موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

والبخس بالزكاة (١) والسحت بالهدية!

قلت : يا رسول الله ، فما هم إذا فعلوا ذلك : أهم أهل ردة أم أهل فتنة؟

قال : هم أهل فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل.

قلت : يا رسول الله ، العدل منا أم من غيرنا؟ فقال : بل منّا ، بنا فتح الله وبنا يختم ، وبنا ألّف الله بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف الله بين القلوب بعد الفتنة.

فقلت : الحمد لله على ما وهب لنا من فضله (٢).

ومن أخبار حيرتهم في الفتنة أنّ الحارث بن حوط الرّاني أو الليثي قال له :

أفأظنّ أن طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل؟

__________________

(١) لا معنى لاستحلال البخس باسم الزكاة إلّا ما علّقه عليه محقق الأمالي المرحوم الغفاري : أنهم يستحلون لأنفسهم البخس بالمكيال والميزان على الناس بحجة ما يدفعون من الزكاة يرونها تحلّل لهم بخسهم. والزكاة هنا لعلها بمعناها العام دون الزكاة المفروضة لأول السنة العاشرة للهجرة ، ونزول سورة النصر على المختار للبشارة بفتح مكة في الثامنة.

وتنبّه إلى ورود مثل هذا الإشكال على لفظ الخبر برواية الرضيّ في نهج البلاغة : المعتزلي الشافعي في شرحه ٩ : ٢٠٧ ، قال : فهو يدل على أن آية : (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ ...) أنزلت بعد احد ، وهو خلاف قول أرباب التفسير فهي عندهم بالاتفاق مكية ، ويوم احد كان بالمدينة. ثم دفع الإشكال باحتمال أن تكون هذه الآية مدنية ألحقت بسورة العنكبوت المكية! وفي لفظ رواية الرضيّ إشكالات أخر ، ليست في ما رويناه عن أمالي شيخه المفيد. والآيتان : ١ و٢ من سورة العنكبوت.

(٢) أمالي المفيد : ٢٨٨ ، م ٣٤ ، الحديث ٧ ، وعنه في أمالي الطوسي : ٦٥ ، الحديث ٩٦. ومصادر نقل الرضي في المعجم المفهرس : ١٣٨٨ ، الخطبة ١٥٦ ، ونقل الخبر المعتزلي وقال : هذا الخبر مروي عن رسول الله قد رواه كثير من المحدّثين عن علي عليه‌السلام ٩ : ٢٠٦.

٦٤١

فقال عليه‌السلام : يا حارث! إنه ملبوس عليك ، إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس ، ولكن اعرف الحق تعرف أهله ، واعرف الباطل تعرف من أتاه (١).

وكأنّ الأحنف بن قيس ساءه أنه تخلّف عن الإمام عليه‌السلام فلحقه بالبصرة وأبدى له أنه على بصيرة من أمره مقتد به وأنه من الصالحين من شيعته ، فكان في كلام الإمام معه أخباره ببعض الملاحم الآتية على البصرة من أصحاب الزنج والمغول والتتار ، وكان يحضرهم رجل من كلب فقال له : يا أمير المؤمنين! لقد أعطيت علم الغيب! فضحك وقال له :

يا أخا كلب ، إنما علم الغيب : ما عدّده الله سبحانه بقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(٢) فيعلم الله ما في الأرحام من ذكر أو انثى ، وقبيح أو جميل ، وسخيّ أو بخيل ، وشقيّ أو سعيد ، ومن يكون في النار حطبا أو في الجنان للنبيّين مرافقا ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّا الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه فعلمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري ، وتضطمّ عليه جوانحي (٣).

علي عليه‌السلام والغلوّ فيه :

أرض البصرة كان العرب يسمّونها : أرض الهند ، ومرّ أن السيابجة قوم من الهنود السود فسمّوا بالفارسية : (سياه بچّه) أي الأولاد السّود ، وكان قد أسلم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢١٠ ، والرضي في نهج البلاغة ، الخطبة ٢٦٢ ، والطوسي في الأمالي : ١٣٤ ، الحديث ٢١٦ ، عن المفيد وليس في أماليه ، وأنساب الأشراف ٢ : ٢٣٨ ، الحديث ٢٦٩ ، عن أبي مخنف.

(٢) لقمان : ٣٤.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٢٨ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٧.

٦٤٢

قوم منهم وتعبّدوا حتى ثفنت جباههم ، فاستخدمهم عثمان بن حنيف حرّاسا له ولبيت المال وقاوموا طلحة والزبير في يوم الجمل الأصغر فقتلهم الزبير بيده.

وكأنّ قوما منهم لما دخل الإمام البصرة وسمعوا عنه ورأوا منه بعض الخوارق قالوا فيه بالغلو ، فقد قال الحلبي : روي أن سبعين رجلا من الزطّ (البحّارة السنديين) أتوه يدعونه إلها وسجدوا له! فقال لهم : ويلكم لا تفعلوا هذا فإنما أنا مخلوق مثلكم ، فأبوا عليه! فقال لهم : فإن لم ترجعوا عمّا قلتم فيّ وتتوبوا إلى الله لأقتلنّكم! فأبوا أيضا!

