موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

وجاء قولها لأبي بكر : إن فدك وهبها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذكر التوريث ونفيه في خبر المعتزلي عن الجوهري عن ابن عائشة ، وعلى مثله اعتمد القاضي المعتزلي إذ قال : بل كانت طلبت الإرث قبل ذلك فلما سمعت الخبر من أبي بكر ادّعت النحلة (١).

فردّه المرتضى قال : إن الأمر في أن الكلام في النحلة كان متقدما هو الظاهر ، والروايات كلها به واردة. وكيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث ثم تدّعيه بعينه نحلة؟!

أو ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه اختيارا؟! وكيف يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها والنحلة تنفرد بها! (بل) طالبت ابتداء بالنحلة وهو الوجه الذي تستحق به فدكا ، فلما دفعت عنه طالبت بالميراث ضرورة ؛ لأن للمدفوع عن حقه أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه وسبب (٢).

ثم طالبت بالميراث :

مرّ آنفا عن المرتضى قدس‌سره استظهاره أن الكلام في النحلة كان هو المتقدم «والروايات كلها وردت به» وإن كنّا نحن لم نجد نصّ خبر بهذا العنوان.

وأشهر خبر بطلبها بالميراث خبر خطبتها الكبرى في مسجد أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أبي بكر في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، وهي في لمّة من حفدتها ونساء قومها وقد ضرب بينها وبينهم بملاءة بيضاء.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٦٩ عن الشافي عن المغني عن أبي علي ، وليس في تلخيص الشافي.

(٢) عن الشافي في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٧٧ ولم يورده في تلخيص الشافي. وذكر مثله في الذخيرة : ٤٧٨ وأحال فيه على الشافي.

٦١

طرق خطبتها :

رواها المرتضى في «الشافي» بسنده عن المرزباني عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن صالح عن عروة عن عائشة (١). وبطريق ثان عن أبي العيناء عن ابن عائشة (٢) وبدأ به وهو أقصر من خبر عائشة ثم أتمّه من خبر عائشة (٣).

وابن عائشة هو إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن الحنفية ، صلبه المأمون لما دخل بغداد في (٢٠٣ ه‍) (٤) والراوي عنه أبو العيناء هو محمد بن قاسم بن خلّاد من موالي بني هاشم ، رحل من الأهواز إلى البصرة فقرأ الأدب والنوادر على الأصمعي وأبي عبيدة ، وفقد عينه بعد الأربعين فقيل له أبو العيناء ، وتوفي في البصرة (٢٨٣ ه‍) (٥) فهل أدرك ابن عائشة راويا عنه؟

ولعلّه لهذا اتّهم بأن الخطبة من كلامه ولأنه منسّق البلاغة (٦).

__________________

(١) تلخيص الشافي ٣ : ١٣٩ و ١٤٠. ونقل هذا الطريق السيد ابن طاوس في الطرائف عن كتاب الفائق لابن شقروة عن كتاب المناقب لابن مردويه عن اسحاق بن عبد الله عن أحمد ابن عبيد النحوي عن محمد بن زياد الزيادي عن شرفي بن قطامي عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة. الطرائف في مذاهب الطوائف ١ : ٣٧٩ ، ٣٨١ ومنه يعلم سقوط الزهري بين صالح وعروة.

(٢) وهو من طرق الطبري الإمامي في دلائل الإمامة : ٣٠ : عن القاضي إبراهيم بن مخلّد الدقاق عن خديجة بنت محمد عن أبيها محمد بن أحمد عن أبيه أحمد بن أبي الثلج البغدادي عن محمد بن أحمد الصفواني باسناده عن ابن عائشة .. ومنه يعلم أن في سند السيد رفعا.

(٣) تلخيص الشافي ٣ : ١٤٢ و ١٤٣.

(٤) سفينة البحار ٦ : ٥٨٨.

(٥) سفينة البحار ٦ : ٥٩٦ ، وهدية الأحباب : ٣٧. وفي معجم الأدباء ١٨ : ٢٨٦.

(٦) بلاغات النساء : ١٢.

٦٢

وكأنّ أحمد بن طيفور الخراساني البغدادي (٢٠٤ ـ ٢٨٠ ه‍) التقى أولا في الرافقة (١) برجل مصري يدعى جعفر بن محمد فروى له الخطبة عن أبيه محمد عن موسى بن عيسى عن عبد الله بن يونس عن (حفص) الأحمر عن زيد بن علي الشهيد (١٢١ ه‍) عن عمّته زينب اخت الحسين عن امّها الزهراء عليهم‌السلام (٢) فذكر له قوم أن أبا العيناء ادّعى هذا الكلام (٣).

