موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

وقال : بشروا قاتل ابن صفيّة بالنار! ثم أمر أن يحمل رأسه إلى بدنه ليدفن إليه في وادي السباع. وساح ابن جرموز في الأرض (١) وقال شعرا :

أتيت عليا برأس الزبير

وقد كنت أرجو به الزلفة

فبشّر بالنار قبل العيان

وبئس بشارة ذي التحفة

لسيّان عندي قتل الزبير

وضرطة عنز بذي الجحفة (٢)

وكان للزبير يوم مقتله خمس وسبعون سنة (٣).

دفن الشهداء ، والقتلى الأعداء :

قال المفيد : ثم قال علي عليه‌السلام لأصحابه : واروا قتلانا في ثيابهم التي قتلوا فيها ، فإنّهم يحشرون على الشهادة ، وإني لشاهد لهم بالوفاء.

وأمر مناديه فنادى في أهل البصرة : من أحبّ أن يواري قتيله فليواره (٤).

وكانت طريقهم في عدّ القتلى وضع قطع من القصب على الأجساد ثم جمعها وعدّها.

فروى ابن الخياط عن امرأة من أهل البصرة قالت : خرجنا إلى قتلى الجمل فعددناهم بالقصب فكانوا عشرين ألفا ، وكذلك عن قتادة البصري ، ومن أصحاب علي عليه‌السلام ما بين الأربع مائة إلى الخمس مائة (٥).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٥٤ و٢٥٨ عن أبي مخنف والمدائني ، ومدفنه على خمسة أميال من البصرة ، كما في المعجم.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٦٤.

(٣) بحار الأنوار ٣٢ : ٢١١ عن العدد القوية لأخ العلامة الحلّي.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٩٤.

(٥) تاريخ خليفة : ١١٢ ، ثمّ سمّى كثيرا منهم بعشائرهم ، ومال إلى أكثر من عشرين ألف ،

٦٢١

ثم خرج أمير المؤمنين عليه‌السلام فركب وأخذ عمار يمشي مع ركابه وتبعه جمع من أصحابه يطوف على القتلى يستعرضهم رجلا رجلا.

فمرّ بعبد الله بن خلف الخزاعي في ثياب حسان فقيل : هذا رأس الناس!

فقال عليه‌السلام : ليس برأس الناس ، ولكنّه شريف منيع النفس.

ثم مرّ بعبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد فقال : هذا رأسهم كما ترونه صريعا (١).

وكان معبد بن المقداد بن الأسود البهرائي الكندي حليفهم قد مال مع أصحاب الجمل حتى قتل معهم ، فمرّ به علي عليه‌السلام فقال : رحم الله أبا هذا ، أما إنه لو كان حيّا لكان رأيه أحسن من رأي هذا. فقال عمّار بن ياسر : الحمد لله الذي أوقعه وجعل خدّه الأسفل! إنا ـ والله ـ يا أمير المؤمنين ما نبالي من عند عن الحق من ولد ووالد!

فقال له علي عليه‌السلام : رحمك الله وجزاك عن الحقّ خيرا.

ومرّ بعبد الله بن ربيعة بن درّاج فقال : ما أخرج هذا البائس؟ أدين أم نصر لعثمان والله ما كان رأي عثمان بحسن فيه ولا في أبيه.

ثم مرّ بمعبد بن زهير بن أبي أميّة المخزومي أخي أمّ سلمة فقال : لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناوله هذا الغلام! والله ما كان فيها بذي نخيزة (طبيعة) ولقد أخبرني من أدركه وهو يولول خوفا من السيف!

__________________

المفيد في الجمل : ٤١٩ وردّ من قال إنهم خمسة عشر ألفا فقال : المشهور من الأخبار على أن مقطوعي الأيدي والأرجل ممن مات بعد ذلك نحو أربعة عشر ألفا! وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٢٠٢ ، ما يؤيد العشرين ألفا ، فراجعه ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٥ ، عن أبي مخنف عشرين ألفا قولا واحدا.

(١) الجمل للمفيد : ٣٩١.

٦٢٢

ثم مرّ بمسلم بن قرظة فقال : البرّ أخرج هذا ، والله لقد كلّمني أن اكلّم له عثمان في شيء كان يدّعيه قبله بمكة (فكلمت له عثمان) فأعطاه عثمان وقال لي : لو لا أنت ما أعطيته! ثم جاء هذا المشوم ينصر عثمان!

ثم مرّ بعبد الله بن حميد بن زهير فقال : هذا أيضا ممن زعم أنه يطلب الله في قتالنا! ولقد كتب إليّ كتبا يؤذي فيها عثمان حتى أعطاه شيئا فرضي عنه!

ومرّ بعبد الله بن حكيم بن حزام فقال : هذا خالف أباه في الخروج ، وأبوه قد أحسن في بيعته لنا ، وإن كان حيث شك في القتال كفّ وجلس ولم ينصرنا ، فلا ألوم من كفّ عنّا وعن غيرنا ولكن المليم الذي يقاتلنا.

