موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

وقالت : وإنها لكلاب الحوأب؟ ردّوني ردّوني ، فإني سمعت رسول الله يقول ... (وذكرت الحديث).

فلفّقوا لها خمسين أعرابيا جعلوا لهم جعلا ، فحلفوا لها أنّ هذا ليس بالحوأب! فسارت لوجهها (١).

وروى الطبري في خبره عن العرنيّ بائع الجمل لعائشة ودليلها إلى البصرة قال : طرقنا ماء الحوأب فنبحتها كلابها ، فقالوا : أيّ ماء هذا؟ فقلت : ماء الحوأب. فصرخت عائشة بأعلى صوتها ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته ثم قالت : أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طروقا! ردّوني ردّوني ـ ثلاثا ـ وأناخوا حولها وأبوا وأبت حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من غد ذلك اليوم ، فجاءها ابن الزبير ينادي : النجاء النجاء فقد أدرككم ـ والله ـ عليّ بن أبي طالب! فارتحلوا وشتموني فانصرفت عنهم (٢).

وروى الصدوق عن الصادق عليه‌السلام قال : فشهد عندها سبعون رجلا أنّ ذلك ليس بماء الحوأب! فكانت أول شهادة زور في الاسلام (٣).

وبلغوا حفر أبي موسى :

نقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف بسنده عن ابن عباس : أن طلحة والزبير أسرعا السير بعائشة حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى الأشعري ،

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٢٥ عن كتاب الجمل لأبي مخنف. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٤ وأنهم كانوا من بني عامر.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ثم لحق بالإمام عليه‌السلام بعد الربذة وقبل ذي قار فكان دليلهم إليها.

(٣) كتاب من لا يحضره الفقيه ٣ : ٧٤ ، الحديث ٣٣٦٥ باب نوادر الشهادات.

٥٢١

وهو قريب من البصرة (١) فعسكرا فيه وفيه كتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري : أن أخل لنا دار الإمارة!

فلما وصل كتابهما إليه بعث إلى الأحنف بن قيس التميمي شيخهم يستشيره فقال له :

إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله ، والناس إليها سراع كما ترى! فما ترى؟

فقال له الأحنف : معك أهل البصرة وأنت وإليهم ومطاع فيهم ، فسر بالناس إليهم ، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس أطوع لهم منهم لك ، وإن لم تتأهّب للنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة فإني أظنّهم ـ والله ـ سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به! وأراهم ـ والله ـ لا يزايلون حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا!

فقال له ابن حنيف : الرأي ما رأيت ، ولكنّي أكره أن أبدأهم بالشر ، وأرجوا السلامة والعافية إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه فأعمل به.

ثم أتاه حكيم بن جبلة العبدي فأقرأه كتاب طلحة والزبير واستشاره ، فقال حكيم مثل قول الأحنف ، وأجابه عثمان بمثل جوابه السابق للأحنف ، فقال حكيم : فأذن لي أنا أن أسير بالناس إليهم ، فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين وإلّا نابذتهم القتال.

فقال عثمان : لو كان رأيي ذلك لسرت إليهم بنفسي.

فقال حكيم : أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر لينقلبنّ قلوب كثير

__________________

(١) حفر أبي موسى : بئر واسعة كان حفرها أبو موسى الأشعري لحجّاج البصرة إلى مكة ، بينها وبين البصرة خمس ليال. معجم البلدان ٢ : ٢٧٥ ، ويقال له الحفير أيضا.

٥٢٢

من الناس إليهم ، وليزيلنّك عن مجلسك هذا ، فأنت أعلم (١) فقال له عثمان : توقّف عن ذلك حتى اراسلهم. فقال حكيم : إنا لله! هلكت والله يا عثمان! فأعرض عثمان عنه (٢).

وخرج الإمام إلى الربذة :

روى الطبري عن النميري البصري عن المدائني البصري قال : خرج عليّ عليه‌السلام من المدينة في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين (٣).

وقال المفيد : وسار مجدّا في السير حتى بلغ الربذة ـ عسى ولعلّه يلحقهم فيمنعهم ـ فوجدهم قد فاتوه (٤).

ونقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف عن رواته قال : بلغه عليه‌السلام مشارفة القوم للبصرة فأمر كاتبه عبيد الله بن أبي رافع أن يكتب :

«من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف ، أما بعد : فإن «البغاة» عاهدوا الله ثم نكثوا وتوجّهوا إلى مصرك ، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به ، والله أشدّ بأسا وأشدّ تنكيلا.

فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه ، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك ، وإن أبوا إلّا التمسّك بحبل النكث والخلاف فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم ، وهو خير الحاكمين.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١١ ـ ٣١٢ عن كتاب الجمل لأبي مخنف عن ابن عباس.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٧٤ عن أربعة من المؤرّخين منهم أبو مخنف أيضا والمدائني والواقدي.