والتقى بعد ذلك بحفيد زيد أبي الحسين زيد بن علي بن حسين بن زيد الشهيد الذي روى عنه طريقة وعبّر عنه بالعلوي (٤) فقال : ذكرت له كلام فاطمة عليها‌السلام عند منع أبي بكر إياها فدكا وقلت له : إنّ هؤلاء ، يزعمون أنه مصنوع ، وأنه من كلام أبي العيناء ؛ لأن الكلام منسوق (منسّق) البلاغة؟!

فقال لي : رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أبناءهم. ثم ذكر له طريقه فقال : وقد حدّثنيه أبي (علي بن الحسين) عن جدي (الحسين بن زيد) يبلغ به فاطمة يعني : عن أبيه زيد الشهيد عن عمّته زينب عن أمها الزهراء ، قال ورواه مشايخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جدّ أبي العيناء (خلّاد بن ياسر).

ثم ذكر له طريقا آخر قال : وقد حدث به الحسين بن علوان ، عن عطية العوفي الكوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن يذكره عن أبيه (الحسن المثنى عن أبيه الحسن المجتبى عن أمه الزهراء).

__________________

(١) محلة من الرقة بالشام كما في مراصد الاطلاع ٢ : ٥٩٥ ، ومعجم البلدان ٣ : ١٥.

(٢) بلاغات النساء : ١٤.

(٣) بلاغات النساء : ١٨.

(٤) بلاغات النساء : ١٧٥ ، وترجم له في قاموس الرجال ٤ : ٥٦٢ برقم ٣٠٥٤.

٦٣

ثم قال أبو الحسين : وكيف يذكر هذا من كلام فاطمة فينكرونه وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ، ويتحققونه؟! لو لا عداوتهم لنا أهل البيت (١).

فحصل بفضل حفيد زيد الشهيد على طريق ثان عن زيد الشهيد عن زينب ، وثالث عن الحسين بن علوان فتأكّد منه مرة أخرى عن عبد الله بن أحمد العبدي عن الحسين بن علوان ... (٢). نقل عنه طرقه هذه الأربعة المرتضى في «الشافي» ثم قال :

وقد روي هذا الكلام من طرق مختلفة ووجوه كثيرة على هذا الوجه ، فمن أراده أخذه من مواضعه (٣).

ونقل كل هذا المعتزلي في «شرح نهج البلاغة» (٤) إلّا أنه لم يعوّل عليه ، بل قال : ما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم ، لا من كتب الشيعة ورجالهم ؛ لأنّا مشترطون على أنفسنا أن لا نحفل بذلك! ثم قال : وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري (م ٣٢٣ ه‍) في «السقيفة وفدك» وأبو بكر الجوهري هذا عالم محدّث كثير الأدب ثقة ورع ، أثنى عليه المحدّثون ورووا عنه مصنفاته (٥) ثم ذكر له طرقا ثلاثة :

١ ـ أحمد بن محمد بن يزيد (مولى بني هاشم) عن عبد الله بن محمد عن أبيه محمد بن سليمان ، عن عبد الله المحض عن أبيه الحسن المثنى عن أبيه الحسن المجتبى عن أمه فاطمة عليهم‌السلام.

__________________

(١) بلاغات النساء : ١٢.

(٢) بلاغات النساء : ١٨.

(٣) تلخيص الشافي ٣ : ١٤٥.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٤٩ ـ ٢٥٣.

(٥) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٠.

٦٤

٢ ـ محمد بن زكريا الغلابي عن جعفر بن محمد الكندي عن أبيه محمد بن عمارة الكندي عن الحسين بن صالح عن رجلين هاشميين عن زينب بنت علي عن أمها الزهراء عليهم‌السلام.

٣ ـ عثمان بن عمران العجيفي عن نائل بن نجيح عن عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليهم‌السلام ، ثم أورد الخطبة (١). فلم يلتق في أي طريق من طرقه الثلاثة بابن طيفور ولا بأبي العيناء ولا بابن عائشة.

والشيخ الصدوق نقل مفتتح الخطبة في ذكر علل الشرائع في باب علل الشرائع في كتاب «علل الشرائع» بثلاثة طرق قال في ثانيها : عن عبد الله بن محمد العلوي عن رجال من أهل بيته عن زينب بنت علي عن أمها الزهراء عليهم‌السلام .. وفي طريقين قبله وبعده سمّى من الرجال أحمد بن محمد بن جابر وزيد بن علي عن عمّته زينب أيضا (٢) ولم يلتق أيضا في أي طريق من طرقه الثلاثة بابن طيفور ولا بأبي العيناء ولا بابن عائشة.

