موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

ثم روى المعتزلي : أن أبا سفيان التقى بجماعة من المهاجرين فيهم الزبير بن العوام ثم خلا بهم مع علي والعباس ، فتكلّموا معهما بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج.

وكأنّ عليا عليه‌السلام أكرم عمّه العباس فقدّمه في الجواب فقال لهم :

قد سمعنا قولكم ، فلا لقلّة نستعين بكم ، ولا لظنّة نترك آراءكم ، فأمهلونا نراجع الفكر ؛ فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصرّ بنا وبهم الحق صرير الجد جد ، نبسط إلى الجدّ أكفّا لا نقبضها أو نبلغ المدى! وإن تكن الأخرى ، فلا لقلة في العدد ولا لوهن في الأيد ، والله لو لا أنّ «الإسلام قيد الفتك» لتدكدكت جنادل وصخر يسمع اصطكاكها من المحلّ العليّ.

فحلّ علي عليه‌السلام حبوته وقال : التقوى دين ، والحجة محمد ، والطريق الصراط ، أيها الناس ، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة ، وعرجوا عن طريق المنافرة ، وضعوا تيجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح ، أو استسلم فأراح! هذا ماء آجن ، ولقمة يغصّ بها آكلها! ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه ، فإنّ أقل يقولوا : حرص على الملك ، وإن أسكت يقولوا : جزع من الموت! هيهات! بعد اللتيا والّتي! والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي امّه ، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويّ البعيدة (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢١٨ ، ٢١٩ و٢١٣ وفي ٢١٥ علّق على آخر الخطبة قال : وهذا إشارة إلى الوصية التي خصّ بها عليه‌السلام ، ومن جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف فيه وعليه. وروى الخطبة سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الأمة بخصائص الأئمة المعروف بتذكرة الخواص : ١٢١ ، عن مجالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما دفن رسول الله جاء العباس وجماعة من بني هاشم ومعهم أبو سفيان فقالوا لعلي عليه‌السلام مدّ يدك نبايعك ، وحرّضوه ، فامتنع وخطب فقال .. وذكر مثله في كتاب له عليه‌السلام إلى أبي بكر ، في الاحتجاج ١ : ١٢٧ ، ١٢٨. وما رواه المعتزلي هنا عن العباس أولى مما يرويه في ٢ : ٤٨ ، عن الجوهري عن الكلبي عن ابن عباس عن أبيه العباس ، مما يفيد أنه وافق أبا سفيان.

٤١

وزاد الطبري عن الكلبي عن عوانة : أنّ أبا سفيان قال له : يا أبا الحسن ابسط يدك ابايعك! فأبى عليه ، فجعل يتمثّل بشعر المتلمّس :

ولن يقيم على خسف يراد به

إلّا الأذلّان عير الحيّ والوتد

هذا على الخسف معكوس برمّته

وذا يشجّ فلا يبكي له أحد

فزجره علي عليه‌السلام وقال له : إنك والله ما أردت بهذا إلّا الفتنة ، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرّا ، لا حاجة لنا في نصيحتك (١).

وروى المنقريّ كتابا لعلي عليه‌السلام جوابا لمعاوية في أول أمره قال له فيه : وحين ولّى الناس أبا بكر أتاني أبوك فقال : أنت أحق بمقام محمد وأولى الناس بهذا الأمر أنا زعيم لك بذلك على من خالف ، ابسط يدك أبايعك.

وأنت تعلم أن أباك قد قال ذلك وأراده ، وكنت أنا الذي أبيت ، لقرب عهد الناس بالكفر مخافة الفرقة بين أهل الإسلام (٢) أو قال : مخافة الفرقة لقرب عهد الناس بالإسلام والجاهلية (٣) والغريب أن معاوية أعاد هذا على علي عليه‌السلام بعد هذا في خضمّ معارك صفّين في كتابه إليه بزيادة قال : وسمعتك بأذني حين قال لك (أبي)

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٩. والرمّة : الحبل ، المعكوس : المشدود إحدى يديه بعنقه.

(٢) وقعة صفين : ٩١.

(٣) كما في أنساب الأشراف : ٢٨١ ، عن الكلبي عن أبي مخنف وذكر المحقق للكتاب مصادر اخرى ، منها : نهج البلاغة ك ٩ و٢٨ وانظر مصادرهما في المعجم : ١٣٩٤ و ١٣٩٥. مصادر الغريب ٩ من الحكمة ٢٦٠ : ١٤١٤ فهي قطع ثلاثة من أصل كتاب واحد.

٤٢

أبو سفيان : يا ابن أبي طالب ، غلبت على سلطان ابن عمك ، والذي غلبك عليه من أذل أحياء قريش تيم وعديّ! ودعاك إلى أن ينصرك! فقلت له : لو وجدت أربعين رجلا من المهاجرين ، والأنصار من أهل السابقة ، لنا هضت هذا الرجل (١).

