موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

ثم قال : أما بعد ، فإن الموت طالب حثيث ، لا يفوته الهارب ولا يعجزه!

فأقدموا ولا تنكلوا ، وهذه الأصوات التي تسمعونها من عدوّكم فشل واختلاف ، إنا كنا نؤمر في الحروب بالصّمت ، فعضّوا على النواجذ ، واصبروا لوقع السيوف. والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من موتة على الفراش! فقاتلوهم صابرين محتسبين ، فإن الكتاب معكم والسنّة معكم ، ومن كانا معه فهو القوي. أصدقوهم بالضرب ، فأيّ امرئ أحسّ من نفسه شجاعة وإقداما وصبرا عند اللقاء فلا يبطر به ، ولا يرى أنّ له فضلا على من هو دونه! وإن رأى من أخيه فشلا أو ضعفا فليذبّ عنه كما يذبّ عن نفسه ، فإن الله لو شاء لجعله مثله (١).

ولا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم ، فإنكم ـ بحمد الله ـ على حجة ، وكفّكم عنهم حتى يبدؤوكم حجة اخرى ، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح ، ولا تمثلوا بقتيل ، وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا. وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تكشفوا عورة ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا من أموالهم شيئا.

ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم ، فإنهنّ ضعاف القوى والأنفس والعقول ، ولقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهن وإنهنّ لمشركات ، وإن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة والجريدة فيعيّر بها هو وعقبه من بعده (٢) ولا تقربوا شيئا من أموالهم إلّا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد أو أمة ، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٥٨ ونهج البلاغة ، الخطبة : ١٢٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٢٨ مرسلا ، وليلاحظ نقائص النساء ليس فيها دين ولا حظ ما يأتي في : ٦١٠.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٦٢.

٦٠١

وهكذا بدأ القتال :

فروى المفيد عن ابن الحنفية قال : بينا هو يوصي أصحابه إذ أظلّنا نبل القوم فقتل رجل من أصحابه ، وجاءوا به إليه فلما رآه قال : اللهم اشهد.

ثم رمى ابن لعبد الله بن بديل (أو أخوه عبد الرحمن) فقتل ، وكان عبد الله بن العباس لديهم فحمله وأبوه حتى وضعاه بين يدي علي عليه‌السلام وقال عبد الله بن بديل : يا أمير المؤمنين ؛ حتى متى ندلى نحورنا للقوم يقتلوننا رجلا رجلا ، فإن كنت تريد الإعذار فقد ـ والله ـ أعذرنا.

قال ابن الحنفية : فقال لي أمير المؤمنين : يا بنيّ قدّم رايتك! وبعث إلى الميمنة والميسرة. ثم استوى على بغلة رسول الله الشهباء ووقف أمام أصحابه ، فتقدمت بين يديه ونشرت اللواء مستعدا.

وجاء القوم بالجمل وعليه الهودج فيه عائشة ، وخطامه في يد كعب بن سور الأزدي ومعه الأزد وفي عنقه مصحف ، وأحاط بالجمل بنو ضبّة ، وبين يدي عائشة ابن اختها ابن الزبير ، والزبير يدبّر العسكر ، ومروان بن الحكم على يمين الجمل ، وطلحة على الفرسان ، وابنه محمد على الرجّالة ، وزحف القوم نحونا.

فناداني أبي : قدّم اللواء ، فقدّمته ، وزحف معنا المهاجرون والأنصار.

فلما برزت عن الصفّ رشقوني رشقة رجل واحد! فوقفت مكاني حتى ينقضي رشقهم مرّة أو مرّتين ثم أقدم ، فلم أشعر إلّا وأبي ضرب بيده بين كتفي (١) واستقدموا حتى دنوا من عسكر أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وكان رسول الله عند الاستسقاء يلقي على نفسه بردة فيقلب يمينها عن منكبه الأيمن إلى الأيسر ، والأيسر إلى الأيمن ، ففعلت ذلك عائشة ثم قالت لمن حولها :

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

٦٠٢

ناولوني كفّا من تراب ـ كما فعل النبيّ يوم بدر ـ فناولوها فحثت به في وجوه أصحاب علي عليه‌السلام وقالت : شاهت الوجوه!