ومما يبعد دعوى بل اتهام أبي العيناء بخطبة الزهراء عليها‌السلام أنه قد سبقه بها الحافظ المعروف عمرو بن بحر بن محبوب الليثي (مولاهم المتوفى ٢٥٥ ه‍) الناشئ بالبصرة العثمانية يومئذ بفعل (الجمل) والذي قال عنه المسعودي في مروجه :

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١١ ، وكذلك الإربلي في كشف الغمة ٢ : ١٠٦ قال : خطبة فاطمة عليها‌السلام ذكرها المؤالف والمخالف ونقلتها من كتاب السقيفة تأليف أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلفها المذكور في ربيع الآخر سنة (٣٢٢ ه‍) عن عمر بن شبّة عن رجاله من عدة طرق.

(٢) علل الشرائع ١ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

٦٥

صنّف كتابا ترجمه (أي عنونه) بكتاب (العثمانية) استقصى فيه الحجاج والأدلة والبراهين فيما تصوّره من عقله ، يخلّ فيه بفضائل علي عليه‌السلام ومناقبه ، طلبا لإماتة الحق ومضادّة لأهله (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١).

قال : ثم صنّف كتابا آخر ترجمه بكتاب (مسائل العثمانية) يذكر فيه ما فاته ذكره من نقضه فضائل أمير المؤمنين عليّ ومناقبه (٢).

وقال : ثم لم يرض بهذا الكتاب حتى أعقبه بتصنيف كتاب آخر رأيته مترجما بكتاب «إمامة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان والانتصار له من علي بن أبي طالب وشيعته الرافضة» يذكر فيه رجال المروانية وإمامتهم وأقوال شيعتهم فيهم ويؤيد فيه إمامتهم (٣).

هذا وقد كان مولده ونشأته بعد سقوطهم وميلاد دولة العباسيين وشيعتهم الراوندية الذين وصفهم المسعودي بأنهم كانوا يقولون بإمامة العباس بعد رسول الله ، فتبرّؤوا من أبي بكر وعمر ، وإنما أجازوا بيعة علي عليه‌السلام بإجازة العباس لها

__________________

(١) الصف : ٨.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، هذا وهو من غلمان النظّام البصري رأس معتزلة البصرة ، ويظهر أن هذا هو الذي حمل شيخ معتزلة بغداد محمد بن عبد الله الاسكافي المتوفى في بغداد سنة وفاة أحمد بن حنبل (٢٤٠ ه‍) ، أي قبل الجاحظ بخمسة عشر عاما ، وهو ممن يذهب إلى تفضيل علي عليه‌السلام على الخلفاء السابقين ولكنه يجوّز إمامة المفضول على الأفضل ، حمله فعل الجاحظ وقوله على نقضه بكتابه «نقض العثمانية». كما ذكره المسعودي أيضا في مروج الذهب ٣ : ٢٣٨. وذلك لكي يعزل هذا المعتزلي البصري عن معتزلة بغداد. وكذلك في كتابه الآخر : المعيار والموازنة ، الذي حققه ونشره المحقق المحمودي مشكورا.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٦٦

بعد النبيّ وكما قال داود بن علي العبّاسي يوم بيعتهم بالكوفة : لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله إلّا علي بن أبي طالب (١) فلعلّ هؤلاء حملوا الجاحظ أن يكفّر عما كتب قبل ذلك بما يصنّفه لهم فيما يدّعون.

فصنّف لهم الكتاب المترجم كما يقول المسعودي أيضا بكتاب «إمامة ولد العباس» يحتج فيه لهذا المذهب (الراوندي) ويذكر فيه فعل أبي بكر في فدك وغيرها ، وقصته مع فاطمة «رضي الله عنها» ومطالبتها بإرثها من أبيها واستشهادها ببعلها وابنيها وأم أيمن ، وما جرى بينها وبين أبي بكر من المخاطبة وما كثر بينهم من المنازعة وما قالت وما قيل لها عن أبيها أنه قال : «نحن معاشر الأنبياء نرث ولا نورث» وما احتجت به من قوله عزوجل : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ)(٢) على أن النبوة لا تورث فلم يبق إلّا التوارث (المالي) وغير ذلك من الخطاب. ثم قال : والجاحظ لم يكن هذا مذهبه ولا كان يعتقده ولكن فعل ذلك تماجنا وتطرّبا (٣) بل لعلّه تهرّبا عمّا تجناه سابقا. ولكن هل كان ذلك نقلا عن أبي العيناء!

ولئن كان المعتزلي (م ٦٥٦ ه‍) والإربلي (م ٦٩٣ ه‍) نقلا عن طرق الجوهري في كتابه فالطبري الإمامي (م ق ٤ ه‍) نقل طريقه عن زينب عليها‌السلام بثلاث وسائط عن أحمد بن أبي الثلج البغدادي عن الصفواني عن الجوهري ، ثم نقل طريقيه عن الحسن المثنى وعن الباقر عليه‌السلام بواسطة الصفواني ، عن من روى عنهم الجوهري رأسا وبلا واسطة. وعن الصفواني أيضا عن ابن عائشة الذي روى عنه المرتضى. وعن الصفواني أيضا عن هشام الكلبي عن أبيه ، وعن عوانة بن الحكم. وزاد

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٢) النمل : ١٦.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٣٧.