ثم مرّ بعبد الله بن المغيرة بن الأخنس بن شريق فقال : أما هذا فقد قتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار ، فخرج اليوم مغضبا لمقتل أبيه ، وهو غلام حدث حان مقتله.

ثم مرّ بابن عمّه عبد الله بن أبي عثمان بن الأخنس بن شريق فقال : أما هذا فإني نظرت إليه هاربا من الصفّ يعدو ، فنهنهت عنه فلم يسمع من نهنهت حتى قتله ، وكان هذا مما خفي على فتيان قريش ، أغمار (غير ذوي أعمار) لا علم لهم بالحرب ، خدعوا واستزلّوا فلما وقفوا وقعوا فقتلوا.

وهؤلاء كانوا من أشراف قريش ، فلما رآهم صرعى في القتلى قال لهم : جدعت أنفي! أما والله لقد كان مصرعكم لبغيضا إليّ! ولقد تقدمت إليكم وو حذّرتكم عضّ السيوف ، وكنتم أحداثا لا علم لكم بما ترون ، ولكنّه الحين (الموت) وسوء المصرع ، فأعوذ بالله من سوء المصرع!

ثم سار حتى وقف على كعب بن سور القاضي الأزدي وهو بين القتلى والمصحف لا زال في عنقه فقال لمن حوله : نحّوا المصحف وضعوه في مواضع الطهارة (١) (حكما فقهيا) ثم قال لهم : هذا الذي خرج علينا وفي عنقه المصحف

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٩٢.

٦٢٣

يزعم أنه يدعو الناس إلى ما فيه ، وهو لا يعلم ما فيه ، ثم استفتح (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أما إنه دعا الله أن يقتلني فقتله الله! أجلسوا كعب بن سور ، فأجلس ، فقال له : يا كعب بن سور ، قد وجدت ما وعدني ربّي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال لهم : أضجعوه ، وتجاوزه (١).

فمرّ فرأى طلحة بن عبيد الله ، فوقف عليه وقال لمن حضره : هذا الناكث بيعتي والمنشئ الفتنة في الأمة والمجلب عليّ ، الداعي إلى قتلي وقتل عترتي! أجلسوا طلحة. فأجلس فقال له : يا طلحة بن عبيد الله ، قد وجدت ما وعدني ربّي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال : أضجعوا طلحة ، وسار (٢).

فتقدم إليه رجل من القرّاء ووقف أمامه قال له : يا أمير المؤمنين ؛ ما كلامك هذه الهام وقد ماتت فلا تسمع لك كلاما ولا تردّ جوابا!

فقال عليه‌السلام : والله إنهما (كعب وطلحة) ليسمعان كلامي كما سمع أصحاب القليب (ببدر) كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو أذن لهما في الجواب لرأيت عجبا (٣)!

ومرّ على محمد بن طلحة وكان يعرف بالسجاد فقال : هذا رجل قتله طاعته لأبيه وبرّه به (٤).

كتابه إلى أهل المدينة :

قال المفيد : ثم رجع إلى خيمته فاستدعى كاتبه عبيد الله بن أبي رافع وقال له : اكتب :

__________________

(١) وانظر تذكرة الخواص : ٧٨ عن سيف!

(٢) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٥٦ ، وقارن بما في نهج البلاغة الخطبة ٢١٧ ، وما نقله المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١ : ٢٤٨ عن أبي مخنف ، ثم ما رواه المعتزلة له ، وفي تذكرة الخواص : ٧٧.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٩٢ ، والإرشاد له ١ : ٢٥٦.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٣٦٥.

٦٢٤

«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، من عبد الله عليّ بن أبي طالب. سلام عليكم. فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإن الله ـ بمنّه وفضله وحسن بلائه عندي وعندكم ـ حكم عدل ، وقد قال سبحانه في كتابه ـ وقوله الحق : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)» (١).

وإني والله اخبركم عنّا وعن من سرنا إليه من جموع أهل البصرة ومن سار إليهم من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ، ونكثهما على ما قد علمتم من بيعتي وهما طائعان غير مكرهين ؛ فخرجت من عندكم في من خرجت ، ممّن سارع إلى بيعتي وإلى الحق ، حتى نزلت ذا قار ، فنفر معي من نفر من أهل الكوفة.

وقدم طلحة والزبير البصرة وصنعا بعاملي : عثمان بن حنيف ما صنعا! فقدّمت إليهم الرسل وأعذرت كل الإعذار. ثم نزلت ظهر البصرة فأعذرت في الدعاء وقدّمت الحجة وأقلت العثرة والزّلة ، واستتبتهما ومن معهما من نكثهما بيعتي ونقضهما عهدي ، فأبوا إلّا قتالي وقتال من معي ، والتمادي في الغي ، فلم أجد بدا من مناهضتهم ، فناهضتهم بالجهاد ، فقتل الله من قتل منهم ناكثا وولّى من ولّى منهم.

وأخذت بالعفو فيهم ، وأجريت الحق والسنّة في حكمهم.