وسمعها علي عليه‌السلام فقال : وما رميت إذ رميت يا عائشة ولكنّ الشيطان رمى ، وليعودنّ وبالك عليك إن شاء الله (١).

وأمر أمير المؤمنين مناديه فنادى شباب قريش قال : يا معاشر قريش اتقوا الله على أنفسكم فإني أعلم أنكم قد خرجتم وقد ظننتم أن الأمر لا يبلغ إلى هذا فالله الله في أنفسكم فإنّ السيف ليس له بقيا فإن أحببتم فانصرفوا ، ثم نحاكم هؤلاء القوم وإن أجبتم فإليّ! فإنكم آمنون بأمان الله! فصبروا مع عائشة (٢).

فصاح صائح من أصحابه عليه‌السلام : يا معاشر شباب قريش! أراكم قد لججتم وغلبتم على أمركم هذا ، فإني أنشدكم الله أن تحقنوا دماءكم ولا تقتلوا أنفسكم ، واتّقوا الأشتر النخعي وجندب بن زهير الغامدي ، فإن الأشتر يشمّر درعه حتى تعفوا أثره ، وإن جندبا يحزّم درعه حين يشمّر ، وفي رايته علامة حمراء (٣).

وتقدّم عمار بن ياسر يناديهم : ما تريدون وما تطلبون؟ فنادوه : نطلب بدم عثمان : فإن خلّيتم بيننا وبين قتلته رجعنا عنكم ... مكّنونا من قتلة عثمان ونرجع عنكم.

فناداهم عمّار : هذه عائشة وطلحة والزبير قتلوه عطشا ، فابدءوا بهم ، فإذا فرغتم منهم تعالوا إلينا نبذل لكم الحق! فأسكتهم!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٦٥.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٦٤ والغامدي فيه العامري ، تصحيف.

٦٠٣

وقال : والله ما حصل تأويل قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(١) إلّا اليوم! والله لو ضربتمونا حتى نبلغ سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنكم على الباطل (٢).

وبرز الأشتر النخعي والأزدي الغامدي نحو الجمل إلى شباب قريش حول ابن الزبير فعمد الغامدي إلى ابن الزبير فلما عرفه قال له : اتركك لعائشة! وقتل هو والأشتر : عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد ، ومعبد بن زهير بن خلف بن أمية (٣) فتضعضع القوم واضطربوا ، ثم رجعت إليهم نفوسهم وتنادوا : البراز البراز.

وبدأت المبارزات :

فبرز رجل منهم يقول :

أضربهم ولو أرى عليا

عمّمته أبيض مشرفيّا

فشدّ عليه أميّة العبديّ وهو يقول :

هذا عليّ والهدى سبيله

والرشد فيه والتّقى دليله

ثم تضاربا فقتل العبديّ خصمه ، فبرز بدله عاصم بن مرّة وهو يقول :

أنا أبو الجرباء واسمي عاصم

وأمّنا أمّ لها محارم

فشدّ عليه رجل آخر من أصحاب علي عليه‌السلام فضربه فقتله.

فبرز بدله الهيثم بن كليب الأزدي وهو يقول :

نحن نوالي أمّنا الرّضية

وننصر الصحابة المرضيّة

__________________

(١) المائدة : ٥٤.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٦٤.

٦٠٤

فشدّ عليه رجل من أصحاب علي عليه‌السلام وهو يقول :

وليّكم عجل بني أمية

وأمّكم خاسرة شقية

ثم ضربه ففلق هامته وخرّ صريعا. فبرز بدله عمرو بن يثربي ونادى : هل من مبارز؟ فبرز إليه علباء بن الهيثم ، فقتل عمرو علباء رحمه‌الله. فبرز بدله هند المرادي وبرز ابن الزبير مساعدا لابن يثربي فقتلا هند المرادي فبرز بدله زيد بن صوحان العبدي ، وخرج مساعد آخر لابن يثربي من أصحاب الجمل فقتل زيد الرجل ، وبدر إليه ابن اليثربي فقتل ابن صوحان رحمه‌الله ، فبرز إليه الأشتر فضربه فصرعه ، فأقامه أصحابه فتراجعت إليه نفسه ، فأخذ يصرخ : دلّوني على علي! فبرز إليه عمّار فضربه ضربة صرعه بها وأهلكه ، فاحتمله أهله.

