موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

فتكلم أبو الهيثم بن التيّهان فقال لهما : إنّ لكما لقدما في الإسلام وسابقة ، وقرابة من أمير المؤمنين ، وقد بلغنا عنكم سخط وطعن على أمير المؤمنين ، فإن يكن أمرا لكما خاصة فعاتبا إمامكما وابن عمّتكما (كذا) وإن كان نصيحة للمسلمين فلا تؤخّراه (تدّخراه) عنه ونحن عون لكما ، فقد علمتما أن بني أميّة (١) لن تنصحكما أبدا ، وقد عرفتما عداوتهم لكما وقد شركتما في دم عثمان ومالأتما عليه!

فتكلم طلحة وقال : إني قد عرفت أن في كل واحد منكم خطابا ، فافرغوا جميعا مما تقولون.

فتكلم عمّار فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ وآله ثم قال : أنتما صاحبا رسول الله ، وقد أعطيتما إمامكما الطاعة والمناصحة ، والعهد والميثاق على العمل بطاعة الله وطاعة رسوله ، وأن يجعل (أو : وإذ جعل) كتاب الله إماما ، ففيم السخط والغضب على عليّ بن أبي طالب؟!

فتكلم عبد الله بن الزبير وقال لعمّار : يا أبا اليقظان لقد تهذّرت (أي قلت هذرا أي هجرا وهذيانا)!

فقال له عمّار : ما لك تتعلق بمثل هذا يا أعبس! ثم أمر به أن يخرجوه!

فقام الزبير وقال لعمّار : يا أبا اليقظان عجلت على ابن أخيك رحمك الله!

فقال له عمّار : يا أبا عبد الله ... إنكم معشر المهاجرين لم يهلك من هلك منكم حتى استدخل في أمره المؤلّفة قلوبهم! فأنشدك الله أن تسمع قول من رأيت!

فقال الزبير : معاذ الله أن نسمع منهم.

كان هذا بغير محضر علي عليه‌السلام ، فتشاوروا فيما بينهم أن يركبوا إليه إلى موضع القناة من أودية المدينة حيث منزله عليه‌السلام فيخبروه بخبر القوم ، فركبوا إليه ومعهم

__________________

(١) فيعلم منه أن إثارة معاوية كان قد تبيّن لهم.

٤٨١

سهل بن حنيف فأخبروه باجتماعهم مع القوم وما هم عليه من التعظيم لقتل عثمان وإظهار الشكوى (١) وقالوا له : يا أمير المؤمنين ، انظر في أمرك وعاتب قومك هذا الحيّ من قريش ، فإنهم قد نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك ، وقد دعونا في السرّ إلى رفضك هداك الله لرشدك ، ذلك لأنهم كرهوا الاسوة (في العطاء بسائر الناس) لما آسيت بينهم وبين الأعاجم (الموالي) فأظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة وتألّفا لأهل الضلالة ، فرأيك.

فاتّزر ببرد قطريّ وارتدى بطاق وعليه عمامة خزّ سوداء وتقلّد سيفا وركب بغلة رسول الله الشهباء حتى دخل المدينة والمسجد وصعد المنبر ، واجتمع أهل الفضل من الصحابة.

خطبته عليه‌السلام في العطية بالسوية :

فحمد الله وأثنى عليه ثم قال وهو متّكئ على قوس (٢) :

«أما بعد ـ أيها الناس ـ فإنا نحمد الله ربّنا وإلهنا ، ووليّنا ووليّ النعم علينا ، الذي أصبحت نعمه علينا ظاهرة وباطنة امتنانا منه ، بغير حول منّا ولا قوة ، ليبلونا أنشكر أم نكفر ، فمن شكر زاده ومن كفر عذّبه ، فأفضل الناس عند الله منزلة ، وأقربهم من الله وسيلة ، أطوعكم لأمره وأعملهم بطاعته ، وأتبعهم لسنة رسوله وأحياهم لكتابه ، ليس لأحد عندنا فضل إلّا بطاعة الله وطاعة الرسول.

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ عن ابن عقدة عن أبي الصلت الهروي عن مالك بن أوس بن الحدثان.

(٢) أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ مسندا عن ابن عقدة عن أبي الصلت الهروي عن أوس بن الحدثان الأنصاري ، وقبله في المعيار والموازنة : ١٠٩ ـ ١١٠ مرسلا.

٤٨٢

هذا كتاب الله بين أظهرنا وعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته فينا ، لا يجهل ذلك إلّا جاهل عاند عن الحق منكر ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ)(١).

ثم قال : ألا إنه من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا ، وشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله ، أجرينا عليه أحكام القرآن وأقسام الإسلام ، ليس لأحد على أحد فضل إلّا بتقوى الله ، جعلنا الله وإياكم من المتقين وأوليائه وأحبائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ثم صاح بأعلى صوته : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإن الله لا يحبّ الكافرين! ثم قال : يا معشر المهاجرين ، يا معشر الأنصار ، يا معشر المسلمين ، أتمنّون على الله ورسوله بإسلامكم؟ (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٢).