واخترت لهم عاملا استعمله عليهم هو عبد الله بن العباس.

وإني سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى.

وكتب عبيد الله بن أبي رافع في جمادى الاولى من سنة ست وثلاثين من الهجرة (٢).

__________________

(١) الرعد : ١١ ، وهذا هو مورد نزولها في التغيير من الخير إلى الشر وليس العكس كما اشتهر أخيرا.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٦٢٥

وكتابه إلى أهل الكوفة :

وكتب إلى أهل الكوفة : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عليّ أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة ، سلام عليكم. فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإن الله حكم عدل : (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١).

وإني اخبركم عنّا وعن من سرنا إليه من جموع أهل البصرة ومن سار إليها من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ، بعد نكثهما صفقة أيمانهما :

نهضت من المدينة ـ حين انتهى إليّ خبرهم ، وما صنعوه بعاملي : عثمان بن حنيف ـ حتى قدمت ذا قار ، فبعثت إليكم ابني الحسن وعمّارا وقيس بن سعد ، فاستنفروكم لحقّ الله وحقّ رسوله وحقّنا ، فأجابني إخوانكم سراعا ، حتى قدموا عليّ.

فسرت بهم ، وبالمسارعين إلى طاعة الله ، حتى نزلت ظهر البصرة ، فأعذرت في الدعاء وأقمت الحجة وأقلت العثرة والزلّة من أهل «الردة» من قريش وغيرهم ، واستتبتهم عن نكثهم بيعتي وعهد الله لي عليهم ، فأبوا إلّا قتالي وقتال من معي والتمادي في الغيّ ، فناهضتهم بالجهاد (٢) ، فقتل الله من قتل منهم ناكثا وولى من ولّى إلى مصرهم ، وقتل طلحة والزبير على نكثهما وشقاقهما ، وكانت المرأة عليهم أشأم من ناقة الحجر (قوم ثمود) فخذلوا وأدبروا وتقطعت بهم الأسباب! فلما رأوا ما حلّ بهم سألوني العفو ، فقبلت منهم وغمدت السيف عنهم (٣).

__________________

(١) الرعد : ١١.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٩٨.

(٣) الإرشاد للمفيد ١ : ٢٥٩.

٦٢٦

وأخذت بالعفو فيهم ، وأجريت الحق والسنة بينهم.

واستعملت عبد الله بن العباس على البصرة ، وأنا سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى. وقد بعثت إليكم زحر بن قيس الجعفي لتسألوه فيخبركم عنّا وعنهم ، وردّهم الحقّ علينا وردّهم الله وهم كارهون ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وكتب عبيد الله بن أبي رافع ، في جمادى الأولى من سنة ست وثلاثين من الهجرة» (١).

وكتب إلى اخته أمّ هاني بنت أبي طالب (بمكة) : سلام عليك ، أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أما بعد ، فإنا التقينا مع «البغاة» والظلمة بالبصرة ، فأعطانا الله النصر عليهم بحوله وقوته ، وأعطاهم سنة الظالمين ، فقتل منهم طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عتّاب وجمع لا يحصى ، وقتل منا بنو مجدوع وابنا صوحان (زيد وسيحان) وهند وثمامة في من يعدّ من المسلمين ، رحمهم‌الله ، والسلام (٢).

حكم غنائم البغاة :

روى المفيد قال : لما نادى منادي أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا ، قال : ولكم ما حواه العسكر من السلاح والكراع.

قال الراوي : فخرجنا في طلب الطعام ، فإذا وجدنا طعاما أصبنا منه (٣) وما وجدناه في العسكر من الطيب قسمه علي عليه‌السلام بين نسائنا.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٩٩.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٩٧.

(٣) ولعل هذا هو علة ما مرّ في الخبر أن الأشتر كان طاويا جائعا ثلاثة أيام ، ولعلّها هي أيام الحرب.

٦٢٧

ولما قسم ما حواه العسكر أمر بفرس كادت أن تباع ، فقام إليه رجل من أهل البصرة وقال : يا أمير المؤمنين ، هذه الفرس كانت لي وإنما استعارها مني فلان ولم أدر أنه يخرج عليها للقتال. فسأله البيّنة على ذلك ، فأقام البيّنة أنها عارية ، فردّها.

وقال عليه‌السلام : مروا نساء هؤلاء المقتولين من أهل البصرة أن يعتدن منهم ، ولنقسم أموالهم في أهلهم ، فهي ميراث لهم على ما فرض الله لهم من فريضة.

فقال له عمار : يا أمير المؤمنين ، ما ترى في سبي الذرية؟

فقال : ما أرى عليهم من سبيل ، إنما قاتلنا من قاتلنا.

فقال له بعض القرّاء من أصحابه : فما الذي أحلّ دماءهم ولم يحلّ أموالهم؟!

فقال : هذه الذرية لا سبيل عليها وهم في دار هجرة ، وإنما قاتلنا من حاربنا وبغى علينا ، وأما أموالهم فهي ميراث لمستحقّيها من أرحامهم.

