موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح والحديد ، مختلفو الرايات ، في أوله راية كبرى يقدمهم رجل كأنما كسر وجبر (١) كأنما على رءوسهم الطير ، عن يمينه شابّ حسن الوجه وعن يساره شابّ حسن الوجه ، وبين يديه مثلهما.

فسألت : من هؤلاء؟ قيل : هذا عليّ بن أبي طالب وهذان الحسن والحسين عن يمينه وشماله ، وهذا محمد بن الحنفية معه الراية العظمى بين يديه ، وخلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، ومعه ولد عقيل بن أبي طالب ، وغيرهم من فتيان بني هاشم ، وخلفهم مشايخ المهاجرين والأنصار.

فلما نزل عليه‌السلام بالزاوية صلّى أربع ركعات ثم عفّر خدّيه بالتراب وخالطها بدموعه ثم رفع رأسه ويديه ودعا فقال : «اللهم ربّ السماوات وما أظلّت ، والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم ؛ هذه البصرة أسألك من خيرها وأعوذ بك من شرّها ، اللهم أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين ، اللهم إنّ هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا عليّ ونكثوا بيعتي ، اللهم احقن دماء المسلمين» (٢).

ابن عباس يحتجّ عليهم :

روى الزبير بن بكّار عن عمّه مصعب بن عبد الله : أن عليا عليه‌السلام قال لا بن عباس :

__________________

(١) راوي الخبر عن المنذر : ابن عائشة فسّر هذا المثل قال : في وصف العرب إذا أخبرت عن الرجل كأنه كسر وجبر ، فهو صفة رجل شديد الساعدين ولكنه ينظر إلى الأسفل أكثر من الأعلى.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٣٥١ ـ ٣٥٩.

٥٨١

اذهب إلى الزبير ، فاقرأ عليه‌السلام! وقل له : يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وانكرتنا بالبصرة! ولم يذكر طلحة ، فقال له ابن عباس : أفلا آتي طلحة؟ قال : لا فإنك تجده عاقصا قرنه في حزن ويقول : هذا سهل!

فأتى الزبير في يوم حارّ فوجده في بيت يتروّح فيه (١) وعنده ابنه عبد الله.

فقال له الزبير : مرحبا بك يا ابن لبابة! أجئت سفيرا أم زائرا؟

قال : كلّا ، إن ابن خالك يقرأ عليك السلام ويقول لك : يا أبا عبد الله كيف عرفتنا بالمدينة وأنكرتنا بالبصرة.

فقال لي ابنه عبد الله : قل له : بيننا وبينك دم خليفة ، ووصية خليفة ، ومشاورة العشيرة ، وأمّ مبرورة ، واجتماع اثنين وانفراد واحد (٢).

وذكرها المفيد : بيننا وبينكم : دم خليفة ، وعهد خليفة ، ومشاورة العامة ، وأمّ مبرورة ، واجتماع ثلاثة وانفراد واحد.

قال ابن عباس : فأمسكت لا اكلّمه ساعة ثم قلت له : لو أردت أن أقول لقلت!

فقال ابن الزبير : ولم تؤخّر ذلك وقد حمّ الأمر وبلغ السيل الزّبى؟!

فقلت له : أما قولك : عهد خليفة ، فإن عمر جعل الشورى إلى ستة نفر ، فجعل الستة أمرهم إلى واحد منهم يخرج نفسه منها ويختار لهم ، فعرض الأمر على عليّ وعثمان ، فأبى عليّ أن يحلف (كذا) وحلف عثمان فبايعه. فهذا عهد خليفة.

وأما دم عثمان : فلا يخرج أبوك من خصلتين : إما قتل أو خذل.

__________________

(١) كذا هنا ، وقد مرّ الخبر أنهم هجموا على ابن حنيف في ليلة باردة ذات رياح ، فلم يكن صيفا.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٣ : ١٦٩. وفات العاني نقله في الموفقيات المنشور.

٥٨٢

وأما انفراد واحد واجتماع ثلاثة ؛ فإن الناس لما قتلوا عثمان فزعوا إلى عليّ فبايعوه طوعا وتركوا أباك وصاحبه ولم يرضوا بواحد منهما.