فأمر عليه‌السلام أن يحفروا لهم أخاديد ويوقدوا فيها نارا ، فلم يزالوا مصرّين!

ولم نعلم باسم قنبر في البصرة إلّا هنا فقد ورد في الخبر : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام أمره فكان يحملهم واحدا بعد آخر وعلى منكبه فيقذف بهم في أخاديد النيران ولا يرجعون! فروي عن الإمام عليه‌السلام أنه هنا أخذ يقول شعرا :

إني إذا أبصرت أمرا منكرا

أوقدت نارا ودعوت قنبرا

ثم احتفرت حفرا فحفرا

وقنبر يخطم خطما منكرا (١)

وأملى لهم أساس النحو :

وحيث كثر غير العرب من الفرس والهنود بالبصرة كثر لحنهم في العربية ، وسمعهم الإمام عليه‌السلام ، فروى عبد الرحمن بن إسحاق النهاوندي البغدادي الشامي الزجاجي (م ٣٣٩ ه‍) منسوبا إلى شيخه الزجاج النحوي (م ٣١٠ ه‍) في كتابه «الأمالي» بسنده إلى أبي الأسود الدؤلي الكناني قال : دخلت على أمير المؤمنين

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٢٥ ، بعنوان الردّ على الغلاة. وخطم وحطم بمعنى واحد وقنبر كان فارسيا واسمه معرّب مركّب أي يذهب بالغمّ : غمبر وهذا أول ذكره مع الإمام عليه‌السلام.

٦٤٣

(بالبصرة) فرأيته مطرقا مفكّرا ، فقلت : فيم تفكّر يا أمير المؤمنين؟ قال : إني سمعت ببلدكم هذا (البصرة) لحنا كثيرا ، فأردت أن أضع كتابا في أصول العربية! فقلت له : إن فعلت هذا أحييتنا وبقيت فينا هذه اللغة! ثم خرجت من عنده.

وبعد ثلاثة أيام عدت إليه فتناول صحيفة وألقاها إليّ فقرأتها وإذا فيها :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، الكلمة : اسم وفعل وحرف ، فالاسم : ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل : ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف : ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل» ثم قال لي :

يا أبا الأسود ، إن الأشياء ثلاثة : ظاهر ، ومضمر ، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر (كالمبهمات).

ثم قال لي : يا أبا الأسود ، تتبّعه فما وقع لك فزده فيه.

فجمعت أشياء وزدتها فيه وأتيته بها ومنها حروف النصب : إنّ وأنّ وليت ولعلّ وكأنّ ، فقال لي : لم تركت لكنّ ، فهي منها فزدها فيها (١).

ورسالة اخرى إلى الكوفة :

مرّ الخبر عن كتاب له عليه‌السلام إلى أهل الكوفة أوائل فتح البصرة ، وهذا كتاب له آخر في شهر رجب أي بعد أكثر من شهر ونصف أو خمسين يوما ، بعنوان أمير الكوفة بعد الأشعري : قرظة بن كعب الأنصاري ، مع عمر بن سلمة الأرحبيّ :

__________________

(١) عن أمالي الزجاجي في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢١٣ والشيعة وفنون الإسلام : ١٦١ ، وتأسيس الشيعة : ٦٠ وفي قاموس الرجال ٥ : ٥٨٢ برقم ٣٧٧١ من معجم الأدباء للحموي. واختصر الخبر المرتضى في الفصول المختارة من العيون والمحاسن للمفيد : ٩١ ، ط. المؤتمر.

٦٤٤

«من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى قرظة بن كعب ومن قبله من المسلمين : سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ؛ فإنا لقينا القوم الناكثين لبيعتنا ، المفرّقين لجماعتنا ، الباغين علينا من امتنا ، فحاججناهم إلى الله فنصرنا الله عليهم ، وقتل طلحة والزبير ، وقد تقدّمت إليهما بالمعذرة ، واستشهدت عليهما صلحاء الامة ونكثهما بالبيعة ، فما أطاعا المرشدين ولا أجابا الناصحين ، ولاذ أهل البصرة بعائشة ، فقتل حولها عالم جلّ جمّ لا يحصى عددهم إلّا الله ، ثم ضرب الله وجه بقيّتهم فأدبروا. فما كانت ناقة الحجر (قوم ثمود) بأشأم منها على أهل ذلك المصر! مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها لربّها ونبيّها ، واغترار من اغترّ بها ، وما صنعته من التفرقة بين المؤمنين ، وسفك دماء المسلمين ، بلا بيّنة ولا معذرة ولا حجّة لها.

فلما هزمهم الله أمرت : أن لا يقتل مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ولا تكشف عورة ، ولا يهتك ستر ، ولا يدخل دار إلّا بإذن أهلها ، وآمنت الناس.

وقد استشهد منا رجال صالحون ، ضاعف الله لهم الحسنات ورفع درجاتهم ، وأثابهم ثواب الصابرين ، وجزاهم من أهل مصر عن أهل بيت نبيّهم أحسن ما يجزى العاملين بطاعته ، والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ، ودعيتم فأجبتم ، فنعم الإخوان والأعوان على الحق أنتم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب عبيد الله بن أبي رافع في رجب سنة ستة وثلاثين» (١).

