موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

وفي «الكافي» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما قال له أمير المؤمنين : إنها صبية لقي العباس فقال له : ما لي؟ أبي بأس؟ قال : وما ذاك؟ قال : خطبت إلى ابن أخيك فردّني! أما والله لأعوّرنّ زمزم ، ولا أدع لكم مكرمة إلّا هدمتها ، ولأقيمنّ عليه شاهدين بأنه سرق! ولأقطعنّ يمينه! فأتى العباس أمير المؤمنين فأخبره وسأله أن يجعل الأمر إليه ، فجعله إليه (١) فزوّجها إياه.

__________________

ويلك؟ أترغبين عن أمير المؤمنين؟! قالت : نعم ، إنه يدخل عابسا ويغلق بابه ويخرج عابسا ويمنع خيره!

فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته وطلبت إليه أن يكفيها فقال : نعم.

فأتى عمر فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ بلغني خبر اعيذك بالله منه! قال : ما هو؟ قال : خطبت أمّ كلثوم بنت أبي بكر؟ قال : نعم ، أفترغب بي عنها أم ترغب بها عني؟ قال : ولا واحدة ، ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أم المؤمنين في رفق ولين ، ونحن نهابك من غلظتك ، ولا نستطيع أن نردّك عن خلق من أخلاقك! فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها! فكنت خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك!

وأنا أدلّك على خير منها : أمّ كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب ، وتعلق منها بسبب من رسول الله! فقال عمر : فكيف وقد كلمت عائشة! قال عمرو : أنا لك بها ، فصرفه عنها إلى أمّ كلثوم بنت فاطمة فهو المثير لهذه الفتنة والذريعة بالانتساب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!

(١) فروع الكافي ٥ : ٣٤٦ الحديث ٢ ، الباب ٢٣ وفي مرآة العقول ٣ : ٤٤٨ ط. حجر ، ذكر المجلسي أجوبة الشيخ المفيد وردّها من السيد المرتضى ثم قال : والأصل في الجواب : أن ذلك وقع على سبيل التقية والاضطرار ، ولا استبعاد في ذلك ، فإن كثيرا من المحرّمات تنقلب عند الضرورة وتصير من الواجبات .. وهذا مما يسكّن استبعاد الأوهام ، والله أعلم بحقائق أحكامه وحججه عليهم‌السلام. أقول : وإنما تزوجها سياسيا ليغطي بذلك على عدوانه على أمّها وأبيها ، وهو أمر متكرر على مرّ التاريخ من دهاة السياسيين. كما تزوّج مصعب بن الزبير سكينة بنت الحسين عليه‌السلام ليغطّي على عدوانهم على بني هاشم.

٢٨١

طاعون عمواس وعام الرمادة :

وفيها (١٨) انتشر الطاعون من قرية عمواس (١) وكثر بالشام ، وخرج عمر يريد الشام حتى بلغ قرية السرغ فلقيه أمراء الشام وأبلغوه أن الطاعون قد كثر فعزم على الرجوع ، فشدد عليه أبو عبيدة الكلمة وقال له : أفرارا من قدر الله؟! فقال : نعم أفرّ من قدر الله إلى قدره (٢).

ومات فيها خمسة وعشرون ألفا ممن أحصي منهم. واحتكر الناس فغلت الأسعار (٣). وأمحل الحجاز ، فاستعان عمر من الأمصار ، فحمل إليه أبو عبيدة أربعة آلاف راحلة زادا (٤) وأصاب الناس جدب وقحط ومجاعة شديدة فسميت عام الرمادة ، وأمر عمر الناس بصلاة الاستسقاء ، وخرج وأخرج معه العباس عمّ النبي وأخذ بيده وقال : اللهم إنّا نتقرّب إليك بعمّ نبيّك! اللهم فلا تخيّب ظنّهم في رسولك! فأسقوا (٥).

وكتب عمر إلى عمرو بن العاص في مصر أن يحمل إلى المدينة طعاما في البحر يكفي عامة المسلمين. فحمل ابن العاص طعاما إلى القلزم ثم حمله في البحر في عشرين مركبا ، في كل مركب ثلاثة آلاف أردب وأقل وأكثر ، وصار بها إلى

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٧٦ وهي قرية بين الرملة والقدس في فلسطين.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٤٩.

(٣) اليعقوبي ٢ : ١٥١.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠ ، وتاريخ خليفة : ٧٦ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٤١. وفي الاستيعاب ٣ : ٩٨ ، ٩٩ : أن ذلك كان باقتراح كعب الأحبار على عمر ، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٢٢ : ٢٩٠ ، والشوشتري في قاموس الرجال ٦ : ٢١ ، وانظر تعليقة الشيخ على توسل عمر بالعباس وتركه أبا الحسن والحسنين عليهم‌السلام!

٢٨٢

ساحل الجار ، وبلغ قدومها عمر ، فخرج ومعه جلّة أصحاب رسول الله حتى قدم الجار ، وأمر فبنى هنالك قصرين جعل الطعام فيهما ، ثم أمر زيد بن ثابت أن يكتب الناس على منازلهم ، وأمره أن يكتب لهم صكاكا من قراطيس ثم يختم أسفلها ، فكان عمر أول من ختم أسفل الصكاك (١). وفي تلك السنة أجرى عمر الأقوات على عيالات المسلمين (٢).