وزاد المفيد في «كتاب الجمل» قال : يا بني هاشم ، أرضيتم أن يلي عليكم بنو تيم بن مرّة حكاما على العرب! ومتى طمعت أن تتقدم على بني هاشم بالأمر؟! انهضوا لدفع هؤلاء القوم عمّا تمالئوا عليه ظلما لكم ، أما والله لئن شئتم لأملأنّها عليهم خيلا ورجالا! ثم أنشأ :

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم

ولا سيّما تيم بن مرّة أو عدي

فما الأمر إلّا فيكم وإليكم

وليس لها إلّا أبو حسن علي

أبا حسن فاشدد بها كفّ حازم

فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي(٢)

ورواه في «الإرشاد» وزاد : ثم نادى بصوت عال : يا بني هاشم ؛ يا بني عبد مناف ؛ أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل الرّذل ابن الرّذل؟ أما والله لئن شئتم لأملأنّها خيلا ورجالا!

فناداه علي عليه‌السلام : ارجع يا أبا سفيان! فو الله ما تريد الله بما تقول ، وما زلت تكيد الإسلام وأهله ، ونحن مشاغيل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى كل امرئ ما اكتسب ، وهو وليّ ما احتقب.

قال : فانصرف أبو سفيان إلى المسجد فرأى بني أمية فحرّضهم فلم ينهضوا له (٣).

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٧٥ ، ٧٧٦.

(٢) كتاب الجمل : ١١٧ ، والإرشاد ١ : ١٩٠ ، والأخبار الموفقيات : ٥٧٧ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٦.

(٣) الإرشاد ١ : ١٩٠.

٤٣

فروى المعتزليّ عن الجوهري عن جعفر بن سليمان : أن عمر أخبر أبا بكر : أن أبا سفيان قد قدم ، وإنا لا نأمن من شرّه ، فادفع له ما في يده (من مال الزكاة). وقبل أبو بكر مشورة عمر فترك لأبي سفيان ما كان في يده! فرضي عنهم (١)!

وهكذا خرج أبو سفيان من ساحة المعارضة.

وبقي العبّاس عمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ومرّ خبر البراء بن عازب الخزرجي عن نجوى جمع من الصحابة ليلة الثلاثاء ، وفيه يقول : وبلغ الخبر أبا بكر وعمر ، فأرسلا إلى أبي عبيدة والمغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي ، فقال المغيرة : أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا له ولعقبه فتقطعوه من ناحية علي ، ويكون لكم حجة عند الناس على علي إذا مال معكم العباس :

فلما كانت الليلة الثانية من وفاة رسول الله (أي ليلة الأربعاء مساء دفنه وفي نسخة : الثالثة) انطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة حتى دخلوا على العباس.

فلما جلسوا حمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم قال : إن الله ابتعث لكم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّا ، وللمؤمنين وليا ، فمنّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيّهم ، حتى اختار له ما عنده ، فخلّى على الناس امورهم ليختاروا لأنفسهم (؟!) غير مختلفين ، فاختاروني عليهم واليا ، ولأمورهم راعيا ، فتولّيت ذلك وما أخاف ـ بعون الله وتسديده ـ وهنا ، ولا حيرة ولا جبنا (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)(٢)

__________________

(١) عن الجوهري في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ٢ : ٤٤ ، وفي كتاب السقيفة للجوهري : ٣٧. وفي أنساب الأشراف ١ : ٥٨٩ بعضه ، وفي العقد الفريد ٢ : ٢٤٩ وفي ط ٢ ، ٣ : ٦٢.

(٢) هود : ٨٨.

٤٤

وما انفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين ، يتّخذكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع وخطبه البديع (ولعلها إشارة إلى معارضة أبي سفيان ثم انصراف عليّ وبني هاشم).

ثمّ قال : ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا ولمن بعدك من عقبك ، إذ كنت عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكان أهلك ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم! وعلى رسلكم بني هاشم ، فإن رسول الله منّا ومنكم.

فقال عمر : واخرى : أنّا لم نأتكم حاجة إليكم ، ولكن كرهنا أن يكون الطعن منكم في ما اجتمع عليه المسلمون ، فيتفاقم الخطب بكم وبهم! فانظروا لأنفسكم وعامّتهم. وسكت.

فتكلم العباس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله ابتعث محمدا نبيا كما وصفت ، وليا للمؤمنين ، فمنّ الله به على امته حتى اختار له ما عنده (فخلّى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم (؟!) مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى) (١).

فإن كنت برسول الله طلبت فحقّنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ، وما تقدّمنا في أمركم فرضا ، ولا حللنا وسطا ، ولا برحنا سخطا.

فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنّا كارهين ، وما أبعد قولك إنهم طعنوا من قولك : إنهم مالوا إليك.

وأما ما بذلت لنا ؛ فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك ، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن يكن حقّنا لم نرض لك ببعضه دون بعض. وما أقول هذا أروم صرفك عمّا دخلت فيه ، ولكن للحجة نصيبها من البيان.

__________________

(١) هذه الجملة زيادة في اليعقوبي والجوهري وابن قتيبة وليست في كتاب سليم.

٤٥

وأما قولك : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منا ومنكم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.

وأمّا قولك يا عمر : إنك تخاف الناس علينا! فهذا الذي فعلتموه أوّل ذلك! وبالله المستعان (١).

