موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

ابن العباس ومحمد بن أبي بكر ، وأخبرهم بالكتاب ثم قال لهم : أشيروا عليّ بما أسمع منكم القول فيه.

فقال عمار بن ياسر : الرأي المسير إلى الكوفة فإن أهلها شيعة لنا ، وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة.

وقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، الرأي عندي أن تكتب إلى الأشعري أن يبايع لك (١) أو تقدّم رجالا إلى الكوفة فيبايعون لك ، ثم تجدّ السير حتى تلحق بالكوفة ، ثم تعاجل القوم قبل أن يدخلوا البصرة ، وتكتب إلى أمّ سلمة فتخرج معك فإنها لك قوة.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : بل أسير بنفسي ومن معي في اتّباع الطريق وراء القوم ، فإن أدركتهم في الطريق أخذتهم ، وإن فاتوني كتبت إلى الكوفة والأمصار واستمددت الجنود وسرت إليهم ، وأما أمّ سلمة ؛ فإني لا أرى إخراجها من بيتها كما رأى الرجلان إخراج عائشة.

ثم رفع يديه إلى السماء بالدعاء : اللهم إنّ هذين الرجلين قد بغيا عليّ ونكثا عهدي ، ونقضا عقدي وشقاني ، بغير حقّ منهما كان في سومهما ذلك ، اللهم خذهما بظلمهما لي ، واظفرني بهما وانصرني عليهما.

ثم نادى منادي أمير المؤمنين في الناس : تجهّزوا للمسير ، فإن طلحة والزبير قد نكثا البيعة ونقضا العهد ، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة ، لإثارة الفتنة وسفك دماء أهل القبلة (٢).

__________________

(١) كذا في الخبر هنا ، وكأنّ ابن عباس لا يدري بيعة الناس في الكوفة للإمام عليه‌السلام ، أو يريد تجديدها تأكيدا.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ وبهامشه مصادر اخرى.

٥٠١

عمّار ، وبعض المتخلّفين :

وقال الإمام عليه‌السلام لعمار بن ياسر : لو لقيت محمد بن مسلمة الأنصاري ، فلاقاه عمّار ، فقال له محمد بن مسلمة : مرحبا بك يا أبا اليقظان ، على فرقة بيني وبينك ، والله لو لا ما في يدي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتابعت (١) عليا ، حتى ولو كان الناس كلهم عليه لكنت معه ، ولكنه ـ يا عمّار ـ كان من النبي أمر ذهب فيه الرأي.

فقال عمار : كيف قال؟

قال : قال رسول الله لي : إذا رأيت المسلمين ـ أو : رأيت أهل الصلاة يقتتلون ...

فقال عمار : فإن كان قال لك : إذا رأيت المسلمين ... فو الله لا ترى مسلمين يقتتلان أبدا ... وإن كان قال لك : أهل الصلاة ... فمن سمع هذا معك؟ إنما أنت أحد الشاهدين ، أفتريد من رسول الله قولا بعد قوله يوم حجة الوداع : دماؤكم وأموالكم عليكم حرام إلّا بحدث. فتقول : لا نقاتل المحدثين؟

فقال : حسبك يا أبا اليقظان.

ثم لا قى عمار سعد بن أبي وقاص فكلّمه ، فأظهر ردّا قبيحا! فانصرف عنه عمار إلى علي عليه‌السلام فقال له : يا أمير المؤمنين ائذن لي أن آتي عبد الله بن عمر فاكلّمه لعله يخفّ معنا في هذا الأمر ، فأذن له.

فلاقاه عمّار فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، إنه قد بايع عليا المهاجرون والأنصار ومن إن فضّلناه عليك لم يسخطك وإن فضّلناك عليه لم يرضك. وقد أنكرت السيف في أهل الصلاة (٢) وقد علمت أن على القاتل القتل وعلى المحصن

__________________

(١) في الكتاب : لبايعت ، وقد مرّ أن هؤلاء كانوا قد بايعوا إلّا أنهم لم يتابعوا القتال.

(٢) من هنا يستشفّ أن ابن عمر اقتبس هذا العذر المصطنع عن ابن مسلمة ، وانه عرف بهذا القول قبل لقاء عمّار هذا ، ولذلك لاقاه وكلّمه ، بل هو لم يبايع أصلا.