ومات بالطاعون أبو عبيدة فاستخلف على الأردن معاذ بن جبل فمات بعده بأيام ، واستخلف على حمص وقنّسرين عياض بن غنم الفهري فأقرّه عمر ، ومات يزيد بن أبي سفيان واستخلف أخاه معاوية فأقره عمر ، وكان معاوية مقيما على قيسارية من فلسطين فافتتحها (٣).

ثم جمع له البلقاء وبعلبك ودمشق ، ثم جمع له الشام كلها (٤).

وتلقّب بأمير المؤمنين :

وكان عمر يدعى خليفة خليفة رسول الله حتى كتب له أبو موسى الأشعري في هذه السنة من البصرة : لعبد الله عمر أمير المؤمنين (٥) من أبي موسى الأشعري ، فلما قرئ ذلك على عمر ـ وكاتبه زيد بن ثابت الأنصاري ـ قال : إني لعبد الله ، وإني لعمر ، وإني لأمير المؤمنين. والحمد لله ربّ العالمين! وكان أبو موسى يدعو له بهذا الاسم على المنبر بالبصرة (٦) ولكنه لم يجر على الأفواه.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٤.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٥٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٤) تاريخ خليفة : ٨٩.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠.

(٦) مروج الذهب ٢ : ٣٠٥.

٢٨٣

وعرف ذلك المغيرة الثقفي فحاول مباراة أبي موسى في ذلك وأن لا يسبقه بها ، وكان وغر الصدر على علي عليه‌السلام لموقفه منه في الشهادة عليه بالزنا شاكرا لعمر موقفه في ذلك ، فاتخذ هذا اللقب في السلام عليه فكان أول من سلّم عليه به ، فقال له عمر : لتخرجنّ مما قلت! فقال : ألسنا مسلمين؟ قال : بلى! قال : وأنت أميرنا؟ اللهم نعم. فجرى عليه (١) ولعل الذي ثنّى المغيرة في ذلك كان عديّ بن حاتم الطائي (٢).

وأجرى الحدّ مرتين :

كان عمر قد بعث ابنيه عبد الله وعبد الرحمن مع من بعثهم مددا لعمرو بن العاص لفتح مصر والاسكندرية ومعهم أبو سروعة عقبة بن الحارث النوفلي القرشي المهاجري البدريّ (٣) ، وإذا بهذا وعبد الرحمن يوما على باب ابن العاص يستأذنان فأذن لهما ، فدخلا منكسرين وقالا له : أقم علينا حدّ الله! فإنا قد أصبنا البارحة شرابا فسكرنا! وكانوا يحلقون رءوسهم مع الحد ، فدخل عبد الله وقال : إن أخي لا يحلق على رءوس الناس فأما الضرب فاصنع ما بدا لك. فأخرجهما إلى صحن الدار فضربهما الحدّ ، ثم دخل ابن عمر بأخيه إلى بيت من الدار فحلق رأسيهما. ثم جاء كتاب عمر إلى عمرو : أن ابعث بعبد الرحمن في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع! فبعث إليه وأقرأه كتاب أبيه ، وبعثهما إلى عمر فدخل عبد الرحمن على أبيه وهو لا يستطيع المشي من مركبه! وعزم على حدّه ثانية

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١٥٠.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٠٥.

(٣) انظر اسمه في قاموس الرجال ١٢ : ٣٤١ ، برقم ٣٨٦ بدون الخبر.

٢٨٤

فصاح عبد الرحمن أنا مريض وأنت قاتلي! وكان عبد الرحمن بن عوف حاضرا فقال : يا أمير المؤمنين قد اقيم عليه الحدّ مرّة! فزبره عمر ، وضربه الحدّ ، وحبسه مريضا فمات بعد شهر (١).

تدوين الدواوين عام (٢٠):

مرّ الخبر عن اليعقوبي قال : في سنة (٢٠) فتح عمرو بن العاص الاسكندرية وسائر مصر ، فاجتباها أربعة عشر ألف ألف (مليون) دينارا خراجا ، على كل رأس ديناران (٢).

وقال : وقدم أبو هريرة الدوسي من البحرين بمال مبلغه سبعمائة ألف درهم ، فقال عمر : كثرت الأموال فأشيروا علي ، فأشير عليه أن يجعل لهم ديوانا ، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف ، وقال لهم : اكتبوا الناس على منازلهم وابدؤوا ببني عبد مناف. فكتبوا بني عبد مناف ، ثم اتبعوهم أبا بكر وقومه ثم عمر وقومه ، فلما نظر عمر فيه قال : ابدؤوا برسول الله ثم الأقرب فالأقرب منه حتى تضعوا عمر بحيث وضعه الله.

فقيل : بدءوا بالعباس بن عبد المطلب ، وقيل : كتب أول الناس علي بن أبي طالب في خمسة آلاف ثم الحسن والحسين كل في ثلاثة آلاف ، وكل من شهد بدرا من قريش في ثلاثة آلاف ، ومن الأنصار في أربعة آلاف! ولكبار قريش مكة

__________________

(١) انظر مصادره ومناقشته في الغدير ٦ : ٣١٦ ـ ٣١٩ المورد : ٩٧. وهذا أول أوان إمكان وقوعه بعد عام (١٨) وليس كما أشار إليه الطبري في ٣ : ٥٩٧ في عام (١٤) فإن مصر لم تفتح يومئذ بعد.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٤.