٦٧

على طريق الجوهري عن الباقر عليه‌السلام طريقين آخرين بواسطة أحمد بن محمد بن عقدة الهمداني الزيدي ، وعنه أيضا عن البزنطي عن السكوني عن أبان البجلي عن أبان بن تغلب الربعي عن عكرمة عن ابن عباس (١).

الخطبة الأولى :

روى الطبري الإمامي في «دلائل الامامة» بأسانيده التسعة قال :

لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة عليها‌السلام من فدك وصرف عاملها عنها لاثت خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ أذيالها ما تخرم من مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى دخلت على أبي بكر وقد حفل حوله المهاجرون والأنصار فنيطت دونها ملاءة فأنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء ثم أمهلت حتى إذا هدأت فورتهم وسكنت روعتهم افتتحت الكلام فقالت :

ابتدئ بالحمد لمن هو أولى بالحمد ، والطول والمجد : الحمد لله على ما أنعم ، وله الشكر على ما ألهم ، والثناء على ما قدّم ، من عموم نعم ابتدأها ، وسبوغ آلاء

__________________

(١) دلائل الإمامة للطبري الإمامي : ٣٠ ـ ٣١ ، وتصحّف اسم الجوهري فيه إلى : أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري ، واكتشفناه من رواته. والطبري الإمامي هذا له كتابان : المسترشد ودلائل الإمامة ولكن المرحوم المجلسي قال عنه في بحار الأنوار ١ : ٢٠ : «دلائل الإمامة ... ويسمى بالمسترشد» وتصورهما واحدا فحيث حصل على «المسترشد» لم يبحث عن «دلائل الإمامة» فلم يرو عنه الخطبة وطرقها. وبقي الكتاب مفقودا حتى على مثل الميرزا النوري ، حتى توفّق لنسخة منه السيد محمد بن الفقيه السيد كاظم اليزدي ، ثم في مكتبة السيد الاصفهاني فاستنسخ الكتاب منها الشيخ شير محمد الهمداني وطبع ونشر ، ثم نقلت هذه المجموعة إلى مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام كما في مقدمة الطبعة النجفية : ه.

٦٨

أسداها ، وإحسان منن والاها ، جمّ عن الإحصاء عددها ، ونأى عن المجاراة أمدها ، وتفاوت عن الإدراك أبدها. استدعى الشكور بإفضالها ، واستحمد الخلائق بإجزالها ، وأمر بالندب إلى أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلّا الله كلمة جعل الإخلاص تأويلها ، وضمّن القلوب موصولها ، وأبان في الفكر معقولها ، الممتنع عن الأبصار رؤيته ، وعن الألسن صفته ، وعن الأوهام الإحاطة به.

ابتدع الأشياء لا عن شيء كان قبله ، وأنشأها بلا احتذاء مثله ، وضعها لغير فائدة زادته إظهارا لقدرته ، وتعبدا لبريّته ، وإعزازا لأهل دعوته ، ثم جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادة لعباده عن نقمته ، وحياشة لهم إلى جنّته.

وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله ، اختاره قبل أن يبتعثه ، وسماه قبل أن يستنخبه ، إذ الخلائق في الغيب مكنونة ، وبسد الأوهام مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من الله في غامض الامور وإحاطة من وراء حادثة الدهور ، ومعرفة بموقع المقدور ، ابتعثه الله إتماما لعلمه ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، فرأى الامم فرقا في أديانها ، عكّفا على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بمحمد ظلمها ، وفرّج عن القلوب شبهها ؛ وجلا عن الأبصار غممها ، وعن الأنفس عمهها (*).

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة ورحمة واختيار ، ورغبة لمحمد عن تعب هذه الدار ، موضوعا عنه أعباء الأوزار ، محفوفا بالملائكة الأبرار ، ورضوان الرب الغفار ، ومجاورة الملك الجبار ، أمينه على الوحي ، وصفيه ورضيه ، وخيرته من خلقه ونجيه ، فعليه الصلاة والسلام ورحمة الله وبركاته.

__________________

(*) العمة : هو العمى إلّا أنه عمى البصيرة لا البصر.