٥٠٢

الرجم ، فهذا يقتل بالسيف وذاك يقتل بالحجارة. وإن عليا لم يقتل أحدا من أهل الصلاة فيلزمه حكم القاتل!

فقال ابن عمر : يا أبا اليقظان ؛ إن أبى جمع أهل الشورى الذين قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو عنهم راض ، فكان أحقّهم بها عليّ ، غير أنه جاء أمر فيه السيف ، ولا أعرفه! ولكن والله ما أحبّ أنّ لي الدنيا وما عليها وأني أظهرت أو أضمرت عداوة علي!

فانصرف عنه عمار إلى علي عليه‌السلام فأخبره بقوله وقولهم.

فقال عليه‌السلام : دع هؤلاء الرهط ؛ أمّا ابن عمر فضعيف ، وأما سعد فحسود ، وذنبي إلى محمد بن مسلمة أني قتلت قاتل أخيه يوم خيبر : مرحب اليهودي (١).

طلحة والزبير وابن عمر :

ولما استتم ابن عمر أمره وأجمع على المسير إلى مكة وانكمش إليها ، قال طلحة للزبير : إنه ليس في استمالة أهواء الناس شيء أنفع ولا أبلغ من أن يشخص معنا ابن عمر ، فأتياه فقالا : يا أبا عبد الرحمن ، إن أمّنا عائشة خفّت لهذا الأمر رجاء الإصلاح بين الناس ، فاشخص معنا فإنّ لك اسوة بها ، فإن بايعنا الناس فأنت أحقّ بها!

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٥٣ ، وفيه : أني قتلت أخاه ... خطأ بل غلط. ومختصر الخبر عن الباقر عليه‌السلام عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، في أمالي الطوسي : ٧١٦ ، الحديث ١٥١٨ وإنما فيه عن عمار لعلي عليه‌السلام : وأما محمد بن مسلمة فذنبك إليه أنك قتلت قاتل أخيه مرحبا ، وأما عبد الله بن عمر فضعيف ، وأما سعد فحسود. ولعله لم يكن الأخير كشفا عن عيب مستور بل مشهور ، فلا غيبة. ولكن روى قبله مثله طريقا وجاء فيه : أن سعدا كان قد خرج في فتنة قتل عثمان إلى مكة : ٧١٤ ، الحديث ١٥١٧ ، إلّا أن يكون قد رجع قبل هذا.

٥٠٣

فقال ابن عمر : أيها الشيخان ؛ أتريدان أن تخرجاني من بيتي ثم تلقياني بين مخالب ابن أبي طالب؟ إن الناس إنما يخدعون بالدينار والدرهم!

واني قد تركت هذا الأمر عيانا لأكون في عافية! فانصرفا عنه (١).

وعاودهما مروان فقال لهما : عاودا ابن عمر فلعلّه ينيب! فعاوداه.

فتكلّم طلحة فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، إنه ـ والله ـ لربّ حقّ ضيّعناه وتركناه ، فلما ارتفع العذر قضيناه بالحق وأخذنا بالحظّ. إنّ عليا يرى إنفاذ بيعته وإن معاوية لا يبايع له ، فنحن نرى أن نردّها شورى ، فإن سرت معنا ومع أمّ المؤمنين صلحت الامور! وإلّا فهي الهلكة!

فقال ابن عمر : إن يكن قولكما حقا فقد ضيّعت فضلا ، وإن يكن باطلا فقد نجوت من شرّ ، وأعلما أن عائشة بيتها خير لها من هودجها ، وأنتما المدينة خير لكما من البصرة ، والذلّ خير لكما من السيف ، فإنه لا يقاتل عليا إلّا من يكن خيرا منه!

وأما الشورى ؛ فقد كانت والله فقدّم وأخّرتما ، ولن يردّها إلّا اولئك الذين حكموا بها وفيها! فاكفياني أنفسكما! فانصرفا.

فقال لهما مروان : استعينا عليه باخته حفصة.

فأتيا حفصة ، فقالت لهما : دعاه ، فلو كان يطيعني لأطاع عائشة. فتركاه (٢).

ثم عاد هو فمنع اخته حفصة من أن تصحب عائشة ، وأعادها إلى المدينة (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) الإمامة والسياسة : ٦١.

(٣) مناقب آل أبي طالب للحلبي.