(٣) الطبري ٤ : ٤٧٨.

(٤) الجمل للمفيد : ٢٤١.

٥٢٣

وكتبت كتابي هذا إليك من الربذة ، وأنا معجّل المسير إليك إن شاء الله.

وكتبه عبيد الله بن أبي رافع ، في سنة ست وثلاثين».

ومن أخبار الربذة :

وكان استنفار الزبير وطلحة الناس بعد الحجّ ، وتبعهم جمع منهم وتخلّف عنهم آخرون فالتقى هؤلاء بالامام عليه‌السلام في الربذة ، وكان هو في خبائه فاجتمعوا ليسمعوا كلامه. فروى المفيد عن ابن عباس قال : أتيته ـ لأخبره بهم ـ فوجدته يصلح نعله فقلت له : نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع ، فلم يكلّمني حتى فرغ من نعله ثم ضمّها إلى صاحبتها ثم قال لي : قوّمها. فقلت : لا قيمة لها ، قال : على ذلك ، فقلت : كسر درهم! قال : والله لهما أحبّ إليّ من إمرتكم هذه إلّا أن اقيم حقا أو أدفع باطلا.

فقلت له : إن آخر الحجّاج قد اجتمعوا ليسمعوا كلامك ، فتأذن لي أن أتكلم؟ فإن كان حسنا كان عنك ، وإن كان غير ذلك كان منّي! (وكأنه كان يحذر حدّته) فقال : لا ، أنا أتكلّم ، ثم وضع يده في صدري وقام وكان خشن الكفّ فآلمني ، فأخذت بثوبه وقلت له : أنشدك الله والرحم (ليقبل قولي) فقال : لا تنشدني. ثم خرج ، فاجتمعوا عليه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (١) :

إن الله سبحانه بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا (سماويا) ولا يدّعي نبوّة ، فساق الناس حتى بوّأهم محلّتهم وبلّغهم منجاتهم ، فاستقامت قناتهم واطمأنت صفاتهم ، وو الله إن كنت لفي ساقتها حتى تولّت بحذافيرها ، ما عجزت ولا جبنت.

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٥٢٤

وإنّ مسيري هذا لمثلها ، فلأبقرنّ الباطل حتى يخرج الحق من جنبه.

مالي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنّهم مفتونين ، وإنّي لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم! والله ما تنقم منا قريش إلّا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيّزنا ، فكانوا كما قال الأول :

أدمت لعمري شربك المحض صابحا

وأكلك بالزّبد المقشّرة البجرا (١)

ونحن وهبناك العلاء ولم تكن

عليّا ، وحطنا حولك الجرد والسمرا (٢)

وروى الطوسي عن المفيد عن الثقفي الكوفي بسنده عن طارق بن شهاب الأحمسي قال : سمعت بنزول علي عليه‌السلام بالربذة ، فسألت عن قدومه إليها فقيل لي : لقد خالف عليه طلحة والزبير وعائشة وصاروا إلى البصرة فخرج يريدهم (٣).

فقلت في نفسي : إنها الحرب! أفأقاتل أم المؤمنين وحواريّ رسول الله؟! إن هذا لعظيم! أم أدع عليا وهو أول المؤمنين بالله وابن عمّ رسول الله ووصيّه؟! هذا أعظم؟

ثم أتيته فسلّمت عليه وجلست إليه (وسألته عن أمره وأمرهم) فقصّ عليّ قصّته وقصة القوم. ثم زال الزوال فصلّى بنا الظهر ، فلما انفتل (٤) وفرغ من صلاته ، جاءه ابنه الحسن فجلس بين يديه ثم بكى ، فقال له أمير المؤمنين : تكلّم يا بنيّ ولا تبك ولا تحنّ حنين الجارية!

__________________

(١) المحض : اللبن الخالص ، والبجر : التمر المقشّر أي المستخرج النوى منه.

(٢) الجرد : السيوف المجرّدة ، والسمر : الرماح السمراء الصّلبة. ونص الخطبة في نهج البلاغة ، الخطبة ٣٣ ، غير أن الرضيّ ذكر الخبر بذي قار لا الربذة.

(٣) أمالي الطوسي : ٥٢ ، الحديث ٦٨.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٢٦.

٥٢٥

قال : يا أمير المؤمنين ؛ إن القوم حصروا عثمان يطلبونه بما يطلبونه بما يطلبونه ظالمين أو مظلومين ، فسألتك أن تعتزل الناس وتلحق بمكة حتى تؤوب العرب وتعود إليها أحلامها وتأتيك وفودها ، فو الله لو كنت في جحر ضبّ لضربت إليك العرب آباط الإبل حتى تستخرجك منه. ثم خالفك طلحة والزبير فسألتك أن لا تتبعهما وتدعهما ، فإن اجتمعت عليك الامة فذاك وإن اختلفت رضيت بما قضى الله ، وأنا اليوم أسألك أن لا تقدم العراق واذكّرك بالله أن تقتل بمضيعة!