٢٨٥

كأبي سفيان وابنه معاوية في خمسة آلاف! ولابنة أبي سفيان أم حبيبة ، وابنة أبي بكر عائشة وابنته حفصة اثني عشر الفا! ولصفية وجويرية لكل خمسة آلاف ، ولابنه عبد الله في خمسة آلاف! ولنفسه في أربعة آلاف! وفرض للنساء المهاجرات وغيرهن على قدر فضلهن فلأسماء بنت عميس أرملة أبي بكر وزوجة علي عليه‌السلام ولأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وخولة أرملة عثمان بن مظعون لكل واحدة ألفين. ولأهل مكة سبعمائة وستمائة ، ولأهل اليمن أربعمائة ، ولمضر ثلاثمائة ولربيعة مائتين!

ومع أنه قطع سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة تألف بعض أشراف العجم : فلجفينة العبادي ولهرمزان ملك خوزستان ، ولفيروز بن يزدجرد دهقان نهر الملك ، ولخالد وجميل ابني بصبهرى دهقان الفلّوجة ، ولبسطام دهقان بابل لكل واحد ألفين ألفين (١).

وفي ابن الوردي : بدأ بالعباس ففرض له خمسة وعشرين ألفا ، ولأهل بدر خمسة آلاف ، ولمن بعدهم إلى الحديبية وبيعة الرضوان أربعة آلاف ، ولمن بعدهم ثلاثة آلاف ، ثم لأهل القادسية والشام معهم ألفين ، ولمن بعد اليرموك والقادسية ألفا ، ولروادفهم خمسمائة ، ثم ثلاثمائة ، ثم مائتين وخمسين (٢).

وفي هذه السنة قتل بخيبر مظهر بن رافع الحارثي ولم يعرف قاتله ، فقال عمر : سمعت رسول الله يقول : لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ، فأخرج يهود خيبر منها وقسّمها (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٣٨ ، وانظر مناقشة ذلك في بحار الأنوار ٣١ : ١٧٦ ـ ١٨٤ الطعن الخامس عشر.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٥ ، وهو غير مرويّ عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وتطبيقه وتنفيذه له في هذه السنة وبهذه المناسبة محل كلام كما ترى ، وقد مرّ الخبر عن بعض أشراف العجم

٢٨٦

وفي هذه السنة مات ثاني الاثنين (١) في المبادرة لخلافة أبي بكر : عويم بن ساعدة الأوسي أخو عمر بالإخاء (٢) فأبّنه عمرو قال : لا يستطيع أحد من أهل الأرض أن يقول : أنا خير من صاحب هذا القبر (٣).

حوادث عام (٢١):

قال خليفة : وفيها (٢١) شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر (٤) وقالوا : لا يحسن أن يصلّي! فعزله عمر عنهم ، وولّى مكانه عمّار بن ياسر المخزومي (٥) الصلاة ومعه عبد الله بن مسعود على بيت المال ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض.

وفيها مات بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله (٦) في دمشق ودفن بالباب الصغير (٧).

وماتت زينب بنت جحش زوج رسول الله ، وأسيد بن حضير ، وخالد بن الوليد (٨) وكان عمر ولّاه آمد وتل موزن وحرّان والرّها والرّقة فأقام سنة

__________________

في المدينة ولم يسلموا ولم يخرجهم عمر بل فرض لهم عطاء من بيت المال وقد قطع سهم المؤلفة قلوبهم!

(١) أولهما معن بن عديّ الأنصاري قتل في حرب مسيلمة الكذّاب.

(٢) أنساب الأشراف ١ : ٢٧١.

(٣) انظر معالم المدرستين ١ : ١١٥.

(٤) تاريخ خليفة : ٨٤.

(٥) اليعقوبي ٢ : ١٥٥.

(٦) تاريخ خليفة : ٨٤.

(٧) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤١.

(٨) تاريخ خليفة : ٨٤ ـ ٨٥.

٢٨٧

ثم استعفى ، فقيل : توفى في حمص وقيل : عاد إلى المدينة وبعد أيام مات بها وأوصى إلى عمر وكثر بكاء آل عمر عليه فقال عمر : حق لهنّ أن يبكين على أبي سليمان! وأظهر عليه جزعا!

وفي سنة (٢٣) تقدم قوم من قريش إلى عمر يستأذنونه للخروج إلى الجهاد فقال لهم : إني آخذ بحلاقيم قريش على أفواه هذه الحرّة ، لا تخرجوا فتسلّلوا بالناس يمينا وشمالا! وقد تقدم الجهاد لكم مع رسول الله. ثم تحدث عن بيعة أبي بكر حتى قال : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه!

ودعا عمّاله على مكة : نافع بن عمرو الخزاعي ، وعلى اليمن : يعلى بن منية ، وعلى الكوفة : سعد بن أبي وقاص ، وعلى ميسان : النعمان بن عدي ، وعلى البحرين : أبا هريرة ، وعلى مصر عمرو بن العاص ، فشاطرهم أموالهم (١).

