موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

خلّوا قريشا ـ إذ أبوا إلّا الخروج عن دار الهجرة وراموا فراق أهل العلم ، للإمرة ـ ترتق فتقها وتشعب صدعها ، فإن فعلت فلنفسها فعلت ، وإذا أبت فعليها جنت ، سمنها في أديمها!

استنصحوني ولا تستغشّوني يسلم لكم دينكم ودنياكم ، ويشقى بها من جناها (١)!

ويقول : أيها الناس ؛ هذه فتنة عمياء صمّاء تطأ من خطامها ، النائم فيها خير من القاعد ، والقاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، والساعي خير من الراكب! إنها فتنة نافذة كداء البطن أتتكم من قبل مأمنكم ، تدع الحليم فيها خيرا من أكابر البشر ، فإذا أدبرت أسفرت!

فناداه الحسن عليه‌السلام : اعتزل عملنا وتنحّ عن منبرنا صاغرا لا أمّ لك!

فالتفت أبو موسى إلى عمّار وقال له : هذه يدي بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم»!

فقال له عمّار : إنما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستكون فتنة أنت (يا أبا موسى) فيها قاعدا خير منك قائما» ولم يقل ذلك لغيرك (٢)! ثم قال : غلب الله من غالبه

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢) هنا أسند الطوسي في أماليه : ١٨١ ، ح ٣٠٤ ، م ٧ ، الحديث ٦ ، عن أبي تحيا ـ وهو حكيم بن سعد الحنفي التميمي الكوفي ، كما في ترتيب الأمالي ٢ : ٥٣٣ ـ قال : سمعت عمار بن ياسر يعاتب أبا موسى الأشعري ويوبخه ويقول له : ما الذي أخّرك عن أمير المؤمنين؟! فو الله لئن شككت فيه لتخرجن عن الإسلام!

فقال له أبو موسى : دع عتابك لي! فإنما أنا أخوك!

فقال له عمار : ما أنا لك بأخ ؛ إني سمعت رسول الله يلعنك ليلة العقبة وقد هممت مع القوم بما هممت به!

٥٦١

ولعن من جاحده! ثم التفت إلى الناس وقال لهم : أيها الناس ؛ إن أبا موسى أوتي علما ثم انتفض عنه كما ينتفض الديك إذا خرج من الماء.

فبينا هم كذلك إذ دخل المسجد غلمان أبي موسى ينادونه : يا أبا موسى أخرج من المسجد فهذا الأشتر قد جاء! وإذا دخل أصحابه فنادوه : اخرج ويلك أخرج الله نفسك ، فو الله إنك لمن المنافقين (قديما)!

وقام عمار فقال له : أرني يدك يا أبا موسى! فأبرزها إليه فقبض عليها عمار (وأنزله).

فخرج أبو موسى ووجّه إلى الأشتر : أن أجّلني هذه العشية! قال : قد أجّلتك واعتزل عن القصر ناحية ولا تبيتنّ هذه الليلة في القصر!

وبلغه أن الناس دخلوا القصر ينتهبون متاع أبي موسى! فبعث الأشتر عليهم من أخرجهم من القصر ، وقال لهم : إني أجّلته الليلة. فكفّ عنه الناس (١).

__________________

فلم ينكر أبو موسى وإنما قال له : أو ليس قد استغفر لي؟!

فقال له عمار : قد سمعت اللعن ولم أسمع الاستغفار!

واختصر خبره القاضي النعماني المصري في شرح الأخبار ١ : ٨٣ و٢ : ٣٨٤ ، الحديث ٣٢٤.

(١) الجمل للمفيد : ٢٥١ ـ ٢٥٣ وفيه : لما بلغ إلى ذي قار ما كان من تخذيل أبي موسى الناس ، قام الأشتر إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا أمير المؤمنين ، إنك قد بعثت إلى الكوفة أخلق من بعثت ليستتبّ لك الناس على ما تحبّ (ولكن) لا أدري ما يكون ، فإن رأيت أن تبعثني في أثرهم ، فإن أهل الكوفة أحسن طاعة لي فإن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد منهم!

فقال أمير المؤمنين : الحق بهم على اسم الله عزوجل!

فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة ـ والناس وأبو موسى في المسجد الأعظم ـ فأخذ لا يمر بقبيلة فيها جماعة في مسجد أو مجلس إلّا قال لهم : اتبعوني إلى القصر ، فتبعه

٥٦٢

ثم خطب الأشتر :

ثم خرج الأشتر إلى المسجد الأعظم فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أيها الناس ، اصغوا إليّ بأسماعكم ، وافهموا قولي بقلوبكم :

إن الله عزوجل قد أنعم عليكم بالإسلام نعمة لا تقدرون قدرها ولا تؤدّون شكرها! كنتم أعداء يأكل قويكم ضعيفكم وينتهب كثيركم قليلكم وتنتهك حرمات الله بينكم ، والسبيل مخوف ، والشرك كثير ، والأرحام مقطوعة ، وكل أهل دين لكم قاهرون!

فمنّ الله عليكم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجمع شمل هذه الفرقة ، وألّف بينكم بعد العداوة ، وكثّركم بعد القلة ، ثم قبضه الله عزوجل إليه. فحوى علينا بعده رجلان.