فقال أمير المؤمنين : أما قولك : إن عثمان حصر فما علي منه وقد كنت بمعزل عن حصره؟ وأما قولك : ائت مكة ، فو الله ما كنت لأكون الرجل الذي تستحلّ به مكة! وأما قولك : اعتزل العراق ودع طلحة والزبير ، فو الله لا أكون كالضّبع ، تنتظر حتى يدخل عليها طالبها فيضع الحبل في رجلها حتى يقطع عرقوبها ثم يخرجها فيمزّقها إربا إربا! ولكنّ أباك ـ يا بني ـ يضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المخالف أبدا حتى يأتي عليّ يومي ، فو الله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا عليّ منذ قبض الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يوم الناس هذا!

فكان طارق بن شهاب إذا ذكر هذا الحديث بكى (١).

وكتابه منها إلى أهل الكوفة :

نقل المعتزلي عن ابن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار مولى بني المطّلب قال : لما نزل علي عليه‌السلام الربذة متوجها إلى البصرة ، كتب إلى أهل الكوفة كتابا قال فيه :

__________________

(١) المصدر الأسبق. وقارن بالإمامة والسياسة ١ : ٤٩ وانظر واعجب من الزيادات ، وبالطبري ٤ : ٤٥٥ عن سيف بنقائص! وأيضا : ٤٥٨ عن العرني بائع الجمل لعائشة ودليلها للطريق ، يقول إنه لحق به عليه‌السلام بعد الربذة وأنّ هذا الخبر كان بذي قار! واختصر الخبر القاضي النعمان المصري في شرح الأخبار ١ : ٣٨٢ ، الحديث ٣٢٤.

٥٢٦

من عبد الله علي أمير المؤمنين ، إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار وسنام العرب!

أما بعد ، فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه : إن الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه (اطلب رضاه) وأقل عتابه ، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف (السريع) وأرفق حدائهما العنيف! وكان من عائشة فيه فلتة غضب! فاتيح له قوم قتلوه.

وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيّرين.

واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها ، وجاشت جيش المرجل (القدر) وقامت الفتنة على القطب ، فأسرعوا إلى أميركم ، وبادروا جهاد عدوّكم إن شاء الله ، فحسبي بكم إخوانا وللدين أنصارا (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(١).

وبعث به إلى الكوفة مع ابن أخيه محمد بن جعفر ، وربيبه محمد بن أبي بكر (٢).

وروى المفيد عن الواقدي عن الحارث بن فضيل قال : كانت عائشة قد كتبت إلى أبي موسى الأشعري ، أن اكفني من قبلك! فكتب إليه علي عليه‌السلام : ارفع عن الناس سوطك وأخرجهم عن حجزتك ، فإن حققت فاقبل وإن ثقلت فاقعد. وبعث به إليه مع ابنه محمد بن الحنفية وربيبه محمد بن أبي بكر ، فلما قرأ الكتاب قال : اثقل ثم اثقل ، وأساء لهما القول وأغلظ وقال : والله إن بيعة عثمان لفي رقبة صاحبكم وفي رقبتي ما خرجنا منها (٣)!

__________________

(١) التوبة : ٤١.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٨ عن كتاب الجمل لابن إسحاق.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٥٧ عن الواقدي ونحوه في الطبري ٤ : ٤٧٧ عن النميري البصري عن المدائني البصري ، و٤٨٢ عن سيف التميمي.

٥٢٧

وقال ابن إسحاق : أنهما استنفرا الناس ، فدخلوا على أبي موسى ليلا وقالوا : ما تقول ، فقال : سبيل الآخرة أن تلزموا بيوتكم! فمنعهم بذلك ، وبلغ ذلك المحمّدين فأغلظا له فقال لهما ذلك القول السابق وزاد : ولو أردنا قتالا ما كنا لنبدأ بأحد قبل قتلة عثمان! فخرجا ولحقا بعلي عليه‌السلام فأخبراه خبره (١).

خبر هاشم المرقال الزهري :

وقبل أن يرجع إليه المحمّدان فيخبراه ، كان في الكوفة يوم قدما إليها هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري ابن أخي سعد بن أبي وقّاص ، والملقّب بالمرقال ، وقد علم خبرهما وخبر الأشعري.

فروى الطبري عن النميري البصري عن المدائني البصري بسنده : أن هاشما هذا خرج من الكوفة إلى علي عليه‌السلام وهو بالربذة ـ قبل رجوع المحمدين ـ فأخبره بقدوم ابن أبي بكر وقول أبي موسى.

فقال عليه‌السلام : لقد أردت عزله ، وسألني الأشتر أن أقرّه ، ثم كتب معه إلى أبي موسى :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم. من عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس.

