موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغيّر ولم يبدّل ، لكنّه رأى منكرا فغيّره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ، ثم مات وحيدا غريبا! اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره حرم الله وحرم رسوله! فرفعنا أيدينا جميعا وقلنا : آمين (١) وكان ذلك سنة (٣٢ ه‍) (٢).

عثمان وبيت المال :

قال أبو مخنف : كان على بيت المال لعثمان عبد الله بن الأرقم ، ففي أوائل عهده لمّا أراد مائة ألف درهم منه كتب ابن الأرقم عليه كتابا بها حقا للمسلمين وأشهد عليه عليا عليه‌السلام والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر.

فلمّا حلّ الأجل (جعل عثمان يدافع ابن الأرقم ويقول له : يكون إن شاء الله فنعطيك) (٣).

ثم إن عبد الله بن خالد بن اسيد ومعه ناس قدموا عليه من مكة يريدون الغزو (فزوّج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد وأمر له بستمائة ألف درهم) (٤)

__________________

(١) رجال الكشي : ٦٥ ـ ٦٦ ، الحديث ١١٨ ، وعليه تكون الميتة قبله ابنته والمنادية امرأته ، وفي الخبر أنها كانت قد أعدّت لهم شاة ، وهذا خلاف السابق أيضا. والسابق في هذا أقرب وأنسب.

(٢) تاريخ خليفة : ٩٧ ، والدرجات الرفيعة : ٢٥٤ وكان في موسم الحج ، ونفيه قبل شهر رجب ووفاة العباس. وانظر بشأن أبي ذر وعثمان ، الغدير ٨ : ٢٩٢ ـ ٣٢٣.

(٣) من اليعقوبي ٢ : ١٦٨.

(٤) من اليعقوبي ٢ : ١٦٨.

٣٨١

أو لعبد الله بثلاثمائة ألف ، ولكل رجل ممن معه بمائة ألف ، وصكّ بذلك إلى ابن الأرقم ، فاستكثره وردّ الصك (١) وقال له : اكتب بها عليك صكّا للمسلمين؟!

فقال له عثمان : وما أنت وذاك؟! لا أمّ لك! إنما أنت خازن لنا!

فلما سمع عبد الله ابن الأرقم (٢) ذلك خرج مبادرا إلى الناس وقال لهم : أيها الناس! عليكم بما لكم ، فإني ظننت أنّي خازنكم ، ولم أعلم أني خازن عثمان بن عفّان حتى اليوم (٣).

وبلغ ذلك عثمان فخرج إلى المسجد ورقا المنبر وقال :

أيها الناس! إنّ أبا بكر كان يؤثر بني تيم على الناس ، وإن عمر كان يؤثر بني عديّ على الناس ، وإني والله اوثر بني أميّة على من سواهم! ولو كنت جالسا بباب الجنة ثم استطعت أن أدخل الجنة جميع بني أميّة لفعلت! وإن هذا المال لنا! فإن احتجنا إليه أخذناه وإن رغم أنف أقوام!

وكان عمّار بن ياسر حاضرا فقام والتفت إلى الناس وقال لهم :

معاشر المسلمين ، اشهدوا أن ذلك مرغم لي!

فقال له عثمان : وأنت هاهنا! ثم نزل من المنبر وجعل يرفسه برجله حتى غشي عليه!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٥٨ ، وانظر الغدير ٨ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٢) كذا في نصوص الأخبار ، وفي أمالي المفيد : الأرقم بن عبد الله ، وفي شرح النهج للمعتزلي ١ : ١٩٩ : زيد بن الأرقم ، وهما وهم.

(٣) وقال اليعقوبي ٢ : ١٦٩ : وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب فوقف وقال : أيها الناس ، زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته ، وإنما كنت خازنا للمسلمين ، وهذه مفاتيح بيت مالكم ، ورمى بها. فأخذها عثمان ودفعها إلى زيد بن ثابت.

٣٨٢

فأعظم الناس ذلك ، واحتمل إلى بيت أمّ سلمة (المخزومية) فبقى مغمى عليه الظهر والعصر والمغرب ، لم يصلّ فلما أفاق قال : الحمد لله ، فقديما اوذيت في الله ، وأنا احتسب ما أصابني في جنب الله العدل الكريم يوم القيامة بيني وبين عثمان!

وبلغ عثمان أن عمارا عند أمّ سلمة ويعوده الناس فأرسل إليها يقول : ما هذه الجماعة في بيتك مع هذا الفاجر! أخرجيهم من عندك!

فقالت : والله ما عندنا مع عمّار إلّا بنتاه! فاجتنبنا يا عثمان ، واجعل سطوتك حيث شئت ، وهذا صاحب رسول الله يجود بنفسه من فعالك به!

ثم ندم عثمان على ما صنع ، فبعث إلى طلحة والزبير فسألهما أن يأتيا عمارا فيسألاه أن يستغفر لعثمان! فأتياه وسألاه ذلك فأبى عليهما ، فرجعا إليه فأخبراه.