ثم ولي علينا بعدهما رجل نبذ كتاب الله وراء ظهره ، وعمل في أحكام الله بهوى نفسه ، فسألناه أن يعتزل لنا نفسه فلم يفعل وأقام على أحداثه ، فآثرنا هلاكه على هلاك ديننا ودنيانا ، ولا يبعد الله إلّا القوم الظالمين.

وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكانا في الدين ، وأعظمهم حرمة وأصوبهم في الإسلام سهما ، ابن عمّ رسول الله وأفقه الناس في الدين وأقرأهم لكتاب الله ، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس. وقد استنفركم فما تنتظرون؟ أسعيدا أم الوليد الذي شرب الخمرة وصلّى بكم وهو سكران منها ، واستباح ما حرّم الله منكم؟! أيّ هذين تريدون؟! ثم قال : قبّح الله من له هذا الرأي!

__________________

جماعة من الناس إلى القصر ، فأخرج غلمان أبي موسى منه. والخبران عن نصر بن مزاحم المنقري في الطبري ٤ : ٤٨٦ ـ ٤٨٧.

٥٦٣

ألا فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم ، ولا يتخلّف رجل له قوة ، فو الله ما يدري رجل ما يضره مما ينفعه! ألا وإني لكم ناصح شفيق عليكم ، إن كنتم تعقلون أو تبصرون ، اصبحوا إن شاء الله غدا غادين مستعدّين ، وهذا وجهي إلى ما هنالك بالوفاء.

وخطب عمّار أيضا :

وعاد عمّار إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

أيها الناس ، إنا لما خشينا على هذا الدين أن تتهدّم جوانبه ويتعرّى أديمه ، نظرنا لأنفسنا ولديننا فاخترنا عليّا خليفة ورضينا به إماما ، فنعم الخليفة ونعم المؤدّب ، مؤدّب لا يؤدّب ، وفقيه لا يعلّم ، وصاحب بأس لا ينكر ، وذو سابقة في الإسلام ليست لأحد من الناس غيره. وقد خالفه قوم من أصحابه حاسدون له «باغون» عليه ، وقد توجّهوا إلى البصرة ، فاخرجوا إليهم رحمكم الله ، فإنكم لو شاهدتموهم وحاججتموهم تبيّن لكم أنّهم ظالمون.

وخطب حجر الكندي :

ثم قام حجر بن عدي الكندي فقال : أيها الناس ، هذا الحسن بن علي بن أبي طالب ، وهو من عرفتم : أحد أبويه النبيّ الأمي ، والآخر الإمام الرضي ، المأمون الوصي ، وهو أحد اللذين ليس لهما شبيه في الإسلام : «سيّدي شباب أهل الجنة» وسيدي سادات العرب ، أكملهم صلاحا وأفضلهم علما وعملا ، وهو رسول أبيه إليكم يدعوكم إلى الحق ويسألكم النصر. فالسعيد ـ والله ـ من ودّهم ونصرهم ، والشقيّ من تخلّف بنفسه عن مواساتهم ، فانفروا معه رحمكم الله خفافا وثقالا واحتسبوا في ذلك الأجر ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (١).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٥٣ ـ ٢٥٦.

٥٦٤

وقام زيد بن صوحان العبدي ـ وكان مقطوع اليد من يوم وقعة جلولاء (١) ـ فقال : أيها الناس ؛ سيروا إلى أمير المؤمنين ، وأطيعوا ابن سيّد المرسلين ، وانفروا إليه أجمعين ، تصيبوا الحقّ وتظفروا بالرشد ، ثم قال : قد والله نصحتكم فاتّبعوا رأيي ترشدوا (٢).

__________________

(١) شرح الأخبار للقاضي النعمان ١ : ٣٧٩ ، الحديث ٣٢١ ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٨ : ٤٤٠.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٤٨ وذكر من احتجاج عبد خير على الأشعري : أن قام إليه وقال له : يا أبا موسى أخبرني هل كان هذان الرجلان (طلحة والزبير) بايعا علي بن أبي طالب فيما بلغك وعرفت؟ قال : نعم ، قال : فهل أحدث عليّ حدثا يحلّ عقدة بيعته حتى تردّ بيعته كما ردّت بيعة عثمان؟ قال أبو موسى : لا أعلم! قال عبد خير : لا علمت ولا دريت! ثم قال له : يا أبا موسى أما تعلم أنها أربع فرق : عليّ بظهر الكوفة ، وطلحة والزبير بالبصرة ، ومعاوية بالشام ، وفرقة اخرى بالحجاز لا يجبى بها برّ ولا يقام بها حدّ ولا يقاتل بها عدو ، فأين القرآن من هذه الفتن؟!

فقال أبو موسى : الفرقة القاعدة عن القتال خير الناس!

فقال له عبد خير : يا أبا موسى لقد غلب على علمك!