ثم قال : ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ، ولا منزلكم الذي خلقتم له ، ولا الذي دعيتم إليه ، ألا وإنها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها ، فلا يغرنّكم عاجلها فقد حذّرتموها ، ووصفت لكم وجرّبتموها ، فأصبحتم لا تحمدون عاقبتها. فسابقوا ـ رحمكم الله ـ إلى منازلكم التي أمرتم أن تعمروها ، فهي العامرة التي لا تخرب أبدا ، والباقية التي لا تنفد ، رغّبكم الله فيها ودعاكم إليها ، وجعل لكم الثواب فيها.

فيا معاشر المهاجرين والأنصار وأهل دين الله ، انظروا ما وصفتم به في كتاب الله ، ونزّلتم به عند رسول الله وجاهدتم عليه فما فضّلتم به بالحسب والنسب؟ أم بعمل وطاعة؟ فاستتمّوا ـ رحمكم الله ـ نعمه عليكم بالصبر لأنفسكم ، والمحافظة

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) الحجرات : ١٧.

٤٨٣

على ما استحفظكم الله من كتابه. ألا وإنه لا يضركم تواضع شيء من دنياكم بعد حفظكم وصية الله والتقوى. ولا ينفعكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم بعد تضييع ما أمرتم به من التقوى ، فعليكم عباد الله بالتسليم لأمره والرضا بقضائه والصبر على بلائه.

فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة ، فقد فرغ الله من قسمته ، فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون ، وهذا كتاب الله به أقررنا وعليه شهدنا ، وله أسلمنا ، وعهد نبيّنا بين أظهرنا فسلّموا رحمكم الله ، ومن لم يرض بهذا فليتولّ كيف شاء! فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه اولئك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واولئك هم المفلحون. ونسأل الله ربنا وإلهنا أن يجعلنا وإياكم من أهل الطاعة ، وأن يجعل رغبتنا ورغبتكم فيما عنده. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم» (١).

محاجّتهما معه عليه‌السلام :

ثم نزل عن المنبر فصلّى ركعتين وكان طلحة والزبير في ناحية المسجد ، فبعث بعمّار بن ياسر وعبد الرحمن بن حنبل (أو حسل) القرشي (الشاعر) عليهما ، فأتياهما فدعواهما فقاما حتى جلسا إليه عليه‌السلام فقال لهما :

أنشدتكما الله هل جئتماني طائعين للبيعة ودعوتماني إليها وأنا كاره؟! قالا : اللهم نعم ، فقال : غير مجبرين ولا مقسورين ، فأسلمتما لي بيعتكما وأعطيتماني عهدكما؟ قالا : اللهم نعم ، فقال : الحمد لله رب العالمين ، ثم قال لهما : فما عدا مما بدا؟

__________________

(١) تحف العقول : ١٢٩ ـ ١٣٠ ، مرسلا ، ومسنده عن ابن عقدة عن أبي الصلت الهروي عن أوس بن الحدثان الأنصاري في أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ ، وقبله مرسلا في المعيار والموازنة : ١٠٩ ـ ١١٢.

٤٨٤

قالا : أعطيناك بيعتنا على أن لا تقطع الامور دوننا ، وأن تستشيرنا في الامور ، ولا تستبدّ بها عنّا ، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت ، فأنت تقسم القسم وتقطع الأمر وتمضي الحكم بغير مشاورتنا ولا رأينا ولا علمنا!

فقال لهما : لقد نقمتما يسيرا وأرجأتما كثيرا ، فاستغفرا الله يغفر لكما ، ألا تخبراني في شيء لكما فيه حق دفعتكما عنه؟! أم في قسم استأثرت به عليكما؟! قالا : معاذ الله!

قال : ففي حق دفعه إليّ أحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه أو حكم أخطأت فيه؟! قالا : اللهم لا.

قال : ففي أمر دعوتماني إليه من أمر عليه المسلمين فقصّرت عنه أو خالفتكما فيه؟ قالا : اللهم لا.

قال : فما الذي كرهتما من أمري ونقمتما من تأميري ورأيتما من خلافي؟!

قالا : خلافك عمر بن الخطاب في القسم ، فإنك جعلت حقّنا في القسم في الإسلام كحقّ غيرنا وسوّيت بيننا وبين من أفاء الله به علينا بأسيافنا ورماحنا ، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا ، وظهرت عليه دعوتنا وأخذناه قسرا ممن لم يأتوا الإسلام إلّا كرها!

فقال عليه‌السلام : الله أكبر! اللهم إني اشهدك عليهما واشهد من حضر مجلسي اليوم عليهما!

ثم قال : أما ما احتججتما به عليّ من الاستشارة ؛ فو الله ما كانت لي في الولاية رغبة ، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها وأنا كاره ، فخفت أن تختلفوا وأن أردّكم عن جماعتكم ، فلما أفضت إليّ نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمر بالحكم به ، وما قسم ، وما استنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمضيته واتّبعته ، ولم أحتج إلى رأيكما ولا دخولكما معي ولا غيركما ، ولم يقع حق جهلته فأثق برأيكما فيه واستشيركما و(سائر) إخواني من المسلمين ، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما ،

٤٨٥

إذا كان من أمر ليس في كتاب الله بيانه وبرهانه ، ولم تكن فيه سنّة من نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يمض فيه أحكام من إخواننا ممن يقتدى برأيه ويرضى بحكمه!