وكان إذا أتى بأسير منهم فإن كان قتل (أحدا) قتله ، وإن لم تقم عليه بيّنة بالقتل أطلقه (١).

واتفق رواة التاريخ كلهم على أنه عليه‌السلام قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع وعروض ، فقسّمه بين أصحابه ، فقالوا له : اجعل أهل البصرة رقيقا واقسمهم بيننا! قال : لا ، قالوا : تحلّ لنا دماءهم وتحرّم علينا سبيهم؟! قال : أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو مغنم لكم ، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله ، ولا نصيب لكم في شيء منه.

فلما أكثروا عليه قال : فأقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة! فقالوا : نستغفر الله يا أمير المؤمنين! وانصرفوا عنه (٢) ورضوا بما قال واعترفوا بصوابه وسلّموا لأمره (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢٥٠.

(٣) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري ١ : ٣٩٥ ، الحديث ٣٣٤.

٦٢٨

خطبته بالبصرة بعد فتحها :

روى المفيد عن ابن مزاحم بسنده عن الحارث بن سريع الهمداني قال : لمّا قسم أمير المؤمنين عليه‌السلام بالبصرة ما حواه العسكر ، قام في أهل البصرة خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثم قال : أيها الناس ؛ إن الله عزوجل ذو رحمة واسعة ومغفرة دائمة لأهل طاعته ، وقضى أن نقمته وعقابه على أهل معصيته!

يا أهل البصرة ؛ يا أهل المؤتفكة (المنقلبة) ويا جند المرأة وأتباع البهيمة! رغا (صوّت) فأجبتم ، وعقر فانهزمتم! أحلامكم دقاق! وعهدكم شقاق! ودينكم نفاق! وأنتم فسقة مرّاق!

يا أهل البصرة! أنتم شرّ خلق الله! أرضكم قريبة من الماء ، بعيدة من السماء ، خفّت عقولكم ، وسفهت أحلامكم.

شهرتم سيوفكم ، وسفكتم دماءكم ، وخالفتم إمامكم! فانتم أكلة الآكل ، وفريسة الظافر ، فالنار لكم مدّخر ، والعار لكم مفخر.

يا أهل البصرة! نكثتم بيعتي وظاهرتم عليّ ذوي عداوتي ، فما ظنكم الآن بي؟!

فقام منهم رجال فقالوا : يا أمير المؤمنين نظنّ خيرا ، ونرى أنك ظفرت وقدرت ، فإن عاقبت فقد أجرمنا ، وإن عفوت فالعفو أحبّ إلى ربّ العالمين.

فقال عليه‌السلام : قد عفوت عنكم ، فإياكم والفتنة! فإنكم أول من نكث البيعة وشقّ عصا الأمة! فارجعوا عن الحوبة ، وأخلصوا فيما بينكم وبين الله بالتوبة (١).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، وفي نهج البلاغة ، الخطبة ١٣ و ١٤ بنقص وزيادة.

٦٢٩

ثم جلس للناس فبايعوه (١) وقد اجتمع حوله جماعة من شرطة الخميس (٢).

ونقل المفيد خطبة قبل هذه لا تناسب أن تكون قبل هذه أول خطبة ، فلعلها كانت هنا بعد البيعة ، قال : حمد الله تعالى وأثنى عليه وصلّى على محمد وآله ثم قال : «أما بعد ، فإن الله غفور رحيم ، عزيز ذو انتقام ، جعل عفوه ومغفرته لأهل طاعته ، وجعل عذابه وعقابه لمن عصاه وخالف أمره وابتدع في دينه ما ليس منه ، وبرحمته نال الصالحون العون.

وقد أمكنني الله منكم ـ يا أهل البصرة ـ وأسلمكم بأعمالكم ، فإياكم أن تعودوا إلى مثلها ، فإنكم أول من شرع القتال والشقاق وترك الحق والإنصاف ثم نزل» (٣).

الامام عليه‌السلام وبيت مال البصرة :

قال المفيد : ثم استدعى جماعة من أصحابه ومن القرّاء منهم ، ودعا خزّان بيت مال البصرة (ومنهم أبو الأسود الدؤلي الكناني ظالم بن عمرو) وأمرهم بفتح الأبواب التي داخلها المال. فلما فتحوا الأبواب ودخل ورأى الأموال وكثرتها تمثّل بقول القائل :

__________________

(١) الارشاد للمفيد ١ : ٢٥٧ مرسلا ومختلفا عما هنا.

(٢) الجمل للمفيد : ٤٠٨ ، ومنه يعلم أنه عليه‌السلام كان قد عقد شرطة الخميس (الجيش) في الجمل.