رواه أبو مخنف عن ابن بشير الهمداني قال : ورد كتاب أمير المؤمنين مع عمر ابن سلمة الأرحبي إلى الكوفة ، فلما سمع به الناس كبّروا تكبيرة سمعها عامة الناس واجتمعوا لها بالمسجد ، ونودي الصلاة جمعا ، فلم يتخلّف أحد ، فقرئ عليهم الكتاب (٢).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) الكافية في إبطال توبة الخاطئة ، وعنه في بحار الأنوار ٣٢ : ٢٥٢.

٦٤٥

أمره عليه‌السلام عائشة بالرجوع :

نقل المفيد عن الواقدي قال : لما عزم أمير المؤمنين على المسير إلى الكوفة ، أنفذ إلى عائشة يأمرها بالرحيل إلى المدينة (١) فعن ابن عباس قال : بعد استقرار أمر الناس في البصرة بعث بي علي عليه‌السلام إلى عائشة يأمرها بالرحيل عن البصرة والرجوع إلى دارها (٢).

وكانت هي في قصر بني خلف الخزاعي في جانب البصرة ، فأتيتها وطلبت الإذن عليها ، فلم تأذن! فدخلت عليها من غير إذنها ، فإذا هو دار قفار ، لم يعدّ لي فيه مجلس ، وإذا هي من وراء سترين! وإذا في جانب الدار رحل عليه طنفسة (بساط) فأخذتها ومددتها وجلست عليها.

فقالت : يا ابن عباس : أخطأت السنة! دخلت دارنا بغير إذننا ، وجلست على متاعنا بغير إذننا.

فقلت لها : نحن أولى بالسنة منك ومن أبيك! ونحن علّمناك السنة وأباك ؛ وإنما بيتك الذي خلّفك فيه رسول الله فخرجت منه ظالمة لنفسك! غاشّة لدينك ، عاتية على ربّك! عاصية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا رجعت إلى بيتك لم ندخله إلّا بإذنك ، ولم نجلس على متاعك إلّا بأمرك! إن أمير المؤمنين بعث إليك يأمرك بالرّحيل إلى المدينة وقلة العرجة (الإقامة).

فقالت : رحم الله أمير المؤمنين ذاك عمر بن الخطّاب!

فقلت لها : وهذا والله أمير المؤمنين وإن تربّدت فيه وجوه ورغمت فيه معاطيس! أما والله لهو أمير المؤمنين وأمسّ برسول الله رحما وأقرب قرابة ، وأقدم سبقا ، وأكثر علما ، وأعلى منارا ، وأكثر آثارا من أبيك ومن عمر!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤١٥.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان ١ : ٣٩٠ ، الحديث ٣٣٢.

٦٤٦

قالت : أبيت ذلك!

فقلت لها : لقد كان إباؤك ذلك لقصير المدة! عظيم السبقة! ظاهر الشؤم! بيّن النكد! وما كان إلّا كحلب شاة حتى صرت لا تأمرين ولا تنهين! ولا ترفعين ولا تضعين! وما كان مثلك إلّا كمثل الحضريّ بن (عامر بن) نجمان الأسدي حيث يقول :

ما زال إهداء القصائد بيننا

شتم الصديق وكثرة الألقاب

حتى تركت كأنّ صوتك بينهم

 ـ في كل مجمعة ـ طنين ذباب

قال : فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب ، فأراقت دمعتها وأبدت عويلها وبدا نشيجها ، ثم قالت : أرحل ـ والله ـ عنكم ، فما في الأرض بلد أبغض إليّ من بلد أنتم فيه! (ولعلّها علمت برحيل الإمام إلى الكوفة).

قلت : ولم ذلك؟ فو الله ما ذلك ببلائنا عندك ، ولا بصنيعنا إليك إذ جعلناك امّا للمؤمنين وأنت بنت أم رومان!

فقالت : يا ابن عباس! تمنّون عليّ برسول الله؟!

فقلت : ولم لا نمنّ عليك بمن لو كان منك قلامة منه ، أو لو كان فيك منه شعرة ، لمننت بها وفخرت ، ونحن منه وإليه لحمه ودمه ، وما أنت إلّا حشيّة (فراش محشو) من تسع حشيّات خلّفهن بعده ، لست بأبيضهن لونا! ولا بأحسنهن وجها! ولا بأرشحهنّ عرقا! ولا بأرسخهن عرقا! ولا بأنضرهنّ روقا! ولا بأطراهن أصلا! ولا بأمدّهنّ ظلا! فصرت تأمرين فتطاعين! وتدعين فتجابين! وما مثلك إلّا كما قال أخو بني فهر :

مننت على قومي فأبدوا عداوة

فقلت لهم : كفّوا العداوة ، والشكرا!

ففيه رضا من مثلكم لصديقه

وأحرى بكم أن تجمعوا البغي والكفرا

٦٤٧

قال : فسكتت! وانصرفت إلى علي عليه‌السلام فأخبرته بمقالتها وما رددت عليها ، فقال لي : أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك (١)!