أما بعد ، فإني وجّهت هاشم بن عتبة لينهض من قبلك من المسلمين إليّ ، فأشخص الناس ، فإني لم اولّك الذي أنت به إلّا لتكون من أعواني على الحق» (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٩ عن ابن إسحاق.

(٢) الطبري ٤ : ٤٩١ ، ونقله المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١٤ : ٨ عن كتاب الجمل لأبي مخنف وعنه المفيد في الجمل : ٢٤٢ ولكن فيه : «وقتلوا شيعتي وأحدثوا الحدث العظيم» ولم يكن هذا الحدث قد حدث يومئذ أو لم يصل خبره! ولذلك جعله المفيد من أخبار ذي قار خلافا لنصّ المدائني الخالي من هذه الزيادة ، وهو الصحيح المنسجم مع سائر الأخبار.

٥٢٨

فقدم هاشم بالكتاب على أبي موسى الأشعري.

فروى عن السائب بن مالك الأشعري : أن أبا موسى دعاه وأقرأه الكتاب ثم قال له : ما ترى؟ قال : فقلت له : اتبع ما كتب به إليك! فأبى وأخذ الكتاب فمحاه ثم بعثني إلى هاشم يتوعّده بالسّجن إن نشر خبر الكتاب! فأتيت هاشما وأخبرته بأمر أبي موسى!

وكأن ابن عتبة المرقال قد علم بولاء قبائل طيّئ لعليّ عليه‌السلام ، فرأى منهم في الكوفة المحلّ بن خليفة الطائي فكتب معه إليه عليه‌السلام : «أما بعد يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على امرئ عاق شاقّ بعيد الرحم ، ظاهر الغلّ والشقاق (١)! وقد بعثت إليك بهذا الكتاب مع المحلّ بن خليفة أخي طيّئ وهو من شيعتك (٢) وأنصارك ، وعنده علم ما قبلنا ، فاسأله عمّا بدا لك ، واكتب إليّ برأيك أتّبعه ، والسلام» (٣).

كذا ذكر خبره أبو مخنف وأنه قدم بكتاب المرقال إلى الإمام عليه‌السلام بالربذة.

بينما روى المفيد بسنده عن الثقفي الكوفي عن الباقر عليه‌السلام : أن عليا عليه‌السلام لما ارتحل من الربذة ونزل بمنزل فيه لقيه عبد الله بن خليفة (٤) الطائي ، فقال له :

الحمد لله الذي ردّ الحق إلى أهله ووضعه موضعه! كره ذلك قوم أم سرّوا به!

__________________

(١) وهنا في رواية أبي مخنف : فتهددني بالسجن وخوّفني بالقتل! شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ٩.

(٢) لعلّها أول بادرة لإطلاق الشيعة في الإسلام بعد عهد النبوة ، تاريخيا.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٤) كذا في هذا الخبر ، وفي الطبري في خمسة موارد سمّاه عبد الله الطائي البولائي ، وفي عشرة موارد باسم المحلّ ، والمحلّ لقبه ، وبهما ذكر في قاموس الرجال ٦ : ٣٣٢ برقم ٤٢٩٣ و٨ : ٦٧٩ برقم ٦٢٦٥ والخبر كما ترى هو خبر المحلّ كما في شرح النهج فهما واحد.

٥٢٩

فقد والله كرهوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ونابذوه وقاتلوه ، فردّ الله كيدهم في نحورهم ، وجعل دائرة السوء عليهم. والله لنجاهدنّ معك في كل موطن حفظا لرسول الله.

فرحّب به أمير المؤمنين وأجلسه إلى جنبه وأخذ يسائله عن الناس ، إلى أن سأله عن أبي موسى الأشعري فقال : والله ما أنا واثق به وما آمن عليك خلافه إن وجد مساعدا على ذلك.

فقال أمير المؤمنين : والله ما كان عندي مؤتمنا ولا ناصحا ؛ ولقد كان الذين تقدّموني استولوا على مودّته وولّوه وسلّطوه بالإمرة على الناس ، ولقد أردت عزله فسألني الأشتر فيه وأن أقرّه ، فأقررته على كره مني وأن أصرفه بعد.

وهنا جيء بطيّئ :

قال الباقر عليه‌السلام : فهو عليه‌السلام مع عبد الله (الطائي) في هذا ونحوه إذ تراءى سواد كثير من قبل جبال طيّئ ، فقال أمير المؤمنين : انظروا ما هذا السواد. فذهبت خيل تركض فلم تلبث أن رجعت وقالت : هذه طيّئ قد جاءتك تسوق معها الإبل والخيل والغنم ، فمنهم من جاءك بهداياه ومنهم من يريد النفوذ معك إلى عدوّك.

فقال أمير المؤمنين : جزى الله طيّئا خيرا ، (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً)(١) فلما انتهوا إليه سلّموا عليه.

وقام عديّ بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإني كنت أسلمت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأدّيت الزكاة على عهده ، وبعده قاتلت أهل الردّة أردت بذلك ما عند الله ، وعلى الله ثواب من أحسن واتقى.