ولم يذكر في هذه الأخبار استخلاف لأحد على الكوفة ، وإنما جاء في الطبري عن النميري البصري عن المدائني البصري : أن عليا عليه‌السلام بعث بقرظة بن كعب الأنصاري مع الحسن وعمار أميرا على الكوفة ٤ : ٤٩٩ ، وفي مروج الذهب ٢ : ٣٥٩ ، وفي الجمل للمفيد : ٢٦٥ عن ابن عباس قال : وخلعت في الحال أبا موسى واستعملت مكانه قرظة بن كعب الأنصاري. ولكن فيه بعد هذا : وسيّرت لأمير المؤمنين سبعة آلاف رجل ولحقته بذي قار! وسيأتي ما ينافيه راجحا عليه قوة واعتبارا ويرجح أن يكون استخلفه عمار بن ياسر ؛ لأن قرظة كان مع عمار لما كان أميرا على الكوفة ثم في فتح تستر كما في القاموس ٨ : ٥٢٠ برقم ٦٠٦٠ ، وفي الطبري ٤ : ٤٨٢ : أن ابن عباس أرسل مع الأشتر

٥٦٥

خطبتان اخريان لعمّار :

«الحمد لله حمدا كثير ، فإنّه أهله على نعمه التي لا نحصيها ولا نقدّر قدرها ولا نشكر شكرها ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى والنور الواضح والسلطان القاهر ، الأمين الناصح ، والحكيم الراجح ، رسول ربّ العالمين وقائد المؤمنين وخاتم النبيين ، جاء بالصدق وصدّق المرسلين وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.

ثم إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ حفظه الله ونصره نصرا عزيزا وأبرم له أمرا رشيدا ـ بعثني وابنه إليكم يأمر بالنفير إليه فانفروا إليه ، واتقوا الله وأطيعوه. والله لو علمت أنّ على وجه الأرض بشرا أعلم بكتاب الله وسنة نبيّه منه ما استنفرتكم إليه ولا بايعته على الموت!

يا معشر أهل الكوفة! الله الله في الجهاد ؛ فو الله لئن صارت الامور إلى غير عليّ لتصيرنّ إلى البلاء العظيم! والله يعلم أني قد نصحت لكم وأمرتكم بما أخذته بيقيني (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) واستغفر الله لي ولكم. ثم نزل.

فصبر هنيهة ثم عاد إلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أيها الناس ؛ هذا ابن عمّ نبيكم قد بعثني إليكم يستصرخكم ، ألا إن طلحة والزبير قد سارا نحو البصرة وأخرجا معهما عائشة للفتنة! ألا وإنّ الله ابتلاكم بحقّه وحقّ امكم ، وحقّ ربكم عليكم أولى وأعظم من حق امكم ، ولكن الله ابتلاكم لينظر كيف تعملون! فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا ، وانفروا إلى خليفتكم وصهر نبيّكم ،

__________________

ورجع قبله! عن سيف. ولم أعثر على خبر في بعث ابن عباس إلى الكوفة عن غير سيف ، فلعلّه جاء به تزلّفا إلى بني العباس المعاصرين له.

٥٦٦

فان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد بايعوه بالمدينة ، وهي دار الهجرة والإسلام ، أسأل الله أن يوفقكم» ثم نزل.

فصعد الحسن عليه‌السلام المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر جده فصلّى عليه ، ثم ذكر فضل أبيه وسابقته وقرابته من رسول الله وأنه أولى بالأمر من غيره ثم قال : «معاشر الناس ، إن طلحة والزبير قد بايعا أمير المؤمنين طائعين غير مكرهين ، ثم نفرا ونكثا بيعتهما له ، فطوبى لمن خفّ في مجاهدة من جاهده ، فإن الجهاد معه كالجهاد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثم نزل (١).

ثم قال : أيها الناس إني غاد ، فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظّهر (ظهر المركب) ومن شاء فليخرج في الماء (نهر الفرات) (٢).

أعداد الأمداد من الكوفة :

فخرج إليه عليه‌السلام : اثنا عشر ألف رجل ، معقل بن يسار الرياحي التميمي ومعه تميم والرباب ومزينة وأسد وكنانة وقريش! وسعد بن مسعود الثقفي ومعه قيس (ومنهم ثقيف) وحجر بن عديّ الكندي ومعه مذحج والأشعريون ، ومخنف بن سليم الأزدي ومعه الأزد والأنمار وبجيلة وخثعم ، ووعلة بن مخدوج الذهلي ومعه بكر بن وائل والتغلبيّون ومنهم بنو ذهل بن شيبان (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٦٢ ـ ٢٦٤ ، ونقل المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١٤ : ١١ عن الجمل لأبي مخنف خطبتين للحسن عليه‌السلام بطريقين ثانيهما عن جابر بن يزيد الجعفي عن تميم بن حذيم الناجي وقال : كان عليه‌السلام فتى حديث السنّ وعليلا من شكوى (مرض) به فتساند بيده إلى عمود فخطبهم وهم يقولون : اللهم سدّد منطقه! والآية ٨٨ من سورة هود.

(٢) الطبري ٤ : ٤٨٥ عن سيف ، وقد انفرد به.

(٣) الطبري ٤ : ٥٠٠ عن النميري عن المدائني.