وأما قولك : إن معكم أما مبرورة! فإنّ هذه الامّ أنتم أخرجتموها من بيتها ، وقد أمرها الله أن تقرّ فيه فأبيت أن تدعها ، وقد علمت أنت وأبوك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حذّرها من الخروج وقال لها : «يا حميراء ؛ إياك أن تنبحك كلاب الحوأب» وكان ما رأيت!

وأمّا دعواك مشاورة العامة : فكيف يشاور من قد أجمع عليه؟! وأنت تعلم أن أباك وطلحة بايعاه طائعين غير مكرهين!

فقال ابن الزبير : باطل ـ والله ـ ما تقول يا ابن عباس.

أما الشورى : فلقد سئل عبد الرحمن بن عوف عن أصحاب الشورى فكان صاحبكم أخيبهم عنده! وما أدخله عمر في الشورى إلّا وهو يقرفه (يكرهه) وإنما خاف فتقه في الإسلام!

وأما قتل الخليفة ؛ فصاحبك كتب إلى الآفاق ... بيده ولسانه حتى قدموا عليه ، ثم قتله وهو في داره! وأنا (كنت) معه (عثمان) في الدار اقاتل دونه حتى جرحت بضعة عشر جرحا!

وأما قولك : إن عليا بايعه الناس طائعين ، فو الله ما بايعوه إلّا كارهين والسيف على رقابهم ، غصبهم أمرهم! فقال الزبير : يا ابن عباس ؛ دع عنك ما ترى.

قال ابن عباس : فقلت له : والله ما عددناك إلّا من بني هاشم في برّك لأخوالك ومحبّتك لهم ، حتى أدرك ابنك هذا فقطّع الأرحام! فقال الزبير : دع عنك هذا (١).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣١٧ ـ ٣١٨.

٥٨٣

قال : وقد كان أمير المؤمنين أوصاني أن ألقى الزبير وأن اكلّمه ـ إن قدرت ـ وابنه ليس بحاضر! فجئت مرّتين أجده عنده ، ثم جئت ثالثة فلم أجده عنده فدخلت عليه (وأعلمته بذلك) فأمر مولاه سرجس أن يجلس على الباب يحبس عنا الناس ، ثم جعلت اكلّمه وألاينه ، فيلين مرة ويشتد اخرى ، وسمع سرجس ذلك فأنفذ إلى ابنه عبد الله عند طلحة فأسرع حتى دخل علينا (١).

رسالته عليه‌السلام إلى عائشة :

نقل المفيد عن ابن عباس : أن عليا عليه‌السلام أملى على كاتبه كتابا إلى عائشة ثم ناوله لابن عباس وقال له : ارجع إلى عائشة واذكر لها خروجها من بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخوّفها من الخلاف على الله عزوجل ، ومن نبذها عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقل لها : إن هذه الامور لا تصلحها النساء ، وإنك لم تؤمري بذلك ، فلم ترضى بالخروج بتبرّجك عن أمر الله وبيتك الذي أمرك النبيّ بالمقام فيه حتى سرت إلى البصرة ، فقتلت المسلمين ، وعمدت إلى عمّالي فأخرجتيهم ، وفتحت بيت المال ، وأمرت بالتنكيل بالمسلمين وأبحت دماء الصالحين! فارعي الله عزوجل وراقبيه ، فقد تعلمين أنك كنت أشدّ الناس على عثمان فما هذا مما مضى؟!

قال ابن عباس : فلما ذهبت إليها وقرأت كتاب علي عليه‌السلام عليها وأدّيت الرسالة إليها قالت : يا ابن عباس ؛ إنّ ابن عمّك يرى أنه قد تملّك البلاد! لا والله ما بيده شيء منها إلّا وبيدنا أكثر منه.

فقلت لها : يا اماه! إن أمير المؤمنين له فضل وسابقة في الإسلام وعناء عظيم!

فقالت : ألا تذكر عناء طلحة يوم أحد!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣١٧.

٥٨٤

فقلت : والله ما نعلم أحدا أعظم عناء من علي عليه‌السلام.

قالت : أنت تقول هذا! ومع علي أشياء كثيرة!

قلت : الله الله في دماء المسلمين!

قالت : وأيّ دماء للمسلمين؟! إلّا أن يقتل عليّ نفسه ومن معه؟! فتبسّمت. فقالت : ممّ تضحك يا ابن عباس؟! فقلت : والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه!