فقال عثمان : من حكم الله يا بني أميّة يا فراش النار وذباب الطمع! شنّعتم عليّ وألّبتم عليّ أصحاب رسول الله!

عثمان وعمّار وناعي أبي ذر :

قال : ثم إنّ عمارا صلح من مرضه ، فخرج إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبينما هو كذلك إذ دخل ناعي أبي ذر من الربذة ، فوقف على عثمان وقال له : إن أبا ذرّ مات بالربذة وحيدا ، ودفنه قوم مسافرون! فاسترجع عثمان وقال : رحمه‌الله! فقال عمار : رحم الله أبا ذر من كل أنفسنا! فقال له عثمان : وإنك لها هنا بعد يا عاضّ أير أبيه! أتراني ندمت على تسييري إياه؟! قال عمار : لا والله ما أظنّ ذاك. قال عثمان : وأنت أيضا فألحق بالمكان الذي كان فيه أبو ذر فلا تبرحه ما حيينا! فقال عمّار : افعل ، والله لمجاورة السباع أحبّ إليّ من مجاورتك! وخرج يتهيأ للخروج!

٣٨٣

وجاءت بنو مخزوم إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فسألوه أن يقوم معهم إلى عثمان يستنزله عن تسيير عمار ، فقام معهم وسأله فيه ورفق به حتى أجابه (١).

كذا نقل المفيد الخبر مسندا عن الثقفي بسنده عن أبي يحيى مولى معاذ بن عفراء الأنصاري ، في حين قال اليعقوبي : فاجتمعت بنو مخزوم إلى عليّ بن أبي طالب ، وسألوه إعانتهم ، فقال عليّ : لا ندع عثمان ورأيه! فجلس عمّار في بيته ، وبلغ عثمان ما تكلم به بنو مخزوم فأمسك عن عمار (٢).

وتوفّي ابن عوف :

روى المعتزلي عن الواقدي بروايته قال : لما توفي أبو ذر قال علي عليه‌السلام لابن عوف : هذا عملك! فقال ابن عوف : إنه خالف ما أعطاني فإذا شئت فخذ سيفك وآخذ سيفي (٣).

وحلف ألّا يكلم عثمان أبدا (٤) حتى أنه لما كان في مرض موته وعاده عثمان تحوّل عنه إلى الجدار ولم يكلمه (٥).

__________________

(١) أمالي المفيد : ٦٩ ، م ٨ ، الحديث ٥ بسنده عن الثقفي عن أبي يحيى الأعرج المعرقب ، الذي عرقبه الحجّاج لامتناعه عن سبّ علي عليه‌السلام ، مولى معاذ بن عفراء الأنصاري الخزرجي.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٣.

(٣) شرح النهج (للمعتزلي) ٣ : ٢٨ عن الواقدي ، وفي بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٠. عن ق ٢ تقريب المعارف عن تاريخ الثقفي.

(٤) شرح النهج (للمعتزلي) ٣ : ٢٨.

(٥) أنساب الأشراف ٥ : ٥٧.

٣٨٤

ثم قال لهم : عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه (١) فبلغ ذلك عثمان فبعث على بئر لابن عوف كان يستقى منه لنعمه فمنعه منها! فوصّى ابن عوف أن لا يصلّي عليه عثمان ، فصلّى عليه ابن عمّه سعد بن أبي وقاص الزهريّ أو الزبير (٢) وذلك عام (٣٢ ه‍) (٣) وله (٧٥) سنة وقسّم ميراثه على ستة عشر سهما فبلغ نصيب كل امرأة له ثمانين ألف درهم ، وكان رجلا طويلا فيه انحناء أبيض مشرّبا بحمرة ، أعين أقنى أعنق ضخم الكفّين غليظ الأصابع طويل الثنيّتين حتى كان يدمى شفتيه كثيرا. وكان به برص فرخّص له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك في لبس الحرير (٤) أو لأنه كان قملا (٥).

وفاة ابن مسعود والمقداد :

قال اليعقوبي : واعتلّ ابن مسعود فأتاه عثمان يعوده ومعه عطاؤه الذي منعه من بيت المال ، فقال له : ما كلام بلغني عنك؟ قال : إنك أمرت بي فوطئ جوفي فلم أعقل صلاة الظهر ولا العصر! ومنعتني عطائي! فذكرت الذي فعلته بي.

قال : فإني أقيدك من نفسي ، فافعل بي مثل الذي فعل بك!

قال : ما كنت بالذي أفتح القصاص على الخلفاء! قال : فهذا عطاؤك فخذه!

__________________

(١) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٠ عن ق ٢ من تقريب المعارف عن تاريخ الواقدي.

(٢) شرح النهج (للمعتزلي) ٣ : ٢٨ ، وأوصى أن يدفن سرّا كيلا يصلّي عليه عثمان ، كما في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٠ عن ق ٢ من تقريب المعارف عن الثقفي.

(٣) تاريخ خليفة : ٩٧ ، والتنبيه والإشراف : ٢٥٥ ، وله (٧٥) عاما.