(٣) الجمل للمفيد : ٤٠٠ ، هاتان خطبتان له عليه‌السلام بعد الحرب ، وليس فيها ما رواه الرضيّ في نهج البلاغة ، الخطبة ٨٠ من نواقص النساء مرسلا ، ولا مصدر له معه سوى قوت القلوب للمكّي المتوفى في (٣٨٦ ه‍) وهو صوفيّ لا يعتمد عليه ، ولا عبرة له وقد كان في بغداد يخلط في كلامه ويقول : ليس أضرّ على المخلوق من الخالق! انظر هدية الأحباب : ٣١. وانظر مصادر نهج البلاغة ، والمعجم المفهرس له : ١٣٨٣ ، وأخطأ من نسبها إلى فروع الكافي فليست فيه ، ولا في وسائل الشيعة إلّا عن نهج البلاغة.

٦٣٠

هذا جناي ، وخياره فيه

إذ كلّ جان يده إلى فيه  (١)

ثم قال مرارا : غرّي غيري ، وكان أصحابه اثني عشر ألفا (٢).

فقال : اقسموه بين أصحابي خمسمائة ، فقسّم بينهم ، قال أبو الأسود : فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد ، كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره ، وكان ستة آلاف ألف (٦ ملايين) درهم (٣) فقسمه بينهم بالسوية حتى لم يبق إلّا خمسمائة درهم عزلها لنفسه. فجاءه رجل فقال : إن اسمي سقط من كتابك! فقال عليه‌السلام : ردّوها عليه. ثم قال : الحمد لله الذي لم يوصل إليّ من هذا المال شيئا ووفّره على المسلمين (٤).

وروي هذا الخبر عن حبّة العرني رواية اخرى قال : قسم علي عليه‌السلام بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة ، وأخذ خمسمائة درهم كواحد منهم ، فجاءه رجل لم يحضر الوقعة وقال : يا أمير المؤمنين ، كنت شاهدا معك بقلبي وإن غاب عنك جسمي ، فأعطني شيئا من الفيء ، فدفع إليه ما أخذه لنفسه ولم يصب من الفيء شيئا (٥) «والثاني أولى عند أهل البصرة».

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٠٠.

(٢) منهم ألف وخمسمائة من الصحابة ومنهم ثمانون بدريون ، كما في شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري ١ : ٤٠١ ، الحديث ٣٥٠ ، وقارن بتاريخ خليفة : ١١٢ عن الشعبي : أربعة بدريون فقط! وكذلك في أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٧ ، الحديث ٣٤٧ ، وانظر التعليق عليه من المحقق المحمودي دام ظله.

(٣) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢٤٩ ، وفي الجمل للمفيد : أصاب كل رجل منهم ستة آلاف ألف! وهو تصحيف واضح.

(٤) الجمل للمفيد : ٤٠١ ـ ٤٠٣ ، بسنده عن الثوري عن أبي الأسود الدؤلي.

(٥) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢٥٠ ، وكأن المحقق المصري لم يصدّق فاتّهم العرني بالغلو في التشيّع!

٦٣١

قال اليعقوبي : وأعطاهم بالسويّة لم يفضّل أحدا على أحد ، وأعطى الموالي كما أعطى أبناء الأصلاب ، فقيل له في ذلك ، فأخذ عودا من الأرض بين إصبعيه وقال : قرأت ما بين الدفّتين فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق بمقدار فضل هذا (العود) (١).

نعم أخبر ابن عساكر بسنده عن ابن أبي بكرة قال : لم يأخذ علي عليه‌السلام من بيت مالنا بالبصرة غير خميصة (قميص صوف قصير) من دارابجرد أو كانت جبّة محشوّة (٢) فكان الفصل شتاء وأورث من بيت المال زوج امرأة حامل فزعت من هزيمة الجيش فطرحت ولدا حيا مات وماتت هي (٣).

خطبته عليه‌السلام بعد القسمة :

نقل المفيد عن الواقدي روى : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام لما فرغ من قسمة المال قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ، إني أحمد الله على نعمه : قتل طلحة والزبير وهزمت عائشة! وأيم الله لو كانت عائشة طلبت حقا وأهانت باطلا لكان لها في بيتها مأوى! وما فرض الله عليها الجهاد ، وإن أول خطائها في نفسها. وما كانت ـ والله ـ على القوم إلّا أشأم من ناقة الحجر (قوم ثمود) ولقد جاءوا مبطلين وأدبروا ظالمين.

إنّ إخوانكم المؤمنين جاهدوا في سبيل الله وآمنوا به يرجون مغفرة من الله ، وإنّنا لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل ، وسيجمعنا الله وإيّاهم يوم الفصل. وأستغفر الله لي ولكم (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٣.

(٢) تاريخ ابن عساكر الدمشقي ٣ : ٢٢٨.

(٣) الكافي ٧ : ٣٥٤ ، ومن لا يحضره الفقيه ٤ : ب ١٥٣.

(٤) الجمل للمفيد : ٤٠٢.

٦٣٢

حوار وتحليل سياسي :

وروى المفيد عن عمر بن أبان قال : لما انتصر علي عليه‌السلام بالبصرة جاءه منهم رجال فقالوا :

يا أمير المؤمنين ؛ إن عائشة امرأة من النساء لم يكتب عليها القتال ولا فرض عليها الجهاد ، ولا أرخص لها الخروج من بيتها والتبرّج بين الرجال ، وليست هي ممن تولّت شيئا على حال ، فما السبب الذي دعاها للمظاهرة عليك حتى بلغت من خلافك وشقاقك ما بلغت؟!