قالت : حسبنا الله ونعم الوكيل (١)!

قال المفيد : ولما عاد رسل أمير المؤمنين عليه‌السلام من عند طلحة والزبير وعائشة بإصرارهم على خلافه ، وإقامتهم على نكث بيعته والمباينة له والعمل على حربه واستحلال دماء شيعته ، وأنهم لا يتّعظون بوعظ ولا ينتهون بوعيد ، كتّب الكتائب ورتّب العساكر. ثم ذكر ترتيبهم (٢).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣١٦ ـ ٣١٧ وقبله خبر لقائه بطلحة ، ولكنّه منفرد به ، وفيه غرائب كقول ابن عباس له : «أنا رأيتك بايعت طائعا» وقد مرّ أنه لم يكن يومئذ في المدينة. وفيه قوله له : «فلما رأى أهل مصر فعلك دخلوا عليه فقتلوه» وقد مرّ أنهم لم يكونوا أهل مصر خاصة. وقول طلحة : «قد أحاط به ألفان قياما على رأسه بالسيوف» وهذا غير معقول لا يسعه المسجد النبويّ يومئذ. فتركناه.

(٢) الجمل للمفيد : ٣١٩ ـ ٣٢١.

٥٨٥
٥٨٦

حرب الجمل

٥٨٧
٥٨٨

تعبئة ومكاتبة بعد التعبئة :

وذكروا : أنه لما تعبّأ القوم للقتال ، وبلغ عليا عليه‌السلام تعبئة القوم عبّأ الناس للقتال.

ثم كتب إلى عائشة : أما بعد ، فإنّك خرجت غاضبة ... تطلبين أمرا كان عنك موضوعا ، ما بال النساء والحرب والإصلاح بين الناس؟! تطلبين بدم عثمان! ولعمري لمن عرّضك للبلاء وحملك على المعصية أعظم ذنبا من قتلة عثمان! وما غضبت حتى أغضبت ، وما هجت حتى هيّجت ، فاتّقي الله وارجعي إلى بيتك!

فكتبت إليه : جلّ الأمر عن العتاب ، والسلام!

وكتب إلى طلحة والزبير : أما بعد فقد علمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني ، ولم أبايعهم حتى بايعوني ، وأنكما لممّن أراد وبايع ، وإن العامّة لم تبايعني لسلطان خاص ، فإن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهار كما الطاعة وإسراركما المعصية ، وإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا إلى الله من قريب!

إنك ـ يا زبير ـ لفارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحواريه.

٥٨٩

وإنك ـ يا طلحة ـ لشيخ المهاجرين!

وإن دفاعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه بعد إقراركما به. وقد زعمتما أني قتلت عثمان! فبيني وبينكما من تخلّف عني وعنكما من أهل المدينة. وزعمتما أني آويت قتلة عثمان! فهؤلاء بنو عثمان (معكما) فليدخلوا في طاعتي ثم يخاصموا إليّ قتلة أبيهم. وما أنتما وعثمان إن كان قتل ظالما أو مظلوما؟! وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين : نكث بيعتكما وإخراجكما امّكما!

فأجاباه : إنك سرت مسيرا له ما بعده ، ولست راجعا وفي نفسك منه حاجة ، فامض لأمرك أما أنت فلست راضيا دون دخولنا في طاعتك ولسنا بداخلين فيها أبدا ؛ فاقض ما أنت قاض!

ثم خرج طلحة والزبير وعائشة وهي على جمل عليه هودج قد ضرب عليه بصفائح الحديد ، فبرزوا حتى خرجوا من أفنية دور البصرة ، وتواقفوا للقتال.

فلما رآهم علي عليه‌السلام قد خرجوا ، أمر مناديا من أصحابه فنادى فيهم : ألا لا يرمين أحد سهما ولا حجرا حتى أعذر إلى القوم فأتّخذ عليهم الحجة البالغة (١)!

علي عليه‌السلام يحتجّ على طلحة :

فذكروا : أن عليا عليه‌السلام نادى طلحة بين الصفّين وقال له : يا أبا محمد ؛ ما جاء بك؟ قال : أطلب دم عثمان! قال علي عليه‌السلام : قتل الله من قتله! قال طلحة : فخلّ بيننا وبينهم ، أما تعلم أن رسول الله قال : «إنما يحلّ دم المؤمن في أربع خصال : زان فيرجم ، أو محارب لله ، أو مرتد عن الإسلام ، أو مؤمن يقتل مؤمنا عمدا»

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٧٠ ـ ٧١.