٦٩

ثم التفتت إلى أهل المسجد فقالت للمهاجرين والأنصار :

وأنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وامناء الله على أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الامم ؛ زعيم الله فيكم ، وعهد قدمه إليكم ، وبقية استخلفها عليكم ، كتاب الله بيّنة بصائره وآيه ، منكشفة سرائره وبرهانه ، متجلية ظواهره ، مديم للبريّة استماعه ، قائد إلى الرضوان اتّباعه ، مؤدّ إلى النجاة أشياعه ، فيه تبيان حجج الله المنيرة ومواعظه المكرّرة ، وعزائمه المفسّرة ؛ ومحارمه المحذّرة ، وأحكامه الكافية ، وبيّناته الجالية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، ورحمته المرجوّة ، وشرائعه المكتوبة.

ففرض الله عليكم الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة تنزيها لكم من الكبر ، والزكاة تزييدا في الرزق ، والصيام إثباتا للإخلاص والحج تشييدا للدين ، والعدل تسكينا للقلوب وتمكينا للدين ، وطاعتنا نظاما للملة ، وإمامتنا لمّا للفرقة ، والجهاد عزا للإسلام ، والصبر معونة على الاستجابة ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، والنهي عن المنكر تنزيها للدين ، والبر بالوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منماة للعدد وزيادة في العمر ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالعهود تعرضا للمغفرة ، ووفاء المكيال والميزان تغييرا للبخس والتطفيف واجتناب قذف المحصنة حجابا عن اللعنة ، والتناهي عن شرب الخمور تنزيها عن الرجس ، ومجانبة السرقة إيجابا للعفة ، وأكل مال اليتيم والاستيثار به إجارة من الظلم ، والنهي عن الزنا تحصنا عن المقت ، والعدل في الأحكام إيناسا للرعية ، وترك الجور في الحكم إثباتا للوعيد ، والنهي عن الشرك إخلاصا له تعالى بالربوبية.

فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلّا وانتم مسلمون ، ولا تتولوا مدبرين وأطيعوه فيما أمركم ونهاكم فإنما يخشى الله من عباده العلماء ، فأحمدوا الله الذي بنوره وعظمته ابتغى من في السموات ومن في الأرض إليه الوسيلة ، فنحن وسيلته في خلقه ، ونحن آل رسوله ، ونحن حجة غيبه ، وورثة أنبيائه.

٧٠

ثم قالت عليها‌السلام :

أنا فاطمة وأبي محمد أقولها عودا على بدء ، وما أقولها إذ أقول سرفا ولا شططا ، (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١) ، إن تعزوه تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، بلّغ النذارة ، صادعا بالرسالة ، ناكبا عن سنن المشركين ، ضاربا لأثباجهم ، آخذا بأكظامهم ، داعيا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يجذّ الأصنام ، وينكت الهام حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، وحتى تفرّى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وهدأت فورة الكفر ، وخرست شقاشق الشيطان ، وفهتم بكلمة الإخلاص (مع النفر البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) (٢) وكنتم على شفا حفرة من النّار تعبدون الأصنام ؛ وتستقسمون بالأزلام ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الاقدام ، تشربون الرنق ، وتقتاتون القد ، أذلة خاسئين ؛ تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم (بأبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعد اللتيا والتي ، وبعد ما مني ببهم الرجال ، وذؤبان العرب ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، وكلما نجم قرن الضلالة ، أو فغرت فاغرة للمشركين قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها باخمصه ، ويخمد لهبها بحدّه ، مكدودا في ذات الله ، قريبا من رسول الله ، سيدا في أولياء الله ، وأنتم في بلهنية آمنون وادعون فرحون ، تتوكّفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال على الأعقاب حتى أقام الله (بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) عمود الدين.

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) ما بين القوسين من كشف الغمة ١ : ١١١.

٧١

ولما اختار له الله عزوجل دار أنبيائه ، ومأوى أصفيائه ، ظهرت حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، وأخلق ثوبه ، ونحل عظمه ، وأودت رمّته ، وظهر نابغ ونبغ خامل. ونطق كاظم وهدر فنيق الباطل ، يخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، (فوجدكم لدعائه مستجيبين ، وللغرّة ملاحظين واستنهضكم فوجدكم خفافا وأحمشكم فوجدكم غضابا فوسمتم) (١) غير إبلكم ، وأوردتموهم غير شربكم ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، فهيهات منكم وأين بكم وأنّى تؤفكون ، وكتاب الله بين أظهركم ، زواجره لائحة ، وأوامره لامحة ، ودلائله واضحة ، وأعلامه بيّنة ، وقد خالفتموه رغبة عنه ، فبئس للظالمين بدلا ، (ثم لم تبرحوا) إلّا ريث أن تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، تسرّون حسوا في ارتغاء ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى.

(ثم انتم تزعمون) (٢) أن لا إرث لنا (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٣) ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٤).