٥٠٤

كتبهما إلى أشياخ البصرة :

وكتبا إلى الأحنف بن قيس التميمي شيخ مضر بالبصرة : أما بعد ، فإنّك وافد عمر وسيّد مضر ، وحليم أهل العراق ، وقد بلغك مصاب عثمان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان أشفى لك من الخبر ، والسلام.

وكتبا إلى المنذر بن ربيعة العبدي شيخ ربيعة البصرة : أما بعد ، فإن أباك كان رئيسا في الجاهلية وسيّدا في الإسلام ، وإنك من أبيك بمنزلة اللاحق من السابق يقال : كاد أو لحق. وقد قتل عثمان من أنت خير منه! وقد غضب له من هو خير منك! والسلام.

وكتبا إلى كعب بن سور شيخ الأزد بالبصرة وقاضيها من عمر : أما بعد ، فإنك قاضي عمر بن الخطاب ، وشيخ أهل البصرة وسيّد أهل اليمن بها ، وقد كنت غضبت لعثمان من الأذى فاغضب له اليوم من القتل ، والسلام.

فكان جواب الأحنف إليهما : أما بعد ، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمر لا نشك فيه إلّا قتل عثمان! وأنتم قادمون علينا ، فإن يكن في العيان فضل نظرنا فيه ونظرتم ، وإن لا يكن فيه فضل فليس فيما بأيدينا ثقة ولا بما في أيديكم ، والسلام.

وكان جواب المنذر بن ربيعة إليهما : أما بعد فإنه لم يلحقني بأهل الخير إلّا أن أكون خيرا من أهل الشرّ ، وإنما أوجب حقّ عثمان اليوم حقّه بالأمس وقد كان بينكم فخذلتموه! فمتى بدا لكم هذا الرأي واستنبطتم هذا العلم؟!

وكان جواب كعب بن سور القاضي الأزدي إليهما يومئذ : أما بعد ، فإنا غضبنا لعثمان من الأذى باللسان فجاء أمر السيف (والسنان) فإن كان قتل مظلوما فغيركما أولى به! وإن كان قتل ظالما فما لكما وله؟ وإن كان أمره قد أشكل على من شهده فهو على الغائب عنه أشكل!

٥٠٥

وقال زياد بن مضر وغزوان والنعمان بن شوال : ما لنا ولهذا الحيّ من قريش؟ أيريدون أن يخرجونا من الإسلام ويدخلونا في الشرك بعد ما خرجنا منه؟ قتلوا عثمان وبايعوا عليا ، فلهم ما لهم وعليهم ما عليهم (١)!

خطبته عليه‌السلام حينما بلغه خبرهم :

قال المفيد في «الإرشاد» : من كلامه عليه‌السلام عند (بلوغه) نكث طلحة والزبير بيعته ... واجتماعهما مع عائشة في التأليب عليه : ما حفظه العلماء عنه :

حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فإنّ الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس كافّة ، وجعله رحمة للعالمين ، فصدع بما امر به وبلّغ رسالات ربّه ، فلمّ به الصدع ورتق به الفتق ، وآمن به السبل وحقن به الدماء ، وألّف به بين ذوى الإحن والعداوة ، والوغر في الصدور ، والضغائن الراسخة في القلوب.

ثم قبضه الله تعالى إليه حميدا لم يقصّر عن الغاية التي إليها أداء الرسالة ، ولا بلّغ شيئا كان في التقصير عنه القصد.

وكان من بعده من التنازع في الأمر ما كان ، فتولّى أبو بكر وبعده عمر ، ثم تولّى عثمان ، فلما كان من أمره ما عرفتموه أتيتموني فقلتم : بايعنا ، فقلت : لا أفعل ، فقلتم : بلى ، فقلت : لا ، وقبضت يدي فبسطتموها ، ونازعتكم فجذبتموها ، وتداككتم عليّ تداكّ الإبل الهيم (العطاشى) على حياضها يوم ورودها ، حتى ظننت أنكم قاتليّ أو أن بعضكم قاتل بعض! فبسطت يدي فبايعتموني مختارين ، وبايعني في أوّلكم طلحة والزبير طائعين غير مكرهين.

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ٦٠ ـ ٦١ ، وسيأتي أن كعبا مال إليهم حتى قتل معهم مع الجمل ، وقد علّق مصحفا في عنقه.

٥٠٦

ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة ، والله يعلم أنهما أرادا الغدرة ، فجدّدت عليهم العهد في الطاعة ، وأن لا يبغيا للامّة الغوائل ، فعاهداني ، ثم لم يفيا لي ونكثا بيعتي ونقضا عهدي.