وقد بلغنا أنّ رجالا من أهل مكة نكثوا بيعتك وخالفوا عليك ظالمين ، فأتيناك لننصرك بالحق ، فنحن بين يديك ، فمرنا بما أحببت.

__________________

(١) النساء : ٩٥.

٥٣٠

ثم قام من بني بحسرّ من طيّئ سعيد بن عبيد الله فقال : يا أمير المؤمنين ؛ إنّ من الناس من قدر أن يعبّر بلسانه عمّا في قلبه ، ومنهم من لا يقدر أن يبيّن ما يجده في نفسه بلسانه ، فإنّ تكلّف ذلك شق عليه ، وإن سكت عمّا في قلبه برح به الهمّ والبرم. وإني والله ما كل ما في نفسي أقدر أن اؤدّيه إليك بلساني ، ولكن والله لا جهدنّ على أن ابيّن لك ، والله وليّ التوفيق : أما أنا فإني ناصح لك في السرّ والعلانية ومقاتل معك الأعداء في كل موطن ، وأرى لك من الحق ما لم أكن أراه لمن كان قبلك ، ولا لأحد اليوم من أهل زمانك ، لفضيلتك في الإسلام وقرابتك من الرسول ، ولن افارقك أبدا حتى تظفر ، أو أموت بين يديك.

قال أمير المؤمنين : يرحمك الله ، فقد أدّى لسانك ما يكنّ ضميرك لنا ، ونسأل الله أن يرزقك العافية ويثيبك الجنة.

ثم ارتحل أمير المؤمنين واتبعه منهم ستمائة رجل ، حتى نزل ذاقار بألف وثلاثمائة رجل (١).

ابن عباس وابن أبي بكر إلى الكوفة :

قال أبو مخنف : فبعد وصول المحلّ الطائي بكتاب هاشم المرقال في الربذة دعا عبد الله بن العباس ومحمد بن أبي بكر فأرسلهما إلى أبي موسى بكتاب قال فيه :

من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس ، أما بعد ، يا ابن الحائك (٢)! فو الله إني كنت أرى أن بعدك من هذا الأمر ـ الذي لم يجعلك الله له أهلا ولا جعل لك فيه نصيبا ـ سيمنعك من ردّ أمري والانتزاء (الوثوب) عليّ ، وقد بعثت إليك

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٩٥ ، الحديث ٦ ، م ٣٥ ، وعنه في أمالي الطوسي : ٧٠ ، الحديث ١٠٣.

(٢) هنا زيادة : يا عاضّ أير أبيه ، وليست في رواية المفيد : ٢٤٣ وهي وإن كان يستحقها الأشعري ولكنّها بعيدة عن عفّة كلام الإمام عليه‌السلام فهو قد يلعن ولا يفحش.

٥٣١

ابن عباس وابن أبي بكر فخلّهما والمصر وأهله ، واعتزل عملنا مذءوما مدحورا! فإن فعلت وإلّا قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء ، «إن الله لا يهدي كيد الخائنين» فإذا ظهرا عليك قطّعاك إربا إربا ، والسلام على من شكر النعمة ووفى بالبيعة وعمل برجاء العافية.

قال أبو مخنف : ثم رحل علي عليه‌السلام من الربذة إلى ذي قار وهو لا يدري ما صنعا فقد أبطأ خبرهما عليه (١).

رسل ابن حنيف إليهم :

ولما وصل كتاب علي عليه‌السلام إلى ابن حنيف (٢) أرسل إلى عمران بن حصين الخزاعي الصحابي وأبي الأسود الدؤلي الكناني ، فذكر لهما قدوم القوم وحلولهم حفر أبي موسى ، وسألهما أن يسيرا إليهم ويسألوهم عن قصدهم ويكفّوهم عن الفتنة ، فخرجا إليهم (٣).

فناديا : يا طلحة! فأجابهما ، فتكلّم أبو الأسود فقال له :

يا أبا محمد ، إنكم قتلتم عثمان غير مؤامرين لنا في قتله ، وبايعتم عليا غير مؤامرين لنا في بيعته ، فلم نغضب لعثمان إذ قتل ، ولم نغضب إذ بويع عليّ ، ثم بدا لكم اليوم فأردتم خلع عليّ. ونحن على الأمر الأول ، فعليكم المخرج مما دخلتم فيه!

ثم تكلم عمران فقال : يا طلحة ، إنكم قتلتم عثمان ولم نغضب له إذ لم تغضبوا ، ثم بايعتم عليا وبايعنا من بايعتم ، فإن كان قتل عثمان صوابا فما مسيركم هذا؟ وإن كان خطأ فحظّكم منه الأوفر ، ونصيبكم منه الأوفى!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ١٠ وانظر وقارن بالجمل للمفيد : ٢٤٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٣ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٧٤.