فقال عليه‌السلام : سأذكر لكم أشياء مما حقدتها عليّ ، ليس لي في واحد منها ذنب إليها ، ولكنّها تجرّمت بها عليّ.

ثم عدّد أمورا ثمانية ثم قال : وأمثال ذلك ، فإن شئتم فاسألوها : ما الذي نقمت عليّ حتى خرجت مع «الناكثين» لبيعتي ، وسفك دماء «شيعتي» والتظاهر بين المسلمين بعداوتي ، للبغي والشقاق والمقت لي ، بغير سبب يوجب ذلك في الدين ، والله المستعان!

فقال القوم له : يا أمير المؤمنين ؛ القول ـ والله ـ ما قلت ، ولقد كشفت الغمة ، ولقد نشهد أنك أولى بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ممن عاداك.

ثم قام الحجاج بن عمرو الأنصاري فمدحه بأبيات من الشعر (١).

مروان وفتية من قريش :

روى البلاذري عن أبي مخنف : أن مروان بن الحكم ارتثّ جراحا يوم الجمل و(سمع منادي علي عليه‌السلام ينادي : من ألقى سلاحه ودخل داره وأغلق بابه فهو آمن)

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤١١ ـ ٤١٢ ، وراجع : ١٥٣ ـ ١٦٠ منه.

٦٣٣

فلجأ إلى قوم من عنزة ، ثم بعث إلى مالك بن مسمع يستجير به فأجاره ، وسأل من عليّ عليه‌السلام له الأمان فآمنه (١).

وكان علي عليه‌السلام قد نصب عبد الله بن عباس أميرا على البصرة كما مرّ ، فأرسل إليه وإلى عبد الله بن جعفر أن يكلّموا عليا عليه‌السلام فيه فكلّموه فقال : هو آمن فليتوجّه حيث شاء (٢).

وروى المفيد عن أبي مخنف بسنده عن مساحق بن مخرمة القرشي (٣) ورواه القاضي المغربي (م ٣٦٣ ه‍) عنه أيضا قال : اجتمعت بعد الجمل مع نفر من قريش فيهم مروان بن الحكم ، فقال لبعض من حضره : والله لقد ظلمنا هذا الرجل (عليا عليه‌السلام) ونكثنا بيعته من غير حدث ، ثم لقد ظهر علينا فما رأينا رجلا قط أكرم سيرة ولا أحسن عفوا منه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فتعالوا ندخل عليه فنعتذر إليه مما صنعنا (٤)!

قال الواقدي : فاستشفعوا إليه بعبد الله بن العباس فشفّعه فيهم وأذن بدخولهم عليه ، حتى مثلوا بين يديه (٥) فلما همّ أن يتكلم متكلّمهم قال عليه‌السلام : أنا أكفيكم إنما أنا رجل منكم ، فإن قلت حقا فصدّقوني ، وإن قلت غير ذلك فردّوا عليّ! ثم قال :

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٣ ، الحديث ٣٣٦.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٢ ، بسنده عن الصادق عن أبيه عن جدّه عن مروان نفسه!

(٣) الجمل للمفيد : ٤١٦.

(٤) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري المغربي ١ : ٣٩٢ ، الحديث ٣٣٣ ، والجمل للمفيد : ٤١٦ ، وأمالي الطوسي : ٥٠٦ ، الحديث ١١٠٩.

(٥) الجمل للمفيد : ٤١٣.

٦٣٤

أنشدكم الله! أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده؟ قالوا : اللهم نعم.

قال : فبايعتم أبا بكر وعدلتم عنّي ، فأمسكت ولم أحبّ أن أشق عصا المسلمين وافرّق جماعاتهم ، ثم إن أبا بكر جعلها لعمر من بعده ، فكففت ولم اهج الناس ، وقد علمتم أني كنت أولى الناس بالله وبرسوله وبمقامه ، فصبرت حتى قتل عمر وجعلني سادس ستة ، فكففت ولم احبّ أن افرّق بين المسلمين. ثم بايعتم عثمان فطعنتم عليه فقتلتموه وأنا جالس في بيتي ، فأتيتموني وبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر ، فما بالكم وفيتم لهما ولم تفوا لي؟ وما منعكم من نكث بيعتهما ودعاكم إلى نكث بيعتي (١)؟

ثم قال لهم : ويلكم يا معشر قريش علام تقاتلونني؟ على أن حكمت فيكم بغير عدل؟ أو قسمت بينكم بغير سويّة؟ أو استأثرت عليكم؟ أو لبعدي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ أو لقلّة بلاء منّي في الإسلام (٢)؟

هذا ، ولكنّ الرضيّ ارتضى خبرا آخر عن مروان : أنه أخذ أسيرا واتي به إلى علي عليه‌السلام فاستشفع الحسنين عليهما‌السلام فشفعا فيه فأطلقه ، فقالا : يبايعك؟

فقال عليه‌السلام : أو لم يبايعني بعد قتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته ، إنها كفّ يهودية! ولو بايعني بكفّه لغدر بسبّته ، أما إنه يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه! وإن له امرة كلعقة الكلب أنفه! وهو أبو الأكبش الأربعة! وستلقى الامة منه ومن ولده يوما أحمر.