فعجبا لهما من انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما لي ولست بدون أحد الرجلين ولو شئت أن أقول لقلت. اللهم احكم عليهما بما صنعا في حقّي وصغّرا من أمري ، وظفّرني بهما (١).

وخطبة اخرى في هذا المعنى :

وروى المدائني بسنده عن عبد الله بن جنادة قال : رحلت في أول إمارة عليّ من الحجاز اريد العراق فمررت بمكة معتمرا ، ثم قصدت المدينة فدخلت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نودي : الصلاة جامعة. فاجتمع الناس وخرج عليّ متقلدا سيفه ، فشخصت الأبصار نحوه ، فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثم قال :

أما بعد ، فإنه لما قبض الله نبيّه قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ولا يطمع في حقّنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا (المهاجرون من قريش) فغصبونا سلطان نبيّنا ، فصارت الإمرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف ويتعزّز علينا الذليل! فبكت الأعين منّا لذلك وخشنت الصدور وجزعت النفوس! وأيم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين ، وأن يعود الكفر ويبور الدين ، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه!

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

٥٠٧

فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا (١).

ثم استخرجتموني ـ أيها الناس ـ من بيتي فبايعتموني ، على شنأ منّي لأمركم وفراسة منّي تصدقني عمّا في قلوب كثير منكم! وبايعني هذان الرجلان في أول من بايع ، تعلمون ذلك ، وقد نكثا وغدرا ونهضا إلى البصرة بعائشة ، ليفرّقا جماعتكم ويلقيا بأسكم بينكم.

ثم رفع يديه للدعاء ودعا : اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية ، ولا تنعش (ترفع) لهما صرعة ، ولا تقلهما عثرة ، ولا تمهلهما فواقا (يسيرا) فإنهما يطلبان حقا تركاه ودما سفكاه! اللهم إني أقتضيك وعدك ، فإنك ـ وقولك الحق ـ قلت لمن بغي عليه : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)(٢) فأنجز لي موعدي ، ولا تكلني إلى نفسي ، إنك على كل شيء قدير (٣). ثم قال : انفروا ـ رحمكم الله ـ في طلب هذين الناكثين القاسطين الباغيين قبل أن يفوت تدارك ما جنياه!

ونقلها المفيد في «الإرشاد» (٤) مرسلا ، بينما أسندها في «الأمالي» عن ابن قولويه عن الثقفي الكوفي عن الحسين بن سلمة من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، منقطعا ولكن بزيادة يعلم منها أنها لم تكن خطبة جمعة ، قال :

فقام أبو الهيثم ابن التّيهان وقال : يا أمير المؤمنين ، إنّ حسد قريش إياك على وجهين :

فخيارهم حسدوك ارتفاعا في الدرجة ومنافسة في الفضل.

__________________

(١) لم يقصّرا عن الخير للناس ، ولو بالنسبة لمن بعدهما.

(٢) الحج : ٦٠.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٣٠٧ عن المدائني.

(٤) الإرشاد ١ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ مرسلا.

٥٠٨

وشرارهم حسدوك حسدا أحبط الله به أعمالهم وأثقل به أوزارهم ، وما رضوا أن يساووك حتى أرادوا أن يتقدّموك! فبعدت عليهم الغاية وأسقطهم المضمار (ميدان السباق) وكنت أحق قريش بقريش ، نصرت نبيّهم حيا وقضيت حقوقه ميتا. والله ما بغيهم إلّا على أنفسهم. ونحن أنصارك وأعوانك فمرنا بأمرك ، ثم أنشأ يقول :

إن قوما بغوا عليك وكادو

ك وعابوك بالأمور القباح

ليس من عيبها جناح بعوض

فيك حقا ولا كعشر الجناح

أبصروا نعمة عليك من الله

وقرما يدقّ قرن النطاح

حسدا للذي أتاك من الله

وعادوا إلى قلوب قراح

ونفوس هناك أوعية البغ

ض على الخير للشقاء شحاح

من مسرّ يكنّه حجب الغيب

ومن مظهر للعداوة لا حي

يا وصيّ النبيّ نحن من الحق

على مثل بهجة الإصباح

ليس منّا من لم يكن لك في الله

وليا على الهدى والفلاح

فخذ الأوس والقبيل من الخز

رج بالطعن في الوغى والكفاح

فجزّاه أمير المؤمنين خيرا ، ثم قام الناس بعده فتكلموا بمثل مقاله (١).