وتثاقلت عائشة بعد ذلك عن الخروج! فأرسل إليها علي عليه‌السلام : والله لترجعينّ إلى بيتك! أو لألفظنّ لفظة لا يدعونك بعدها امّا للمؤمنين (٢)!

وأجمل المفيد خبر خروجها من البصرة في «الجمل» فلم يذكر فيه خبر ابن عباس ، نعم ذكره في «الكافئة» بطريقين ، وزاد : أنه قال لها : يا امّاه! ألسنا أولياء بعلك؟ أو ليس قد اوتيت أجرك مرّتين؟ أو ليس قد ضرب الله عليك الحجاب؟ فما أخرجك علينا مع منافقي قريش؟!

فقالت : كان ذلك قدرا يا ابن عباس ، قال ابن عباس : «وكانت أمّنا تؤمن بالقدر» أي بهذا التفسير الخطير للتقدير الجبريّ غير الاختياريّ! فهذه من البوادر الأولى لهذا المعنى الباطل.

وفي معنى الخبر الأسبق نقل فيها عن الأصبغ بن نباتة : أنها لمّا أبت أن ترجع قال لها : ارجعي! وإلّا تكلّمت بكلمة تبرئين بها عن الله ورسوله!

وعن عمر بن سعد الأسدي ، أنه قال لها : يا شقيراء! ارتحلي! وإلّا تكلّمت بما تعلمينه! فقالت : نعم ، أرتحل!

وعن الأحنف بن قيس التميمي : أنها لما أبت ، قال لها : لئن لم تفعلي لأرسلنّ إليك نسوة من بكر بن وائل بشفار حداد يأخذنك بها!

__________________

(١) رجال الكشي : ٥٧ ـ ٦٠ ، الحديث ١٠٨. واختزل الخبر المعتزلي في شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٢٩ فلم يورد المقاطع الأخيرة.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري ١ : ٣٩٢ ، الحديث ٣٣٢ وانفرد بهذا الذيل وله تتمة.

٦٤٨

وعن حبّة العرني : أنه عليه‌السلام بعث إليها أخاها محمدا مع عمار بن ياسر : أن ارتحلي والحقي ببيتك الذي تركك فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : والله لا اريم عن هذا البلد أبدا!

فرجعا إلى علي عليه‌السلام وأخبراه بقولها ، فغضب ، فأضاف إليهما الأشتر وبعثهم إليها : أن والله لتخرجنّ أو لتحملنّ احتمالا!

ثم أرسل إلى رجال من بني عبد القيس فقال لهم : اندبوا إليّ الحرّة الخيرة من نسائكم ، فإن هذه المرأة من نسائكم ـ وقد أبت أن تخرج ـ لتحملوها احتمالا!

فلما علمت عائشة بذلك قالت لهم : قولوا له فليجهّزني ، فأتوا أمير المؤمنين فذكروا له ذلك ، فجهّزها وبعث إليها بالنساء ، فلما رأت النساء معهنّ الإبل ارتحلت (١).

إرسالها إلى دارها :

نقل المفيد عن الواقدي : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام أمر أربعين امرأة (من بني عبد القيس) أن يتزيّن بزيّ الرجال فيلبسن القلانس والعمائم ويتقلدن السيوف ، فيكنّ عن يمين عائشة وشمالها وخلفها فيحفظنها حتى يوصلنها إلى دارها بالمدينة ، ففعلن النساء ذلك. فكانت عائشة تقول في طريقها : اللهم افعل بعليّ بن أبي طالب بما فعل بي!

فلما بلغن المدينة ألقين العمائم والسيوف ودخلن معها ، فلما رأتهنّ كذلك أبدت الندم على ما فرّطت بذم عليّ عليه‌السلام وسبّه! وقالت : جزى الله ابن أبي طالب خيرا ، فقد حفظ فيّ حرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ونقل السبط عن الكلبي :

__________________

(١) الكافئة في إبطال توبة الخاطئة للمفيد ، وعنها في بحار الأنوار ٣٢٠ : ٢٧٤ و٢٧٥.

(٢) الجمل للمفيد : ٤١٥ وبهامشه مصادر كثيرة ، وفي اليعقوبي ٢ : ١٨٣ : سبعين امرأة.

٦٤٩

أنه عليه‌السلام بعث معها أخاها عبد الرحمن في ثلاثين رجلا وعشرين امرأة من ذوات الدين من عبد القيس وهمدان من أشراف البصرة ، وإنما ردّها امتثالا لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له به (١).

الربيع بن زياد وأخوه عاصم :

كان الربيع بن زياد الحارثي وأخوه عاصم ممّن نزل البصرة مع أبي موسى الأشعري ، فاستعمله الأشعري على البحرين ، وله ٤٥ عاما (٢) وكان بالبصرة والتحق بعليّ عليه‌السلام فأصابته نشّابة في جبينه ، فأتاه علي عليه‌السلام عائدا ، فقال له : كيف تجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال : يا أمير المؤمنين ؛ لو كان لا يذهب ما بي إلّا بذهاب بصري لتمنّيت ذهابه! قال : وما قيمة بصرك عندك؟ قال : لو كانت لي الدنيا لفديته بها! قال : لا جرم ، ليعطينّك الله على قدر ذلك ؛ إن الله تعالى يعطي على قدر الألم والمصيبة ، وعنده تضعيف كثير (٣)!