وأما ما ذكرتما من الاسوة ؛ فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه ولم أقسمه ، قد وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله قسما قد فرغ الله من قسمه وأمضى فيه من حكمه.

وأما قولكم : جعلت لهم فيئنا وما أفاءت رماحنا وسيوفنا ، فقدما سبق إلى الإسلام قوم لم يضرهم إذا استؤثر عليهم في شيء من الأحكام ، ولم يضرهم حين استجابوا لربّهم ، والله موفّيهم يوم القيامة أعمالهم ، ألا وإنّا مجرون عليهم أقسامهم. فليس ـ والله ـ عندي لكما ولا لغيركما في هذا عتب! أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر. رحم الله رجلا رأى حقا فأعان عليه ، أو رأى جورا فردّه وكان عونا للحق على صاحبه (١) ثم كان ما مرّ عن المفيد.

ثم لم يلقيا أحدا إلّا وقالا له : ليس لعليّ في أعناقنا بيعة ، وإنما بايعناه مكرهين!

فبلغه ذلك فقال : أبعدهما الله وأغرب دارهما! أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل ، ويأتيان من وردا عليه (البصرة) بأشأم يوم! والله ما العمرة يريدان ، ولقد أتياني بوجهين فاجرين ورجعا بوجهين غادرين ناكثين! والله لا يلقياني بعد اليوم إلّا في كتيبة خشناء يقتلان أنفسهما فيها ، فبعدا لهما وسحقا (٢).

__________________

(١) المعيار والموازنة : ١٠١ ـ ١١٤ مرسلا وكذلك في المختار : ٢٠٣ من نهج البلاغة ، ومسنده في أمالي الطوسي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ عن ابن عقدة عن أبي الصلت الهروي عن اوس بن الحدثان الأنصاري.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٣٢ بلا إسناد.

٤٨٦

كتابه عليه‌السلام إلى ابن حنيف :

وكأن الثوّار البصريّين كانوا قد رجعوا إلى البصرة ، وعليها الوالي الجديد عثمان بن حنيف الأنصاري ، وبلغهم أن رجلا من أغنيائها أعدّ له مأدبة طعام ودعا معه أمثاله من الأغنياء إليها ، فكان ذلك مشابها لما كان عليه عامل عثمان عبد الله بن عامر وعلى خلاف ما يتوقّعون ، فأبلغوا ذلك عليا عليه‌السلام ، فكتب إليه :

أما بعد ، يا ابن حنيف ، فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها ، تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان! وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإن لكلّ مأموم إماما يقتدي به ويستضيء بنور علمه ، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد ، فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادّخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا ، ولا حزت من أرضها شبرا ، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دبرة ، ولهي في عيني أهوى وأهون من عفصة مقرة (ورقة مرّة).

بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله! وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانّها في غد جدث ، تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها ، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعته يدا حافرها ، لأضغطها الحجر والمدر ، وسدّ فرجها التراب المتراكم. وإنما هي نفسي اروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، وتثبت على جوانب المزلق.

ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ،

٤٨٧

ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع! أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى (جوعى) وأكباد حرّا (عطشى) أو أكون كما قال القائل :

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ

(أي تميل إلى اللحم المجفّف البائت) أأقنع من نفسي بأن يقال لي : أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش (خشونتها) فما خلقت ليشغلني أكل الطيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها وتلهو عمّا يراد بها ، أو أترك سدى ، أو أهمل عابثا ، أو أجرّ حبل الضّلالة ، أو اعتسف (أتكلّف) طريق المتاهة!

وكأنّي بقائلكم يقول : إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشّجعان ؛ ألا وإن الشجرة البريّة أصلب عودا ، والروائع الخضرة أرقّ جلودا ، والنابتات العذية (بالمطر) أقوى وقودا وأبطأ خمودا ، وأنا من رسول الله كالضّوء من الضّوء والذراع من العضد؟ والله لو تظاهرت العرب على قتالى لما ولّيت عنها ، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها ، وسأجهد في أن اطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس (معاوية) حتى تخرج المدرة من حبّ الحصيد (١).

فيعلم منه أنه كان بعد انتشار أخبار معاوية بالاعتراض على علي عليه‌السلام وحين استعداده لمقابلته وقبل انتشار أخبار أصحاب الجمل ، وقد مرّ الخبر عن المفيد : أنه عليه‌السلام كتب إلى ابن حنيف بالبصرة : أن يندب الناس لغزو الشام ، فكان على علم بذلك. وكأنّه عليه‌السلام أجاب ضمنا عن علة عدم استرداده لفدك أيضا.

__________________

(١) نهج البلاغة ، كتاب : ٤٥.