ومن خطبة اخرى له عليه‌السلام :

إن الله بعث رسولا هاديا ، بكتاب ناطق وأمر قائم ، لا يهلك عنه إلّا هالك ، وإنّ المبتدعات المشبّهات هنّ من المهلكات ، إلّا ما حفظ الله منها. وإنّ في

__________________

(١) الأمالي (للمفيد) : ١٥٤ ـ ١٥٦ ، وفي آخر الجمل : ٤٣٧ ووردت الإشارة إلى الخطبة ، وقيام ابن التيهان في الطبري ٤ : ٤٤٧ عن سيف وبتحريف.

٥٠٩

سلطان الله عصمة أمركم ، فأعطوه طاعتكم غير ملوّمة ولا مستكره بها ، والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام ، ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر إلى غيركم.

إنّ هؤلاء قد تمالئوا على سخطة إمارتي ، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم ، فإنهم إن تمّموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين! وإنما طلبوا هذه الدنيا حسدا لمن أفاءها الله عليه ، فأرادوا ردّ الأمور على أدبارها.

ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقيام بحقّه والنعش (التأييد) لسنّته (١).

وكتب الأشتر إلى عائشة :

وكتب الأشتر من المدينة إلى عائشة وهي بمكة : أما بعد ، فإنك ضعينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أمرك أن تقرّي في بيتك ، فإن فعلت فهو خير لك ، وإن أبيت إلّا أن تأخذي منسأتك (للسفر) وتلقى جلبابك وتبدي للناس شعيراتك! قاتلتك حتى أردّك إلى بيتك ، والموضع الذي يرضاه لك ربك.

فكتبت إليه في الجواب : أما بعد ، فإنك أول العرب شبّ الفتنة ودعا إلى الفرقة وخالف الأئمة وسعى في قتل الخليفة! وقد علمت أنك لن تعجز الله حتى يصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة المظلوم! وقد جاءني كتابك وفهمت ما فيه ، وسيكفينيك الله ، وكلّ من أصبح مماثلا لك في ضلالك وغيّك ، إن شاء الله (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة : ١٦٩ ومصدرها في المعجم المفهرس : ١٣٨٩ ، عن الطبري ٤ : ٤٦٥ عن سيف التميمي.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٢٥ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

٥١٠

هودج عائشة وجملها :

ولمّا عزمت عائشة على الخروج أمرت فعمل لها هودج من حديد وإنما جعل لها فيه موضع عينيها (١) ولذا فإنهم احتاجوا إلى جمل قويّ.

فروى الطبري عن العرني صاحب الجمل قال : بينما أنا أسير على جملي إذ عرض لي راكب فناداني : يا صاحب الجمل ، تبيع جملك؟ قلت : نعم ، قال : بكم؟ قلت : بألف درهم! قال : أنت مجنون؟ جمل بألف درهم! قلت : نعم! قال : وممّ ذلك؟ قلت : ما طلبت عليه أحدا إلّا أدركته ، ولا طلبني عليه أحد إلّا فتّه! قال : لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا! قلت : ولمن تريده؟ قال : إنما اريده لام المؤمنين عائشة! قلت : فخذه بغير ثمن! قال : لا ، ولكن ارجع معنا فلنعطك ناقة مهريّة ونزيدك دراهم ، فرجعت معه فأعطوني ناقتها المهرية وزادوني أربعمائة أو ستمائة درهم (٢) وذلك من مال يعلى بن أميّة ، والبعير كان يسمّى عسكرا ، وكان عظيم الخلق شديدا ، فلما رأته أعجبها وأنشأ الجمّال يحدّثها بقوته وشدّته ويسميه العسكر ، فلما سمعت ذلك استرجعت وقالت : ردّه! لا حاجة لي فيه! فسئلت عن سبب ذلك فذكرت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر لها هذا الاسم ونهاها عن ركوبه!

وحاولوا أن يجدوا لها غيره فلم يجدوا ما يشبهه شدّة وقوة ، فغيّروا لها جلاله وقالوا لها : قد أصبنا لك أعظم منه خلقا وأشدّ قوة ، وأتوها به ، فرضيت به (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسية ١ : ٥٢.