ثم قدم عليه أهل الكوفة فسألهم عن أميرهم بعد سعد : عمّار بن ياسر ، فقالوا : مسلم ضعيف! فدعا جبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف ووجّهه أميرا على الكوفة ، فحمل المغيرة الثقفي عنه خبرا سيّئا إلى عمر وقال له : ولّني عليها يا أمير المؤمنين! فقال له : أنت رجل فاسق! قال : وما عليك منّي؟ كفايتي ورجلتي لك وفسقي على نفسي! فولّاه الكوفة! ثم سأل أهل الكوفة عنه فقالوا له : أنت أعلم به وبفسقه! فقال لهم : ما لقيت منكم يا أهل الكوفة! إن ولّيتكم مسلما تقيا قلتم : هو ضعيف ، وإن ولّيتكم مجرما قلتم : هو فاسق (٢).

عمر ، وجزية المجوس :

كان عبد الرحمن بن عوف الزّهري قد سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «سنّوا بالمجوس سنّة أهل الكتاب» وعرف أنه أخذها من مجوس هجر ،

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٥٥.

٢٨٨

هذا ولم يسمع قوله ولا عرف فعله حتى سنة قبل قتله (١) متحيّرا في عمله حتى قال يوما لجلسائه ومنهم ابن عوف : ما أدري ما أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب! فعرّفه ابن عوف بالقول والفعل!

فعن بجالة قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية على مناذر من كور الأهواز ، فجاءنا كتاب عمر : انظر المجوس قبلك فخذ منهم الجزية ؛ فإنّ عبد الرحمن بن عوف أخبرني : أن رسول الله أخذ الجزية من مجوس هجر (٢).

عمر وحدّ التكليف :

ولعله كما خفي عليه جزية المجوس خفي عليه حدّ بلوغ الغلمان ، وإن كان أبا ستة أبناء!

فقد روى ابن أبي مليكة : أن عمر كتب في غلام من أهل العراق سرق ، فكتب إليهم : أن اشبروه فإن وجدتموه ستة أشبار فاقطعوا يمينه! فشبر فوجد ستة أشبار تنقص أنملة فترك (٣).

عمر ، وأسماء الأنبياء :

ومهما يخفى على عمر فكيف خفي عليه ترغيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمته إلى التسمية بأسماء الأنبياء عامة واسمه خاصة ، وأنه سمّى غير واحد من ولدان عصره باسمه ، ولا سيما ابني صاحبه الخاص أبي بكر التيمي وابن عمه طلحة بن عبيد الله التيمي ، ومشيره الخاص عبد الرحمن بن عوف فهمّ عمر أن يغيّر أسماءهم وأمر جمعا من

__________________

(١) انظر الغدير ٦ : ١٨١ ، عن مشكاة المصابيح للتبريزي : ٣٤٤.

(٢) الغدير ٦ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(٣) الغدير ٦ : ١٧١ ، عن كنز العمال ٣ : ١١٦.

٢٨٩

الصحابة بتغيير أسماء أبنائهم المسمّين بمحمد! حتى ذكروا له أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله سمّاهم أو أذن لهم فتركهم ، ومع ذلك كتب إلى أهل الكوفة : أن لا تسمّوا أحدا باسم نبيّ! ونهى عن التكنية بأسمائهم وقال لابنه عبيد الله : ويلك أما تدري ما كنى العرب؟! أبو سلمة أبو حنظلة ـ أبو عرفطة ـ أبو مرّة! هذا وقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أقبح الأسماء : حرب ومرّة (١).

عمر وصوم رجب :

ولعلّه كما خفي على عمر جزية المجوس خفي عليه صوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في رجب وندبه الناس إلى صيامه ، فروي عن خرشة بن الحر : أن عمر كان يدعو الصائمين في رجب إلى طعام الغداء قال : ورأيته يضرب أكفّهم ليضعوها في الطعام ويقول : إنما كان أهل الجاهلية يعظمون شهر رجب فلما جاء الإسلام ترك (٢)!

عمر وكتابة السنن :

وتكرّر ما مرّ في الخبر عن أبي بكر مرة أخرى على يد عمر : حيث استشار الصحابة أن يكتب السنن ، فأشاروا عليه أن يكتبها ، ثم ظل مترددا في ذلك شهرا ثم قال : إني كنت أريد أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا (٣).

__________________

(١) انظر الغدير ٦ : ٣٠٨ ـ ٣١٥ ، المورد : ٥٦. ومات الحارث بن هشام المخزومي في طاعون عمواس (١٨ ه‍) فتزوج عمر بامرأته وكان له ولد اسمه إبراهيم فغيّره إلى عبد الرحمن! انظر التمهيد ١ : ٢٨٦. وقد روي أنه كان حاضرا عند علي عليه‌السلام إذ بشر بولد له ذكر فطلب منه عمر أن يسميه باسمه عمر! مقتل الإمام لابن أبي الدنيا : ١٢٠ ، الحديث ١١٥.

(٢) انظر الغدير ١ : ٢٨٢ ـ ٢٩٠ ، المورد : ٨٩.

(٣) انظر الغدير ٦ : ٢٩٧ ، المورد ٩٣ ، ومن تاريخ الحديث للمؤلف : ٥٠ و٥٧.