٤٨٨

إثارة الزبير لعائشة :

سار طلحة والزبير إلى مكة بمن تبعهما من أولادهما وخاصّتهما (١) ، واعتمرا فطافا وصلّيا وسعيا. ثم إنّ محمد بن طلحة وإن كان تيميا من أبناء أعمام عائشة ولكنه غير محرم لها ، ولكن عبد الله بن الزبير ابن أسماء بنت أبي بكر اخت عائشة ، فهو ابن اختها وهي خالته فهو محرم لها ، ولذا فإن الزبير دعاه وقال له : امض إلى خالتك وقل لها : إن طلحة والزبير يقرئانك السلام ويقولان لك : إن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما! وإنّ علي بن أبي طالب ابتزّ الناس أمرهم وغلبهم عليه بالسفهاء الذين تولّوا قتل عثمان! ونحن نخاف انتشار الأمر به (ونروم الخروج عليه) فإن رأيت أن تسيري معنا لعلّ الله أن يرتق بك فتق هذه الامّة ويشعب بك صدعهم ويلمّ بك شعثهم ويصلح بك أمورهم!

فأتاها عبد الله وبلّغها ما أرسلاه به.

فقالت له : يا بنيّ ، إني رجعت إلى مكة لأعلم الناس ما فعل بإمامهم عثمان ، وأنه أعطاهم التوبة فقتلوه تقيّا نقيّا بريّا! وليروا في ذلك رأيهم ويسيروا إلى من ابتزّهم أمرهم وغصبهم من غير مشورة من المسلمين ولا مؤامرة! بل بتكبّر وتجبّر! يظن أن الناس يرون له حقا كما كانوا يرونه لغيره! هيهات هيهات! يظنّ ابن أبي طالب أن يكون في هذا الأمر كابن أبي قحافة ؛ لا والله! ومن في الناس مثل ابن أبي قحافة ، تخضع له الرقاب ويلقى إليه المقاد! وليها والله ابن أبي قحافة فخرج منها كما دخل. ثم وليها أخو بني عدي (عمر) فسلك طريقه ، ثم مضيا ، فوليها ابن عفّان ، فركبها رجل له سابقة ومصاهرة برسول الله وأفعال مع النبيّ مذكورة لا يعمل أحد من الصحابة مثل ما عمله في ذات الله! (ولكنّه)

__________________

(١) وكان ذلك بعد مقتل عثمان بأربعة أشهر ، عن الزهري في أنساب الأشراف ٢ : ٢١٩.

٤٨٩

كان محبّا لقومه فمال بعض الميل! فاستتبناه فتاب ثم قتل! فيحق للمسلمين أن يطلبوا بدمه! ولكنّي يا بنيّ لم اومر بالخروج!

فقال لها عبد الله : ايا امّه؟ فإذا كان هذا قولك في عليّ ورأيك في قاتلي عثمان ، فما الذي يقعدك عن المساعدة على جهاد عليّ بن أبي طالب ، وقد حضرك من المسلمين من فيه غنى وكفاية فيما تريدين؟

فقالت له : يا بنيّ ؛ افكّر فيما قلت ، وتعود أنت.

فعاد عبد الله إلى أبيه وطلحة بخبرها ، فقالا له : باكرها في الغد فذكّرها أمر المسلمين ، وأعلمها أننا قاصدان إليها لنجدّد بها عهدا ونحكم معها عقدا.

فباكرها عبد الله وأعاد عليها بعض ما أسلفه من القول (١) ، وعن ابن أعثم الكوفي هنا : أن أمّ سلمة أيضا كانت حاضرة ناظرة إذ جاء ابن الزبير يحث خالته عائشة على الخروج على علي عليه‌السلام ، فكان ذلك بمرأى ومسمع منها إذ بلغ الكلام بينهم إلى حديث النبيّ في علي قال : «عليّ بعدي وليّ الناس» فانكر أن يكون أحد سمعه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ذلك في علي عليه‌السلام ، فقالت له أمّ سلمة : إن لم تكن سمعت ذلك فهذه خالتك سلها : أن النبيّ قال لعليّ : «أنت خليفتي في حياتي وبعد مماتي» فبادرت عائشة وقالت : نعم سمعت ذلك من النبيّ! فقالت لها أمّ سلمة : فلا يغرّنك طلحة والزبير فإنّهما لا يغنيان عنك من الله شيئا (٢).

وجاء أبوه الزبير فسلّم عليها وقال : قد أجابت أمّنا ـ والحمد لله ـ إلى ما نريد!

فقالت له : يا أبا عبد الله ، شركت في دم عثمان ثم بايعت عليا؟ وأنت والله أحقّ بالأمر منه!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٢٩ ، ٢٣٠.

(٢) كتاب الفتوح لابن الأعثم ٢ : ٤٥٤ ، ٤٥٥.

٤٩٠

فقال الزبير : أما ما صنعت مع عثمان فقد هربت من ذنبي في ذلك إلى ربّي! ولن أترك الطلب بدمه! وأما بيعتي لعليّ ؛ فو الله ما بايعته إلّا مكرها! التفّ به السفهاء من أهل مصر والعراق وسلّوا سيوفهم وأخافوا الناس حتى بايعوه!

ولما بصرت بطلحة قالت له : يا أبا محمد! قتلت عثمان وبايعت عليا؟!