(٤) المعارف (لابن قتيبة) : ٢٣٥ ـ ٢٣٦ ، ونحوه في سنن أبي داود ٤ : ٥٠.

(٥) كما في كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٥٣.

٣٨٥

فقال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينيه وأنا غنيّ عنه؟ لا حاجة لي به! فقام وخرج.

وأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان ، حتى أوصى إلى عمّار بن ياسر أن يصلّي عليه ولا يخبر به عثمان ولما توفى كان عثمان غائبا (ولعلّه كان في الحج) فصلّى عليه عمار وستر أمره ، فلما رجع عثمان رأى القبر فسأل عنه فقيل : هو قبر عبد الله بن مسعود ، ولى أمره عمار بن ياسر وذكر أنه أوصى أن لا يخبر به.

ثم لم يمض إلّا يسيرا حتى مات المقداد بن الأسود الكندي في منزله بالجرف وحمل إلى بقيع المدينة وكان قد أوصى إلى عمار أيضا فصلّى عليه عمّار ولم يخبر به عثمان ، وبلغه ذلك فقال : ويلي على ابن السوداء! أما لقد كنت به عليما وغضب عليه (١).

وكانت وفاة ابن مسعود في عام (٣٢ ه‍) (٢) وكان رجلا نحيفا قصيرا يكاد الجلوس يوارونه ، آدم شديد الأدمة ، وكان لا يغيّر شيبه. وكان له أبناء ثلاثة وأخوه عتبة (٣).

وكان المقداد رجلا طويلا طوال آدم ، كثير شعر الرأس ، مقرونا أعين أقنى ، يصفرّ لحيته ، بطينا (٤) وكان يشكو من بطنه فشرب دهن الخروع ـ نبات ـ فمات (٥) عام (٣٣ ه‍) (٦) ولعله أوائله وله سبعون عاما (٧).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) تاريخ خليفة : ٩٧ ، والتنبيه والإشراف : ٢٥٥.

(٣) المعارف (لابن قتيبة) : ٢٤٩.

(٤) المعارف (لابن قتيبة) : ٢٦٢.

(٥) ذيل المذيّل (للطبري) : ٤٩٧ و٥٠٦.

(٦) تاريخ خليفة : ٩٨.

(٧) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.

٣٨٦

وثبة الصحابة في المدينة :

جاء في «الإمامة والسياسة» لابن قتيبة قال : ذكروا أنه اجتمع عشرة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتذاكروا ما خالف فيه عثمان من سنّة رسول الله ، وسنّة صاحبيه ، من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمّه من بني اميّة : أحداث وغلمان لا صحبة لهم من رسول الله ، ولا تجربة لهم في الامور.

وإدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبيّ ولا يغزون ولا يذبّون.

وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم ، واستغنى برأيه عنهم.

وتجاوزه الخيزران والدرّة ـ وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بهما ـ إلى السوط ، فهو أول من ضرب ظهور الناس بالسياط في غير الحدود.

وتطاوله في البنيان حتى بنى سبع دور لأهله نائلة وغيرها وبناته عائشة وغيرها.

والحمى الذي حماه حول المدينة لإبله وإبل الصدقة.

وما كان من هبة خمس إفريقية لمروان وفيه سهم الله ورسوله وذوي القربى ويتاماهم ومساكينهم.

وبنيان مروان القصور وعمارة الأموال بذي خشب وغيره من خمس الله ورسوله.

وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة وهو أمير عليها فصلّى بهم الصبح وهو سكران أربع ركعات ثم قال لهم : إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم؟ وتأخير عثمان إقامة الحدّ عليه وهو اخوه لامه!

٣٨٧

ثم كتب هؤلاء هذه المخالفات لعثمان في كتاب إليه ، وتعاهدوا ليدفعنّ الكتاب إليه ، ودفعوا الكتاب إلى عمّار بن ياسر ، فلما خرجوا ليدفعوه إليه وكان يوما شاتيا أخذوا يتسلّلون عنه حتى تركوه وحده!

وبلغ عمار دار عثمان فوقف واستأذن فأذن له ، فدخل عليه وعنده مروان وأهله من بني أميّة ، فدفع الكتاب إليه.

فقرأه ، فقال له : أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال : نعم ، قال : ومن كان معك؟ قال : كان معي نفر تفرّقوا فرقا منك! قال : من هم؟ قال : لا اخبرك بهم! قال : فلم اجترأت عليّ من بينهم؟

فقال مروان : يا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى عمار ـ : إن هذا العبد الأسود! قد جرّأ عليك الناس ، وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه (١).

فقال عثمان لعمّار : أعليّ تقدم من بينهم؟ قال : لأني أنصحهم لك! قال : كذبت يا ابن سمية! قال : أنا والله ابن ياسر وأنا ابن سمية! فأمر عثمان الغلمان أن يمدّوه ، فمدّوه ، وهو شيخ كبير ، وقام إليه عثمان يضربه بخفيه في رجليه على مذاكيره ، فأصابه الفتق وغشي عليه (٢).