٢٩٠

ثم شايع جمعا منهم إلى العراق منهم قرظة بن كعب فقال لهم : أتدرون لم شيّعتكم؟ قالوا : نعم مكرمة لنا! قال : ومع ذلك أنكم تأتون أهل قرية (الكوفة) لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل ، فلا تصدّوهم بالأحاديث فتشغلوهم! جرّدوا القرآن ، وأقلّوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم!

ولما بعث أبا موسى الأشعري للبصرة قال له : إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل ، فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث! وأنا شريكك في ذلك.

ولعله استردّ عبد الله بن مسعود الهذلي من العراق لكثرة حديثه فحبسه ومعه أبو مسعود الأنصاري وعويمر أبو الدرداء وقال لهم : قد أكثرتم الحديث عن رسول الله فحبسهم حتى قتل.

وقال لأبي هريرة : لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لالحقنّك بأرض دوس (١)!

هذا وقد حكى عنه كان يقول : اكتبوا عن الزاهدين في الدنيا ما يقولون! فإن الله عزوجل وكّل بهم الملائكة واضعة أيديهم على أفواههم فلا يتكلّمون إلّا بما هيّأه الله لهم (٢)!

وقال يوما على المنبر : ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها! فأفتوا بآرائهم فضلّوا وأضلّوا. ألا إنا نقتدي ولا نبتدي! ونتّبع ولا نبتدع! إنّه ما ضلّ متمسك بالأثر (٣)!

__________________

(١) انظر الغدير ٦ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، المورد : ٩٢ ، ومن تاريخ الحديث للمؤلف : ٥٢.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٢ : ٩٣.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٢ : ١٠٢. هذا وقد أذن لتميم الداري اللخمي الشامي أن يقصّ على الناس قبل الخطبة يوم الجمعة في المسجد ، انظر تدوين القرآن للكوراني : ٤٤٤ ـ ٤٤٨.

٢٩١

عمر والسؤال عن التفسير :

كان ضبيع بن شريك سيّد قومه من العسيل من بني تميم بالبصرة يسأل بين أجناد المسلمين عن أشياء من القرآن ، ولما فتح عمرو بن العاص مصر رحل ضبيع إلى أجناد المسلمين هناك ، ورفع أمره إلى ابن العاص فرفعه برسول وكتاب إلى عمر. فلما أتاه الرسول بالكتاب ورآه قال له : تسأل مسائل محدثة؟! ثم طلب جرائد رطبة فضرب بها ظهره حتى جرحت ، فتركه في بيت حتى برأ فأعاد عليه الضرب ثم تركه في بيت حتى برأ فدعا به ليعود عليه فقال له ضبيع : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا! وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت.

فسيّره إلى البصرة وكتب إلى أبي موسى الأشعري يأمره أن يقوم في الناس خطيبا فيقول : إن ضبيعا قد ابتغى العلم ولكنه أخطأه! ويحرّم على الناس مجالسته فلا يجالسه أحد من المسلمين! فلما اشتد ذلك عليه كتب أبو موسى إلى عمر : أن قد حسنت توبته! فكتب عمر : أن يأذن بمجالسته. وروى : بل لم يزل وضيعا في الناس وفي قومه حتى مات (١).

هذا كله بالنسبة إلى الرجال ، أما نظر عمر في النساء فقد روى في نبذ من كلامه أنه قال : لا تعلّموهنّ الكتابة (٢).

عمر والأذان والإقامة :

رووا عن علي عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله أمر بلالا أن يؤذن بحيّ على

__________________

(١) انظر مصادره في الغدير ٦ : ٢٩ ـ ٢٩٢ ، المورد : ٩٠ واسمه فيه صبيغ ، وشرح النهج للمعتزلي ١٢ : ١٠٢ وفيه ضبيع ، وانظر قاموس الرجال ٥ : ٥٢٦ برقم ٣٧٠٤ ولم يعهد اسم ضبيغ في العرب.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٢ : ١١٦ فليس هذا من كلام الأئمة عليهم‌السلام.

٢٩٢

خير العمل ، ويقول : اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة (١) ورووا عن المؤذّن الأخير للنبيّ : أبي محذورة أوس بن معمّر الجمحي : أن النبيّ قال له : اجعل في آخر أذانك : حيّ على خير العمل (٢).

فكان الأذان بحيّ على خير العمل على عهد رسول الله وأيام أبي بكر وصدر أيام عمر ، ثم أمر عمر بقطعه وحذفه من الأذان والإقامة ، فقيل له في ذلك فقال : إذا سمع عوام الناس أن الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلّفوا عنه (٣) وهكذا أجاب ابن عباس عكرمة لما قال له : أخبرني لأيّ شيء حذف من الأذان حيّ على خير العمل؟! فقال : أراد عمر أن لا يتّكل الناس على الصلاة ويدعوا الجهاد ، فلذلك حذفها من الأذان وهكذا أجاب الكاظم عليه‌السلام محمد بن أبي عمير لما سأله عنها : لم تركت من الأذان؟! فقال : لئلّا يدع الناس الجهاد اتّكالا على الصلاة (٤).