فقال لها : يا امّه! ما مثلي إلّا كما قال الأول :

ندمت ندامة الكسعيّ لمّا

رأت عيناه ما صنعت يداه

ثم نادى المنادي عنها : إن أم المؤمنين تريد أن تخرج تطلب بدم عثمان ، فمن كان يريد أن يخرج فليتهيّأ للخروج معها (١).

وتجهيز العسكر :

روى الواقدي في كتابه في حرب الجمل عن رجاله قال : إن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي كان عامل عثمان على صنعاء اليمن ، فلما بلغه حصر الناس لعثمان (حمل ما معه من المال) وأقبل لنصرته مسرعا على بغلة ، فلقيه صفوان بن أميّة على فرسه فلما دنا الفرس من البغلة نفرت البغلة فطرحت ابن أبي ربيعة فانكسرت فخذه ، وبلغه قتل عثمان فصار إلى مكة ، فوجد بها عائشة تدعو للخروج للطلب بدم عثمان ، فأمر أن يوضع له سرير في المسجد الحرام فيوضع عليه ففعلوا ، فنادى في الناس : من خرج للطلب بدم عثمان فعليّ جهازه!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٣٠ ـ ٢٣١ ونحوه في : ٤٣٠ ، والكسعي رجل رمى صيدا ليلا فأصابه وهو يظنّ أنه أخطأه فكسر قوسه ، فلما أصبح ورأى الصيد ندم على كسره قوسه ، لسان العرب ٨ : ٣١١. ويلاحظ على الخبر أن الشعر للفرزدق كما في اللسان ، والفرزدق متأخر إلّا أن يكون الخبر بالأصل فيه المثل من دون الشعر.

٤٩١

وكان يعلى بن منية التميمي حليف بني نوفل عاملا لعثمان على الجند باليمن ، وكان قد حجّ بمال معه كثير ، فلما بلغه قتل عثمان وعزل علي عليه‌السلام له عن اليمن وسمع نداء ابن أبي ربيعة ، خرج من داره وهو مشتمل بشملة صنعانية ويحمل صرّة يشير بها ويقول : أيها الناس ؛ هذه عشرة آلاف دينار من عين مالي! أقوّي بها من طلب بدم عثمان ، ومن خرج بطلب دم عثمان فعليّ جهازه! ثم اشترى أربعمائة بعير أناخها بالبطحاء وحمل عليها الرجال (١).

ويتشاورون إلى أين يخرجون؟

روى البلاذري بسنده عن الزهري : أن الزبير وطلحة لما صارا إلى مكة ، وبها يعلى بن منية التميمي ومعه زيادة على أربعمائة بعير ومال كثير قدم به من اليمن ، وقدم عليهم من البصرة ابن عامر يجرّ معه الدنيا! اجتمعوا عند عائشة يداولون الرأي!

فقالوا : نسير إلى المدينة فنقاتل عليا.

فقال بعضهم : ليست لكم طاقة بأهل المدينة!

فقالوا : فنسير إلى الشام فيه الرجال والأموال ، وأهله شيعة لعثمان ، فنطلب بدمه ونجد منهم على ذلك أعوانا وأنصارا ومشايعين.

فقال قائل منهم : هناك معاوية وهو والي الشام والمطاع به ، فلن تنالوا ما تريدون ، وهو أولى منكم بما تحاولون فإنه ابن عم الرجل.

فقال بعضهم : نسير إلى العراق فلطلحة شيعة بالكوفة ، وللزبير من يميل إليه ويهواه بالبصرة! أشار بذلك عليهم عبد الله بن عامر وقوّاهم بمال كثير (٢).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٣١ ـ ٢٣٣.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٤٩٢

وقال الدينوري : دعاهم عبد الله بن عامر إلى البصرة ووعدهم الأموال والرجال.

فقال سعيد بن العاص لطلحة والزبير : إن ابن عامر يدعوكما إلى البصرة وقد فرّ من أهلها فرار العبد الآبق وهم في طاعة عثمان ، ويريد اليوم أن يقاتل بهم عليا وهم في طاعة علي! وخرج منهم أميرا ويعود إليهم طريدا ، ويعدكم الأموال والرجال فأما الأموال فعنده ولكن لا رجال له. وكان معهم الوليد بن عقبة ومروان بن الحكم.

فقال الزبير : الشام بها الرجال والأموال وعليها معاوية ، وهو ابن عمّ الرجل (عثمان) فمتى نجتمع عنده يولّنا عليه!

فقال يعلى بن منية ـ وكان داهية ـ أيها الشيخان ، قدّرا قبل أن ترحلا : إنّ معاوية قد سبقكم إلى الشام وفيها الجماعة ، وأنتم تقدمون عليه غدا في فرقة ، وهو ابن عمّ عثمان دونكم ، أرأيتم إن دفعكم عن الشام أو قال : أجعلها شورى ، فما أنتم صانعون؟ أتجعلونها شورى فتخرجا منها؟ أم تقاتلونه؟ وأقبح من ذلك أن تأتيا رجلا في يديه أمر قد سبقكما إليه وتريدا أن تخرجاه عنه!

فقال القوم : فإلى أين؟

قال : البصرة. وقال ابن عامر : البصرة ، فإن غلبتم عليا فلكم الشام! وإن غلبكم علي كان معاوية جنة لكم ، وهذه كتب أهل البصرة إليّ!