٥٩٠

فهل تعلم أن عثمان أتى شيئا من ذلك؟ قال علي عليه‌السلام : لا. قال طلحة : فأنت أمرت بقتله؟ قال علي عليه‌السلام : اللهم لا ، قال طلحة : فاعتزل هذا الأمر ونجعله شورى بين المسلمين ، فإن رضوا بك دخلت فيما دخل فيه الناس ، وإن رضوا غيرك كنت رجلا من المسلمين!

قال علي عليه‌السلام : يا أبا محمد ؛ أو لم تبايعني طائعا غير مكره؟ فما كنت لأترك بيعتي.

قال طلحة : بايعتك والسيف على عنقي!

قال علي عليه‌السلام : تعلم أني ما أكرهت أحدا على البيعة ، ولو كنت مكرها أحدا لأكرهت سعدا وابن عمر ومحمد بن مسلمة أبوا البيعة واعتزلوا فتركتهم.

فقال طلحة : كنّا في الشورى ستة ، فمات اثنان (عبد الرحمن وعثمان) وقد كرهناك ونحن ثلاثة (أنا والزبير وسعد)!

فقال علي عليه‌السلام : إنما كان لكما أن لا ترضيا قبل الرضا والبيعة ، وأما الآن فليس لكما غير ما رضيتما به ، إلّا أن تخرجا مما بويعت عليه بحدث (منّي) فإن كنت أحدثت حدثا فسمّوه لي. وأنتم أخرجتم امّكم عائشة وتركتم نساءكم ، فهذا أعظم الحدث منكم ، أرضا هذا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن تهتكوا سترا ضربه عليها وتخرجوها منه؟!

فقال طلحة : إنما جاءت للإصلاح!

فقال علي عليه‌السلام : هي لعمرو الله إلى من يصلح لها أمرها أحوج!

ثم قال : أيها الشيخ ؛ اقبل النصح وارجع بالتوبة مع العار ، قبل النار والعار (١).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٧٤ ـ ٧٥.

٥٩١

إمهال ومقال قبل القتال :

قال المفيد : كان علي عليه‌السلام قد أنظرهم ثلاثة أيام (من السابع من جمادى الاولى) عسى ولعلّهم يرعووا ويكفّوا ، فلما استمر إصرارهم على الخلاف قام في أصحابه خطيبا فقال لهم :

«عباد الله ؛ انهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم ؛ فإنهم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي ونكلوا بعاملي ابن حنيف وأخرجوه من البصرة بعد أن آلموه بالضّرب المبرّح والعقوبة الشديدة ، وهو شيخ من وجوه الأنصار والفضلاء ، ولم يرعوا له حرمة ، وقتلوا السيابچه (١) رجالا صالحين ، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي ظلما وعدوانا لغضبه لله ، ثم تتبّعوا شيعتي ـ بعد أن هربوا منهم ـ في كل غائطة وتحت كلّ رابية يضربون أعناقهم صبرا! ما لهم (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٢)».

فانهدوا إليهم ـ عباد الله ـ وكونوا أسودا أشدّاء عليهم ، فإنهم شرار ، ومساعدوهم على الباطل شرار ، فالقوهم صابرين محتسبين ، تعلمون أنكم منازلوهم ومقاتلوهم وقد وطّنتم أنفسكم على الطعن الدّعسيّ والضرب الطلخفي (الشديدين) ومبارزة الأقران ، وأيّ امرئ أحسّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء ، ورأى من أحد من إخوانه فشلا فليذبّ عن أخيه الذي فضّل عليه كما يذبّ عن نفسه ، فلو شاء الله لجعله مثله (٣).

وكان العبديّون (بنو عبد قيس) البصريون قد نزحوا من البصرة إلى أمير المؤمنين ، فلما ذكر في خطبته حكيم بن جبلة العبدي قام إليه شدّاد بن شمر العبدي فقال بعد الحمد والثناء :

__________________

(١) مضى تحليل الكلمة فيما سبق ، وانظر هامش الإرشاد ١ : ٢٥٢.

(٢) المنافقون : ٤.