ثم جرّوه حتى طرحوه على باب الدار ، فأمرت أمّ سلمة زوج النبي من حمله إلى منزلها ، وكان عمار حليف بني مخزوم فغضبوا له. فلما خرج عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن المغيرة فقال : أما والله لئن مات عمار من ضربه

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٣٢ ـ ٣٣ ، وانظر الجمل : ١٨٥ ومصادره في الهامش ، وفي الطبري ٤ : ٣٦٩ عن ابن إسحاق عن ابن الزبير : أن أهل المدينة كتبوا إلى عثمان يحتجّون عليه ويقسمون أنهم لا يمسكون عنه حتى يعطيهم ما يلزمه من الحق أو يقتلوه.

(٢) الشافي وتلخيصه ٤ : ١١٢.

٣٨٨

هذا لأقتلنّ به رجلا عظيما من بني أميّة! فقال له عثمان : لست هناك (١)! وشتمه عثمان وأمر الغلمان فدفعوه (٢)!

واتّخذ عمار لفتقه ثوبا تحت ثيابه ، فكان أول من لبس ذلك ، ولزم داره (٣).

وعن أبي كعب الحارثي اليمني قال : دخلت المدينة على عثمان بن عفان وهو يومئذ الخليفة وإذا هو جالس وحوله نفر سكوت لا يتكلّمون ، فسلمت وجلست ، فبينا نحن كذلك إذ جاء نفر فقالوا له : إنه أبى أن يجيء! فغضب عثمان وقال : اذهبوا فجيئوا به فإن أبى فجرّوه جرّا! فذهبوا.

وبعد قليل جاءوا ومعهم رجل طويل أصلع آدم في مقدم رأسه وقفاه شعرات ، وإذا هو عمار بن ياسر ، فقال له عثمان : تأتيك رسلنا فتأبى أن تجيء؟ فكلّمه بكلام ثم خرج ، وأخذ القوم ينفضّون عنه ، وقام فتبعته حتى دخل المسجد ، فإذا عمار جالس إلى سارية من سواري المسجد وحوله نفر من الصحابة يبكون ، فقال عثمان لمولاه : يا وثّاب (٤) ، عليّ بالشرط ، فجاءوا فقال لهم : فرّقوا هؤلاء ، ففرّقوهم.

ثم اقيمت الصلاة فتقدم عثمان للصلاة فلما كبّر صاحت عائشة : يا أيها الناس ... تركتم أمر الله وخالفتم عهده ، ونحو هذا ثم سكتت ، ثم تكلمت امرأة اخرى بمثل ذلك ، فإذا هي حفصة.

فسلّم عثمان وأقبل على الناس وقال : إن هاتين لفتّانتان يحلّ لي سبّهما!

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٣٣.

(٢) الشافي ٤ وتلخيصه ٤ : ١١٠.

(٣) الدرجات الرفيعة : ٢٦٣.

(٤) وكان من عتقاء عمر ، كما في الطبري ٤ : ٣٧١.

٣٨٩

فقال سعد بن أبي وقاص : أتقول هذا لحبائب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

فقال له عثمان : وفيم أنت وما هاهنا؟ ثم توجه إليه ليضربه ، فانسلّ منه! فاتّبعه عثمان ليضربه ، فلقي عليا عليه‌السلام بباب المسجد ، فقال له : أين تريد؟ قال : أريد هذا الذي ... وشتمه! فقال عليّ عليه‌السلام : أيها الرجل دع عنك هذا! وطال كلامهما حتى قال عثمان له : الست الذي خلّفك رسول الله يوم تبوك؟ فقال علي : ألست الفارّ عن رسول الله يوم احد؟ ثم حجز الناس بينهما!

ثم خرجت من المدينة إلى الكوفة فوجدت أهلها قد ردّوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليها (١).

واجتمع الناس إلى علي عليه‌السلام :

روى الواقدي بسنده قال : في سنة (٣٤ ه‍) نال الناس من عثمان وأكثروا عليه أقبح ما نيل من أحد ، يراهم ويسمعهم أصحاب رسول الله ولا ينهونهم ، واجتمعوا إلى علي بن أبي طالب وكلّموه فيه.

فدخل على عثمان وقال له : الناس ورائي ، وقد كلّموني فيك. والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئا تجهله ، ولا أدلك على أمر لا تعرفه ، إنك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك فقد رأيت وسمعت ، وصحبت رسول الله ونلت صهره ، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك! وإنك أقرب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رحما وقد نلت من صهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم ينالا ،

__________________

(١) شرح الأخبار (للقاضي النعمان) ١ : ٣٣٩ ، الحديث ٣١٠ مرسلا ، والمعتزلي في شرح النهج ٩ : ٣ عن الجوهري البصري مسندا.

٣٩٠

ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنك والله ما تبصّر من عمى ولا تعلّم من جهل ، وإن الطريق لواضح بيّن ، وإن أعلام الدين لقائمة.

تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى ، فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة ، فو الله إنّ كلّا لبيّن ، وإن السنن لقائمة لها أعلام ، وإن البدع لقائمة لها أعلام.

وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضلّ به ، فأمات سنة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة.

وإني سمعت رسول الله يقول : «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ويلقى في جهنم ، فيدور في جهنّم كما تدور الرّحى ثم يرتطم في غمرة جنهم».

وإني احذّرك الله واحذّرك سطوته ونقماته فإن عذابه أليم شديد ، واحذّرك أن تكون إمام هذه الامّة المقتول! فإنه كان يقال : يقتل في هذه الامة إمام فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، ويلبّس عليها امورها ويتركهم شيعا ، فلا يبصرون الحق لعلوّ الباطل ، يموجون فيه موجا ويمرجون مرجا! وسكت.

فقال له عثمان : والله لقد علمت الذي قلت (ولكن) والله لو كنت مكاني ما عنّفتك ولا أسلمتك ولا عبت عليك ، ولا جئت منكرا أن وصلت رحما وسددت خلّة (١) وآويت ضائعا ، وولّيت شبيها بمن كان يولّيه عمر ... فهل تعلم أن عمر ولّى معاوية في خلافته كلّها وأنا ولّيته!

__________________

(١) إلى هنا رواه المفيد في الجمل : ١٨٧ ، عن المدائني والرضي في نهج البلاغة ، الخطبة ١٦٤ ، وأقدم مصدر للخبر أنساب الأشراف ٥ : ٦٠ ، وانظر المعجم المفهرس لنهج البلاغة : ١٣٨١.

٣٩١

فقال علي : فإن معاوية يقتطع الامور دونك ويقول للناس : هذا أمر عثمان ، فيبلغك وتعلمها ولا تغيّر عليه! وقد كان معاوية أخوف من عمر من يرفأ غلام غمر منه!

فقال عثمان : وتعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ وتعلم أن عمر ولّاه ، فلم تلومني أن ولّيت ابن عامر مع رحمه وقرابته؟!

قال علي : فإن عمر كان من ولّاه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية ويطأ على صماخه ، وأنت لا تفعل ، ضعفت ورققت على أقربائك.

قال عثمان : هم أقرباؤك أيضا ، قال : لعمري إن رحمهم منّي لقريبة ، ولكن الفضل في غيرهم. ثم خرج علي من عنده (١).

خطبة عثمان جوابا :

قال : وخرج عثمان على أثر علي عليه‌السلام فرقى المنبر وقال : أما بعد ، فإن لكل شيء آفة ، ولكل أمر عاهة ، وإن آفة هذه الامة ، وعاهة هذه النعمة : عيّابون طعانون ، يرونكم ما تحبّون ويسرّون ما تكرهون ، يقولون لكم وتقولون ، أمثال النعام يتّبعون أول ناعق ، أحبّ مواردها إليها البعيد ، لا يشربون إلّا نغصا ولا يردون إلّا عكرا ، لا يقوم لهم رائد ، وقد أعيتهم الامور وتعذّرت عليهم المكاسب.

ألا وقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله ، ولكنّه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه. فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم ، ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم فاجترأتم عليّ.

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٣٧.

٣٩٢

أما والله لأنا أعزّ نفرا وأقرب ناصرا وأكثر عددا ، وأقمن إن قلت هلمّ أتى إليّ ـ ، ولقد أعددت لكم أقرانكم وكسرت لكم عن نابي ، وأخرجتم منّي خلقا لم أكن أحسنه ومنطقا لم أنطق به. فكفّوا عليكم ألسنتكم وطعنكم وعيبكم على ولاتكم ، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا.

ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فضل فضل من مال فمالي لا أصنع في الفضل ما اريد؟ فلم كنت إماما (١)؟ ما عاب عليّ ـ من عاب منكم ـ أمرا أجهله ، ولا أتيت الذي أتيت إلّا وأنا أعرفه (٢).

سراية النقمة إلى العراق :

كان الذين حضروا دفن أبي ذر «عصابة من المؤمنين» منهم مالك الأشتر النخعي وحجر بن عدي الكندي في نفر كلهم يمانيون كوفيون (٣) وحملوا معهم ابنته إلى المدينة ، وكانوا من آخر حجّاج العراق في موسم الحج ، حجّوا وزاروا المدينة وحملوا أخبارها والخليفة بها معهم إلى الكوفة في سنة (٣٣ ه‍) أي قبل مقتل عثمان بعامين.

وقد نقل البلاذري بإسناده : أن أهل الكوفة ـ ومعهم كعب بن عبدة النهدي ـ التقوا بأهل البصرة ومعهم المثنى بن مخرمة العبدي ، وبأهل مصر ومعهم

__________________

(١) نقله المفيد في الجمل : ١٨٩ عن المدائني ، وقبله الطبري ٤ : ٣٣٨ عن الواقدي.

(٢) ابن قتيبة في الإمامة والسياسة : ٢٨ بسنده عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين عليه‌السلام ، وانظر سائر مصادره في حاشية الجمل : ١٨٩.