ولم يؤرّخوا لذلك ؛ ولعله كان بعد موت بلال في سنة (٢٠) وبعد تحريمه حجّ التمتع ونكاح المتعة فقرنه بهما في خطبته وقال : أيها الناس ؛ ثلاث كنّ على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهنّ وأحرّمهنّ وأعاقب عليهن : متعة النساء ومتعة الحج وحيّ على خير العمل (٥).

__________________

(١) انظر الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ٥ : ٢٨٤.

(٢) ميزان الاعتدال ١ : ١٣٩ ، وعنه في قاموس الرجال ١١ : ٤٩١ برقم ٨١٤ وقد يستظهر من هذين الخبرين أن هذا الفصل مما أضافه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخيرا وليس أولا ، ولعله لذلك لم يذكر في خبر الصدوق في أول ج ٢ من علل الشرائع بطريقين عن عمر بن أذينة عن الصادق عليه‌السلام في معراج رسول الله وتعليمه الأذان! ولم يعقّبه الصدوق بشيء! فلعل ذلك مهّد لحذفه.

(٣) دعائم الإسلام ١ : ١٤٤ ، وعنه في بحار الأنوار ٨٤ : ١٥٦.

(٤) علل الشرائع ٢ : ٦٧ ، الباب ٨٩ ، الحديث ٣ ـ ٤.

(٥) شرح التجريد للقوشجي : ٤٨٤ ، وعنه في دلائل الصدق ٣ ، ق ٢ : ١٠٣ ، وانظر

٢٩٣

ولعلّه معه جاءه مؤذّنه يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائما فناداه : الصلاة خير من النوم ، فاستحسنها عمر وأمره أن يعوّض بها عن حيّ على خير العمل في نداء أذان الصبح وقال له : إذا بلغت إلى حيّ على الفلاح في الفجر فقل : الصلاة خير من النوم مرّتين (١).

عمر والمسح على الخفّين :

روى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أحيانا يمسح على الخفّين قبل نزول سورة المائدة وفيها : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فحين نزلت المائدة ترك المسح على الخفّين (٢) وكان عمر لا يدري بهذا الفرق بين الحالين ، فكان يأمر الناس بمسح الخفين ، وأمر بذلك رجلا فتوضّأ ومسح على خفّيه ودخل المسجد فصلّى وسجد ، وجاء علي عليه‌السلام فوطأ على رقبته وقال له : ويلك تصلّي على غير وضوء؟! فقال الرجل : أمرني بذلك عمر بن الخطاب! فأخذ علي عليه‌السلام بيد الرجل وانتهى به إلى عمر ورفع صوته وقال : انظر ما يروي عليك هذا؟ فقال عمر : نعم أنا أمرته ، إن رسول الله مسح! فقال علي عليه‌السلام : قبل المائدة أو بعدها؟ فقال عمر : لا أدري! فقال علي عليه‌السلام : فلم تفتي وأنت لا تدري! سبق الكتاب الخفّين (٣).

__________________

الغدير ٦ : ٢١٣ و٢٣٨.

(١) انظر دلائل الصدق : ٣ ق ٢ : ٩٧ ـ ٩٩ ، والنصّ والاجتهاد : ٢١٩ ـ ٢٢٣ ، المورد ٢٣ وعنه نقلنا.

(٢) تفسير العياشي ١ : ٣٠١ الحديث ٦٢. الآية ٦ من سورة المائدة.

(٣) تفسير العياشي ١ : ٢٩٧ الحديث ٤٦ عن أبي بكر بن حزم.

٢٩٤

فكان القوم على عهد عمر بن الخطاب يقولون : رأينا النبيّ يمسح على الخفّين ، فيقول لهم علي عليه‌السلام : قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فيقولون : لا ندري! ويقول : ولكنّي أدري ويتلوا الآية (١). ولعله لهذا جمع عمر بين علي عليه‌السلام وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم المغيرة الثقفي فقال لهم : ما تقولون في المسح على الخفّين؟ فقام المغيرة فقال : رأيت رسول الله يمسح على الخفّين ، فسأله علي عليه‌السلام : قبل المائدة أو بعدها؟ فقال : لا أدري ، فقال علي عليه‌السلام : لقد سبق الكتاب الخفّين ، إنما انزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة (٢).

عمر يفكر في مصير الأمر :

روى اليعقوبي العبّاسي عن ابن عباس قال : طرقني عمر بن الخطّاب بعد هدأة من الليل فقال : اخرج بنا نحرس نواحي المدينة! فخرجنا ، وعلى عنقه درّته حافيا! حتى أتى بقيع الغرقد ، فاستلقى على ظهره وجعل يضرب أخمص قدميه بيده وتنفّس صعدا! فقلت له : يا أمير المؤمنين ما أحوجك إلى هذا الأمر؟! قال : أمر الله يا ابن عباس! قلت : إن شئت أخبرتك بما في نفسك؟! قال :

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٣٠١ الحديث ٦٢.

(٢) التهذيب ١ : ٣٦٦ ، الحديث ١٠٩١ ، وهكذا تدور الأخبار يومئذ حول المسح على الرجلين أو الخفّين دون الغسل ، ويبدو لي من هذا أن الغسل إنما نشأ بعد هذا من قراءة «وأرجلكم» بالفتح بخلاف قراءة علي وأهل بيته عليهم‌السلام بالخفض كما فيه في الحديث ٦٠ عن غالب بن هذيل قال : «سألت الباقر عليه‌السلام عن قول الله : «وأرجلكم» على الخفض هي أم .. فقال : بل هي على الخفض» والناس على دين ملوكهم وهم بملوكهم أشبه منهم بآبائهم كما جاء في الحديث.