ولزم عليّ بيته لجمع القرآن :

روى سليم بن قيس عن سلمان الفارسي قال : لما رأى علي عليه‌السلام غدرهم وقلة وفائهم له ، لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه ، وكان في الصحف والرقاع والأسيار (قيود الجلود) والشظاظ (العيدان).

فلما جمعه كله وكتبه على تنزيله وتأويله ، وناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ووعده ووعيده ، وظاهره وباطنه ؛ بعث إليه أبو بكر : أن اخرج فبايع.

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٧٤ ، واليعقوبي ٢ : ١٢٤ ـ ١٢٦ ، وعن الجوهري في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١ : ٢٢٠ ، ٢٢١ وفي كتاب السقيفة : ٤٧ ، ٤٨. وقد نقل ابن قتيبة قبله هذا الخبر في الإمامة والسياسة : ١٥ ولكنه اجتهد قبالة النصّ فجعله بعد وفاة الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها بخمس وسبعين ليلة. وقد جاء في كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٦٥ خطبة لعلي عليه‌السلام في أواخر عصره ، خرّجها المحقق عن خمسة مصادر أخرى منها نهج البلاغة في الخطبتين ٣٤ ومصادرها خمسة أخرى ، و٩٧ ومصادرها عشرة أخرى ، وانفرد عنها جميعا سليم بقوله فيها : فلم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به : أما حمزة فقتل يوم أحد ، وأما جعفر فقتل يوم مؤتة وبقيت في جلفين جافيين ذليلين حقيرين عاجزين : العباس وعقيل وكانا قريبي عهد بالاسلام. فهل يخطب بهذا خطبة عامة مع وجود أبنائهما معه عليه‌السلام؟! حديث غريب! ولكن نحوه عن الباقر عليه‌السلام في روضة الكافي : ١٩٠ كما عنه في بحار الأنوار ٢٨ : ٢٥١.

٤٦

فبعث إليه علي عليه‌السلام : إني لمشغول فقد آليت على نفسي يمينا : أن لا أرتدي رداء إلّا للصلاة حتى أؤلّف القرآن وأجمعه (١).

قال سلمان : فجمعه في ثوب واحد ، ثم خرج إلى الناس ـ وهم مع أبي بكر ـ في مسجد رسول الله ، فنادى بأعلى صوته :

يا أيها الناس ، إني لم أزل منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشغولا أوّلا بغسله ، ثم بالقرآن حتى جمعته كلّه في هذا الثوب ، فلم ينزل الله تعالى على رسوله آية إلّا وقد جمعتها ، وليست منه آية إلّا وقد أقرأنيها رسول الله وعلمني تأويلها. لئلّا تقولوا يوم القيامة : أني لم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته ، أو أني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي ، ولئلّا تقولوا غدا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ)(٢).

فردّ عليه عمر قال : يغنينا ما معنا من القرآن عما تدعونا إليه!

فانصرف علي عليه‌السلام إلى بيته ، فدخله ، وأغلق عليه بابه (٣).

__________________

(١) وأشار إليه المعتزلي ٦ : ٤٠ ، عن الجوهري قال : إلّا إلى صلاة جمعة ، وفي السقيفة : ٦٤.

(٢) الأعراف : ١٧٢.

(٣) كتاب سليم بن قيس الهلالي ٢ : ٥٨١ ـ ٥٨٢ ، والآية من الأعراف : ١٧٢. وروى صدر الخبر الكليني في روضة الكافي : ٢٨٣ ، الحديث ٥٤١ بسنده عن سليم. وروى الصدوق خبرا آخر مثله عن سليم عن أبي ذر ، ذكره المجلسي في بحار الأنوار ٨ ط ق : ٤٦٣ و٩٢ : ٤٢. وفي الاحتجاج ١ : ١٠٥ ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري بمعناه. وفي تفسير العياشي ٢ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، عن الصادق عليه‌السلام. وراجع هوامش بحار الأنوار ٢٨ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ للمحقق البهبودي ، وفيها عن فهرست ابن النديم : ٤٨ : فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن من قلبه في أول مصحف جامع. ومعناه في الإمامة والسياسة : ١٢ ، وعن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ٢ : ٥٦ ، وفي السقيفة : ٥١ ، ومنتخب كنز العمال ٢ : ١٦٢.

٤٧

خطبته عليه‌السلام بعد جمعه القرآن :

روى الكليني بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : إن أمير المؤمنين عليه‌السلام حين فرغ من تأليف القرآن وجمعه بعد سبعة أيام من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خطب الناس بالمدينة فقال :

الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلى وجوده ، وحجب العقول أن تتخيّل ذاته .. إلى أن قال : إن القوم لم يزالوا عبّاد أصنام وسدنة أوثان يقيمون لها المناسك ، وينصبون لها العتائر (الذبائح) وينحرون لها القربان ، ويجعلون لها البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ، ويستقسمون بالأزلام ، عامهين عن الله عزّ ذكره ، حائرين عن الرشاد ، مهطعين إلى البعاد ، وقد استحوذ عليهم الشيطان ، وغمرتهم سوداء الجاهلية ، ورضعوها جهالة وانفطموها (كذا) ضلالة ...