(٣) الاستيعاب : ٨٣.

٣٩٣

كنانة بن بشر التجيبي السكوني ، في المسجد الحرام قبل مقتل عثمان بعام (١) فتذاكروا سيرة عثمان وتبديله وتركه الوفاء بما عاهد الله عليه وأعطى من نفسه ، وقالوا : لا يسعنا الرضا بهذا! فاجتمع رأيهم على أن يرجع كل منهم إلى مصره إلى من كان على مثل رأيهم من أهل بلده ، وأن يوافوا عثمان في العام المقبل فيسمعونه عتابهم ، فإن أعتبهم ، وإلّا رأوا رأيهم فيه (٢) ويظهر أن المثير لذلك ما مرّ عليه أهل الكوفة من ظلامة أبي ذر رحمه‌الله ، ثم ما مرّ من الخبر عن وثبة أهل المدينة وكلام الإمام وبيان عثمان.

إنما السواد بستان لقريش! :

روى البلاذري عن الكلبي عن أبي مخنف بسنده : أن سعيدا كان يسعد بمجالسة وجوه أهل الكوفة من قرّائها : مالك الأشتر النخعي ، وزيد وصعصعة ابني صوحان العبديّين ، وجندب بن زهير الأزدي ، وحرقوص بن زهير السعدي ، وشريح بن أوفى العبسي ، وعديّ بن حاتم الطائي ، وكعب بن عبدة النهدي الناسك ، وكدام بن حضري ، ومالك بن حبيب وقيس بن عطارد ، وزياد بن خصفة ، ويزيد بن قيس الأرحبي ، وحسّان بن محدوج الذهلي وغيرهم.

وذات يوم صلّوا مع سعيد العصر ثم دخلوا معه وجلسوا عنده وتذاكروا التفضيل بين أرض السواد والجبال ، ففضّل حسّان الذهلي السواد وقال : هو ينبت ما ينبت الجبل وفيه هذا النخل. وكان صاحب شرطة الكوفة عبد الرحمن بن خنيس الأسدي حاضرا فقال متزلفا للأمير : لوددت أنه للأمير! فقال له الأشتر : لا تتمنّى

__________________

(١) كذا ، والصحيح : بعامين ، لما يأتي من الأحداث التي تقتضي ذلك.

(٢) أنساب الأشراف ٥ : ٢٦ ، وانظر الغدير ٩ : ١٦٨.

٣٩٤

للأمير أموالنا. فقال الأسدي : والله لو شاء كان له! فقال الأشتر : والله لو رام ذلك ما قدر عليه! فقال سعيد : إنما هذا السواد بستان لقريش! فقال الأشتر : أتجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك (١)؟ إنما والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبا على أن يكون كأحدنا! وتكلم معه القوم بمثل قوله.

فقام إليهم الأسدي وقال : أتردّون على الأمير مقالته! فقال الأشتر : لا يفوتنكم الرجل! فقاموا إليه وبطحوه ووطئوه حتى غشي عليه! وتفرّقوا عنه (٢).

ونفاهم إلى الشام :

فروى النميري البصري عن المدائني عن أبي مخنف بسنده قال : كتب سعيد إلى عثمان :

«... إن قبلي قوما من القرّاء وهم سفهاء ، وثبوا على صاحب شرطتي فضربوه ظالمين له ، وشتموني واستخفّوا بحقّي ، منهم : كميل بن زياد ومالك بن الحارث (الأشتر ، النخعيّان) وعمرو بن زرارة ، وحرقوص بن زهير ، وشريح بن أوفى ، وزيد وصعصعة ابنا صوحان (العبديّان) وجندب بن زهير ويزيد بن مكنّف ...».

فكتب عثمان إلى سعيد : «... إني قد كفيتك مؤونتهم ، فأقرئهم كتابي فإنهم لا يخالفون إن شاء الله ، وعليك بتقوى الله وحسن السيرة ...» وكتب معه إليهم أن ينتقلوا إلى مغازي الشام. وأقرأهم الكتاب فشخصوا إلى دمشق.

فقال لهم معاوية : إنكم قدمتم بلدا لا يعرف أهله إلّا الطاعة ، فلا تجادلوهم فتدخلوا الشك في قلوبهم.

__________________

(١) أنساب الأشرف ٥ : ٣٩ ، وانظر الغدير ٩ : ٣١.

(٢) الطبري ٤ : ٣٢٣ عن الواقدي.

٣٩٥

فقال الأشتر وعمرو بن زرارة : إن الله قد أخذ على العلماء موثقا أن يبيّنوا علمهم للناس ، فإن سألنا سائل عن شيء نعلمه فلا نكتمه! فحبسهما معاوية. ثمّ كلّمه زيد بن صوحان فيهما فأخرجهما. فبلغ معاوية أن قوما يأتونهم ، فأشخصهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص (١).