وكانت داره واسعة ، فلما رأى الإمام سعة داره قال له : ما تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت أحوج إليها في الآخرة؟ ثم قال : بلى إن شئت

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٧٩ و٨٠ ونحوه في مروج الذهب ٢ : ٣٧٠ وكان أخوها عبد الرحمن مع علي عليه‌السلام كما في الإمامة والسياسة ١ : ٧٥.

(٢) شرح النهج للمعتزلي الشافعي ١ : ١٧٥ و ١٧٦ ، وقال في ١١ : ٣٥ : هذا ما رأيته بخطّ ابن الخشّاب ورويته عن الشيوخ ... وأما العلاء بن زياد الذي ذكره الرضي رحمه‌الله (نهج البلاغة خ ٢٠٩ وفي المعتزلي : ٢٠٢) فلا أعرفه! وطاب الربيع وعاش بعد علي عليه‌السلام عشر سنين ، فاستعمله زياد بن أبيه لفتوحات خراسان ، وبلغه قتل حجر الكندي فدعا وقال : اللهم إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك! فلم يبرح حتى مات رحمه‌الله سنة (٥١ ه‍) كما في اسد الغابة.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١١ : ٣٥.

٦٥٠

بلغت بها الآخرة : تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا بلغت بها الآخرة (١).

فلما ذكر الإمام صلة الأرحام ، تذكّر الربيع أخاه عاصما حيث تخلّى من الدنيا وترك الملاءة اللينة واكتفى بالعباء الخشن من الصوف (متصوّفا) وهي أول بادرة لها يومئذ ، فشكاه الربيع إلى الإمام عليه‌السلام ليرى هل يرضى به أم لا؟ فقال عليه‌السلام : ادع إلى عاصما ، فلما أتاه عبّس في وجهه (٢).

وقال له : يا عديّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها! أنت أهون على الله من ذلك!

فقال له : يا أمير المؤمنين ؛ هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك!

فقال : ويحك! إني لست كأنت ، إن الله تعالى فرض على أئمة الحق أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيّغ (يتهيّج) بالفقير فقره (٣) فألقى عاصم العباء ولبس الملاء (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة خ ٢٠٩ ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٤٩٣ وأقدمها أصول الكافي ١ : ٤١٠ برواية أخرى.

(٢) أصول الكافي ١ : ٤١٠ وقال : بأسانيد مختلفة.

(٣) نهج البلاغة خ ٢٠٩ واخترناه لاختصاره.

(٤) أصول الكافي ١ : ٤١١ وهو أوفى من خبر النهج ، والملاء : جمع الملاءة : الثوب اللّين الرقيق ـ مجمع البحرين ١ : ٣٩٨. ويبقى القول : أن الثقفي الكوفي في الغارات ٢ : ٥٥٨ ذكر العلاء بن زياد في نواصب البصرة ، ولكنه العدوي المتوفى في ٩٤ ه‍. كما عن تقريب التهذيب في حاشية الغارات ، فلا علاقة له بهذا الخبر.

٦٥١

خبر مولد السجّاد ووفاة أمه :

وكأنّه كان من المقدّر أن لا تبقى لعثمان ولا لعامله السابق على البصرة عبد الله ابن عامر : يد عامرة عند آل علي عليهم‌السلام ، فيبدو أنه في أواخر أيامهم بالبصرة بلغهم خبر مولد عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في منتصف شهر جمادى الأولى يوم الانتصار بالبصرة ، ووفاة أمه في نفاسها به ، كما مرّ خبره عن الصدوق عن الرضا عليه‌السلام (١) وأقدم قلم قدّم لنا هذا التاريخ قلم المفيد في «حدائق الرياض» (٢) ولا نجد خبرا عن وصول الخبر بذلك إلى البصرة.

نعم ، نجد أن أبا الأسود ظالم بن عمرو البصري كان قد سمع عن الطرماح بن ميادة البصري قوله مفتخرا :

أنا ابن أبي سلمى ، وجدّي ظالم

وأمي حصان ، أخلصتها الأعاجم

أليس غلام بين كسرى وظالم

بأكرم من نيطت عليه التمائم  )؟!

فلعلّه لما سمع أبو الأسود هناك بشارة ولادة السجاد عليه‌السلام غيّر الشعر الأخير يسيرا فقال :

وإنّ غلاما بين كسرى وهاشم

لأكرم من نيطت عليه التمائم  (٤)

ولهذا فهو بيت منفرد لا تمائم له.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ١٢٨ ، الباب ٣٥ ، الحديث ٦ ومرّ خبره في عنوان : عثمان وبنات يزدجرد.