فأخرجنا الله إليهم رحمة ، وأطلعنا عليهم رأفة ، وأسفر بنا عن الحجب ، نورا لمن اقتبسه ، وفضلا لمن اتّبعه ، وتأييدا لمن صدّقه. فتبوّءوا العزّ بعد الذلة ، والكثرة بعد القلّة ، وهابتهم القلوب والأبصار ، وأذعنت لهم الجبابرة وطوائفها ، وصاروا أهل نعمة مذكورة وكرامة ميسورة ، وأمن بعد الغوث وجمع بعد كوف (١) ، وأضاءت بنا مفاخر معدّ بن عدنان ، وأولجناهم باب الهدى ، وأدخلناهم دار السلام ، وأشملناهم ثوب الإيمان ، وفلجوا بنا في العالمين ، وبدت لهم أيام الرسول آثار الصالحين : من حام مجاهد ، ومصلّ قانت ، ومعتكف زاهد ، يظهرون الأمانة ، ويأتون المثابة ...

وقال عليه‌السلام : وما من رسول سلف ولا نبيّ مضى ، إلّا وقد كان مخبرا أمّته بالمرسل الوارد من بعده ، ومبشّرا برسول الله ، وموصيا قومه باتباعه ،

__________________

(١) تكوف : التفّ وتجمّع كما في مجمع البحرين ٥ : ١١٦ ، ولعلّه من الأضداد.

٤٨

ومحلّيه (١) عند قومه ليعرفوه بصفته ، وليتبعوه على شريعته ، ولئلّا يضلوا فيه من بعده ، فيكون من هلك أو ضلّ بعد وقوع الإعذار والإنذار عن بينته وتعيين حجته ، فكانت الأمم في رجاء من الرسل وورود من الأنبياء ، ولئن اصيبت بفقد نبيّ بعد نبيّ على عظم مصائبهم وفجائعها بهم فقد كانت على سعة من الأمل.

و(لكن) لا مصيبة عظمت ولا رزيّة جلّت كالمصيبة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأن الله ختم به الإنذار والإعذار ، وقطع به الاحتجاج والعذر بينه وبين خلقه ، وجعله بابه الذي بينه وبين عباده ، ومهيمنه الذي لا يقبل إلّا به ، ولا قربة إلّا إليه بطاعته. وقال في محكم كتابه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)(٢). فقرن طاعته بطاعته ومعصيته بمعصيته ، فكان ذلك دليلا على ما فوّض إليه وشاهدا له على من اتّبعه وعصاه ، وبيّن ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتباعه والترغيب في تصديقه ، والقبول لدعوته : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(٣) فاتّباعه محبّة الله ورضاه غفران الذنوب وكمال الفوز ووجوب الجنة ، وفي التولّي عنه والإعراض محادّة الله وغضبه وسخطه ، والبعد منه مسكّن النار ؛ وذلك قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)(٤) يعني الجحود به والعصيان له.

وإن الله تبارك اسمه امتحن بي عباده ، وقتل بيدي أضداده ، وأفنى بسيفي جحّاده وجعلني زلفة للمؤمنين ، وحياض موت على الكافرين ، وسيفه

__________________

(١) أي ذاكرا حليته ووصفه.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) آل عمران : ٣١.

(٤) هود : ١٧.

٤٩

على المجرمين ، وشدّ بي أزر رسوله ، وأكرمني بنصره ، وشرّفني بعلمه ، وحباني بأحكامه ، واختصّني بوصيّته ، واصطفاني بخلافته في امّته :

فقال وقد حشده المهاجرون والأنصار وغصّت بهم المحافل : «أيها الناس إن عليا مني كهارون من موسى ، إلّا أنه لا نبيّ بعدي» فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول ، إذ عرفوني أني لست بأخيه لأبيه وأمه كما كان هارون أخا لموسى لأبيه وأمه ، ولا كنت نبيّا فأقتضي نبوة ، ولكن كان ذلك منه استخلافا لي كما استخلف موسى هارون عليه‌السلام حيث يقول : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(١). وقوله حين تكلّمت طائفة فقالت : نحن موالي رسول الله ، فخرج رسول الله إلى حجة الوداع ثمّ صار إلى «غدير خم» فأمر فأصلح له شبه المنبر فعلاه وأخذ بعضدي حتى رؤي بياض إبطيه رافعا صوته قائلا في محفله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فكانت على ولايتي ولاية الله وعلى عداوتي عداوة الله ، وأنزل الله في ذلك اليوم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(٢) فكانت ولايتي كمال الدين ورضا الربّ جلّ ذكره.

وأنزل الله تبارك وتعالى اختصاصا لي وتكريما نحلنيه وإعظاما وتفضيلا من رسول الله منحنيه ، وهو قوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)(٣). في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع وطال لها الاستماع.

__________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

(٢) المائدة : ٣ ، وفي ذلك اليوم أي في شأنه.

(٣) الأنعام : ٦٢.