٥٦٧

فروى الطبري عن النميري البصري عن المدائني البصري عن أبي مخنف عن الشعبي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني التابعي قال : سمعت عليا عليه‌السلام يقول : يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل! فقعدت على نجفة (مرتفع) بذي قار فأحصيتهم ، فما زادوا رجلا ولا نقصوا رجلا (١).

نقل الطبري هذا ، وقبله بقليل نقل عن سيف التميمي عن الشعبي أيضا قال : تلقّاهم علي عليه‌السلام في أناس منهم ابن عباس فرحب بهم ... فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان (من البرّ) وفي الماء (نهر الفرات) ألفان وأربعمائة (٢) فالمجموع تسعة آلاف.

ونقل قبله عن سيف التميمي أيضا قال : نفر مع الحسن عليه‌السلام تسعة آلاف ، في البر ستة آلاف ومائتان ، وفي الماء ألفان وثمانمائة (٣).

ونقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف عن محمد بن إسحاق ، عن عمه عبد الرحمن بن يسار قال : أقام علي بذي قار خمسة عشر يوما حتى نفر إليه من الكوفة في البرّ والبحر ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا.

وعن أبي مخنف بسنده عن زيد بن علي عن عبد الله بن العباس قال : قلت له : يا أمير المؤمنين ؛ ما أقلّ ما يأتيك من أهل الكوفة فيما أظن؟

__________________

(١) الطبري ٤ : ٥٠٠ ، ولا ندري كيف يفسّر الطبري أمثال هذا الخبر؟!

(٢) الطبري ٤ : ٤٨٧.

(٣) الطبري ٤ : ٤٨٥ ، ولكنه في خبر آخر عنه قال : فكانوا خمسة آلاف نصفهم في البر ونصفهم في البحر ٤ : ٤٨٨ ، وفي تاريخ خليفة بن الخياط : ١١٠ : فخرج ما بين الستة آلاف إلى السبعة ، وفي اليعقوبي ٢ : ١٨٢ : ستة آلاف ، وفي مروج الذهب ٢ : ٣٥٩ : في سبعة آلاف أو ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا مع الأشتر.

٥٦٨

فقال عليه‌السلام : والله ليأتيني منهم : ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلا لا يزيدون ولا ينقصون (١).

قال ابن عباس : فدخلني ـ والله ـ من ذلك شك شديد في قوله ، وقلت في نفسي : والله إن قدموا لأعدّنهم! فإن كانوا كما قال ، وإلّا أتممتهم من غيرهم!

__________________

(١) ورواه المفيد في الجمل : ٢٩٣ عن نصر بن مزاحم بسنده عن زيد قال : لما أبطأ على علي عليه‌السلام خبر أهل البصرة (كذا) ونحن في قلة (كذا!) فقال عبد الله بن عباس ... والبصرة تحريف عن الكوفة ، وقوله : «نحن» عن ابن عباس وليس عن زيد غير المولود يومئذ ، كما مرّ الخبر عن المعتزلي ، وفات محقق النسخة التنبيه عليه مع وقوفه على الخبر في شرح النهج للمعتزلي. وفي خبر الجمل للمفيد عن نصر بن مزاحم عن ابن عباس : أن الإمام عليه‌السلام قال له : اسكت يا ابن عباس ، فو الله لتأتينا في هذين اليومين من الكوفة ستة آلاف وستمائة رجل! وليغلبنّ أهل البصرة وليقتلنّ طلحة والزبير .. فرأيت راكبا فاستقبلته واستخبرته (عن الكوفة) فأخبرني بالعدة التي سمعتها من علي عليه‌السلام لم تنقص رجلا واحدا!

ثم هذا ينافي ما رواه سابقا : ٢٦٥ : عن ابن عباس قال : سيّرت من الكوفة سبعة آلاف رجل ولحقته بذي قار! كما مرّ ذكره.

ونقل المفيد في الإرشاد ١ : ٣١٥ مرسلا : قال عليه‌السلام بذي قار وهو جالس لأخذ البيعة : يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل ... يبايعوني (على الموت)! قال ابن عباس فخفت أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدوا عليه ... حتى ورد أوائلهم فاستوفيت عددهم ... حتى جاء في آخرهم أويس القرني.

في حين جاء في رجال الكشي ٩٨ : ١٥٦ ، بسنده عن الأصبغ بن نباتة عنه عليه‌السلام أنه قال في صفين : لقد عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبايعني في هذا اليوم مائة رجل (على الموت) فجاء في آخرهم اويس القرني ... وهذا الثاني أولى من الأول.

٥٦٩

لأن الناس كانوا قد سمعوا قوله! فاستعرضتهم فو الله ما وجدتهم يزيدون رجلا ولا ينقصون رجلا! فقلت : الله أكبر! صدق الله ورسوله (١)!

خبر كليب الجرمي :

وقبيل قدومهم ، قدم عليه ناس من البصرة وحواليها ، منهم كليب الجرمي القضاعي الحميري (٢) قال : قال لي شيخان من حيّنا : اذهب بنا إلى هذا الرجل (علي عليه‌السلام) فننظر ما يدعو إليه. فذهبت بهم إليه ، فقال لي : من سيّد بني راسب؟ فقلت : فلان. فقال : فمن سيّد بني قدامة؟ قلت : فلان. فقال : أأنت مبلّغهما كتابين منّي؟ قلت : نعم.