فقال الزبير له : فمن رجال البصرة؟ قال : ثلاثة كلهم سيّد مطاع : المنذر بن ربيعة في ربيعة ، والأحنف بن قيس التميمي في مضر ، وكعب بن سور (قاضي البصرة) في اليمن.

فاجتمعت كلمتهم على المسير إلى البصرة ، وكتبوا كتبا إلى هؤلاء الثلاثة (١).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٥٩ و٦٠ ، وانظر الطبري ٤ : ٤٥٠ ، ٤٥١ عن سيف و٤٥٢ عن الزهري.

٤٩٣

طمعهما في أمّ سلمة :

لم يكن الحجّ لهذا العام في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصا بعائشة بل كان معها حفصة وأمّ سلمة أيضا ، وكذلك لم يكن إثارة الزبير وطلحة وطلبهما الانضمام إليهما في الخروج على عليّ عليه‌السلام خاصا بعائشة بل شمل أمّ سلمة أيضا.

فقد روى الواقدي بسنده عن ابن أبي رافع عنها : أنّها بعد حجتها أقامت بمكة حتى دخل المحرّم (١) قالت : وإذا برسول طلحة والزبير جاءني عنهما وقال : إن ابنيك طلحة والزبير يقولان : إنّ أمّ المؤمنين عائشة تريد أن تخرج للطلب بدم عثمان ، فلو خرجت معنا رجونا أن يصلح الله بكما فتق هذه الامة!

فأرسلت إليهما : والله ما بهذا أمرت ولا عائشة ، لقد أمرنا الله أن نقرّ في بيوتنا (٢) فكيف نخرج للقتال والحرب؟! مع أنّ أولياء عثمان غيرنا! والله ما يجوز لنا عفو ولا صلح ولا قصاص ، وما ذلك إلّا إلى ولد عثمان ، واخرى : نقاتل عليّ بن أبي طالب ذا البلاء والعناء وأولى الناس بهذا الأمر؟ والله ما أنصفتما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نسائه حيث تخرجوهنّ ... وتتركون نساءكم في بيوتكم (٣).

ثم أرسلا إليها عائشة :

لم ينزجر الزبير بذلك ، بل لم يقطع الطمع طلحة في ذلك ، وطلبا من عائشة أن تخادعها (٤) على ذلك ، فأتتها وقالت لهما :

__________________

(١) كذا في الخبر ، وقد مرّ في الخبر أن طلحة والزبير إنما خرجا إلى مكة بعد أربعة أشهر من قتل عثمان.

(٢) ذلك في قوله سبحانه : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) ، الأحزاب : ٣٣.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، عن كتاب الجمل للواقدي وبهامشه مصادر أخرى.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٧ عن أبي مخنف.

٤٩٤

يا بنت أبي أميّة : كنت كبيرة امهات المؤمنين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقيل في بيتك ، وكان يقسم لنا من بيتك ، وكان ينزل الوحي في بيتك.

فقاطعتها أمّ سلمة فقالت لها : يا بنت أبي بكر ، لقد زرتيني وما كنت زوّارة لي ، ولأمر ما تقولين لي هذه المقالة؟

فقالت : إنّ ابني وابن أخي أخبراني : أن الرجل (عثمان) قتل مظلوما ، وأن بالبصرة مائة ألف سيف يطاوعون! فهل لك أن نخرج أنا وأنت لعلّ الله أن يصلح بين فئتين متشاجرتين!

فقالت : يا بنت أبي بكر ؛ أبدم عثمان تطلبين؟ فلقد كنت أشدّ الناس عليه ، وإن كنت لتدعينه إلى التبرّي؟ أم أمر ابن أبي طالب تنقضين؟ فقد تابعه الأنصار والمهاجرون (١).

إنك سدّة بين رسول الله وبين امته ، وحجابه المضروب على حرمته ، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه (توسّعيه) وسكّن عقيراك (صوتك) فلا تضحي (تعلني) بها ، والله من وراء هذه الامة ، وقد علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مكانك ولو أراد أن يعهد إليك لفعل ، ولقد عهد فلا تخالفي ، فيخالف بك! واذكري قوله في نباح الكلاب بحوأب ، وقوله : «ما للنساء وللغزو» وقوله لك : انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت ... بل قد نهاك عن الفرطة في البلاد.

وإنّ عمود الإسلام لن يثاب بالنساء إن مال ، ولن يرأب بهن إن انصدع.

حماديّات النساء : غضّ الأبصار ، وخفر الأعراض ، وقصر الوهازة (الخطوات).

__________________

(١) الاختصاص : ١١٩ ، مسندا ، وعن كتاب الجمل لابي مخنف في شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٧.

٤٩٥

ما كنت قائلة لو أن رسول الله عارضك ببعض الفلوات ناصّة قلوصا (بعيرا) من منهل إلى آخر (١)؟ إنّ بعين الله مهواك وعلى رسول الله تردين وقد وجّهت سدافته (زيّنت حجابه عليك بخرز الوجاهة) وتركت عهده (أمّا أنا) فلو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي : ادخلي الفردوس ، لاستحييت أن ألقى رسول الله هاتكة حجابا قد ضربه عليّ.