٥٣٢

فقال طلحة : يا هذان ، إن صاحبكم (عليا) لا يرى أنّ معه غيره في هذا الأمر ، وليس على هذا بايعناه ، وأيم الله ليسفكنّ دمه!

فالتفت أبو الأسود إلى عمران وقال له : يا عمران ، أما هذا فقد صرّح أنه إنما غضب للملك!

ثم أتيا الزبير فقالا له : يا أبا عبد الله ، إنا أتينا طلحة ... فقال الزبير : إن طلحة وإياي كروح في جسدين! وإنه ـ والله ـ يا هذان قد كانت منّا في عثمان فلتات احتجنا فيها إلى المعاذير! ولو استقبلنا من أمرنا ما استدبرناه نصرناه!

ثم دخلا على عائشة فقالا لها : يا أمّ المؤمنين ، ما هذا المسير؟

قالت : غضبنا لكم من السوط والعصا ولا نغضب لعثمان من القتل؟

فقال أبو الأسود : وما أنت من عصانا وسيفنا وسوطنا؟ فقالت : يا أبا الأسود ، بلغني أن عثمان بن حنيف يريد قتالي! فقال أبو الأسود : نعم ـ والله ـ قتالا أهونه تندر منه الرءوس (١).

فقال لها عمران : يا عائشة ، قد كان لك في إخوتك عبرة ، وفي أمثالك من امّهات المؤمنين اسوة ، أما سمعت الله عزوجل يقول لكنّ : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ)(٢) فلو اتّبعت أمر الله كان خيرا لك!

فقالت له : يا عمران ، قد كان ما كان! فهل عندك عون لنا؟ وإلّا فاحبس عنّا لسانك!

فقال : اعتزلك واعتزل عليا! فقالت : رضيت منك بذلك (٣).

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ : ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

(٣) الجمل للمفيد : ٣١٠ ـ ٣١١.

٥٣٣

وروى المفيد عن الشعبي قال : فقالت لأبي الأسود : وأنت أيضا أيها الدؤلي يبلغني عنك ما يبلغني! قم فانصرف عني!

فخرجا من عندها إلى طلحة فقالا له : يا أبا محمد ، ألم يجتمع الناس إلى بيعة ابن عمّ رسول الله الذي فضّله الله بكذا وكذا ، وجعلا يعدّان مناقبه وفضائله وحقوقه. فوقع طلحة في علي عليه‌السلام ونال منه وسبّه!

فخرجا من عنده ثم دخلا على الزبير فكلّماه بمثل ذلك ، فوقع هو أيضا في عليّ وسبّه وقال لمن حضره : صبّحوهم قبل أن يمسوكم!

فخرجا من عنده حتى صارا إلى ابن حنيف فأخبراه الخبر (١) وأنشأ أبو الأسود :

يا ابن حنيف قد اتيت فانفر

وطاعن القوم وجالد واصبر

فقال ابن حنيف : إي والحرمين لأفعلن! ثم أمر مناديه فنادى في الناس : السلاح السلاح! فاجتمعوا إليه (٢) فخطبهم فقال لهم :

خطبة ابن حنيف :

«أيها الناس! إنّ من بايع منكم عليا فقد بايع الله ، و (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(٣).

والله لو علم عليّ أن أحدا أحقّ بهذا الأمر منه ما قبله ، ولو بايع الناس غيره لبايع من بايعوا وأطاع من ولّوا ، وما به إلى أحد من صحابة رسول الله حاجة ، وما بأحد منهم عنه غنى! ولقد شاركهم في محاسنهم وما شاركوه في محاسنه!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٧٥ عن الشعبي.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٣) الفتح : ١٠.

٥٣٤

ولقد بايعه هذان الرجلان وهما ما يريدان الله ، فاستعجلا الفطام قبل الرضاع ، والرضاع قبل الولادة ، والولادة قبل الحمل وطلبا ثواب الله من عباد الله! وقد زعما أنهما بايعا مستكرهين! فإن كانا استكرها قبل بيعتهما وكانا رجلين من عرض قريش فلهما أن يقولا ذلك!

ألا وإن الهدى ما كانت عليه العامة ، والعامة على بيعة علي ، فما ترون أيها الناس؟» وسكت.

فقام حكيم بن جبلة العبدي فقال له : إن دخلا علينا قاتلناهما ، وإن وقفا تلقّيناهما. والله لا ابالي أن اقاتلهما وحدي وإن كنت أحبّ الحياة (ولكن) ما أخشى في طريق الحق وحشة! ولا غيرة ولا غشّا ، ولا سوء منقلب إلى البعث ، وإنها لدعوة قتيلها شهيد وحيّها فائز ، والتعجيل إلى الله قبل الأجر خير من التأخير في الدنيا ، وهذه ربيعة معك (١).