٥٠

إلى أن قال عليه‌السلام : حتى إذا دعا الله عزوجل نبيّه ورفعه إليه ، لم يك بعده إلّا كلمحة من خفقة ، أو وميض من برقة ، إلّا أن رجعوا على الأعقاب وانتكسوا على الأدبار ، وطلبوا بالأوتار ، وأظهروا الاكتئاب وردموا الباب ، وفلّوا الديار وغيّروا آثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورغبوا عن أحكامه وبعدوا عن أنواره ، واستبدلوا بمستخلفه بديلا (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ)(١) وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ممن اختار رسول الله لمقامه ، وأن مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجر الناصر الربّاني ناموس هاشم بن عبد مناف. ألا وإن أول شهادة زور رفعت في الإسلام شهادتهم أنّ صاحبهم مستخلف رسول الله [في الصلاة] فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان رجعوا عن ذلك وقالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مضى ولم يستخلف! فكان رسول الله الطيّب المبارك أول مشهود عليه بالزور في الإسلام ، وعن قليل يجدون غبّ ما أسسه الأوّلون.

ولئن كانوا في مندوحة من المهل وشفاء من الأجل وسعة من المنقلب واستدراج من الغرور ، وسكون من الحال ، وإدارك من الآمال ؛ فقد أمهل الله شدّاد بن عاد ، وثمود بن عبود ، وبلعم بن باعور ، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، وأمدّهم بالأموال والأعمار ، وأتتهم الأرض بركاتها ليذكروا آلاء الله وليعرفوا الإهابة له والانابة إليه ، ولينتهوا عن الاستكبار ، فلما بلغوا المدة واستتمّوا الأكلة ، أخذهم الله عزوجل واصطلمهم ، فمنهم من حصب ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من أحرقته الظلّة ، ومنهم من أودته الرجفة ، ومنهم من أردته الخسفة (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٢). ألا وإنّ لكل أجل كتابا

__________________

(١) الأعراف : ١٤٨.

(٢) العنكبوت : ٤٠.

٥١

فإذا بلغ الكتاب أجله وكشف لك عمّا أوى إليه الظالمون وآل إليه الأخسرون ؛ لهربت إلى الله عزوجل مما هم عليه مقيمون وإليه صائرون.

ألا وإني فيكم أيها الناس كهارون في آل فرعون ، وكباب حطة في بني إسرائيل ، وكسفينة نوح في قوم نوح ، إني النبأ العظيم والصديق الأكبر ، وعن قليل ستعلمون ما توعدون ، وهل هي إلّا كلعقة الآكل ومذقة الشارب وخفقة الوسنان ، ثم تلزمهم المعرّات خزيا في الدنيا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١) فما جزاء من تنكّب محجّته وأنكر حجته ، وخالف هدايته وحاد عن نوره واقتحم في ظلمه ، واستبدل بالماء السراب وبالنعيم العذاب ، وبالفوز الشقاء وبالسرّاء الضرّاء ، وبالسعة الضنك ، إلّا جزاء اقترافه وسوء خلافه فليوقنوا بالوعد على حقيقته وليستيقنوا بما يوعدون (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ* إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ* يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ* نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ)(٢) والحمد لله (٣).

ويعوز آخر الخبر هكذا عن ذكر حال الحضور المخاطبين وردّ فعلهم.

ما ذا كانت فدك؟

مرّ بعد أخبار خيبر خبر الطبرسي في «إعلام الورى» عن أبان عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : لما فرغ رسول الله من خيبر ، عقد لواء يريد أن يبعث به

__________________

(١) البقرة : ٨٥.

(٢) ق : ٤٢ ـ ٤٥.

(٣) روضة الكافي : ١٦ ـ ٢٥ ، وصدره في تحف العقول : ٦٧ ـ ٧٢ وتعرف بخطبة الوسيلة.

٥٢

إلى حوائط فدك (١) ثمّ قال لعلي عليه‌السلام : يا علي ، قم إليه فخذه ، فبعث به إلى فدك ، فصالحهم على أن يحقن دماءهم (٢).

في حين نقل الواقدي : أن رسول الله بعد خيبر لما دنا من فدك بعث محيّصة بن مسعود إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوّفهم أن يحلّ بساحتهم. ثمّ نقل عن محيّصة : أنه لما أراد أن يرجع عنهم قدم معه رجل من رؤسائهم يقال له : نون بن يوشع ، في نفر من اليهود (٣) وقبله. أشار ابن اسحاق إلى خبر محيّصة وقال : قدمت رسلهم على رسول الله وهو ما زال في خيبر ، أو في الطريق ، أو بعد ما قدم المدينة ، يسألونه أن يصالحهم على النصف (٤).

وقال الواقدي : فصالحوا رسول الله على أن يحقن دماءهم .. وأنّ لهم نصف الأرض بتربتها ولرسول الله نصفها. فقبل رسول الله ذلك وأقرّهم عليه (٥).

وقال ابن اسحاق : فكانت فدك خالصة لرسول الله ؛ لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب (٦).

وفي خبر الباقر عليه‌السلام : فكانت حوائط فدك لرسول الله خاصا خالصا ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : إنّ الله عزوجل يأمرك أن تؤتي ذا القربى حقه. فقال : يا جبرئيل ، ومن قرباي وما حقها؟ قال : فاطمة ، فأعطها حوائط فدك ..