إيها معشر المسلمين أأبتزّ إرث أبي يا ابن أبي قحافة أبا لله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا ، جرأة منكم على قطيعة الرحم ونكث العهد ، فعلى عمد تركتم كتاب الله بين أظهركم ونبذتموه إذ يقول : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ)(٥) ، وفيما اقتص من خبر يحيى وزكريا إذ يقول : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي

__________________

(١) ما بين القوسين من كشف الغمة ١ : ١١٣.

(٢) هذه والجملة السابقة من كشف الغمة ١ : ١١٤.

(٣) المائدة : ٥٠.

(٤) آل عمران : ٨٥.

(٥) النمل : ١٦.

٧٢

وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)(١) وقال عزوجل : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(٢) ، وقال تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(٣).

وزعمتم أن لاحظ لي ولا إرث من أبي أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها! أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم بخصوص القرآن وعمومه أعلم ممن جاء به فدونكموها مرحولة مزمومة ، تلقاكم يوم حشركم ، فنعم الحكم الله ، ونعم الخصم (محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، والموعد القيامة ، وعما قليل تؤفكون وعند الساعة ما تخسرون ، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم.

ثم التفتت إلى قبر أبيها وتمثلت بأبيات صفيّة بنت عبد المطلب (٤) :

__________________

(١) مريم : ٥ ـ ٦.

(٢) النساء : ١١.

(٣) البقرة : ١٨٠.

(٤) في الطرائف لابن طاوس ١ : ٣٧٩ أنها تمثلت بقول صفية بنت اثاثة وسماها ابن أبي الحديد في شرح النهج ١٦ : ٢١٢ والإربلي في كشف الغمة ١ : ١١٥ هند بنت اثاثة وفي ٦ : ٤٣ من شرح النهج لابن أبي الحديد قال : لما تخلف علي عن البيعة واشتد أبو بكر وعمر خرجت أم مسطح بن اثاثة ووقفت على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونادت يا رسول الله :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب

وقد اختلفوا في عدد الأبيات ففي الشافي : ٢٣١ وشرح النهج للمعتزلي : أنها ثلاثة وفي الطرائف أربعة وفي بلاغات النساء : بيتان ، وفي أمالي الشيخ المفيد واحتجاج الطبرسي ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٤١٠ : ثمانية. وفي اللمعة البيضاء شرح خطبة الزهراء : ٣٥٦ : أربعة عشر بيتا.

٧٣

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

واجتثّ أهلك مذ غيّبت واغتصبوا

أبدت رجال لنا فحوى صدورهم

لما نأيت وحالت بيننا الكثب

تهجّمتنا رجال واستخفّ بنا

دهر فقد أدركوا منا الذي طلبوا

قد كنت للخلق نورا يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزّة الكتب

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغاب عنا فكل الخير محتجب

(فكثر البكاء من الحاضرين).

جواب أبي بكر لها :

فقال أبو بكر : صدقت يا بنت رسول الله لقد كان أبوك بالمؤمنين رءوفا رحيما وعلى الكافرين عذابا أليما ، وكان والله إذا نسبناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخا ابن عمّك دون الرجال ، آثره على كل حميم وساعده على الأمر العظيم ، وانتم عترة نبي الله الطيبون ، وخيرته المنتجبون ، على طريق الجنة أدلتنا ، وأبواب الخير لسالكينا ، فأما ما سألت فلك ما جعله أبوك ، وأنا مصدّق قولك ، لا أظلم حقّك ، وأما ما ذكرت من الميراث فإن رسول الله قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث.

ردها على أبي بكر :

فقالت صلوات الله عليها : يا سبحان الله ما كان رسول الله لكتاب الله مخالفا ولا عن حكمه صادفا فلقد كان يلتقط أثره ، ويقتفي سيره أفتجمعون إلى الظلامة الشنعاء ، والغلبة الدهياء ، اعتلالا بالكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإضافة الحيف إليه ، ولا عجب أن كان ذلك منكم ، وفي حياته ما بغيتم له الغوائل ، وترقّبتم به الدوائر ، هذا كتاب الله حكم عدل ، وقائل فصل ، عن بعض أنبيائه

٧٤

إذ قال : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(١) ، وفصّل في بريته الميراث مما فرض من حظ الذكور والإناث فلم سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون قد زعمت أن النبوة لا تورث وإنما يورث ما دونها فما لي امنع إرث أبي أأنزل الله في كتابه : إلّا فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فدلّني عليه أقنع به.

جواب أبي بكر :

فقال أبو بكر لها : يا بنت رسول الله أنت عين الحجة ومنطق الحكمة لا ادلي بجوابك ، ولا أدفعك عن صوابك ، لكن المسلمين بيني وبينك فهم قلدوني ما تقلدت ، وآتوني ما أخذت وما تركت.