فاجتمع ناس من نسّاك أهل الكوفة ووجوههم منهم : حجر بن عدي الكندي ، وعمرو بن الحمق وسليمان بن صرد الخزاعيّان ، وكعب بن عبدة النهدي ، ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن حفص التميميّان ، ويزيد بن قيس الأرحبي ، وعبد الله بن الطفيل العامري ، وزيد بن قيس الطائي ، ومالك بن حبيب ، وكتبوا إلى عثمان :

«... إن سعيد بن العاص كثّر عندك على قوم من أهل الدين والفضل ، فحملك من أمرهم على ما لا يحل ، وإنا نذكّرك الله في امة محمد فإنك قد بسطت يدك فيها ، وحملت بني أبيك على رقابها ، وقد خفنا أن يكون فساد هذه الامة على يديك ، فإنّ لك ناصرا ظالما ، وناقما عليك مظلوما ، فمتى نقم عليك الناقم ونصرك الظالم تباين الفريقان واختلفت الكلمة! فاتّق الله فإنك أميرنا ما أطعت الله واستقمت» ثم لم يسمّ أحد منهم نفسه في الكتاب إلّا كعب بن عبدة النهدي ، وبعثوا بالكتاب مع أبي ربيعة العنزي.

فلما قرأ عثمان الكتاب قال له : من كتب هذا الكتاب؟ سمّهم لي. قال : صلحاء أهل المصر وما اسمّي إلّا من سمّى نفسه!

فكتب عثمان إلى سعيد : انظر ابن ذي الحبكة (النهدي) فاضربه عشرين سوطا وحوّله على ديوان الري! فضربه سعيد وسيّره إلى جبل دماوند مع

__________________

(١) تاريخ المدينة المنورة ٤ : ١١٤١ وتمامه : وكانوا بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيدا منها فرجعوا إليها.

٣٩٦

مجير بن حمران الأحمري ، فقال كعب شعرا يدعو فيه على عثمان وأبلغه الشعر ، فكتب عثمان إلى سعيد : أن يقدم به ويحمله إليه ، فردّه ثم أشخصه إلى عثمان ، فاعتذر عثمان إليه وردّه إلى الكوفة (١).

عودة المبعدين وتمرّدهم :

روى البلاذري : أن عثمان لما سمع ضجّة الجماعة بشكواهم عليه كتب إلى امرائه أن يجتمعوا لديه : أخوه ابن أبي سرح من مصر ، ومعاوية من الشام وابن خالته ابن كريز من البصرة ، وسعيد بن العاص من الكوفة ، وخلّف عليهم ثابت بن قيس الأنصاري.

فلما غاب ابن سعد من الكوفة وابن حرب من الشام ، اغتنم أهل الكوفة غيابهما عنهما واجتمعوا وأجمعوا أن يكتبوا إلى أصحابهم في حمص يعلمونهم أن «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» فلا طاعة لعثمان مع إقامته على ما ينكر منه.

ورحّب الأرحبي هانئ بن خطّاب بحمل كتابهم إليهم فركب طريق الفلاة مسرعا إليهم حتى بلّغهم ذلك ، فلما قرءوا الكتاب خرج الأشتر بأصحابه حتى قدموا الكوفة.

وكان سعيد بن العاص قد خلّف عليهم ثابت بن قيس الأنصاري في دار الإمارة ، فلما كان يوم الجمعة تقدم الأشتر وخطبهم فقال : إن عثمان قد بدّل وغيّر ، وحضّ الناس على منع سعيد من دخول الكوفة.

فقام قبيصة بن جابر الأسدي وقال له : يا أشتر! دام شترك (جرحك) وعفا أثرك! أطلت الغيبة وجئت بالخيبة! أتأمرنا بالفرقة والفتنة ، ونكث البيعة وخلع الخليفة؟!

__________________

(١) تاريخ المدينة (للبصري) ٤ : ١١٤٣ عن المدائني ، وانظر الغدير ٩ : ٤٧ ـ ٥٢.

٣٩٧

فقال له الأشتر : يا قبيصة! وما أنت وهذا؟! فو الله ما أسلم قومك إلّا كرها (١) ولا هاجروا إلّا فقرا! فوثب الناس عليه فضربوه حتى جرحوا جبهته. وأعطى الوجوه والقرّاء جميعا للأشتر عهودهم ومواثيقهم أن لا يدعوا سعيد بن العاص يدخل الكوفة واليا أبدا (٢).

وفد الأشتر في المدينة :

قال المسعودي : فاجتمع منهم سبعون شخصا ووفدوا مع الأشتر على عثمان ، فذكروا سوء سيرة سعيد فيهم ، وسألوه عزله عنهم. ولكنه كره أن يعزله وأن يردّه ، فأقام الوفد أياما لا يردّهم. ومكث الأشتر وأصحابه وامتدّت أيامهم لا يخرج إليهم من عثمان شيء في سعيد ، حتى كتبوا من البلدان إلى عثمان يشكون إليه تعطيل الثغور بغياب الولاة عنهم.

فجمعهم عثمان وقال لهم : ما ترون؟ وكان عمرو بن العاص حاضرا.

فقال معاوية : أما أنا فجندي راضون بي!