__________________

(١) تبعد عن المدينة إلى خيبر اليوم بمائة وأربعين كم ، وفي معجم البلدان : يومان ٦ : ٣٤٢.

(٢) إعلام الورى ١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، وقصص الأنبياء : ٣٤٨.

(٣) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٦.

(٤) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٥٢ و٣٦٨.

(٥) مغازي الواقدي ٢ : ٧٠٧.

(٦) ابن اسحاق في السيرة ٣ : ٣٥٢ و٣٦٨.

٥٣

فدعا رسول الله فاطمة (١) فقال لها : يا بنيّة ، إن الله قد أفاء على أبيك بفدك واختصّه بها ، فهي لي خاصة دون المسلمين أفعل بها ما أشاء ، وإنه قد كان لأمك خديجة على أبيك مهر ، إن أباك قد جعلها لك بذلك وأنحلتك إياها تكون لك ولولدك من بعدك.

فدعا بأديم عكاظي (من أديم عكاظ) ودعا بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال له : اكتب بفدك نحلة من رسول الله لفاطمة (فكتب) وشهد ، و(معهم) أم أيمن ومولى لرسول الله (٢).

وعن الكاظم عليه‌السلام قال للمهدي العبّاسي : أوحى الله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها‌السلام. فدعاها رسول الله فقال لها : يا فاطمة ، إن الله أمرني أن ادفع إليك فدك. فقالت له : يا رسول الله قد قبلت من الله ومنك.

ثم قال عليه‌السلام : فلم يزل في حياة رسول الله وكلاؤها فيها (٣).

وصادرها الخليفة :

قال عليه‌السلام : فلما ولي أبو بكر أخرج منها وكلاءها ، فأتته تسأله أن يردّها عليها فقال لها : ايتني بمن يشهد لك بذلك. فجاءت بأمير المؤمنين (وفي التهذيب : والحسن والحسين) وأم أيمن فشهدا (أو شهدوا) لها (٤).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٢) الخرائج والجرائح عن الصادق عليه‌السلام ١ : ١١٣ وفي الخبر السابق عن الباقر عليه‌السلام : وكتب لها كتابا. وإليه الإشارة في خبر آخر عن المفضل بن عمر عن الصادق عليه‌السلام ، في بحار الأنوار ٥٣ : ١٧ وفي خبر آخر عنها عليها‌السلام عن إرشاد القلوب في بحار الأنوار ٣٠ : ١٩٤.

(٣) أصول الكافي ١ : ٥٤٣ ، الحديث ٥ ، والمقنعة : ٢٨٩ ، والتهذيب ٤ : ١٤٨ ، الباب ١ ، الحديث ٣٦.

(٤) المصدر السابق.

٥٤

وعن الصادق عليه‌السلام قال : بعث أبو بكر إلى فدك من أخرج منها وكيل الزهراء عليها‌السلام ، فذهبت إلى أبي بكر وقالت له : لم أخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله بأمر الله تعالى؟! فقال لها : هاتي على ذلك بشهود (١).

ونحوه ما لدى المعتزلي عن الجوهري عن البصري بسنده عن زيد بن علي عليه‌السلام قال : أتته فاطمة فقالت له : إن رسول الله أعطاني فدك. فقال لها : هل لك بيّنة؟!

فجاءت بعلي عليه‌السلام فشهد لها.

وجاءت بأم أيمن فقالت لهما : ألستما تشهدان أني من أهل الجنة؟ قالا : بلى. قالت : فأنا أشهد أنّ رسول الله أعطاها فدكا.

فقال أبو بكر : فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقّي بها القضية (٢)!

وما رواه البلاذري عن مالك بن جعونة عن أبيه قال : قالت فاطمة لأبي بكر : إن رسول الله جعل لي فدكا فأعطني إياها. وشهد لها علي بن أبي طالب. فسألها شاهدا آخر فشهدت لها أمّ أيمن ، فقال : قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا تجوز إلّا رجلين أو رجل وامرأتين. فانصرفت.

ورواية خالد بن طهمان : أن فاطمة قالت لأبي بكر : أعطني فدكا فقد جعلها رسول الله لي فسألها البيّنة ، فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبيّ فشهدا لها بذلك ، فقال : إنّ هذا الأمر لا تجوز فيه إلّا شهادة رجل وامرأتين (٣).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٥٥ ، بسند صحيح ، والاختصاص : ١٨٣ ـ ١٨٥ ، والاحتجاج ١ : ١١٩ ـ ١٢٢.

(٢) عن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٩.

(٣) عن فتوح البلدان ١ : ٣٨ ، وفي الغدير ٧ : ١٩١.

٥٥

وفي الخبر السابق عن الباقر عليه‌السلام قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب لها كتابا جاءت به بعد موته لأبي بكر وقالت له : هذا كتاب رسول الله لي ولا بنيّ (١).

سرّ المصادرة :

روى الطبراني (٣٦٠ ه‍) في «المعجم الأوسط» والهيثمي في «مجمع الزوائد» عن عمر قال : ذهبت أنا وأبو بكر بعد وفاة رسول الله إلى عليّ فقلنا له :

ما تقول في ما ترك رسول الله؟

قال : نحن أحق الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقلت : والذي بخيبر؟ قال : والذي بخيبر. قلت : والذي بفدك؟ قال : والذي بفدك! فقلت : لا والله حتى تحزّوا رقابنا بالمناشير (٢)!