(٣) الإرشاد ١ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

٥٩٢

أما بعد ، فإنه لما كثر الخطّاءون وتمرّد الجاحدون ، فزعنا إلى آل نبيّنا الذين بهم ابتدينا بالكرامة وهدينا من الضلالة ، فالزموهم رحمكم الله ودعوا من أخذ يمينا وشمالا ، فإنّ اولئك في غمرتهم يعمهون وفي ضلالهم يتردّدون (١).

ولما بلغه اجتماعهم على حربه قام في الناس خطيبا قبل القتال بيوم ، فحمد الله وأثنى وصلّى ثم قال :

«أيها الناس! إن طلحة والزبير قدما البصرة وقد اجتمع أهلها على طاعة الله وبيعتي ، فدعواهم إلى معصية الله وخلافي ، فمن أطاعهما منهم فتنوه ومن عصاهما قتلوه! وقد كان من قتلهما حكيم بن جبلة والسيابچة ما بلغكم ، ومن فعالهما بعثمان بن حنيف ما لم يخف عنكم. وقد كشفوا الآن القناع وآذنوا بالحرب ، وقام طلحة بالشتم والقدح في أديانكم ، وقد أرعد هو وصاحبه وأبرقا ، وهذان أمران معهما الفشل ، ولسنا نرعد حتى نوقع ولا نسيل حتى نمطر ، وقد خرجوا من هدى إلى ضلال ، دعوناهم إلى الرضا ودعونا إلى السخط ، فحلّ لنا ولكم ردّهم إلى الحق بالقتال ، وحلّ عليهم القتل بالقصاص منهم ، وقد والله مشوا إليكم ضرارا وأذاقوكم أمسّ من الجمر!

فإذا لقيتم القوم غدا فأعذروا في الدعاء وأحسنوا البقيّة واستعينوا الله واصبروا إن الله مع الصابرين» (٢).

الإعذار قبل الإعصار :

قال المفيد : فلما كان غداة الخميس لعشر مضين من جمادى الأولى ، سار بالناس إلى القوم حتى وقف ونادى بهم : لا تعجلوا حتى أعذر إلى القوم.

__________________

(١) المفيد في الجمل : ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٣١ ونقل سطرا منها الرضي في نهج البلاغة ، الخطبة ٩ ، وفي الفتوح ١ : ٤٦٩ وعن الواقدي.

٥٩٣

ثم دعا عبد الله بن العباس ومصحفا وأعطاه إياه وقال له : امض بهذا المصحف إلى طلحة والزبير وعائشة ، وقل لطلحة والزبير : «ألم تبايعاني مختارين؟! فما الذي دعا كما إلى نكث بيعتي؟! وهذا كتاب الله بيني وبينكما».

فروى عن ابن عباس قال : بدأت بالزبير وقلت له : إن أمير المؤمنين يقول لك : ألم تبايعني طائعا فلم تستحلّ قتالي؟! وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فإن شئت تحاكمنا إليه.

فقال : ارجع إلى صاحبك! فإنا بايعنا كارهين ، ومالي حاجة في محاكمته!

وأخذ الناس يشتدّون حولي ، فانصرفت عنه إلى طلحة فقلت له : إنّ أمير المؤمنين يقول لك : ما حملك على الخروج وبم استحلت نقض بيعتي والعهد عليك؟!

فقال : أيظنّ ابن عمّك حين حوى على الكوفة أنه قد حوى على الأمر؟! وقد والله كتبت إلى المدينة تؤخذ لي البيعة بمكة! وإنما خرجت أطلب بدم عثمان!

فقلت له : اتّق الله يا طلحة! فإنه ليس لك أن تطلب بدم عثمان ، وولده أولى بدمه منك ، هذا أبان بن عثمان ما ينهض في طلب دم أبيه!

قال طلحة : فنحن أقوى منه في ذلك ، قتله ابن عمّك وابتزّنا أمرنا!

فقلت له : أذكّرك الله في المسلمين ودمائهم ، وهذا المصحف بيننا وبينكم ، والله ما أنصفتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ حبستم نساءكم في بيوتكم وأخرجتم حبيسة رسول الله.

فأعرض عنّي إلى أصحابه وناداهم : ناجزوا القوم فإنكم لا تقومون بحجاج ابن أبي طالب!