فلما رأى أمير المؤمنين صبرهم وجرأتهم ، أمر ميمنته أن يميلوا على ميسرة القوم ، ونادى أصحاب ميسرته أن يميلوا على ميمنتهم ، ووقف هو عليه‌السلام في القلب (١).

اليوم الثاني من أيام الجمل :

روى المفيد عن ابن الحنفية قال : عجّل أصحاب الجمل فزحفوا علينا ، فصاح بي أبي : امض ، فمضيت بين يديه أخطوا بالراية خطوا ، وتقدّم المسارعون من أصحابنا ، فلاذ أصحاب الجمل بالجمل ونشب القتال واختلفت السيوف ، وأبي بين كتفيّ يقول لي : تقدّم يا بنيّ! فقلت : ما أجد متقدّما إلّا على الأسنّة! فغضب أبي وقال : أقول لك : تقدم فتقول : على الأسنّة! ثق يا بنيّ وتقدّم بين يديّ على الأسنّة! ثم تناول الراية منّي وتقدّم يهرول بها! فأخذتني حدّة فلحقته وقلت له : أعطني الراية (٢) وعالجته على أن يردّها إليّ ، فأبى عليّ طويلا (٣).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٤٤ ـ ٣٤٧.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٦٠.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٦١.

٦٠٥

وقال المسعودي : لحقه عليّ عليه‌السلام فضربه بقائم سيفه وقال له : أدركك عرق من أمّك! وأخذ منه الراية وحمل بها ... وجاء ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري إلى عليّ عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين! لا تنكّس اليوم رأس محمد واردد إليه الراية! فدعا به وردّ عليه الراية وقال له :

اطعنهم طعن أبيك تحمد

لا خير في الحرب إذا لم توقد (١)

ثم قال له : خذها وأحسن حملها ، وتوسّط أصحابك ولا تخفض عالي رأسها ، واجعلها مستشرفة يراها أصحابك. قال محمد : ففعلت كما قال ، فقال لي عمار بن ياسر : يا أبا القاسم ؛ ما أحسن ما حملت الراية اليوم! فسمعه أبي فقال له : بعد ما ذا؟! فقال عمّار : ما العلم إلّا بالتعلّم (٢).

وقصد الإمام عليه‌السلام قصد الجمل ونادى أصحابه : ويحكم ارشقوا الجمل بالنبل ، واعقروه لعنه الله ، ونادى بشعار رسول الله : يا منصور أمت! وتنادى أصحابه : يا محمد! فاتّخذوها شعارا ، ونادت الأزد وضبّة حول الجمل : يا لثارات عثمان ، واتّخذوها شعارا ، وتنادوا : أيها الناس! أمّكم أمّكم! واختلطوا حتى ضرب بعضهم بعضا!

وكانت الحرب في هذا اليوم الثاني من أيام الجمل من بعد الفجر حتى العصر ، ثم تحاجز الفريقان والقتل فاش فيهما ، وفي أهل البصرة أكثر ، وأمارات النصر لأهل الكوفة (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٦١.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٦٢.

٦٠٦

وتواقفوا في اليوم الثالث :

قال الواقدي : ثم تواقفوا في اليوم الثالث ، فبرز أول الناس عبد الله بن الزبير ودعا إلى المبارزة ، فبرز إليه الأشتر (١) واصطرع عبد الله والأشتر حتى سقطا إلى الأرض وأخذ الأشتر بعنق ابن الزبير وبه ضربة مثخنة في جانب وجهه ، وأخذ يصرخ : اقتلوني ومالكا ، يعني الأشتر ، ولو قال الأشتر لقتلوه ، فافرج الأشتر عنه فانهزم (٢).