وفي سرّ المصادرة جاء في «الكشكول فيما جرى على آل الرسول» : عن المفضّل بن عمر الجعفي عن الصادق عليه‌السلام قال : لما ولي أبو بكر قال له عمر : إن الناس عبيد هذه الدنيا لا يريدون غيرها ؛ فامنع عن علي وأهل بيته الخمس والفيء وفدكا ؛ فإن شيعته إذا علموا ذلك تركوا عليا وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا وإيثارا لها ومحاماة عليها. ففعل أبو بكر ذلك (٣).

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ٢٠٩.

(٢) مجمع الزوائد ٩ : ٣٩.

(٣) الكشكول فيما جرى على آل الرسول ، للسيد حيدر الحلي : ٢٠٣ ـ ٢٠٥. وجاء في إرشاد القلوب ٢ : ٣٨٤ : مرفوعا عن جابر الأنصاري : أن أبا بكر قلّد الصدقات بقرى المدينة وضياع فدك رجلا من ثقيف شجاعا يقال له : أشجع بن مزاحم الثقفي ، وكان له أخ قتله علي عليه‌السلام في حرب ثقيف وهوازن ، ومع الرجل ثلاثون رجلا من جياد قومه!

٥٦

وسيأتي عن ابن الجوزي أو سبطه : أن عمر قال لأبي بكر لما رآه يكتب كتابا للزهراء : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة .. وكأنّه كان في بدايات ردّات العرب فقال له : ومن ما ذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟! ثم أخذ الكتاب منه فشقّه (١)!

ونقل المعتزلي عن علي بن تقي النيلي الحلّي قال : ما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عن فدك إلّا أن لا يتقوّى عليّ عليه‌السلام بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة ؛ فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة (٢).

وجاء علي عليه‌السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال له :

يا أبا بكر ، تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا. قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ثم ادّعيت أنا فيه ، فممن تسأل البيّنة؟ قال : إياك أسأل البيّنة. قال : فما بالك سألت فاطمة البيّنة على ما (كان) في يديها وقد ملكته في حياة رسول الله .. أخذت منها فدكا وزعمت أنه فيء للمسلمين. فرددت قول رسول الله : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعي عليه.

قال الصادق عليه‌السلام : فنظر الناس بعضهم إلى بعض ودمدموا وأنكروا وقالوا : صدق والله عليّ بن أبي طالب .. وسكت أبو بكر!

__________________

(١) كما في الغدير ٧ : ٩٤ عن السيرة الحلبية ٣ : ٣٩١.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ١٦ : ٢٣٦ ، وفي ١٦ : ٢٦٣ ، أرّخ لذلك فقال : وحديث فدك وحضور فاطمة عند أبي بكر كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولم يذكر المصدر ولم نجده إلّا عنده ، وظاهره البداية.

٥٧

فقال عمر : يا علي دعنا من كلامك فإنا لا نقوى على حجتك! فإن أتيت بشهود وإلّا فهو فيء للمسلمين ، لا حقّ لك فيه ولا لفاطمة!

فجاء علي عليه‌السلام فشهد بمثل ذلك.

وجاءت أم أيمن فقالت له : يا أبا بكر ، أنشدك بالله ، ألست تعلم أن رسول الله قال : أم أيمن امرأة من أهل الجنة؟ فقال : بلى. قالت : فأشهد أن الله عزوجل أوحى إلى رسوله فجعل فدكا طعمة لفاطمة بأمر الله (١).

ونقل المعتزلي عن الجوهري عن الكلبي عن أبيه : أنها قالت لأبي بكر : إن [عليا] وأم أيمن (يشهدان) لي : أن رسول الله أعطاني فدك.

فقال لها (هكذا بلا شهادة) : والله ما خلق الله خلقا أحبّ إليّ من أبيك رسول الله ولوددت يوم مات أبوك أن السماء وقعت على الأرض ، وو الله لئن تفتقر عائشة أحبّ إليّ من أن تفتقري ، أتراني أعطي الأبيض والأحمر حقه وأظلمك حقّك وأنت بنت رسول الله؟! إن هذا المال لم يكن للنبيّ وانما كان مالا من أموال المسلمين يحمل النبيّ بها الرجال وينفقه في سبيل الله ، فلما توفي رسول الله وليته كما كان يليه.

فقالت له : والله لا كلّمتك أبدا! فقال : والله لا هجرتك أبدا!

قالت : والله لأدعونّ الله عليك! فقال : والله لأدعونّ الله لك (٢)!

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ١١٩ ـ ١٢٣ بتلخيص وتصرّف يسير ، وقريبا منه في الاختصاص : ١٨٣ ـ ١٨٥ ، عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام وقبله عن كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٧٩ : أن الزهراء هي حاجّته بمثله ، عن علي عليه‌السلام.