فقلت له : يا أبا محمد! أبا لسيف تخوّف ابن أبي طالب؟! أم والله ليعاجلنّك!

٥٩٤

فقال : ذلك بيننا وبينكم!

قال : فانصرفت إلى عائشة وهي في هودج مدفّف بالدروع على جملها عسكر ، والقاضي كعب بن سور آخذ بخطامه ، وحولها الأزد وضبّة ، فلما رأتني قالت : ما الذي جاء بك يا ابن عباس؟ والله لا سمعت منك شيئا! ارجع إلى صاحبك فقل له : ما بيننا وبينك إلّا السيف! فصاح من حولها : ارجع يا ابن عباس لا يسفك دمك!

فرجعت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأخبرته الخبر وقلت له : ما تنتظر؟ والله ما يعطيك القوم إلّا السيف ؛ فاحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك. فقال : نستظهر بالله عليهم.

فو الله ما رمت من مكاني حتى طلع عليّ نشابهم كأنه جراد منتشر!

فقلت : يا أمير المؤمنين ؛ أما ترى إلى ما يصنع القوم؟! مرنا ندفعهم.

فقال : حتى أعذر إليهم ثانية.

وكرّر الإعذار بكلام الجبّار :

ثم نادى : من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إليهم ، وهو مقتول ، وأنا ضامن له على الله الجنة؟! فقام غلام حدث السنّ من عبد القيس يقال له مسلم عليه قباء أبيض فقال له : يا أمير المؤمنين ، أنا أعرضه عليهم ، وقد احتسبت نفسي عند الله تعالى. فكأنّه أشفق عليه فأعرض عنه وكرّر نداءه ، فكرّر مسلم استعداده لذلك ، فأعرض عليّ عليه‌السلام عنه وكرّر نداءه ثالثة فلم يقم غير الفتى! فدفع إليه المصحف وقال له : امض إليهم واعرضه عليهم وادعهم إلى ما فيه.

فذهب الغلام ـ وأمه حاضرة ـ حتى وقف بإزاء صفوف القوم فنشر مصحفه وقال لهم : هذا كتاب الله عزوجل ، وأمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه.

٥٩٥

فنادت عائشة : اشجروه بالرماح قبّحه الله! فطعنوه من كل جانب ، فصاحت أمه وخرجت إليه وطرحت نفسها عليه ، ولحقها جمع منهم فأعانوها على حمل ولدها حتى طرحوه بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأمه معه تندبه وتبكيه وتقول :

يا ربّ إن مسلما أتاهم

يتلو كتاب الله ، لا يخشاهم

فخضّبوا من دمه قناهم

وأمّه قائمة تراهم

 تأمرهم بالقتل لا تنهاهم

فلما رأى أمير المؤمنين عليه‌السلام ذلك رفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إليك شخصت الأبصار ، وبسطت الأيدي ، وأفضت القلوب وتقرّبت إليك بالأعمال ، ثم تلا قوله سبحانه : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)(١).

والراية لابن الحنفية :

نقل المفيد عن الواقدي عن عمر بن علي عليه‌السلام ، سمع أبي يوم الجمل أصواتا من أصحاب الجمل فسأل ابنه محمدا : ما ذا يقولون؟ قال : يقولون : يا لثارات عثمان! فشدّ عليه أصحابه يهشّون في وجهه ويقولون : ارتفعت الشمس! وهو يقول لهم :

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٣٦ ـ ٣٤١ وبهامشه مصادر كثيرة ، وقبل المفيد نقله القاضي النعمان المصري المغربي في شرح الأخبار ١ : ٣٩٤ عن أبي البختري ، والطبري رواه عن النميري البصري عن المدائني البصري بسنده عن عمّار الدّهني البجلي في ٤ : ٥١١. ونقله المعتزلي في شرح النهج ٩ : ١١٢ عن أبي مخنف ، واختصره عنه البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٢٤١ وأرسله المسعودي ٢ : ٣٧٠. وفي مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٨٢ وعنه في بحار الأنوار ٣٢ : ١٧٤. والآية في الأعراف : ٨٩.

٥٩٦

الصّبر أبلغ في الحجة (١)! وأطال الوقوف والناس ينتظرون أمره ، واشتد عليهم ذلك فتنادوا : حتى متى؟!