وروى الواقدي عن ابن الزبير (ولعلّه عروة) قال : أخذ بخطام الجمل يومئذ سبعون رجلا من قريش قتلوا كلهم ، وجرح ابن الزبير (عبد الله) ومروان بن الحكم ، فلما قتلوا أخذ بنو ضبّة بخطام الجمل فقتلوا ، حتى غرق الجمل بدماء القتلى ، وولّى الزبير منهزما (٣).

قال المفيد : وروى الواقدي عن رجاله العثمانيين (في الرأي والهوى) عن عائشة قالت : واحتمل ابن اختي عبد الله جريحا ... وسألت فقلت : وما فعل أبو سليمان (الزبير) فقيل : قد قتل! فلقد جمدت عيناي تلك الساعة وانقطعت من الحزن ، وأكثرت الاسترجاع والندامة .. وسألت عن عبد الله فقيل لي : قد قتل! فازددت همّا وغمّا حتى كاد ينصدع قلبي (٤).

وبلغ طلحة : أن الزبير قد اندفع وهم لا يعلمون به (٥).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٦٢.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٥٠.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٧٦.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٧٩ ـ ٣٨٠ ويقتصر الكتاب على هذه الرواية ولا يروى فرار الزبير أوّل القتال.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٨٤ ويقتصر المفيد في كتابه على هذه الأخبار ولا يروى خبر فراره قبل القتال أو أوّله.

٦٠٧

وفي خبره السابق عن ابن الزبير (عروة) قال : لما رأى مروان توجّه الأمر (الهزيمة) على أصحاب الجمل نظر إلى طلحة وهو يريد الهرب ، فقال (في نفسه) : والله لا يفوتني ثاري من عثمان ؛ فرماه بسهم قطع أكحله فشحط بدمه وهو يقول : إنا لله! هذا سهم لم يأتني من بعد ، ما أراه إلّا من معسكرنا! والله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي (١)!

وروى المفيد بسنده عن الصادق عن أبيه عن جده السجاد عليهم‌السلام عن مروان بن الحكم قال لي : لما رأيت الناس يوم الجمل قد انكشفوا (وفرّوا) قلت (في نفسي) : والله! لأدركنّ ثاري ولأفوزنّ به الآن (٢).

وروى عن عبد الملك بن مروان عن أبيه مروان قال : نظرت يوم الجمل إلى طلحة وعليه درع ومغفر لم أر منه إلّا عينيه ، فقلت (في نفسي) : كيف لي به؟ ثم نظرت إلى فتق في درعه (عند فخذه) فرميته فأصبت عرق النسا فيه فقطعته ، فجعل الدم لا يرقأ ، ورميته ثانية فجاءت عليه ، فحمله مولاه على ظهره وولّى به (٢) ثم التفت مروان إلى أبان بن عثمان فقال له : قد كفيناك بعض قتلة أبيك (٤)!

وروى عن الحسن البصري قال : لما رمي طلحة ركب بغلا وقال لغلامه : التمس لي مكانا أدخل فيه (٥) قال : ورأيته حين أصابه السهم يقول : ما رأيت كاليوم مصرع شيخ أضيع من مصرعي (٦).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٧٦.

(٢) و(٣) الجمل للمفيد : ٣٨٣.

(٤) تاريخ خليفة : ١١٢ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٢٤٦ ، وانظر شرح الأخبار ١ : ٤٠٣ ، الحديث ٣٥٢.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٨٤.

(٦) الجمل للمفيد : ٣٨٥ والظاهر حضوره مصرع طلحة بعد الحرب فحسب ، إذ ولادته لسنتين بقيتا من عهد عمر ، فله يوم الجمل أقل من ١٥ عاما ، وانظر أمالي المفيد : ١١٨ م ١٤ ح ٣.

٦٠٨

ولعل السهم الثاني أصاب ركبته ، حيث قال الراوي : رمي طلحة بسهم في ركبته فجعل يعدو والدم يفور ، فإذا أمسكوا رأس الجرح انتفخت ركبته ، فصاح : دعوه فإنه سهم أرسله الله (١)!