ثم التفت إلى من حضره منهم فقال لهم : يا معشر عبد القيس ، إن عثمان بن حنيف دمه مضمون ، وأمانته مؤدّاة ، وايم الله لو لم يكن أميرا علينا لمنعناه (حفظناه) لمكانته من رسول الله ، فكيف وله الولاية والجوار ، فأشخصوا بأبصاركم وجاهدوا عدوّكم ، فإما أن تموتوا كراما أو تعيشوا أحرارا (٢)!

وبلغوا المربد وخطبوا الناس :

وكان كما أمرهم الزبير ، فقبل أن يمسيهم هؤلاء صبّحهم اولئك في مربد بلدهم (٣)

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ٦٩.

(٣) كانت مربد الإبل للبلد ثم صارت محلة عظمى من البصرة ثم خربت. معجم البلدان ٥ : ٩٨.

٥٣٥

ونقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف قال : اجتمع أهل البصرة إلى المربد مشاة وركبانا حتى ملئوه (١) فروى ابن الخياط عن العطاردي قال : رأيت طلحة قد غشيه الناس وهو على دابّته يناديهم : أيها الناس أتنصتون؟ وهم يركبونه ولا ينصتون ، فقال : اف اف! فراش نار وذبّان طمع (٢)! ثم قام طلحة فأشار إلى الناس بالسكوت ليخطب ، فسكتوا بعد جهد ، فقال :

«أما بعد ، فإن عثمان بن عفّان كان من أهل السابقة والفضيلة ، ومن المهاجرين الأولين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ونزل القرآن ناطقا بفضلهم ، وأحد أئمة المسلمين الوالين عليكم بعد أبي بكر وعمر صاحبي رسول الله. وقد كان أحدث أحداثا نقمناها عليه فأتيناه فاستعتبناه فأعتبنا (قبل عتابنا) فعدا عليه امرؤ ابتزّ هذه الأمة أمرها غصبا بغير رضا منها ولا مشورة فقتله! وساعده على ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار! فقتل محرما (كذا) تائبا بريئا!

وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدم عثمان وندعوكم إلى الطلب بدمه ، فنحن إن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به! وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين ، وكانت خلافة رحمة للامة جميعا ، فإنّ كلّ من أخذ الأمر من غير رضا من العامة ولا مشورة منها ابتزازا كان ملكه عضوضا وحدثا كبيرا!» ثم سكت ، ثم تكلم الزبير بمثله ثم سكت.

فناداهما اناس قالوا : ألم تبايعا عليّا فيمن بايعه؟ ففيم بايعتما ثم نكثتما؟

فقالا : ما بايعنا وما لأحد في أعناقنا بيعة ، وإنما استكرهنا على بيعته!

فقال بعضهم : صدقا وأحسنا ونطقا بالصواب! وقال آخرون : ما صدقا ولا أصابا!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٤.

(٢) تاريخ ابن الخياط : ١٠٩.

٥٣٦

وأقبلت عائشة على جملها فنادت بصوت مرتفع : أيها الناس أقلّوا الكلام واسكتوا! فأسكت لها الناس ، فقالت (١) :

أمّا بعد ، فإنّ عثمان بن عفّان كان قد غيّر وبدّل ، ثم لم يزل يغسله بالتوبة حتى صار كالذهب المصفّى! فعدوا عليه وقتلوه في داره! وقتلوا اناسا معه ظلما وعدوانا! وإنا قد غضبنا لكم من سوطه فكيف لا نغضب لعثمان من السيف؟!

ثم آثروا عليا فبايعوه من غير ملأ من الناس ولا شورى ولا اختيار! فابتزّ ـ والله ـ أمرهم! وكان المبايع له يقول : «خذها إليك واحذرن أبا حسن» ألا وإن الأمر لا يصح حتى يردّ إلى ما صنع عمر من الشورى ، ثم لا يدخل فيه أحد ممّن سفك دم عثمان! ثم سكتت (٢).

فماج الناس واختلطوا ، فقائل : القول ما قالت ، وقائل : ما هي وهذا الأمر إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها! وكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى تراموا بالحصى وتضاربوا بالنعال! وحتى افترقوا فريقين (٣).

المقابلة الأولى :

وعمد أنصار ابن حنيف إلى أن يسدّوا عليهم أفواه السكك ، فلما توجه طلحة والزبير من المربد يريدان دار الإمارة وجدا أصحاب ابن حنيف قد أخذوا عليهم أفواه السكك ، فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدبّاغين فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فطاعنهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح ، فحمل عليهم حكيم بن

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٧٩.

(٣) المصدر الأسبق.

٥٣٧

جبلة وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من السكك ، ورماهم نساء البصرة من فوق البيوت بالحجارة.

فلما رأوا ذلك اخذوا إلى مقبرة بني مازن فوقفوا بها حتى اجتمع إليهم خيلهم ، ثم أخذوا على مسنّاة البصرة حتى انتهوا إلى الزابوقة ، ثم إلى سبخة دار الرزق فنزلوا بها.