فصفق بإحدى يديه على الأخرى وقال لهم : عباد الله ، لا تعجلوا ، فإني كنت أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحبّ أن يحمل إذا هبّت الريح.

فأمهل حتى زالت الشمس فصلّى صلاته ركعتين (قصرا) ثم قال لمن لديه : ادعوا لي ابني محمدا ، فدعوه له ، فجاء وهو ابن تسع عشرة سنة (فكان مولده في ١٧ ه‍) فوقف بين يديه ، ثم دعا بالراية (٢) فنصبت ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أما إن هذه الراية لم ترد قطّ ولا تردّ أبدا ، وإني واضعها اليوم في أهلها!

ثم دفعها إلى ولده محمد وقال له : تقدّم يا بني (٣) بالراية ، واعلم أن الراية إمام أصحابك ، فكن متقدما يلحقك من خلفك ، فإن كان لمن يتقدم من أصحابك جولة رجع إليك (٤) خذ الراية وامض. فمضى فناداه : يا أبا القاسم! قال : لبّيك يا أبة! قال : يا بنيّ ؛ لا يستفزّك ما ترى ، قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزّني عدوّي ؛ وذلك أني لم ألق أحدا إلّا حدّثتني نفسي بقتله ، فحدّث نفسك بعون الله بظهورك عليهم ولا يخذلك ضعف اليقين بالنفس ، فإنّ ذلك أشدّ الخذلان!

قال محمد : فقلت له : يا أبة أرجو أن أكون كما تحبّ إن شاء الله.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٥٧.

(٢) نقل المعتزلي في شرح نهج البلاغة ٩ : ١١١ عن أبي مخنف : هي راية رسول الله السوداء المعروفة بالعقاب ، وقال للحسنين : إنما دفعت الراية إلى أخيكما وتركتكما لمكانكما من رسول الله ، أي أنه كان لا يزجّ بهما في القتال إبقاء عليهما.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٥٦.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٥٩.

٥٩٧

فقال : فالزم رايتك ، فإذا اختلطت الصفوف قف في مكانك بين أصحابك ، فإن أنت لم تر أصحابك فإنهم سيرونك (١) وكان علما عظيما أسود (٢) يملأ الرمح (٣).

ونقل المفيد عن الواقدي بسنده عن ابن الحنفية قال : لما دفع أبي علي عليه‌السلام إليّ اللواء قال : لا تحدثنّ شيئا حتى يحدث فيكم.

ثم نام (القيلولة في فسطاط صغير) فنالنا نبل القوم ، فأفزعته ، ففزع وهو يمسح عينيه من النوم ، وأصحاب الجمل يصيحون : يا لثارات عثمان! فبرز وليس عليه إلّا قميص واحد ، فتقدمت إليه وقلت له : يا أبة! أفي مثل هذا اليوم بقميص واحد! فقال عليه‌السلام : أحرز امرأ أجله ، والله قاتلت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا حاسر أكثر مما قاتلت وأنا دارع!

ثم دنا (حاسرا) من طلحة والزبير فكلّمهما (٤).

وآب الزبير وما تاب :

قال ابن قتيبة : خرج علي عليه‌السلام على بغلة رسول الله الشهباء بين الصفّين حاسرا ، ثم نادى : أين الزبير! فخرج الزبير إليه حتى إذا كانا بين الصفّين .. قال له علي عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ؛ ما جاء بك هاهنا؟ قال : جئت أطلب دم عثمان! فقال علي عليه‌السلام : قتل الله من قتل عثمان! أنشدك الله ـ يا زبير ـ هل تعلم أنك مررت بي

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٦٨.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٧٥ عن الواقدي ، وقد مرّ الخبر في الهامش عن أبي مخنف : أنها كانت راية النبيّ : العقاب ، وهي كانت سوداء ولذلك سميّت عقابا ، فلا يصح ما في الجمل للمفيد : ٣٧٣ عن الواقدي أيضا : أنها كانت راية بيضاء.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٧٣ عن الواقدي.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٥٥.

٥٩٨

وأنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو متّكئ على يدك ، فسلّم عليّ رسول الله وضحك إليّ ، ثم التفت إليك وقال لك : يا زبير ، إنك تقاتل عليّا وأنت له ظالم؟! قال الزبير : اللهم نعم! قال علي عليه‌السلام : فعلام تقاتلني؟ قال الزبير : نسيتها والله ، ولو ذكرتها ما خرجت إليك ولا قاتلتك! ثم انصرفا.