فأخذوه حتى وضعوه تحت شجرة (٢) ثم احتمله عبد الله بن معمر فأدخله دار أعرابية وخرج ورجع فوجده قد مات (٣).

وجرح مروان بن الحكم (٤) فحمل جريحا (٥) وأسر سعيد بن عثمان بن عفان وأخوه أبان (٦).

الجمل في يوم الجمل :

روى المفيد عن ابن الحنفية قال : حتى انتهى أبي إلى الجمل وحوله أربعة آلاف مقاتل من بني ضبّة والأزد وتميم وغيرهم ، فصاح اقطعوا البطان (٧)!

وروى عن الواقدي عن معاذ بن عبيد الله التميمي من أهل البصرة حول الجمل قال : تقدّم عليّ والراية بين كتفيه (من خلفه) وجرّد سيفه وانتهى إلى الجمل وقد اجتمع الناس حوله وأحدقوا به من كل حدب وصوب واستجنّوا تحت بطانه ،

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٨٥.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٨٣ في خبر السجاد عليه‌السلام عن مروان.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٨٩ عن مروان أيضا.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٧٦.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٨١.

(٦) الجمل للمفيد : ٣٨٢.

(٧) الجمل للمفيد : ٣٦٩.

٦٠٩

فصاح عليّ بابن أبي بكر : اقطع البطان ، ورأيته قتل بيده ممن أخذ بخطام الجمل عشرة ، وكلّما قتل رجلا مسح سيفه بثوبه وجاوزه ، حتى صرنا في أيديهم كأنّنا غنم نساق وانصرم أمرنا (١).

وروى عن الواقدي عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي من قريش مع الجمل قال : رأيت عليا انتهى إلى الجمل وسيفه على عاتقه يرعف دما ويصيح بمحمد بن أبي بكر : اقطع البطان! وانهزم الناس وانهزمنا حتى سرنا مراحل (٢).

ولمّا تفرّق الناس عن الجمل أشفق أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يعودوا إليه فقال : عرقبوا الجمل ، فتبادر إليه أصحابه فعرقبوه فوقع لجنبه ، وصاحت عائشة صيحة سمعها العسكران (٣)!

وروى عن الواقدي عن رجاله العثمانيين عن عائشة قالت : نظرت وإذا ابن أبي طالب (كذا) يباشر القتال بنفسه (وقد رأت طلحة والزبير لم يباشرا) وأسمعه يصيح بهم : الجمل الجمل! فقلت (في نفسي) : أراد قتلي! فإذا هو قد دنا منه ومعه أخي محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر (٤) فقطعوا البطان (٥).

وروى عن حبّة العرني قال : فضرب الجمل ضربة على عجزه فسقط لجنبه فعجّ عجيجا ما سمعت أشدّ منه ، وعقر وانقطع بطان الهودج فزال عن ظهر الجمل ،

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٧٤.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٧٥.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٥٠.

(٤) ذكر هنا عنها : معاذ بن عبيد الله التميمي ، وقد مرّ خبره أنه كان معها لا مع علي عليه‌السلام.

(٥) الجمل للمفيد : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

٦١٠

فانفضّ أصحابه منهزمين! وجعل عمار بن ياسر وابن أبي بكر يقطعان الحقب والنسوع ، واحتملا الهودج فوضعاه على الأرض (١).

وفي خبر ابن الحنفية قال : اطّلع ابن أبي بكر في الهودج فصاحت عائشة : من أنت؟ قال : أبغض أهلك إليك! قالت : ابن الخثعمية (أسماء بنت عميس)؟ قال : نعم ولم تكن دون أمهاتك! قالت : بل هي شريفة! الحمد لله الذي سلّمك! قال : وقد كان ذلك ما تكرهين! قالت : لو كرهته ما قلت ما قلت! قال : كنت تحبّين الظفر وأني قتلت!

قالت : قد كنت احبّ ذلك لكن لما صرنا إلى ما صرنا إليه أحببت سلامتك ، لقرابتي منك ، فاكفف ولا تعقّب الأمور ، ولا تكن لومة ولا عذلة ، فإن أباك لم يكن لومة ولا عذلة (يلوم ويعذل).