اجعلي حصنك بيتك ، ورباعة الستر قبرك حتى تلقينه وأنت على تلك الحال ، أطوع لله ما تكونين لزمتيه ، وأنصر للدين ما تكونين جلست عنه (٢)!

ولو ذكّرتك من رسول الله في عليّ خمسا تعرفينه لنهشتني نهش الحيّة الرقشاء المطرقة (٣) بذات الحبب :

١ ـ أتذكرين إذ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرع بين نسائه إذا أراد سفرا ، فأقرع بينهنّ فخرج سهمي وسهمك ، فبينا نحن معه وهو هابط من قديد (قرب مكة) ومعه علي يحدثه ، فذهبت لتهجمي عليه ، فقلت لك : رسول الله معه ابن عمّه ولعلّ له إليه حاجة! فعصيتني ، ورجعت باكية! فسألتك فقلت : بأنك هجمت على عليّ فقلت له : يا علي ، إنما لي من رسول الله يوم من تسعة أيام وقد شغلته عنّي! فأخبرتيني أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لك : أتبغضيه؟ فما يبغضه أحد ـ من أهلي ولا من أمّتي ـ إلّا خرج من الإيمان! أتذكرين هذا يا عائشة! قالت : نعم.

__________________

(١) نقل قطعة من الخبر إلى هنا اليعقوبي في تاريخه ٢ : ١٨٠ ، ١٨١ وهنا قال : فنادى مناديها : ألا إن أمّ المؤمنين مقيمة فأقيموا! فأتاها طلحة والزبير فأزالاها عن رأيها وحملاها على الخروج!

(٢) معاني الأخبار : ٣٧٥ مسندا عن ابن مزاحم عن أبي مخنف ، وعن يزيد بن رومان في الاختصاص : ١١٧ ، وفي شرح الأخبار ١ : ٣٧٩ ، الحديث ٣٢٣ مرسلا.

(٣) إلى هنا رواه الطبرسي في الاحتجاج ١ : ٤٤٤ ، عن الصادق عليه‌السلام مرسلا.

٤٩٦

٢ ـ ويوم أراد رسول الله سفرا وأنا أحيس له حيسا (١) أو : أجشّ له جشيشا (٢) فقال لنا : ليت شعري ايتكنّ صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب (٣) فرفعت يدي من الحيس أو من الجشيش وقلت : أعوذ بالله أن أكنه! فقال : والله لا بدّ لاحدكما أن تكونه ، فاتقى الله يا حميرا أن تكونيه! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت : نعم.

٣ ـ ويوم لبسنا ثيابنا وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجلس إليك وقال لك : يا حميراء أتظنين أني لا أعرفك؟ أما إن لامتي منك يوما مرّا! أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت : نعم.

٤ ـ ويوم جمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيت ميمونة فقال لنا : يا نسائي ، اتّقين الله ولا يسفر بكنّ أحد ، أتذكرين هذا يا عائشة؟ قالت : نعم (٤).

٥ ـ واذكّرك أيضا : كنّا مع رسول الله في سفر له ، وكان عليّ يتعاهد أثواب رسول الله فيغسلها ونعليه فيخصفهما (يصلحهما) فثقبت له نعل فأخذها يومئذ وقعد في ظل شجرة سمرة يصلحها وجاء أبوك ومعه عمر فاستأذنا عليه فقمنا إلى الحجاب. ودخلا عليه يحادثانه فيما أرادا ، ثم قالا له : يا رسول الله ، إنا لا ندري قدر ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من تستخلف علينا ليكون بعدك مفزعا لنا؟! فقال لهما :

__________________

(١) الحيس : التمر المعجون بالسمن ، وهذا على نقل للمعتزلي في شرح النهج ٦ : ١١٧ عن أبي مخنف.

(٢) الجشيش : حنطة مجروشة تطبخ بلحم أو تمر ، وهذا على رواية الاختصاص : ١١٨.

(٣) الأدبب : مثل الدبّ في وفرة الفروة ، فهل علمت أمّ سلمة بأن ذلك يكون في هذا الخروج لعائشة!

(٤) الاختصاص : ١١٨ ـ ١١٩ مسندا.

٤٩٧

أما إنّي قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران ، فسكتا ثم خرجا.

فلما رجعا خرجنا إليه ، وكنت أجرأ عليه فقلت له : يا رسول الله من كنت مستخلفا عليهم؟

فقال : خاصف النعل ، فنظرنا فلم نر أحدا إلّا عليا ، فقلت : يا رسول الله ما أرى إلّا عليا؟ فقال : هو ذاك. فقالت عائشة : نعم أذكر ذلك (١).

ثم قالت : ما أقبلني لوعظك! وأسمعني لقولك! فإن أخرج ففي غير حرج! وإن أقعد ففي غير بأس ، ثم قامت فخرجت.

وأرسلت رسولا ينادي في الناس : من أراد أن يخرج فليخرج (ولكن) أمّ المؤمنين غير خارجة!