٢٩٥

غص يا غوّاص! إن كنت لتقول فتحسن. فقلت : ذكرت هذا الأمر وإلى من تصيّره؟! قال : صدقت! فقلت له :

فأين أنت عن عبد الرحمن بن عوف؟ فقال : ذاك رجل ممسك ، وهذا الأمر لا يصلح إلّا لمعط في غير سرف ومانع من غير إقتار!

فقلت : فسعد بن أبي وقّاص؟ قال : مؤمن ضعيف!

فقلت : فطلحة بن عبيد الله؟

فقال : ذاك رجل يناول الشرف والمديح ، يعطى ماله حتى يصل إلى مال غيره ، وفيه بأو وكبر!

فقلت : فالزبير بن العوّام فهو فارس الإسلام؟

فقال : ذاك يوم شيطان ويوم إنسان وعفّة نفس ؛ إن كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر حتى تفوته الصلاة!

فقلت : فعثمان بن عفّان؟ فقال : إن ولي حمل بني أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس وأعطاهم مال الله ، ولئن ولي ليفعلنّ والله ، ولئن فعل لتسيرنّ العرب إليه حتى تقتله في بيته.

وسكت فقال لي : امضها يا ابن عباس ، أترى صاحبكم لها موضعا؟!

فقلت : وأين يتبعّد من ذلك مع فضله وسابقته وقرابته وعلمه؟ (ولم يذكر النص).

فقال : هو والله كما ذكرت ، ولو وليهم لحملهم على منهج الطريق فأخذ المحجّة الواضحة ، إلّا أنّ فيه خصالا : الدعابة في المجلس! واستبداد الرأي! والتبكيت للناس! مع حداثة السنّ!

فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ هلّا استحدثتم سنّة يوم الخندق إذ خرج عمرو بن عبد ودّ وقد كعم عنه الأبطال وتأخّر عنه الأشياخ؟! ويوم بدر إذ كان يقطّ الأقران قطّا؟! ولا سبقتموه بالإسلام إذ كان حصيلته السغب وقريش تستوفيكم؟

٢٩٦

فقال : والله يا ابن عباس ؛ إن عليا ابن عمك لأحق الناس بها ؛ ولكن قريشا لا تحتمله! ولئن وليهم ليأخذنّهم بمرّ الحقّ لا يجدون عنده رخصة! ولئن فعل لينكثنّ بيعته ثم ليتحاربنّ (١).

حكى ذلك اليعقوبي وغيره بغير تاريخ له ، والأنسب الأقرب أن يكون ذلك قرب الأواخر من أيامه في عام (٢٣). وفي هذه السنة أذن عمر لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرة أخرى في الحج (٢). فكنّ في هوادج عليهن الطيلسان الأزرق الفاخر ، وجعل أمامهنّ عبد الرحمن بن عوف وخلفهنّ عثمان بن عفان ، وهو معهم (٣).

ويحذّر من مصير الأمر :

روى ابن اسحاق عن الزهري عن ابن عباس : أنه كان مع عمر في آخر حجته ، وكان يقرئ القرآن لعبد الرحمن بن عوف! فكان في خيمته بمنى ينتظره إذ رجع فوجده في رحله فقال له :

إن رجلا أتى أمير المؤمنين فقال له : قال فلان؟ والله لو قد مات عمر بن الخطاب لابايعنّ فلانا؟ والله ما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة فتمّت! فغضب عمر فقال : سأقوم العشيّة في الناس فأحذّر هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم!

قال ابن عوف : فقلت له : يا أمير المؤمنين لا تفعل ؛ فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، وهم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وإني أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) هذا مع ما مرّ من منع النبيّ إياهن من الحجّ بعده!

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٧.

٢٩٧

فأمهل حتى ترجع إلى المدينة فتقول ما تقول بالمدينة متمكّنا ، فيعي أهل الفقه وأشراف الناس مقالتك ويضعوها على مواضعها. فقال عمر : إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس : ففي أواخر ذي الحجة لما قدمنا المدينة وكان يوم الجمعة وزاغت الشمس عجّلت الرواح إلى الجمعة في المسجد فجلست إلى ركن المنبر ، وخرج عمر فجلس على المنبر ، فلما سكت المؤذّنون قام فأثنى على الله ثم قال :

أما بعد ، فإني قائل اليوم مقالة ، لا أدري لعلها بين يدي أجلي! ثم إنه قد بلغني : أن فلانا؟ قال : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لابايعنّ فلانا؟ فلا يغرنّ امرأ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمّت! وإنها قد كانت كذلك إلّا أن الله قد وقى شرّها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر! فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه! تغرّة (مخافة) أن يقتلا (١)!

وهكذا مهّد للمشورة التي هو يقرّرها ، وحذّرهم من اغتصاب أمر الناس بدونها ببيعة كبيعته فلتة لأبي بكر لا يجوّزها لغيره ، بل يوعدهما (المبايع والمبايع له) بالقتل كائنا من كان حتى ولو كان عليّا عليه‌السلام.

