يا بنيّة قومي بنا إلى الرمل نطلب القتّ ـ وهو نبت له حبّ (٤) ـ فصرنا إلى الرمل فلم نجد شيئا.

__________________

(١) عيون الأخبار ٢ : ٣١٣.

(٢) تفسير القمي ١ : ٢٩٥ مرفوعا.

(٣) فروع الكافي ٣ : ١٢٥ عن القمي مرفوعا عن غير تفسيره مختلفا عمّا فيه كما ترى.

(٤) عن الأزهري : القت : حبّ برّيّ خشن ، فإن فقد أهل البادية ما يقتاتون به دقّوه وطبخوه واكتفوا به على ما فيه من الخشونة. مجمع البحرين ٢ : ٢١٤.

٣٧٩

فجمع أبي رملا ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينه قد انقلبت ـ من شدة الجوع ـ فبكيت وقلت له : يا أبت كيف أصنع بك وأنا وحيدة.

فقال : يا بنيّة ، لا تخافي ، فإني إذا متّ جاءك من أهل العراق من يكفيك أمري ، فإنه أخبرني حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك فقال : «يا أبا ذر تعيش وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك وتدخل الجنة وحدك ، ويسعد بك أقوام من أهل العراق يتولون غسلك وتجهيزك ودفنك» فإذا أنا متّ فمدّي الكساء على وجهي ، ثم اقعدي على طريق العراق ، فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي : هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفى ... فلما عاين الموت سمعته يقول : مرحبا بحبيب أتى على فاقة ، لا أفلح من ندم ، اللهم خنقني خناقك فإنك تعلم أني أحبّ لقاءك. ثم مات ، فمددت عليه الكساء ثم قمت فقعدت على طريق العراق ، فجاء نفر ، فقمت إليهم وقلت لهم : يا معشر المسلمين! هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد توفى! وكان فيهم الأشتر مالك بن الحارث النخعي الهمداني.

فنزلوا ومشوا يبكون حتى غسلوه وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه (١).

هذا ما رفعه القمي في تفسيره بينما أسند معاصره الكشيّ في رجاله عن محمد بن الأسود النخعي أنه خرج من الكوفة يريد الحج مع مالك الأشتر النخعي ومعه رفاعة بن شدّاد البجلي وعبد الله بن وال التميمي (عام ٣٢ ه‍) قال : حتى قدمنا الربذة ، فإذا امرأة على قارعة الطريق نادتنا : يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله قد هلك غريبا ليس له أحد يعينني عليه! فاسترجعنا لعظم المصيبة ، وتعاونّا على غسله وتنافسنا في كفنه ثم قدّمنا مالك الأشتر فصلّى عليه ثم دفناه ، فقام الأشتر على قبره وقال :

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

٣٨٠