فانصرف علي عليه‌السلام إلى أصحابه فقالوا له : يا أمير المؤمنين ، برزت إلى رجل في سلاحه وأنت حاسر! قال علي عليه‌السلام : أتدرون من الرجل؟ ذلك الزبير ابن عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أما إني قد ذكرت له حديثا قاله له رسول الله فقال : لو ذكرته ما أتيتك!

فقال أصحابه : يا أمير المؤمنين ، الحمد لله ، ما كنا نخشى في هذه الحرب غيره ولا نتّقي سواه! إنه لفارس رسول الله وحواريّه ومن عرفت شجاعته وبأسه ومعرفته بالحرب ، فإذا قد كفاناه الله فلا نعدّ من سواه إلّا صرعى حول الجمل والهودج!

وانصرف الزبير فدخل على عائشة ـ قبل أن تحمل على الجمل ـ فقال لها :

يا أماه! ما شهدت موطنا قطّ في الشرك ولا في الإسلام إلّا ولي فيه رأي وبصيرة ، سوى هذا الموطن ، فإنه لا رأي لي فيه ولا بصيرة ، بل إنّي فيه لعلى باطل!

فقالت له عائشة : يا أبا عبد الله ، خفت سيوف بني عبد المطلب؟

فقال : أما ـ والله ـ إنّ سيوف بني عبد المطّلب طوال حداد تحملها فتية أنجاد!

ثم التفت إلى ابنه عبد الله وقال له : عليك بحزبك ، أما أنا فراجع إلى بيتي!

فقال له ابنه عبد الله : الآن إذ التقت الفئتان والتقت حلقتا البطان؟! فما ردّك؟ قال : ردّني ما إن علمته كسرك! ولا تعدّ هذا مني جبنا ، فو الله ما فرقت (خفت) من أحد في جاهلية ولا إسلام (١)! وقد علم الناس أني لست بجبان ، ولكن ذكّرني عليّ شيئا سمعته من رسول الله ، فحلفت أن لا اقاتله!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٧٢ ـ ٧٣ ، وانظر اليعقوبي ٢ : ١٨٢ ، والمسعودي ٢ : ٣٦٣.

٥٩٩

فقال عبد الله : دونك غلامك (مكحول) فأعتقه كفّارة ليمينك!

فقالت عائشة : لا والله بل خفت سيف ابن أبي طالب ، ولئن خفتها فلقد خافها الرجال من قبلك!

فرجع إلى القتال! فقيل لأمير المؤمنين : إنه رجع! فقال : دعوه فإنه محمول عليه (١).

واستعدّ الإمام للإقدام :

نقل المفيد عن الواقدي قال : رجع علي عليه‌السلام ... فدعا بدرعه البتراء (٢) ولم يلبسها بعد النبيّ إلّا يومئذ ، فأخذ شسع نعل ، فقال له ابن عباس : ما تريد بهذا الشسع يا أمير المؤمنين؟ قال : أربط بها ما قد وهى من هذا الدرع من خلفي. فقال ابن عباس : أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل هذا؟ قال : ولم؟ قال : أخاف عليك! قال : لا تخف أن أوتى من ورائي ، والله ـ يا ابن عباس ـ ما ولّيت في زحف قط! والبس أنت يا ابن عباس. فلبس ابن عباس درعا سعدية (٣) ولبس هو درعه حتى إذا وقعت موقعها من بطنه أمر ابنه محمدا أن يحزّمها بعمامة ، ثم انتضى سيفه (ذا الفقار (٤)) فهزّه حتى رضى به ، فغمّده وتقلّده (٥) ثم توكّأ على قوس عربيّة ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبيّ فصلّى عليه.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٨٢ وسيأتي باقي خبره. وعودته للحرب في أنساب الأشراف ٢ : ٢٥٨ ، وأمالي الطوسي : ١٣٧ ، الحديث ٢٢٣ عن الثقفي الكوفي.

(٢) مبتورة الوراء أي لا ظهر لها ، وفي شرح نهج البلاغة ٩ : ١١١ : هي درع النبيّ ذات الفضول.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ١١١ عن أبي مخنف.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٥٩.

٦٠٠