قال : وجاء علي عليه‌السلام فقرع الهودج برمحه وقال لها : يا شقيراء! أبهذا أوصاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

فقالت له : يا ابن أبي طالب (كذا) قد ملكت فاسجح (واصفح).

وجاءها عمار بن ياسر فقال لها : يا أمّاه! كيف رأيت ضرب بنيك اليوم دون دينهم بالسيف؟! فلم تجبه!

وجاءها مالك الأشتر وقال لها : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)(٢).

الحمد لله الذي نصر وليّه وكبت عدوّه ... فكيف رأيت صنع الله بك يا عائشة؟!

فقالت : ثكلتك أمّك من أنت؟ قال : أنا ابنك الأشتر. قالت : كذبت لست بأمّك! قال : بلى وإن كرهت.

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٨٢.

(٢) الإسراء : ٨١.

٦١١

فقالت له : أنت الذي أردت أن تثكل أختي أسماء ابنها؟!

فقال : والله لو لا أني كنت طاويا ثلاثة أيام لأرحتك منه!

فبكت وتلت : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(١) غلبتم وفخرتم!

ونادى أمير المؤمنين محمدا قال : سلها هل وصل إليها شيء من الرماح والسهام؟

فسألها فقالت : نعم وصل إليّ سهم خدش رأسي وسلمت منه! حكم الله بيني وبينكم!

قال محمد : فقلت لها : والله ليحكمنّ الله عليك يوم القيامة ، ما كان بينك وبين أمير المؤمنين حتى تخرجي عليه وتؤلّبي الناس على قتاله؟!

فقالت : دعنا يا محمد ، وقل لصاحبك (كذا) يحرسني!

قال محمد : فرجعت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بما قالت وقلت لها.

فقال عليه‌السلام : هي امرأة ، والنساء ضعاف العقول (٢) احملها إلى دار ابني خلف (الخزاعي) حتى ننظر في أمرها.

قال محمد : فحملتها إلى الموضع ، وإن لسانها لا يفتر عن سبّي وسبّ علي والترحّم على أصحاب الجمل (٣).

__________________

(١) الأحزاب : ٣٨ وهذه من بوادر التحريف في تفسير القدر بالجبر! وقول الأشتر أنه كان طاويا جائعا ثلاثة أيام يؤيد أن الحرب استمرت ثلاثة أيام.

(٢) يقتصر هذا الخبر على هذا القدر عذرا لها عن المؤاخذة على منطقها ، وليس فيه ما نقله الرضيّ في نهج البلاغة من نقص إيمانهنّ وحظوظهنّ. وسيأتي مزيد بيان عنه ، في حاشية خطبته بعد الفتح : ٦١٠.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٦٩ ـ ٣٧١ عن الواقدي عن ابن الحنفية عن ابن أبي بكر ، ونقل المعتزلي في شرح نهج البلاغة ١ : ٢٦٣ : خبر شجار الأشتر مع عائشة وشعره عن أبي مخنف

٦١٢

وفي خبر الواقدي عنها قالت : ادخلت منزل عبد الله بن خلف الخزاعي وهو قد قتل وأهله مستعبرون عليه ، ودخل معي كل من خاف عليا (كذا) ممّن نصب له (الحرب) فكنت في قوم ما يقصّرون عن ضيافتي ، وإن الخبز في منازلهم لكثير ، وكنت اريد علاج جوعي من الطعام فما أقدر ، فو الله لقد بقيت ثلاثة أيام بلياليهن ما دخل فمي طعام ولا شراب! فندمت على قتل عثمان وقد كنت ألّبت عليه حتى نيل منه ما نيل (١)!