(٢) نقلا عنه في الإقبال ٣ : ١٥٦ واختاره المحدّث القمي في الأنوار البهية : ١٠٧. هذا وإن كان المفيد في مسارّ الشيعة : ٣١ ضمن المجموعة النفيسة : ٦٧ ، وفي الإرشاد ٢ : ١٣٧ جمع بين تاريخ الولادة سنة ثمان وثلاثين ، ومحل الولادة : المدينة ، وتبعه من بعده غافلين عن نقل رحلهم عليهم‌السلام بعد البصرة إلى الكوفة سنة (٣٦ ه‍) ولعل المفيد تنبّه لذلك فرجع عنه في حدائقه. ولعلّ مما يؤيده أننا لا نجد خبرا عن إجراء السنن عليه على يد جدّه أو أبيه مع تقدير إمامته وشأنه.

(٣) عن الأغاني ٢ : ٨٨ ، وخزانة الأدب ١ : ١٠٦.

(٤) نقله قبلا الكليني في أصول الكافي ١ : ٤٦٧.

٦٥٢

واستخلف على البصرة ابن عباس :

ونقل عن الواقدي عن رجاله قال : ولما أراد أمير المؤمنين الخروج من البصرة ، استخلف عليها عبد الله بن العباس وقال له : يا ابن عباس! عليك بتقوى الله ، والعدل في من ولّيت عليه ، وأن تبسط للناس وجهك ، وتوسّع عليهم مجلسك ، وتسعهم بحملك. وإيّاك والغضب فإنه طيرة من الشيطان ، وإيّاك والهوى فإنه يصدّ عن سبيل الله. واعلم أنّ ما قرّبك من الله فهو مباعدك من النار ، وما باعدك من الله فهو مقرّبك من النار! واذكر الله كثيرا ولا تكن من الغافلين.

وروى عن أبي مخنف : أنه عليه‌السلام خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثم قال لهم : يا معشر الناس! قد استخلفت عليكم عبد الله بن العباس ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع الله ورسوله ، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فاعلموني أعزله عنكم ؛ فإني أرجو أن أجده عفيفا تقيّا ورعا ، وإني لم اولّه عليكم إلّا وأنا أظنّ ذلك به ، غفر الله لنا ولكم (١).

وجعل كاتبه زياد بن أبيه ، وعلى شرطته أبا الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو الكناني (٢).

وحيث كانت خراسان في الفتوح تابعة للبصرة ، وكان جعدة بن هبيرة المخزومي ابن اخت أمير المؤمنين عليه‌السلام قد لحق به من الكوفة ، وجّه به علي عليه‌السلام إلى خراسان ، فقدم عليه مرزبان مرو : ماهويه وحمل معه إليه مالا من الخراج على وظيفته ، فأنفذ جعدة له شروطه وكتب له كتابا على وظيفته المتقدمة ،

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٤٢٠ ، ٤٢١ ، والوصية لابن عباس في نهج البلاغة ، ك ٧٦ ومصادره في المعجم المفهرس : ١٣٩٨.

(٢) كما في الدرّ النظيم في الأئمة اللهاميم للعاملي.

٦٥٣

هذا بنقل اليعقوبي (١) ونقل الطبري عن المدائني عن ابن إسحاق : أن ماهويه أبراز ، قدم بعد الجمل على علي عليه‌السلام فكتب له إلى الأساورة والجندسالارين والدهاقين في مرو (٢).

وتوجّه عليه‌السلام إلى الكوفة :

ولما أراد التوجّه إلى الكوفة قام فيهم وفي يده صرّة فيها نفقته وعليه قميص ورداء فقال لهم فيما قال : يا أهل البصرة ما تنقمون عليّ؟ ثم أشار إلى قميصه وردائه فقال : والله إنهما لمن غزل أهلي ، ثم أشار بالصرّة في يده وقال لهم : ما تنقمون منّي يا أهل البصرة؟ والله ما هي إلّا من غلّتي بالمدينة ، فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر مما ترون فأنا عند الله من الخائنين!

ثم ركب بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخرج ومعه الأحنف بن قيس التميمي (ومعه بنو تميم) وشيّعه الناس إلى خارج البصرة (٣).

وقدم الكوفة في رجب (٤) فكان دخوله إليها لاثنتي عشرة ليلة مضت منه (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٣ ، ١٨٤ ولهذا فإن دار جعدة بالكوفة قد خليت منه ، وحيث كان أمير المؤمنين قاصدا الكوفة ، ففوّض جعدة داره إلى خاله علي عليه‌السلام فنزلها.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٧.

(٣) الجمل للمفيد : ٤٢٢ عن أبي مخنف.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٤.

(٥) وقعة صفين : ٣ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٧٢ أي ليلة مولده بالكعبة ، وكذلك في تذكرة الخواص : ٨٠ عن أهل السير ، وعليه فما أرسله السيد في الإقبال من خبر كميل بن زياد أنه عليه‌السلام علّمه بالبصرة دعاء الخضر ليلة النصف من شعبان ، كان قبل ذلك بأكثر من شهر.

٦٥٤

وصلّى وخطب وأثنى وعتب :

وقدم علي عليه‌السلام إلى الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من رجب ، وقد أعزّ الله نصره وأظهره على عدوّه ، ومعه أشراف الناس وأهل البصرة ، واستقبله أهل الكوفة وفيهم قرّاؤهم وأشرافهم ، حتى نزل في رحبة المسجد الجامع ، وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلّى فيه ركعتين.

ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله وقال : «الحمد لله الذي نصر وليّه وخذل عدوّه ، وأعزّ الصادق المحق وأذلّ الناكث المبطل.

أما بعد ـ يا أهل الكوفة ـ فإنّ لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدّلوا وتغيّروا ، بدأتم بالمنكر فغيّرتم ودعوتكم إلى الحق فأجبتم ، إلّا أن فضلكم فيما بينكم وبين الله [لا] في القسم والأحكام ، فأنتم اسوة من أجابكم ودخل فيما دخلتم فيه.

ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم (اثنتان) : إتباع الهوى وطول الأمل ، فأما اتّباع الهوى فيصدّ عن الحق ، وأما طول الأمل فينسي الآخرة.

ألا وإن الدنيا قد ترحّلت مدبرة ، والآخرة قد ترحّلت مقبلة ، ولكل منها بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة (ولا تكونوا من أبناء الدنيا) فاليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل (١). وعليكم بتقوى الله وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيّكم ، الذين هم أولى بطاعتكم ـ فيما أطاعوا الله فيه ـ من المنتحلين المدّعين القالين لنا ، يتفضّلون بفضلنا ، ويجاحدونا أمرنا ، وينازعونا حقّنا ويدافعونا عنه ، وقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيّا.

ألا إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم فأنا عليهم عاتب زار ، فاهجروهم وأسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا (٢) ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة».

__________________

(١) إلى هنا في نهج البلاغة خ ٤٢ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٨.

(٢) أعتب أي قطع ما يعتب عليه.

٦٥٥

وكان أبو بردة بن عوف الأزدي عثمانيا قد تخلّف عن الجمل فقام إليه وقال له :

يا أمير المؤمنين! أرأيت القتلى حول عائشة والزبير وطلحة بم قتلوا؟!

فقال أمير المؤمنين : إنهم قاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي قالوا لهم : لا ننكث كما نكثتم ولا نغدر كما غدرتم ، فوثبوا عليهم فقتلوهم ، فسألتهم أن يدفعوا إليّ قتلة إخواني أقتلهم بهم ، ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم ، فأبوا عليّ وقاتلوني ، فقتلتهم بهم ، أو أنت في شك من ذلك؟!

قال : قد كنت في شك ، فأمّا الآن فقد عرفت واستبان لي خطأ القوم ، وأنك أنت المهديّ المصيب (١).

وكان أمير المؤمنين قد جعل على شرطته في الكوفة مالك بن حبيب اليربوعي التميمي فقام إليه وقال له : والله إني لأرى الهجر وإسماع المكروه لهم قليلا ولئن أمرتنا لنقتلنّهم!

فقال علي عليه‌السلام : سبحان الله! يا مال جزت المدى وعدوت الحدّ وأغرقت في النزع!

فقال مالك : يا أمير المؤمنين لبعض الغشم (والظلم) أبلغ من مهادنة الأعادي.

فتلا علي عليه‌السلام : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)(٢) والإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك ، فقد نهى الله عنه فما بال الغشم؟!

وقام رجال من المتخلّفين عنه ليكلّموه وتهيّأ هو لينزل فلما رأوا ذلك جلسوا وسكتوا ، ثم تحوّل فجلس ، وجلس الناس إليه ، فسألهم ، عن رجل من أصحابه

__________________

(١) ولكنّه بقي عثمانيا يكاتب معاوية.

(٢) الإسراء : ٣٣.

٦٥٦

كان قد نزل الكوفة ، وكان قد مات ، فقال قائل : استأثر الله به! فتلا : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)(١) وقال : إن الله لا يستأثر بأحد من خلقه.

فلما لحق ثقله (من المدينة) قالوا : يا أمير المؤمنين أتنزل القصر (دار الإمارة)؟

فقال : قصر الخبال! لا تنزلونيه. ثم نزل دار ابن اخته جعدة بن هبيرة المخزومي (٢).

وعاتب أشرافهم :

وعاد أبو بردة الأزديّ مع غريب بن شرحبيل الهمداني ، وحنظل بن الربيع التميمي وعبد الله بن المعتمّ العبسي وهما صحابيّان ، وقد تخلّفوا عن الجمل ، فدخلوا على علي عليه‌السلام فقال لهم : ما بطّأكم عنّي وأنتم أشراف قومكم؟! والله لئن كان من ضعف النيّة وتقصير البصيرة فإنكم لبور (هالكون) ولئن كان من شك في فضلي ومظاهرة عليّ فإنكم لعدوّ! فمنهم من اعتلّ بمرض ومنهم من ذكر غيبة. وكان مخنف بن سليم الأزدي عنده فنظر الإمام إليه وقال : لكن مخنف بن سليم وقومه لم يتخلّفوا ولم يكن مثلهم كمثل من قال الله تعالى فيهم : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً* وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً)(٣).

ودخل عليه سعيد بن قيس الهمداني فسلّم عليه ، فأجابه : وعليك وإن كنت من المتربّصين!

__________________

(١) البقرة : ٢٨.