ردّها عليه :

فقالت عليها‌السلام : أتجمعون إلى المقبل بالباطل والفعل الخاسر؟ لبئس ما اعتاض المسلمون ، وما يسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين ، أما والله لتجدنّ محملها ثقيلا وعبأها وبيلا إذا كشف لكم الغطاء فحينئذ لات حين مناص ، وبدا لكم من الله ما كنتم تحذرون.

مع الأنصار :

ثم التفتت إلى الأنصار وقالت : معشر النقيبة ، وحضنة الإسلام ما هذه الغميزة في حقي ؛ والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله أمر بحفظ المرء في ولده؟! فسرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة ، أتقولون : مات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فخطب جليل استوسع وهنه ، واستهتر فتقه (٢) وفقد راتقه ، واظلمت الأرض لغيبته ، واكتأب

__________________

(١) مريم : ٦.

(٢) استهتر : اتسع.

٧٥

خيرة الله لمصيبته ، وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، واضيع الحريم ، وازيلت الحرمة بموت (محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله هتافا هتافا ولقبل ما خلت به أنبياء الله ورسله (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(١).

أبني قيلة أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى ومسمع ، تلبسكم الدعوة ، ويشملكم الجبن ، وفيكم العدة والعدد ، ولكم الدار والخيرة ، وأنتم أنجبته التي امتحن ، ونحلته التي انتحل ، وخيرته التي انتخبت لنا أهل البيت ، فنابذتم فينا العرب ، وناهضتم الأمم ، وكافحتم البهم ، لا نبرح ولا تبرحون ، ونأمركم فتأتمرون ، حتى دارت بنا وبكم رحى الإسلام ودرّ حلب البلاد ، وخضعت بغوة الشرك ، وهدأت روعة الهرج وبلغت نار الحرب ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى حرتم بعد البيان ونكصتم بعد الإقدام عن قوم (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢).

ألا لا أرى والله إلّا أن أخلدتم إلى الخفض وكنتم إلى الدعة فمججتم الذي استرعيتم (ولفظتم الذي سوغتم) ف (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ* أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)(٣).

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) التوبة : ١٣.

(٣) إبراهيم : ٨ ـ ٩.

٧٦

ألا وقد قلت الذي قلت على معرفة بالخذلة التي خامرتكم ، ولكنها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وبثة الصدر ، ومعذرة الحجة ، فدونكم فاحتقبوها دبرة الظهر (ناقبة الخف) باقية العار موسومة بشنار الأبد ، موصولة بنار الله المؤصدة ، فبعين الله ما تفعلون ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(١) ، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا إنا عاملون ، وانتظروا إنا منتظرون. (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)(٢) ، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(٣)(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)(٤) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٥).

ولما انصرفت من المجلس تبعها رافع بن رفاعة الزرقي الخزرجي (٦) وقال لها : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن تكلم في هذا الأمر وذكر للناس قبل أن يجري هذا العقد ما عدلنا به أحدا (٧).

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.

(٢) الرعد : ٤٢.

(٣) التوبة : ١٠٥.

(٤) الاسراء : ١٣.

(٥) الزلزلة : ٧ و٨.

(٦) انظر ترجمته في قاموس الرجال ٤ : ٣٧٧ برقم ٢٨٧٠ وفيه عن الاستيعاب عنه كلام ينافي مقامه وكلامه هنا ، ولكنه هو الذي هدم بسر بن ارطاة داره بالمدينة سنة (٤٠ ه‍) كما في الغارات للثقفي ٢ : ٦٠٣ ـ ٦٠٤.

(٧) هذا يتغافل عن قيام أمير المؤمنين بالدعوة وتعريفهم أحقيته بالأمر وإن خطبته الطويلة المعروفة بالوسيلة المروية في روضة الكافي وتحف العقول : ٧٢ وفي هامش مرآة العقول ٤ : ٢٥٣ ، وفي الوافي ٤ : ٤ في أول الروضة ، قالها في المسجد بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أيام وفيها التذكير بيوم الغدير وظلم المتوثبين على هذا الأمر ، وقد مرّت.

٧٧

فقالت صلوات الله عليها : إليك عني فما جعل الله لأحد بعد غدير خم من حجة ولا عذر.

ولم ير ذلك اليوم أكثر باك ولا باكية وارتجت المدينة وهاج الناس وارتفعت الأصوات.

فقال أبو بكر لعمر : تربت يداك ما كان عليك لو تركتني فربما فات الخرق ألم يكن ذلك بنا أحق؟

فقال عمر : قد كان في ذلك تضعيف سلطانك وتوهين كافتك وما أشفقت إلّا عليك.