__________________

عن الأصبغ بن نباتة. وابنا خلف الخزاعي هما عثمان وعبد الله ، فأما عثمان فقد قتل مع علي عليه‌السلام ، وأما أخوه عبد الله فقد كان أثرى أهل البصرة ضياعا ومالا فكان رئيسا بها ، وبرز وارتجز يقول :

أبا تراب! ادن مني فترا

فإنني دان إليك شبرا

وإن في صدري عليك وغرا

فبرز إليه علي عليه‌السلام فلم يمهله أن ضربه على هامته ففلقها ، كما عن أبي مخنف أيضا في شرح نهج البلاغة ١ : ٢٦١. وقتل أخيه عثمان في هامش الجمل للمفيد عن نهاية الارب ٢٠ : ٨٢. والمنزل كان لعبد الله.

(١) الجمل للمفيد : ٣٧٨ و٣٨٠ عن الجمل للواقدي بسنده عن كبشة بنت كعب عن عائشة ، والتأليب : التحريك.

٦١٣
٦١٤

نهاية

حرب الجمل

٦١٥
٦١٦

ومصير ابن الزبير :

وروى المفيد عن ابن الزبير قال : أثقلني الجراح حتى سقطت بين القتلى ، فأتاني الأسود بن أبي البختري فوجدني فأخذني على فرسه بالعرض وسار بي ، حتى مرّ بي رجل عرفني فحمل على الأسود فأصاب رجل فرسه وأخطأه ، فانطلق بي حتى بلغ إلى منزل رجل من بني الغبراء له امرأة بكرية من شيعة عثمان ، فغسلت جراحتي وحشّتها كافورا فانقطع دمها.

وبلغني خبر عائشة فقلت لصاحب منزلي : انطلق إلى عائشة وأخبرها بي ، وإياك أن يراك أخوها محمد بن أبي بكر ، وهو رجل قصير من وصفه كذا وكذا.

قال : فانطلق الرجل فأخبرها بي وأني حذّرته من أخيها ابن أبي بكر ، فقالت له : كلّا ، بل انطلق إليه فادعه لي ، فانطلق فدعاه إليها ، فلما جاءها قالت له : يا أخي ما تراك فاعلا في أمر آمرك به؟ قال : ما هو؟ قالت له : انطلق (مع هذا الرجل) إلى عبد الله بن الزبير فجئني به.

٦١٧

فجاء محمد معه إلى موضعي فدخل عليّ ، فلما رأيته خفته وقلت للرجل : ما لك؟ فعل الله بك وفعل! فقال لي محمد : لا تعجل. ثم أخبر في الخبر.

فخرجت معه ، فتأخّر لي على عجز فرسه فركبت بين يديه حتى أتينا عائشة (١).

ومصير ابني عثمان :

نقل المفيد عن الواقدي عن عائشة قالت : ونادى منادي علي بن أبي طالب (كذا) : لا يتبع مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ومن طرح السلاح فهو آمن (٢) وعن حبّة العرني : نادى عمار بن ياسر : لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا موليا.

وأسر يومئذ سعيد وأبان ابنا عثمان بن عفّان فجيء بهما إلى علي عليه‌السلام ، فلما أوقفا بين يديه قال بعض من حضر : يا أمير المؤمنين اقتلهما!

فقال علي عليه‌السلام : آمنت الناس كلهم وأقتل هذين الرجلين؟! بئس ما قلتم! ثم أقبل عليهما وقال لهما : ارجعا عن غيّكما وانزعا ، فإن أحببتما فأقيما عندي أصل أرحامكما! وإلّا فانطلقا حيث شئتما!

فقالا : يا أمير المؤمنين! نحن نبايع وننصرف ، فبايعا وانصرفا (٣).

ومصير الزبير :

وروى المفيد قال : هرب الزبير على فرسه ذي الخمار حتى مرّ في صفوان

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ، ولم يقل شيئا عن صاحبه الأسود بن البختري.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٨٢.

٦١٨

بابن سعيد المجاشعي التميمي وابن مطرح التميمي السعدي المنقري فأجاراه في ذمتهما فجعل يسير معهما.

ورآه رجل من تميم فأتى الأحنف بن قيس التميمي وقال له : اريد أن اسرّ إليك سرّا! فقال : ادن مني فدنا منه وقال : رأيت الزبير بين رجلين من مجاشع ومنقر! وأظنه قد هرب يريد المدينة!