وقال المعتزلي في شرحه : روي هذا الخبر من طرق كثيرة (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤١٦ ـ ٤١٧ ، وأمالي الطوسي ، الحديث ١١٠٩.

(٢) الجمل للمفيد : ٤١٣ عن الواقدي.

(٣) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ٦ : ١٤٦ ، والخطبة : ٧٣.

٦٣٥

إلّا أن الراوندي روى عن رجل مراديّ (رباب بن رياح) قال : كنت بالبصرة واقفا على رأس أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد القتال ، إذ أتاه ابن عباس فقال له : إنّ لي حاجة! فقال عليه‌السلام : ما أعرفني بالحاجة التي جئت فيها : تطلب الأمان لابن الحكم ، قال : ما جئت إلّا لتؤمّنه ، قال : قد آمنته ، ولكن اذهب وجئني به ، ولا تجئني به إلّا رديفا فإنه أذلّ له. فجاء به ابن عباس مردفا له كأنه قرد!

فقال له أمير المؤمنين : تبايع؟ قال : نعم ، وفي النفس ما فيها! فلما بسط يده ليبايعه قبضها ونترها وقال : لا حاجة لي فيها ، إنها (كفّ مروان) كفّ يهودية ، لو بايعني بيده عشرين مرة نكث باسته! ثم قال : هيه يا ابن الحكم! خفت على رأسك أن يقع في هذه المعمعة؟ كلّا ـ والله ـ حتى يخرج من صلبك فلان وفلان يسومون هذه الامة خسفا ، ويسقونهم كأسا مصبّرة (١) وهذا هو الأولى لمراودة ابن عباس في دار عثمان ، دون الحسنين.

وفي خبر الواقدي : أن مروان تقدّم إلى عليّ عليه‌السلام وهو متّكئ على رجل ، فقال له : هل بك جراحة؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، ولا أراني لما بي إلّا ميّتا ، فتبسّم علي عليه‌السلام وقال له : لا والله ما أنت لما بك ميّت! وستلقى هذه الامة منك ومن ولدك يوما أحمر ، ثم بايعه وانصرف (كذا).

وتقدّم إليه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي ، فلما رآه قال له : والله أن كنت أنت وأهل بيتك لأهل دعة وكان فيكم غنى ... ولقد ثقل عليّ حيث رأيتكم في القوم ، وأحببت أن تكون الواقعة بغيركم! ثم بايعه وانصرف.

وكأنه عليه‌السلام لم يعرف مساحق بن مخرمة فقال له : ومن أنت؟ قال : أنا مساحق بن مخرمة ، معترف بالزلّة مقرّ بالخطيئة تائب من ذنبي.

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ١٩٧ ، الحديث ٣٥ ، وبهامشه بعض المصادر الأخرى. والمصبّرة : المطعّمة بالصبر وهو نبات مرّ.

٦٣٦

فقال : قد صفحت عنكم (١).

وروى القاضي المغربي عن موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي أنه أسر وحبس مع سائر الأسارى ، فنودي : أين موسى بن طلحة؟ قال : فاسترجعت واسترجع الأسارى معي في السجن وقالوا لي : يقتلك!

فأخرجني المنادي إليه حتى أوقفني بين يديه ، فقال لي : يا موسى! قلت له : لبّيك يا أمير المؤمنين! قال لي : قل ثلاث مرات : استغفر الله وأتوب إليه. فقلتها فقال لمن جاء بي : خلّوا عنه ، ثم قال لي : اذهب وخذ ما وجدت لك في عسكرنا من كراع أو (صيّ) سلاح فخذه ، واجلس في بيتك واتّق الله فيما تستقبله من أمرك! فشكرت له ذلك وانصرفت من عنده (٢).

وقد مرّ خبر إرساله لسعيد وأبان ابني عثمان بن عفّان بعد أسرهما في العسكر.

وصلاة الجمعة بعد الفتح :

كان يوم فتح البصرة لعلي عليه‌السلام بعد الجمعة منتصف جمادى الأولى ، وقبل الجمعة اللاحقة مرض أمير المؤمنين ، فقال لابنه الحسن : انطلق يا بني فجمّع بالناس.

فأقبل الحسن عليه‌السلام إلى المسجد الجامع بالبصرة ورقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم صلّى على جدّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

أيها الناس ، إن الله اختارنا لنبوّته ، واصطفانا على خلقه ، وأنزل علينا كتابه ووحيه. وايم الله لا ينتقصنا أحد من حقّنا شيئا إلّا ينقصه الله ، في عاجل دنياه

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤١٣.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري المغربي ١ : ٣٨٩.