ثم التفت إلى محمد بن حاطب وهو في ناحية فقال له : إذا انطلقت إلى قومك فأبلغهم قولي وكتبي. فقام إليه محمد حتى جلس أمامه وقال له : إن قومي إذا ذهبت إليهم يسألونني ما يقول صاحبك في عثمان؟ فبادر الذين حوله فسبّوه! فرأيت عليا قد كره ذلك حتى رشح جبينه وقال لهم : أيها القوم كفّوا! ما إيّاكم يسأل! ثم أجابه بجواب.

وقال لنا : أفلا تبايعوني؟ فقال الشيخان معي : نعم وقاما إليه فبايعاه ، وتوقفت عن بيعته ، فالتفت إليّ رجال عنده قد أكل السجود جباههم يقولون لي : بايع بايع!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٢ : ١٨٧ ثم روى عنه أيضا : أن حذيفة بن اليمان لما بلغه (في المدائن) أن عليا عليه‌السلام أرسل من ذي قار الحسن وعمارا ليستنفرا أهل الكوفة ، أخبر أصحابه به وأمرهم أن يلحقوا به وينصروه ، فنفروا إليه ، ومكث حذيفة اسبوعين ثم توفى رحمه‌الله تعالى. ولعلّه كان في أواخر شهر رجب.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ٢٩٨.

٥٧٠

فقلت : إنما بعثني قومي رائدا ، وسأنهي إليهم ما رأيت فإن بايعوا بايعت! فقال لهم : دعوا الرجل ... وقال لي : أرأيت لو أنّ قومك بعثوك رائدا فرأيت روضة وغديرا! فقلت لهم : يا قومي النجعة النجعة (الروضة والماء) فأبوا ، ما كنت تصنع (١)؟

أو قال لي : أرأيت لو أنّ الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث ، فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الماء والكلأ ، فخالفوا إلى المجادب والمعاطش ما كنت صانعا؟

قال (قلت) : كنت تاركهم ومخالفهم إلى الماء والكلأ. فقال : فامدد يدك إذن! فو الله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة عليّ (٢)! فأخذت بإصبع من أصابعه وقلت له : ابايعك على أن أطيعك ما أطعت الله فإذا عصيته! فلا طاعة لك عليّ! فقال : نعم ، وطوّل صوته بها ، فبايعته.

ولم أبرح من العسكر حتى قدم عليه أهل الكوفة ، فكانوا لما يروننا (أهل البصرة) يقولون : نرى إخواننا من أهل البصرة يقاتلوننا! ويضحكون كأنهم يرون أنهم لا يقاتلون ، ويقولون : والله لو التقينا لتعاطينا الحق!

قال : وخرجت بكتابي علي عليه‌السلام فأتيت أحد الرجلين ، فقبل الكتاب وأجابه.

ودللت على الآخر فتوارى عنّي حتى دخلت عليه فأبى أن يقبل الكتاب ولم يجبه إلى ما دعاه (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٩٠ عن الواقدي بطريق غير طريق الطبري ٤ : ٤٩٠ ـ ٤٩٢ مزيدا محرّفا فراجع.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٠.

(٣) الجمل للمفيد : ٢٩١.

٥٧١

وصول الكوفيّين وخطبته لهم :

قال المفيد : لما صار أهل الكوفة إلى ذي قار ولقوا أمير المؤمنين عليه‌السلام رحّبوا به وقالوا له : الحمد لله الذي خصّنا بمودّتك وأكرمنا بنصرتك ، فجزّاهم عليه‌السلام خيرا.

ثم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال لهم :

يا أهل الكوفة : إنكم من أكرم المسلمين وأعدلهم سنة وأفضلهم في الإسلام سهما ، وأجودهم في العرب مركبا ونصابا ، حزبكم بيوتات العرب وفرسانهم ومواليهم ، أنت أشدّ العرب ودّا للنبيّ وآله ، وإنما اخترتكم ثقة بكم لما بذلتم لي أنفسكم عند نقض طلحة والزبير بيعتي وعهدي ، وخلافهما طاعتي ، وإقبالهما بعائشة لمخالفتي ومبارزتي ، وإخراجهما لها من بيتها حتى أقدماها البصرة. وقد بلغني أن أهل البصرة فرقتان : فرقة الخير والفضل والدين قد اعتزلوا وكرهوا ما فعل طلحة والزبير ... ثم سكت عليه‌السلام.

فقام قائم أهل الكوفة وأجابه عنهم : نحن أنصارك وأعوانك على عدوّك ، ولو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس ، احتسبنا في ذلك الخير والأجر ورجوناه. فردّ عليهم خيرا (١).

قال أبو مخنف وقام هاشم المرقال وقال شعرا :

وسرنا إلى خير البريّة كلّها

على علمنا أنّا إلى الله نرجع

نوقّره في فضله ونجلّه

وفي الله ما نرجو وما نتوقّع

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ والإرشاد ١ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ونحوه في شرح النهج للمعتزلي ٢ : ١٨٨ عن الجمل لأبي مخنف. وفي مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٧٨ أنه استقبلهم على رأس فرسخ.