__________________

(١) ابن إسحاق في السيرة ٤ : ٣٠٧ ـ ٣٠٩ ثم عرّج عمر على خبره عن سقيفة بني ساعدة ليحكي بيعته فيها لأبي بكر كيف كانت فلتة كما قال ، وأشار إلى رجلين صالحين من الأنصار ـ هما معن بن عديّ القتيل باليمامة وعويم بن ساعدة وقد مات عام (٢٠) ـ فقال عنهما : أنهما قالا لهما : لا تقربوهم يا معشر المهاجرين اقضوا أمركم! في حين مرّ في الخبر عنهما أنهما أخبراهما عن السقيفة وحثّاهما على الحضور واستعجالهما! ولكنهما اليوم غير أحياء ليصحّحوا الخبر عنهما!

٢٩٨

عمر وغلام المغيرة الثقفي :

استأذن المغيرة الثقفي (وهو على الكوفة) من عمر أن يجلب إلى المدينة غلاما له صاحب صناعة ومعه زوجته وبنته فأذن له فأدخلهم وكان المغيرة قد حكم عليه بخراج كل يوم درهمان! فجاء إلى عمر يشكوا إليه ثقله عليه ، فقال له عمر : ليس ذلك بكثير في حقك! فإني سمعت عنك أنك لو أردت أن تدير الرحى بالريح لقدرت عليه! فقال الغلام أبو لؤلؤة : لأديرنّ لك رحى لا تسكن إلى يوم القيامة! فقال : إن العبد أوعد! ولو كنت أقتل أحدا بالتهمة لقتلت هذا (١)!

وفي فجر يوم الأربعاء بعد تلك الجمعة (٢٦ ذي الحجة) أقبل عمر لصلاة الفجر فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة فطعنه ثلاث طعنات ، رواه ابن قتيبة عن عمرو بن ميمون قال : فسمعته يقول : دونكم الكلب فإنه قتلني ؛ وماج الناس فجرح ثلاثة عشر رجلا حتى شدّ عليه رجل فاحتضنه من خلفه.

ثم قال قائل : الصلاة عباد الله طلعت الشمس ، قال عمرو : فدفعت عبد الرحمن بن عوف فصلّى بأقصر سورتين من القرآن.

ومات من الذين جرحوا ستة أو سبعة ، وحمل عمر .. فأتاه الطبيب؟ فسأل عمر : أيّ الشراب أحبّ إليك؟ قال : النبيذ! فسقوه نبيذا فخرج من بعض طعناته ، فقال الناس : هذا صديد ، اسقوه لبنا فخرج اللبن ، فقال الطبيب : لا أرى أن تمسي فما كنت فاعلا فافعل.

ودخل عليه ابن عباس فسأله : من قتلني؟ قال : أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة (٢).

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١٠٢.

(٢) الإمامة والسياسة : ٢٦ ـ ٢٧ ، واسمه فيروز ، وفي البداية لابن كثير ٧ : ١٤٢ : أن أصله فارسي ولكنه رومي الدار ، ولذلك قال ابن الوردي ١ : ١٤٢ : كان نصرانيا.

٢٩٩

وصيّر الأمر شورى بين ستة نفر من أصحاب رسول الله : عليّ بن أبي طالب ، وعثمان بن عفّان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير بن العوّام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبي وقاص.

واستعمل عليهم أبا طلحة زيد بن سهل الأنصاري الخزرجي وقال له : إن رضي أربعة وخالف اثنان فاضرب عنق الاثنين! وإن رضي ثلاثة وخالف ثلاثة فاضرب أعناق الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن! وإن جازت الثلاثة أيام ولم يتراضوا بأحد فاضرب أعناقهم جميعا!

وأمر صهيبا الرومي أن يصلّي بالناس (١) مولى عبد الله بن جدعان التيمي وكان يدّعي أنه صهيب بن سنان من النمر بن قاسط ، وكان مع أبي طلحة خمسون رجلا من الأنصار ، وكان ابن عوف صهر عثمان (٢).

وقال لابنه عبد الله : لا تقل لي اليوم أمير المؤمنين فإني لست اليوم أمير المؤمنين وانطلق إلى أم المؤمنين عائشة وقل لها : إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه! فمضى واستأذن ودخل فرآها تبكي فسلم عليها وقال لها : إن عمر يقرأ عليك السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه! فقالت : كنت اريده لنفسي ولأوثرن به على نفسي! فلما رجع قال عمر : ما لديك؟ قال : أذنت ، فقال : الحمد لله! ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك المضجع (٣).

ثم مات بعد ثلاثة أيام من جرحه ، فصلّى عليه صهيب بن سنان في المسجد بين القبر والمنبر (٤) ثم دفن إلى جانب أبي بكر رأسه بين كتفيه ، أو عند رجليه (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٠ ـ ١٦١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(٣) انظر مصادره ومناقشته في الغدير ٦ : ١٨٩ ـ ١٩١ ، المورد : ٦٥.

(٤) تاريخ خليفة : ٨٧.

(٥) التنبيه والإشراف : ٢٥١ وفيه : كان طويلا آدم كث اللحية. وفي غيره : كان أصلع يصبغ لحيته.

٣٠٠