فقال له : ويلك كيف بابنة محمد وقد علم الناس ما تدعو إليه وما نحن من الغدر عليه؟

قال عمر : هل هي إلّا غمرة انجلت وساعة انقضت وكأن ما قد كان لم يكن أقم الصلاة وآت الزكاة وأمر بالمعروف ووفّر الفيء ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، يمحو الله ما يشاء ، ذنب واحد في حسنات كثيرة ، قلدني ما يكون من ذلك.

فضرب أبو بكر بيده على كتف عمر وقال : رب كربة فرجتها.

تعريض أبي بكر بعلي عليه‌السلام :

ثم إن أبا بكر نادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة؟! لئن كانت هذه الأماني على عهد رسول الله فمن سمع فليقل ومن شهد فليتكلم ، إنما ثعالة شهيده ذنبه ، مرب (مقيم) لكل فتنة هو الذي يقول : كرّوها جذعة بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة ويستنصرون بالنساء كأم طحال أحب أهلها إليها البغي! ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت ، ولو قلت لبحت ، إني ساكت ما تركت! وقد بلغني يا معشر الأنصار

٧٨

مقالة سفهائكم وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ألا اني لست باسطا يدا ولا لسانا على من لم يستحق ذلك منا (١) ومع ذلك فاغدوا على أعطياتكم (٢).

جواب أم سلمة له :

فقالت له أم سلمة : ألمثل فاطمة يقال هذا؟! وهي الحوراء بين الإنس ، والانس للنفس ، ربيت في حجور أمهات الأنبياء ، وتداولتها أيدي الملائكة ، ونمت في المغارس الطاهرات ، نشأت خير منشأ وربيت خير مربّى ، أتزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حرم عليها ميراثه ولم يعلمها؟! وقد قال الله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(٣) أفأنذرها وجاءت تطلبه وهي خيرة النسوان ، وأم سادة الشبان ، وعديلة مريم ابنة عمران ، وحليلة ليث الأقران ، تمت بأبيها رسالات ربه ، فو الله لقد كان يشفق عليها من الحرّ والقرّ فيوسّدها يمينه ويدثّرها بشماله ، رويدا فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمرأى لأعينكم وعلى الله تردون ، فواها لكم وسوف تعلمون ، أنسيتم قول رسول الله «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقوله : «إني تارك فيكم الثقلين» ما أسرع ما أحدثتم وأعجل ما نكثتم.

فحرمت أم سلمة عطاءها تلك السنة (٤).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٤ ، عن الجوهري البصري وفيه شرحه والتعليق عليه.

(٢) الزيادة من دلائل الإمامة : ٣٩.

(٣) الشعراء : ٢١٤.

(٤) دلائل الإمامة لابن جرير : ٣٩ ، والدر النظيم ٢ : ٢٣.

٧٩

الزهراء مع أمير المؤمنين عليه‌السلام :

ولما رجعت فاطمة عليها‌السلام إلى المنزل وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يتوقع رجوعها إليه فقالت له :

يا ابن أبي طالب اشتملت مشيمة الجنين وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل فخاتك (١) ريش الأعزل هذا ابن أبي قحافة قد ابتزني نحيلة أبي وبليغة ابني والله لقد جدّ في ظلامتي وألدّ في خصامي حتى منعتني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها وغضّت الجماعة دوني طرفها ، فلا مانع ولا دافع خرجت والله كاظمة وعدت راغمة ، أضرعت خدك يوم أضعت حدك ، افترشت التراب ، وافترست الذئاب ، ما كففت قائلا ، ولا أغنيت طائلا ليتني مت قبل منيتي ، ودوني ذلتي ، عذيري الله منك عاديا ولي حاميا ويلاي في كل شارق ، مات العمد ووهن العضد شكواي إلى ربي وعدواي إلى أبي ، اللهمّ أنت أشد قوة وحولا وأحد بأسا وتنكيلا.

فقال لها أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا ويل لك بل الويل لشانئيك نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة وبقية النبوة فو الله ما ونيت عن ديني ولا أخطأت مقدوري فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون وكفيلك مأمون وما أعدّ لك خير مما قطع عنك فاحتسبي الله فقالت عليها‌السلام حسبي الله ونعم الوكيل (٢).

__________________

(١) يقال : خات الرجل : نقض عهده.

(٢) أمالي الطوسي : ٦٨٣ ، الحديث ١٤٥٥ ، بسنده عن أبان عن الصادق عليه‌السلام وفي كشف الغمة ٢ : ١٠٦ ، عن خط السيد المرتضى وليس في الشافي ولا تلخيصه ولا مناقب الحلبي وفي بحار الأنوار ٢٩ : ١٥٧ ، عن الأربلي و ١٦٢ عن الطوسي ، ثم ذكر الإشكال فيه على جلالتهما وعصمتهما وأجاب عنه.

٨٠