٥٧٢

ونخصف أخفاف المطيّ على الوجا

وفي الله ما نزجي وفي الله نوضع

دلفنا بجمع آثروا الحقّ والهدى

إلى ذي تقى في نصره نتسرّع

نكافح عنه والسيوف شهيرة

تصافح أعناق الرجال فتقطع

ثم قام رءوس القبائل فخطبوا وبذلوا له النصر.

فأمرهم بالرحيل إلى البصرة (١).

وخطبته لهم عند رحيلهم :

قال المفيد : ولما أراد المسير من ذي قار قام خطيبا (٢) راويها زيد بن صوحان العبدي الكوفي الذي قدم معهم إلى ذي قار رافضا الاستجابة لدعوة عائشة له ، نقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف بسنده عن زيد بن صوحان قال : شهدت عليا عليه‌السلام بذي قار وهو معتم بعمامة سوداء وملتف بنسيج خطب فقال :

الحمد لله على كل أمر وحال في الغدوّ والآصال ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، ابتعثه رحمة للعباد وحياة للبلاد ، حين امتلأت الأرض فتنة واضطرب حبلها ، وعبد الشيطان في أكنافها ، واشتمل عدوّ الله إبليس على عقائد أهلها. فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب الذي أطفأ الله به نيرانها وأخمد به شرارها ، ونزع به أوتادها وأقام به ميلها ، إمام الهدى والنبيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلقد صدع بما أمره به ، وبلّغ رسالات ربه ، فأصلح الله به ذات البين ، وآمن به السبل وحقن به الدماء ، وألّف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور ، حتى أتاه اليقين فقبضه الله إليه حميدا.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٢ : ١٨٨ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٦٧.

٥٧٣

ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده ، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده ، ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم ونلتم منه ، حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني ... فدخلت منزلي فاستخرجتموني ، فقبضت يدي فبسطتموها ، وتداككتم عليّ حتى ظننت أنكم قاتلي أو أن بعضكم قاتل بعض! فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك ولا جذل. ولقد علم الله أني كنت كارها للحكومة بين امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فلقد سمعته يقول : «ما من وال يلي شيئا من أمر امتي إلّا اتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق ، ثم ينشر كتابه ، فإن كان عادلا نجا ، وإن كان جائرا هوى».

حتى اجتمع عليّ ملؤكم وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر في أوجههما والنكث في أعينهما! ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليسا يريدان العمرة ، فسارا إلى مكة ، واستخفّا عائشة وخدعاها وشخص معهما أبناء الطلقاء ، فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين وفعلوا المنكر!

فيا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليّ ، وهما يعلمان أني لست دون أحدهما ، ولو شئت أن أقول لقلت!

ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه فكتماه عنّي ، وخرجا يوهمان الطغام والأعراب أنهما يطلبان بدم عثمان.

والله ما أنكرا عليّ منكرا ، ولا جعلا بيني وبينهم نصفا ، وإن دم عثمان لمعصوب بهما ومطلوب منهما. يا خيبة الداعي إلى ما دعا وبما ذا اجيب؟!

والله إنهما لعلى ضلالة صمّاء ، وجهالة عمياء ، وإنّ الشيطان قد ذمّر لهما حزبه ، واستجلب لهما خيله ورجله ، ليعيد الجور إلى أوطانه ويردّ الباطل إلى نصابه. ثم رفع يديه فقال :

اللهم إنّ طلحة والزبير قطعاني وظلماني وألّبا عليّ ونكثا بيعتي ، فاحلل ما عقدا وانكث ما أبرما ، ولا تغفر لهما أبدا ، وأرهما المساءة فيما عملا وأمّلا.

٥٧٤

فقام إليه الأشتر فقال : الحمد لله الذي منّ علينا فأفضل ، وأحسن إلينا فأجمل قد سمعنا كلامك ـ يا أمير المؤمنين ـ ولقد أصبت ووفّقت ، وأنت ابن عمّ نبيّنا وصهره ووصيّه ، وأوّل مصدّق به ومصلّ معه ، شهدت مشاهده كلّها فكان لك الفضل فيها على جميع الامّة ، فمن اتّبعك أصاب حظّه ، واستبشر بفلجه ، ومن عصاك ورغب عنك فإلى امّه الهاوية!

لعمري ـ يا أمير المؤمنين ـ ما أمر طلحة والزبير وعائشة علينا بمخيل (مخيف) ولقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه وفارقا على غير حدث أحدثت ولا جور صنعت! فإن زعما أنّهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما ، فإنهما أوّل من ألّب عليه وأغرى الناس بدمه!

وأشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنّهما بعثمان! فإنّ سيوفنا في عواتقنا وقلوبنا في صدورنا ، ونحن اليوم كما كنّا أمس ، ثم سكت وقعد (١).