وبلغ ذلك الزبيرين فأرسلا عليها عبد الله ، فما زال يزيلها عن رأيها حتى أزالها ، وحملها على أن يخرج رسولها فينادي في الناس : من أراد أن يسير فليسر ، فإن أم المؤمنين خارجة (٢)! وكتبت أمّ سلمة بذلك إلى علي عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٨ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٢) الاختصاص : ١١٩ مسندا عن يزيد بن رومان.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٨ عن كتاب الجمل لأبي مخنف ، ثم تملّص المعتزلي عن مظنّة نصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخبر على علي عليه‌السلام ، بقوله : إنما قال : لو قد استخلفت أحدا لا ستخلفته! ولم يقل : قد استخلفته ، فذلك لا يقتضي حصول الاستخلاف! ويجوز أن تكون مصلحة المكلّفين ـ إذا تركهم النبيّ وآراءهم ولم يعيّن أحدا ـ أن يختاروا لأنفسهم من شاءوا! كما يجوز أن لو كان النبيّ مأمورا بأن ينصّ على إمام بعينه من بعده : أن تكون مصلحة المكلفين متعلقة بالنصّ عليه!

٤٩٨

عائشة وأمّ سلمة وآخر كلمة :

يئست عائشة عن أمّ سلمة ولم تيأس منها هذه فأنفذت إليها : إني كنت أعرف رأيك في عثمان وأنه لو طلب منك شربة من ماء لمنعتيه ، ثم أنت اليوم تقولين : إنه قتل مظلوما ، وتريدين أن تسيري لقتال أولى الناس بهذا الأمر قديما وحديثا! فاتقي الله حقّ تقاته ولا تتعرّضي لسخطه!

فأرسلت عائشة إليها : أمّا ما كنت تعرفينه من رأيي في عثمان فقد كان ، ولا أجد مخرجا منه إلّا الطلب بدمه! وأما عليّ فإني آمره بردّ هذا الأمر شورى بين الناس! فإن فعل وإلّا ضربت وجهه بالسيف! حتى يقضي الله ما هو قاض!

فأنفذت إليها أمّ سلمة : أما أنا فغير واعظة لك من بعد ولا مكلّمة لك جهدي وطاقتي ، والله إني لخائفة عليك البوار ثم النار! والله ليخيبنّ ظنّك ، ولينصرنّ الله ابن أبي طالب على من بغى عليه ، وستعرفين عاقبة ما أقول ، والسلام (١).

كلمة أمّ سلمة لجمع من الرجال :

ولما رأت أمّ سلمة أن عائشة لا تقلع عن الخروج على علي عليه‌السلام بعثت إلى جمع من المهاجرين والأنصار لم يكونوا حجّاجا وإنما أتوا إلى مكة بعد مقتل عثمان ، فأجابوها ، فقالت لهم :

لقد قتل عثمان بحضرتكم ، وكان هذان الرجلان (طلحة والزبير) يسعيان عليه كما رأيتم ، فلما قضى الله أمره بايعا عليا ، وقد خرجا الآن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان ، ويريدان أن يخرجا حبيسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عهد إلى جميع نسائه عهدا واحدا : أن يقرن في بيوتهن ، فإن كان مع عائشة عهد سوى ذلك فلتخرجه إلينا نعرفه.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٣٨ وبهامشه مصادر اخرى.

٤٩٩

ولا والله ـ أيها القوم ـ ما بايعتم أنتم ولا غيركم عليا مخافة منه (بل) ولا بايعتموه إلّا على علم منكم بأنه خير هذه الامة وأحقّهم بهذا الأمر قديما وحديثا! وو الله ما أستطيع أن أزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف يوم قبض خيرا ولا أحقّ بهذا الأمر منه! فاتقوا الله عباد الله ، فإنا نأمركم بتقوى الله والاعتصام بحبله ، والله وليّنا ووليكم.

قال الراوي : فتقاعد كثير منهم عند سماعهم هذا القول من أمّ سلمة (١).

وكتبت إلى علي عليه‌السلام :

وكتبت إلى علي عليه‌السلام مع ابنها عمر بن أبي سلمة : أما بعد ، فإن طلحة والزبير وأشياعهم أشياع الضلالة يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة ومعهم عبد الله بن عامر بن كريز ، ويذكرون : أن عثمان قتل مظلوما وأنهم يطلبون بدمه ، والله كافيهم بحوله وقوّته.

ولو لا ما نهانا الله عنه من الخروج ، وأمرنا به من لزوم البيوت ، لم أدع الخروج إليك والنصرة لك ، ولكني باعثة نحوك ابني وعدل نفسي عمر بن أبي سلمة ، فاستوص به يا أمير المؤمنين خيرا.

فقدم عمر بن أبي سلمة بكتابها إليه وأقام معه (٢).

مشاورة الإمام لأصحابه :

فلما جاءه الكتاب بخبر القوم ، دعا عمّار بن ياسر وسهل بن حنيف وعبد الله

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، وانظر الفتوح لابن الأعثم ١ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢١٩ عن كتاب الجمل للكلبي. وكان والي علي عليه‌السلام يومئذ على مكة أبا قتادة الحارث بن النعمان الأنصاري ولعله كان بعلمه والتنسيق معه.

٥٠٠