(٢) وقعة صفين : ٣ ـ ٦.

(٣) وقعة صفين : ٧ ، ٨ والآيتان : ٧٢ ، ٧٣ من سورة النساء.

٦٥٧

فقال : حاش لله يا أمير المؤمنين لست من اولئك! قال : فعل الله ذلك (أي جعلك من غيرهم).

ودخل عليه الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي فقال له الإمام : لقد كنت فيما أظن في نفسي من أوثق الناس وأسرعهم إلى نصرتي ، فما قعد بك عن أهل بيت نبيّك وما زهّدك في نصرهم؟!

فقال : يا أمير المؤمنين ؛ لا تردنّ الأمور على أعقابها ، ولا تؤنّبني بما منها مضى ، واستبق مودّتي تخلص لك نصيحتي ، وقد بقيت امور تعرف فيما وليّك من عدوّك! فسكت عنه.

فجلس سليمان قليلا ثم نهض فخرج إلى المسجد وفيه الحسن بن علي عليه‌السلام فجلس إليه وقال له : ألا اعجّبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التوبيخ والتبكيت؟!

فقال له الحسن : إنما يعاتب من ترجى مودّته ونصيحته.

فقال سليمان : إنه قد بقيت امور سيستوسق فيها القنا ، وتنتضى فيها السيوف ، ويحتاج فيها إلى أشباهي! فلا تستغشّوا عتبي ولا تتّهموا نصيحتي.

فقال له الحسن : رحمك الله ، ما أنت عندنا بالظنين (١).

خطبته في أول جمعة بها :

ولما كانت الجمعة وحضرت الصلاة خطبهم فقال : «الحمد لله ، أحمده واستعينه واستهديه ، وأعوذ بالله من الضلالة ، من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له.

__________________

(١) وقعة صفين : ٦ ، ٧.

٦٥٨

وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمدا عبده ورسوله ، انتجبه لأمره ، واختصّه بالنبوة ، أكرم خلقه وأحبّهم إليه. فبلّغ رسالة ربّه ونصح لامّته وأدّى الذي عليه.

اوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله وأقربه لرضوان الله ، وخيره في عواقب الأمور عند الله ، وبتقوى الله أمرتم وللإحسان والطاعة خلقتم ، فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه ، فإنّه حذّر بأسا شديدا ، واخشوا الله خشية ليست بتعذير (١) واعملوا في غير رياء ، ولا سمعة ، فإنّ من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له ، ومن عمل لله مخلصا تولّى الله أجره ، وأشفقوا من عذاب الله فإنه لم يخلقكم عبثا ولم يترك شيئا من أمركم سدى ، وقد سمّى آثاركم وعلم أعمالكم وكتب آجالكم ، فلا تغترّوا بالدنيا فإنها غرّارة بأهلها مغرور من اغترّ بها ، وإلى فناء ما هي ، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢) أسأل الله منازل الشهداء ومرافقة الأنبياء ومعيشة السعداء ، فإنما نحن له وبه» (٣).

***

بهذا الخبر عن الإمام السجاد زين العابدين عن جده أمير المؤمنين عليهما‌السلام نختم الكلام في هذا المجلّد عن حياته عليه‌السلام ، لنبدأ في المجلد اللاحق من سوابق حرب صفين إلى نهاية عهده ، إن شاء الله الرحمن تعالى ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

٢٥ / ١٠ / ١٤٢٥ ه‍. ق

اليوسفي الغروي

قم المقدسة

__________________

(١) التعذير : التقصير مع إظهار الاجتهاد في العمل.

(٢) العنكبوت : ٦٤.

(٣) وقعة صفين : ٩ ، ١٠ بسنده عن الإمام السجاد عليه‌السلام.

٦٥٩

فهرس الكتاب

حوادث السنة الحادية عشرة رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واختلاف الأمة

بعض وصايا النبيّ للوصيّ.......................................................... ٩

أحداث عند الوفاة.............................................................. ١٢

سعد بن عبادة زعيم الخزرج...................................................... ١٤

أخبار سقيفة بني ساعدة......................................................... ١٧

عهد خلافة أبي بكر

في طريقهم إلى المسجد.......................................................... ٣١

والبيعة في المسجد............................................................... ٣٣

خطبة أبي ذر في المسجد......................................................... ٣٤

نجوى جمع من الصحابة ليلا..................................................... ٣٥

وفي ضحى يوم الثلاثاء.......................................................... ٣٦

ثم أقبلوا على رسول الله.......................................................... ٣٨

زوبعة أبي سفيان................................................................ ٤٠

وبقي العبّاس عمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله................................................... ٤٤

ولزم عليّ بيته لجمع القرآن....................................................... ٤٦

خطبته عليه‌السلام بعد جمعه القرآن.................................................... ٤٨

ما ذا كانت فدك؟.............................................................. ٥٢

وصادرها الخليفة................................................................ ٥٤

سرّ المصادرة................................................................... ٥٦

ثم طالبت بالميراث.............................................................. ٦١

طرق خطبتها................................................................... ٦٢

الخطبة الأولى................................................................... ٦٨

جواب أبي بكر لها.............................................................. ٧٤

٦٦٠