خبر الأحنف التميمي :

روى الطبري بطريقين عن الأحنف بن قيس السعدي التميمي شيخهم قال : أتاني آت وقال : هذه عائشة وطلحة والزبير قد نزلوا جانب خريبة البصرة ، أرسلوا إليك يدعونك وهم يستنصرونك على دم عثمان! فقلت (في نفسي) : إن خذلاني هؤلاء ومعهم أمّ المؤمنين ، وحواريّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لشديد! وإنّ قتالي رجلا ابن عمّ رسول الله ، وهم قد أمروني ببيعته لشديد! (وذهبت إليهم).

فلما أتيتهم قالوا : جئنا لنستنصر على دم عثمان فقد قتل مظلوما.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٣٠٩ ـ ٣١١ عن الجمل لأبي مخنف ، وفي الإرشاد ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٢ : حين نهض من ذي قار متوجها إلى البصرة. وقطع منها في نهج البلاغة.

٥٧٥

فقلت لعائشة : يا أمّ المؤمنين! أنشدك الله أقلت لك : من تأمريني به فقلت : عليّ. فقلت : أتأمرينني به وترضينه لي؟ فقلت : نعم! قالت : نعم ، ولكنّه بدّل! (كذا)!

فقلت للزبير وطلحة : يا زبير يا حواريّ رسول الله! ويا طلحة ؛ انشدكما الله أقلت لكما : ما تأمراني؟ فقلتما : عليّ. فقلت : أتأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما : نعم! قالا : نعم ، ولكنّه بدّل!

فقلت لهم : والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين وحواريّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا اقاتل رجلا ابن عمّ رسول الله أمرتموني ببيعته. اختاروا منّي واحدة من ثلاث خصال : إمّا أن تفتحوا لي الجسر فألحق (بقبيلتي) بأرض الأعاجم حتى يقضي الله من أمره ما قضى. أو ألحق بمكة فأكون فيها حتى يقضي الله ما قضى ، أو أعتزل قريبا؟ قالوا : نأتمر فنرسل إليك.

ثم أرسلوا إليّ : أن اعتزل هاهنا قريبا. فاعتزلت بالجلحاء على فرسخين من البصرة مع زهاء ستة آلاف من قومي تميم (١).

وروى المفيد : أن الأحنف بدأ فأرسل رسولا إلى الإمام عليه‌السلام يقول له : إني مقيم في قومي على طاعتك ، فإن شئت حبست عنك أربعة آلاف سيف من بني سعد (من تميم) وإن شئت أتيتك (ولكن) في مائتين من أهل بيتي! فأرسل إليه أمير المؤمنين : أن احبس وكفّ.

فجمع الأحنف قومه بني سعد وقال لهم : يا بني سعد ، كفّوا عن هذه الفتنة واقعدوا في بيوتكم ، فإن ظهر أهل البصرة فهم إخوانكم فلا يهيجونكم ، وإن ظهر عليّ فقد سلمتم! فكفّوا.

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٩٨ ـ ٤٩٩. وأشار إليه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٧٧.

٥٧٦

وخالفه هلال بن وكيع الحنظلي ببني حنظلة من تميم ودعا كلّ تميم فتابعه أكثرهم!

وبلغ ما فعله الأحنف إلى طلحة والزبير فبعثا إليه يرومان أن يدخل في طاعتهما ويستميلانه.

فقال لهم : اختاروا منّي إحدى ثلاث خصال : إما أن ألحق بعليّ بن أبي طالب (ومن معي) وإما أن اقيم في بيتي وأكفّ نفسي (ومن معي) فلا أكون معكما ولا عليكما. وإمّا أن أذهب إلى الأهواز فأقيم بها!

فقالا : ننظر في ذلك واستشارا من حضرهما فقالوا لهما : أما عليّ فعدوّكم ، ولا حظّ في أن يكون الأحنف معه.

وأمّا الأهواز فإنه إن أتاها لحق به كل من لا يريد القتال معكما.

ولكن ليكن قريبا منكما فإن تحرّك وطأتماه على صماخه. فأمراه بذلك ، فأقام بوادي السباع (١).

وكعب بن سور الأزدي القاضي :

قال المفيد : وكان كعب بن سور الأزدي قاضي عمر في البصرة وسيد الأزد من أهل اليمن بها ، فأنفذ طلحة والزبير رسولهما إليه يسألانه النصرة لهما والقتال معهما ، فقال : أنا أعتزل الفريقين (وكأنه اقتدى فيها بالأحنف).

فصارا إليه واستأذنا عليه ، فحجبهما ولم يأذن لهما! فصارا إلى عائشة وسألاها أن تسير إليه ، فراسلته تدعوه إلى الحضور عندها ، فاستعفاها من ذلك.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، ومختصره في الإمامة والسياسة ١ : ٧١. وأشار إليه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٧٨.

٥٧٧

فقال لها طلحة والزبير : يا أمّ ؛ إن قعد كعب قعدت عنا الأزد كلها وهي (عمدة) أحياء البصرة! فاركبي إليه فإنك إن فعلت ذلك انقاد لرأيك!

فركبت بغلا وأحاط بها نفر من أهل البصرة وصارت إلى كعب بن سور فاستأذنت عليه فأذن لها ورحّب بها! فقالت له : يا بنيّ ؛ أرسلت إليك لتنصر الله عزوجل! فما الذي أخّرك عنّي؟!