٦٣٧

وآجل آخرته ، ولا تكون علينا دولة إلّا كانت لنا العاقبة (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) وبعد خطبته جمّع بالناس.

وبلغ كلامه إلى أبيه ، فلما انصرف إليه ورآه سالت عبرته على خديه فاستدناه حتّى قبّل ما بين عينيه وقال له : بأبي أنت وأمي! ثم تلا قوله سبحانه : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١).

وخطب هو مرة أخرى :

ومرّة اخرى خطب هو عليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

أيها الناس ، إن الدنيا حلوة خضرة ، تفتن الناس بالشهوات ، وتزيّن لهم بعاجلها ، وايم الله إنها لتغرّ من أمّلها ، وتخالف من رجاها ، وستورث غدا أقواما الندامة والحسرة بإقبالهم عليها وتنافسهم فيها ، وحسدهم وبغيهم على أهل الدين والفضل فيها ، ظلما وعدوانا وبغيا وأشرا وبطرا.

وبالله إنه ما عاش قوم قطّ في غضارة من كرامة نعم الله في معاش دنياه ، ولا دائم تقوى في طاعة الله والشكر لنعمه فأزال ذلك عنهم ، إلّا من بعد تغيير من أنفسهم ، وتحويل عن طاعة الله والحادث من ذنوبهم ، وقلة محافظة وترك مراقبة الله عزوجل ، وتهاون بشكر نعم الله ؛ لأن الله عزوجل يقول : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(٢).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٨٢ ، الحديث ١٢١ و ١٠٣ ، الحديث ١٥٩ بسنده عن ابن سيرين (م ١١٠ ه‍). والآيتان الأولى : ٨٨ من سورة ص ، والثانية : ٣٤ من سورة آل عمران.

(٢) الرعد : ١١.

٦٣٨

ولو أنّ أهل المعاصي وكسبة الذنوب إذا هم حذروا زوال نعم الله وحلول نقمته وتحويل عافيته ، أيقنوا أنّ ذلك من الله جل ذكره بما كسبت أيديهم ، فأقلعوا وتابوا وفزعوا إلى الله جل ذكره ، بصدق من نياتهم وإقرار منهم بذنوبهم وإساءتهم ، لصفح لهم عن كل ذنب ، ولأقالهم كل عثرة ، ولردّ عليهم كرامة نعمه ، ثم أعاد لهم من صالح أمرهم ، ومما كان أنعم به عليهم كلّما زال عنهم وأفسد عليهم.

فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ حقّ تقاته ، واستشعروا خوف الله عزّ ذكره ، وأخلصوا النفس ، وتوبوا إليه من قبيح ما استنفركم الشيطان من قتال وليّ الأمر وأهل العلم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما تعاونتم عليه من تفريق الجماعة وتشتيت الأمر ، وإفساد صلاح ذات البين (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(١).

وخطبة أخرى في الفتنة :

نقلها الرضيّ وقال : خاطب بها أهل البصرة ، ومنها : إن أطعتموني فإني إن شاء الله حاملكم على سبيل الجنة وإن كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة!

ومنها قوله : وأما (فلانة) فأدركها رأي النساء وضغن غلا في صدرها كمرجل القين (الحدّاد) ولو دعيت لتنال من غيري ما أتته إليّ لم تفعل ؛ ولها بعد حرمتها الاولى ، والحساب على الله!

وفيها : أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق.

__________________

(١) روضة الكافي : ٢١٣ ، الحديث ٣٦٨ والآية : ٢٥ من الشورى.

٦٣٩

فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة وهل سألت عنها رسول الله (١)؟

قال عليه‌السلام : لما نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)(٢) قال لي :

يا علي ؛ إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي. فقلت : يا رسول الله ، وما الفتنة التي كتب الله علينا فيها الجهاد؟ قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله ، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني! فتقاتلونهم على إحداثهم في دينهم وفراقهم لأمري واستحلالهم دماء عترتي.

فقلت له : يا رسول الله ، إنك كنت وعدتني الشهادة فسل الله تعالى أن يعجّلها لي!

فقال : قد كنت وعدتك الشهادة فكيف صبرك إذا خضبت هذه ـ وأومأ إلى رأسي ـ من هذه ـ وأومأ إلى لحيتي ـ؟

فقلت : يا رسول الله ، أما إذا بيّنت لي ما بيّنت فليس بموطن صبر لكنّه موطن شكر!

فقال : أجل ، فأعدّ للخصومة فإنك مخاصم أمتي.

قلت : يا رسول الله فأرشدني الفلج (في حجتي عليهم).

فقال : إذا رأيت قوما عدلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم ، فإن الهدى من الله والضلال من الشيطان ، والهدى هو اتّباع أمر الله دون الهوى والرأي ، وكأنك بقوم قد تأوّلوا القرآن وأخذوا بالشبهات ، واستحلوا الخمر بالنبيذ ،

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٦.

(٢) النصر : ١.

٦٤٠