فرفع الأحنف صوته وقال : ما أصنع إن كان الزبير قد ألقى الفتنة بين المسلمين حتى ضرب بعضهم بعضا (١) ثم هو يريد أن يرجع إلى أهله بالمدينة سالما!

فسمعه عمرو ابن جرموز وفضالة ابن حابس المجاشعي وعلما أن الأحنف إنما رفع صوته لكراهته أن يسلم الزبير (٢)!

أو قال : ما أصنع بالزبير وقد لفّ بين جيشين غارّين حتى قتل بعضهم بعضا (٣) ثم هو يريد اللحاق بأهله!

فسمع ذلك عمرو بن جرموز فخرج لطلبه ، فتبعه رجل من مجاشع من تميم ، حتى لحقاه وقالا له : يا حواريّ رسول الله أنت في ذمّتنا لا يصل إليك أحد ، وأخذا يسايرانه ، ثم قال له ابن جرموز : يا أبا عبد الله ؛ انزع درعك فاجعلها على فرسك فإنها تثقلك!

فنزعها الزبير ، وجعل ابن جرموز يتأخر والزبير يناديه أن يلحقه فيلحقه ويجري معه ثم ينحاز عنه فلا ينكر ابن الزبير تأخّره ، حتى حمل عليه بسنانه بين كتفيه فأنفذه من صدره! فسقط فنزل إليه واحتزّ رأسه.

__________________

(١) وهذا يؤيد أن هربه كان بعد نشوب الحرب لا قبله.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٧٨ ـ ٣٨٨.

(٣) وهذا أيضا يؤيد هربه بعد نشوب الحرب لا قبله.

٦١٩

وحمله إلى الأحنف بن قيس فأنفذه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام (١).

فلما رآه العسكر سألوه : من أنت؟ قال : أنا رسول الأحنف بن قيس!

وكان أمير المؤمنين لا زال في فسطاطه خارج البصرة ، فلما انتهى إليه خرج إليه الأشتر رجلا ضخما طويلا لا بسا درعا ، وأخذ يتجسّسه وسأله : من أنت؟ قال : أنا رسول الأحنف بن قيس. قال له : مكانك حتى استأذن لك. فاستأذن له ، فأذن له ، فدخل وإذا بين يدي أميرالمؤمنين ترس عليه أقراص من شعير! فسلّم عليه عن الأحنف وهنّأه بالفتح عليه وقال : وقد قتلت الزبير وهذا رأسه وسيفه وألقاهما بين يديه!

فسأله أمير المؤمنين : كيف قتلته؟ فحدثه ما صنع به ، فقال له : ناولني سيفه! فتناوله واستلّه وقال : سيفه أعرفه ، أما والله لقد قاتل بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غير مرة ، لكنّه الحين (الموت) ومصارع السوء (٢)! ثم تفرس في وجه الزبير وقال : لقد كان لك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صحبة وقرابة ، ولكنّ الشيطان دخل منخريك فأوردك هذا المورد (٣).

ثم قال عليه‌السلام : أما والله لو لا ما كان من أمر حاطب بن أبي بلتعة ، ما اجترأ الزبير على قتالي! وإن الزبير كان أقرب إلي من طلحة ، وما زال الزبير منا أهل البيت حتى بلغ ابنه فقطع بيننا (٤).

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٣٩٠.

(٢) الجمل للمفيد : ٣٨٨.

(٣) الجمل للمفيد : ٣٩٠.

(٤) الجمل للمفيد : ٣٨٩ ويشير بأمر ابن بلتعة إلى رسالته إلى أهل مكة بعزم النبيّ على فتحها ، بعث بها مع امرأة أخفتها في شعرها ، وأخبر بها النبيّ فأرسل عليا والزبير عليها فأنكرت وصدّقها الزبير ورجع عنها فقال عليّ : يخبرنا النبي وأنت تقول : لا كتاب معها؟! واستخرجه منها ، فحسده الزبير عليها ، وانظر هذه الموسوعة ٢ : ١٨٣.

٦٢٠