فلما نزلوا السّبخة أتى عبد الله بن حكيم التميمي وهو يحمل كتابا كتبه إليه من قبل طلحة ، فوقف عليه وقال له : أما هذا كتابك إلينا؟ قال : بلى! قال : فكتبت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله ، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه؟! فلعمري ما هذا رأيك (بل) لا تريد إلّا هذه الدنيا! مهلا! إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من عليّ ما عرض عليك من البيعة فبايعته طائعا راضيا ثم نكثت بيعتك ، ثم جئت لتدخلنا في فتنتك!

فقال له : إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايعه الناس ، فعلمت أني لو لم أقبل ما عرضه عليّ لم يتم لي ثم يغرى بي من معه (١)!

أو قال طلحة : دعانا إلى البيعة لنا بعد أن اغتصبها وبايعه الناس ، فعلمنا حين عرض علينا أنه غير فاعل! فبايعناه كارهين!

قال : فما بدا لكما في عثمان؟!

قال : ذكرنا ما كان من طعننا عليه وخذلاننا إياه فلم نجد مخرجا من ذلك إلّا الطلب بدمه!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٨ ـ ٣١٩ عن كتاب الجمل لأبي مخنف ، ومختصره في أنساب الأشراف ٢ : ٢٣ عن الزهري : بكتب كتبها طلحة إليهم ... وفي الجمل للمفيد : ٣٠٥ : أنه أتاه بها بعد الوقعة الأولى.

٥٣٨

قال : فما تأمرانني به؟ قال : بايعنا على نقض بيعته وقتاله! قال : أرأيتما إن أتانا بعدكما من يدعونا إلى ما تدعوان إليه ما نصنع؟ قال : لا تبايعه! قال : فما أنصفتما أتأمرانني أن أنقض بيعته واقاتله وبيعته في أعناقكما وتنهياني عن بيعة من لا بيعة لكما عليه؟! أما إنّنا قد بايعنا عليا بأيماننا فإن شئتما بايعنا كما بيسار أيدينا (١).

وجاء جارية بن قدامة السعدي إلى عائشة فقال لها : يا أم المؤمنين ، لقتل عثمان كان أهون علينا من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون! إنه كانت لك من الله حرمة وستر ، فهتكت سترك وأبحت حرمتك! إنه من رأى قتالك فهو يرى قتلك! فإن كنت ـ يا أم المؤمنين ـ أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك ، وإن كنت أتيتينا مستكرهة فاستعيني بالناس (٢)!

والمقاتلة الأولى :

قال أبو مخنف : نزلوا في السبخة وباتوا بها ، ثم أصبحا فصفّا للحرب!

وخرج إليهما عثمان بن حنيف في أنصاره ، فناشدهما الله والإسلام ، وأذكرهما بيعتهما عليّا عليه‌السلام ، فقالا : نطلب بدم عثمان! فقال لهما : وما أنتما وذاك؟ أين بنوه؟ أين بنو عمه الذين هم أحقّ به منكم! كلّا والله ، ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه ، وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له! وهل كان أحد أشدّ على عثمان قولا منكما!

فشتماه شتما قبيحا بذكر امّه! فبدأ بالزبير فقال له : أما والله لو لا صفيّة ومكانها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنها أدنتك من ظلّه ... والتفت إلى طلحة وقال له :

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٩ ، ٦٨ بلا اسم ، وإنما : بعض أشراف البصرة.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٤٦٥ عن سيف عن القاسم بن محمد الفقيه.

٥٣٩

وأن الأمر بيني وبينك أعظم من القول يا ابن الصّعبة! لأعلمتكما من أمركما ما يسوؤكما! اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين! ثم حمل عليهم (١).

فاقتتلوا قتالا شديدا حتى زالت الشمس ، واصيب يومئذ من عبد القيس خاصة خمسمائة شيخ ، سوى من اصيب من سائر الناس ... وكثر فيه القتلى والجرحى من الفريقين.

ثم لمّا رأى بعض الناس ما رأوا من عظيم ما ابتلوا به ، دخل بينهم ناس فتداعوا إلى الصلح (٢) فتحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح ، فكتب :

نصّ المصالحة :

«هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة (٣) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وطلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما! أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرّحبة والمسجد والمنبر وبيت المال ، وأن لطلحة والزّبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة ، ولا يضارّ بعضهم بعضا في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شرعة (ماء) ولا مرفق ، حتى يقدم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (٤) فإن أحبّوا دخلوا فيما دخلت فيه الامة ، وإن أحبّوا لحق كل قوم بهواهم ، وما أحبّوا من قتال أو سلم

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٣١٩ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٧٩.

(٣) هذه من أوائل إطلاق الشيعة ، تاريخيا.

(٤) سبق كتابه عليه‌السلام إليه من الربذة بأنه متّجه إليهم قريبا ، فمن هنا يبدو أن ابن حنيف قد أعلن ذلك ولم يكتمه.

٥٤٠