(٢) عن الجوهري عن الكلبي في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٤ وأشكل عليه فيه : ٢٢٥. وروى ذيله المرتضى في الشافي وتلخيصه ٣ : ١٥٢ عن العباسية للجاحظ وهي ١٢ من رسائل الجاحظ : ٣٠٠ ـ ٣٠٣.

٥٨

ثم نقل عنه عن ابن زكريا عن ابن عائشة عن أبيه عن عمّه قال : قالت : إن فدكا وهبها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال أبو بكر : فمن يشهد بذلك؟ فجاء عليّ بن أبي طالب فشهد وجاءت أم أيمن فشهدت.

وجاء عمر بن الخطّاب وعبد الرحمن بن عوف فشهدا أنّ رسول الله كان يقسمها.

فقال أبو بكر : يا ابنة رسول الله صدقت وصدق علي وصدقت أم أيمن وصدق عمر وعبد الرحمن بن عوف ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يأخذ من فدك قوتكم ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله ، فلك عليّ الله أن أصنع فيها كما يصنع أبوك .. فكان أبو بكر يأخذ غلّتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم ويقسم الباقي (١).

بينما في «الشافي» يبدو عن كتاب «المعرفة» لإبراهيم الثقفي (٢) (م ٢٨٢ ه‍) بسنده عن ابن الحنفية عن أبيه علي عليه‌السلام قال : ذهبت فاطمة إلى أبي بكر وقالت له : إنّ أبي أعطاني فدكا ، ويشهد لي علي وأم أيمن. فقال أبو بكر : وأنا قد أعطيتكها ، ودعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها (٣) إلى عامله كتابا بردّ فدك (٤). وبترك التعرض.

فعن الكاظم عليه‌السلام قال للمهديّ العباسي : فخرجت والكتاب معها (بيدها) فلقيها عمر (فعرفها) فقال لها : يا بنت محمد (!) ما هذا معك؟ قالت : كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة. قال : أرنيه. فأبت ، فانتزعه من يدها (فلما) نظر فيه

__________________

(١) عن الجوهري في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢١٦ وأشكل عليه فيه : ٢٢٥ ، ٢٢٦.

(٢) كما عن الشافي في شرح النهج للمعتزلي ١٦ : ٢٨٢.

(٣) تلخيص الشافي ٣ : ١٢٤ ، ١٢٥.

(٤) دلائل الإمامة : ١١٩ ، وهو الوجه الوجيه لكتابة الكتاب.

٥٩

تفل فيه ومحاه وخرّقه وقال لها : هذا لم يوجف عليه أبوك (!) بخيل ولا ركاب؟! فضعي الحبال في رقابنا (١)!

وفي غير تذكرته لخواصّ الأمة ترخّص سبط ابن الجوزي أو جده أن يروي خبر كتاب أبي بكر لفاطمة عليها‌السلام وقال : فقال له عمر : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة .. وكأنه كان في بدايات ردّات العرب فقال له : ومن ما ذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى! ثم أخذ الكتاب منه فشقّه (٢).

ونقل قولها ابن قيس عن ابن عباس قال : فخرجت في نساء بني هاشم حتى دخلت على أبي بكر فقالت له : يا أبا بكر ، أتريد أن تأخذ منّي أرضا تصدّق (؟!) بها عليّ أبي رسول الله من الوجيف الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، أما قال رسول الله : «المرء يحفظ في ولده بعده» وقد علمت أنه لم يترك شيئا غيرها لولده (٣).

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٥٤٣ ، الحديث ٥ ، والمقنعة : ٢٨٩ ، والتهذيب ٤ : ١٤٨ ، الباب ١ ، الحديث ٣٦ وذكر الكتاب وشقّه في تفسير القمي ٢ : ١٥٥ و٣٣٤ ، والعياشي ٢ : ٢٨٧ ، والاختصاص : ١٨٥ ، ومختصر بصائر الدرجات : ١٩١ ، والاحتجاج ١ : ٢٣٦ ، وعن إرشاد القلوب في بحار الأنوار ٣٠ : ١٩٤ ، ط. اليوسفي الغروي.

(٢) كما في الغدير ٧ : ١٩٤ عن السيرة الحلبية ٣ : ٣٩١ وليس هذا في تذكرة الخواص فلعله من سائر كتبه في التاريخ : منتهى السئول في سيرة الرسول ، او معادن الابريز في التاريخ في ١٩ ج ، أو مرآة الزمان في تاريخ الأعيان منذ بدء الخليفة حتى ذلك الزمان في ٤٠ ج ، أو تفسيره للقرآن في ٢٩ ج. انظر مقدمة المحقق بحر العلوم للتذكرة : ٧. ولعله لروايته أمثال هذه الأخبار. اتهمه الذهبي بالرفض فلم يوثّقه في ميزان الاعتدال ٣ : ٣٣٣ والسيد المقرّم في وفاة الصدّيقة : ٧٨ نقل الخبر عن السيرة الحلبية ٣ : ٤٠٠ عن ابن الجوزي نفسه وليس سبطه. ولتحليل الموقف راجع فدك في التاريخ للشهيد الصدر : ٤١ و٩٠ و٩٦.

(٣) كتاب سليم بن قيس الهلالي ٢ : ٨٦٨.

٦٠