فقال لها : يا أمّاه! هذه فتنة ولا حاجة لي في خوض هذه الفتنة!

فاستعبرت وبكت وقالت : يا بنيّ ، اخرج معي وخذ بخطام جملي! فإني أرجو أن يقرّبك إلى الجنة! فرقّ لها وأجابها (١)! فتبعه أزد البصرة!

وكتابه عليه‌السلام إليهم :

قال المفيد : ولما أراد أمير المؤمنين عليه‌السلام المسير من ذي قار إلى البصرة ، أملى على كاتبه كتابا إلى طلحة والزبير وعائشة يعظّم فيه عليهم حرمة الإسلام ، ويخوّفهم مما صنعوه ، ويذكر لهم قبيح ما ارتكبوه من قتل من قتلوا من المسلمين ، وما صنعوا بصاحب رسول الله عثمان بن حنيف ، وقتلهم المسلمين صبرا ، ويعظهم ويدعوهم إلى طاعته. ثم قدّم الكتاب إليهم مع صعصعة بن صوحان العبدي وكان قد التحق به من البصرة.

قال صعصعة : فبدأت بطلحة فأدّيت إليه الرسالة وأعطيته الكتاب.

فقال لي : الآن حين عضّت الحرب ابن أبي طالب يرفق لنا؟!

ثم جئت إلى الزبير فوجدته ألين من طلحة.

ثم جئت إلى عائشة فقالت : نعم قد خرجت للطلب بدم عثمان ، وو الله لأفعلنّ وأفعلنّ! فوجدتها أسرع الناس إلى الشرّ!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٢٢.

٥٧٨

فعدت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فلقيته قبل دخول البصرة فقلت له :

يا أمير المؤمنين ؛ رأيت قوما ما يريدون إلّا قتالك! فقال : والله المستعان (١)!

مواكب علي عليه‌السلام في زاوية البصرة :

نقل المسعودي بسنده عن المنذر بن جارود العبدي (٢) أنه كان مع قومه عبد القيس النازحين من البصرة على طريق أمير المؤمنين إليها ليلتحقوا به ، قال :

لمّا قدم علي عليه‌السلام إلى البصرة توجه إليها من ناحية الطفّ ثم الزاوية ، فخرجت أنظر إليه :

فورد موكب في نحو ألف فارس ، يتقدّمهم فارس على فرس أشهب ، عليه قلنسوة وثياب بيض ، متقلد سيفا ، ومعه راية ، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة ، مدجّجين بالسلاح والحديد. فسألت : من هذا؟ فقيل : هو أبو أيّوب الأنصاري صاحب رسول الله وهؤلاء الأنصار وغيرهم.

ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض ، متقلد سيفا متنكّب قوسا ، معه راية ، على فرس أشقر في نحو ألف فارس ، فسألت : من هو؟ فقيل : هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٢) وذكر المفيد في الجمل : ٣٢١ : أنه كان على خيل عبد القيس في الجمل مع علي عليه‌السلام ، ومع ذلك روى عنه الخبر الآتي.

(٣) وقبل هذا بقليل أكّد المسعودي حضور ذي الشهادتين قال : لحق بعليّ جماعة من الأنصار منهم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين. ذلك لأن الطبري نقل عن سيف أنه كان غير ذي الشهادتين!

٥٧٩

ثم مرّ بنا فارس آخر على فرس كميت ، معتمّ بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء ، وعليه قباء أبيض مصقول ، متقلّد سيفا متنكّب قوسا ، في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية ، فسألت : من هو؟ قيل : أبو قتادة بن ربعي.

ثم مرّ بنا فارس آخر على فرس أشهب ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه ومن خلفه ، شديد الأدمة ، عليه سكينة ووقار ، رافعا صوته بقراءة القرآن ، متقلّد سيفا متنكّب قوسا ، ومعه راية بيضاء ، في ألف فارس من الناس مختلفي التيجان ، حوله مشيخة وكهول وشباب كأنّما قد أوقفوا للحساب ، قد أثّر في جباههم السجود ، فسألت : من هو؟ قيل : عمّار بن ياسر في عدة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم.

ثم مرّ بنا فارس على فرس أشقر ، عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء ، متنكّب قوسا متقلّد سيفا ، تخطّ رجلاه في الأرض ، في ألف من الناس الغالب على تيجانهم البياض والصفرة ، ومعه راية صفراء ، فسألت : من هو؟ قيل : هذا قيس بن سعد بن عبادة في عدّة من الأنصار وأبنائهم ، وغيرهم من قحطان.

ثم مرّ بنا فارس على فرس أشهل ما رأيت أحسن منه ، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء ، قد سدلها بين يديه ، ومعه لواء ، فسألت : من هو؟ قيل : هو عبد الله بن العباس ، في عدة من الصحابة وآخرين.

ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه بالأوّلين ، فسألت : من هو؟ قيل : أخوه عبيد الله.

ثم تلاه موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين ، سألت : من هو؟ قيل : أخوه قثم.

ثم أقبلت الرايات والمواكب يقدم بعضها بعضا وفيها الرماح مشتبكة.

٥٨٠