وقال عبد الله بن عامر : أنا أكفيك ما قبلي وليكفك كل امرئ ما قبله.

وقال عبد الله بن سعد : إنّ عزل عامل وتولية غيره للعامة ليس بكثير!

فقال سعيد بن العاص : إنك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولّون ويعزلون ، وقد صاروا حلقا في المسجد ليس لهم همّ غير الخوض في الأحاديث ، فجهّزهم في البعوث حتى يكون همّ أحدهم أن يموت على ظهر دابّته!

فخرج عمرو بن العاص إلى المسجد فإذا طلحة والزبير قالا له : ما وراءك؟ قال : الشر ما ترك شيئا من المنكر إلّا أمر به!

__________________

(١) لأن كثيرا منهم ارتدّوا مع طلحة بن خويلد الأسدي.

(٢) أنساب الأشراف ٦ : ١٥٦.

٣٩٨

وجاء الأشتر فقالا له : إن عاملكم الذي قدمتم فيه قد ردّ عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث. فقال الأشتر : وأيم الله! لو لا أني أنفدت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته إلى الكوفة لأمنعه من دخولها! فأسلفه كلّ منهما خمسين ألف درهم! فقسمها بين أصحابه ، وخرجوا إلى الكوفة ، فسبق سعيدا ، وصعد المنبر وعليه سيفه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أما بعد ، فإن عاملكم الذي انكرتم تعدّيه وسوء سيرته قد ردّ عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث! فبايعوني على أن لا يدخلها!

فبايعه من أهل الكوفة عشرة آلاف (١) ثم تقدّم الأشتر فصلى الجمعة بالناس ، ثم أمر كميل بن زياد ليخرج ثابت بن قيس الأنصاري من القصر فأخرجه منه ، وكان فيه مال سعيد ومتاعه فأباحه للناس فنهبوه حتى أنهم قلعوا أبواب الدار ، ثم أمر الأشتر زياد بن النضر أن يلزم القصر ويصلّي بهم العصر.

وانفرد البلاذري في خبره هذا بأن الأشتر تقدّم إلى عمّال الكوفة أن يضبطوا نواحيهم ويسكّنوا الناس ولا يجبونهم. وبلغه أن الأكراد بناحية الدّينور من بلاد الجبل قد أفسدوا ، فبعث الأشتر هانئ بن أبي حيّة الوداعي الهمداني في ألف فارس إلى حلوان فقاتلهم مقتلة عظيمة وأوقع بهم وبقى محافظا لطريق الجبال إلى كرمانشاه.

وبعث إلى المدائن وسواد بغداد إلى خانقين يزيد بن حجيّة التيمي ، وإلى ما دون المدائن عروة بن زيد الطائي.

وبعث عائذ بن حملة في خمسمائة إلى أرض واسط بينه وبين البصرة ، وبعث جمرة بن سنان الأسدي في خمسمائة إلى عين تمر بينه وبين الشام ،

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٣٩٩

وخرج الأشتر من الكوفة ومعه مالك بن كعب الأرحبي في خمسمائة فارس فبعثه إلى عذيب الهجانات على طريق الحجاز إلى الكوفة ليردّ سعيدا إن أتاه ، وعسكر الأشتر بين الكوفة إلى الحيرة ، فالتقى الأرحبيّ بسعيد فقال له : لا والله لا تشرب من ماء الفرات قطرة! فردّه.

ورجع الأشتر إلى الكوفة ، وكان فيها أبو موسى الأشعري فقدّمه للصلاة على زياد بن النضر ، وكان فيها حذيفة بن اليمان فولّاه خراج السواد.

ودعا عثمان بعبد الرحمن بن أبي بكر والمسور بن مخرمة المخزومي وكتب معهما إلى الأشتر وأصحابه يأمرهم بالتقوى والرجوع إلى الحق والطاعة ، وأن يكتبوا إليه بما يحبّون!

فكتب الأشتر إليه : «من مالك بن الحارث إلى الخليفة الخاطئ المبتلى. الحائد عن سنّة نبيّه ، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره. أما بعد ، فقد قرأنا كتابك ، فانه نفسك وعمّالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين ، نسمح لك بطاعتنا. وقد زعمت أنا قد ظلمنا أنفسنا ، ذلك ظنك الذي أرداك فأراك الجور عدلا والباطل حقا.

وأمّا محبّتنا : فأن تنزع وتتوب وتستغفر الله من تجنّيك على خيارنا ، وتسييرك صلحاءنا ، وإخراجك ايانا من ديارنا ، وتوليتك الأحداث علينا ، وأن تولّى مصرنا عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعري وحذيفة ، فقد رضيناهما ، واحبس عنّا وليدك وسعيدك ، ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك ، والسلام».

وبعث به مع أبي شبل علقمة بن قيس النخعي وخارجة بن الصلت البرجمي التميمي ، وعبد الله بن يزيد الجعفي ، ومسروق بن الأجدع الهمداني ، ويزيد بن قيس الأرحبي وغيرهم.

٤٠٠