(٢) الطبري ٤ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، وفي رجال الكشي : ١٣ ، الحديث ٣١ ، عن الباقر عليه‌السلام : أنهم اشتروه بسبعمائة درهما. وكان شيطانا!

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ عن كتاب الجمل لأبي مخنف.

٥١١

خطبته عليه‌السلام عند الخروج :

نقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» للكلبي قال : لما أراد علي عليه‌السلام المسير إلى البصرة خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثم قال :

إن الله لما قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافّة ، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب (الزقّ) يعكسه أقل خلق (أن يكون الزقّ خلقا قديما) ويفسده أدنى وهن.

فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا [ولو نسبيّا] ثم انتقلوا إلى دار الجزاء ، والله وليّ التمحيص.

فما بال طلحة والزبير ـ وليسا من هذا الأمر بسبيل ـ لم يصبرا عليّ حولا ولا شهرا! حتى وثبا ومزّقا ، ونازعاني أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا ، بعد أن بايعاني طائعين غير مكرهين ، يرتضعان امّا قد فطمت ، ويحييان بدعة قد اميتت ، أدم عثمان زعما (يطالبان)؟! والله ما التبعة إلّا عندهم وفيهم ، وإنّ أعظم حجّتهم على أنفسهم ، وأنا راض بحجّة الله عليهم وعمله فيهم. فإن فاءا وأنابا فحظّهما أحرزا وأنفسهما غنما ، وأعظم بها غنيمة! وإن أبيا أعطيتهما حدّ السيف! وكفى به ناصرا لحق وشافيا من باطل (١).

قال المفيد : ونادى أمير المؤمنين في الناس : أن تجهّزوا للمسير ، فإن طلحة والزبير قد نكثا البيعة ونقضا العهد ، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة ، وسفك دماء أهل القبلة ، ثم رفع يديه إلى السماء للدعاء عليهم (٢).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ عن كتاب الجمل للكلبي.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٤٠.

٥١٢

الطائي يحشر عشيرته :

وكان عديّ بن حاتم الطائي يومئذ في المدينة ، فقام إلى عليّ عليه‌السلام وقال له :

يا أمير المؤمنين ، لو تقدّمت إلى قومي أخبرهم بمسيرك واستنفرهم ، فإنّ لك من طيّئ مثل الذي معك! فقال عليه‌السلام : فافعل.

فطار عديّ إلى قومه فاجتمع إليه رءوسهم فقال لهم :

يا معشر طيّئ ، إنكم أمسكتم عن حرب رسول الله في الشرك ، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردّة. وعليّ (أمير المؤمنين) قادم إليكم ، وقد ضمنت له مثل عدّة من معه منكم ، فخفّوا معه. وقد كنتم تقاتلون في الجاهلية على الدنيا فقاتلوا في الإسلام على الآخرة ، فإن أردتم الدنيا «فعند الله مغانم كثيرة» وأنا أدعوكم إلى الدنيا والآخرة ، وقد ضمنت عنكم الوفاء وباهيت بكم الناس ، فأجيبوا قولي ، فإنكم أعزّ العرب دارا ، لكم فضل معاشكم وخيلكم ، فاجعلوا أفضل المعاش للعيال وفضول الخيل للجهاد ، وقد أظلّكم علي والناس معه من المهاجرين والبدريّين والأنصار ، فكونوا أكثر منهم عددا ، فإنّ هذا سبيل للحيّ فيه الغنى والسرور ، وللقتيل فيه الحياة والرزق (عند الله).

فصاحوا : نعم نعم (١) فلما بلغ الإمام عليه‌السلام إلى أرض طيّئ تبعه منهم ستمائة (٢).

والأسدي وبنو أسد :

وكان زفير بن زيد الأسدي من سادتهم حاضرا يومئذ ، فلما رأى من عديّ ما فعل قام إلى عليّ عليه‌السلام وقال : يا أمير المؤمنين إن لي في قومي طاعة ، فأذن لي أن آتيهم. قال عليه‌السلام : نعم.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٥٧ ـ ٥٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨١ ، ومروج الذهب ٢ : ٣٥٨ ، والجمل للمفيد.

٥١٣

فأتاهم وجمعهم وقال لهم : يا بني أسد ، إن عديّ بن حاتم ضمن لعليّ (أمير المؤمنين) قومه ، وأجابوه وقضوا عنه ذمامه ، فلم يعتلّ الغنيّ بالغنى ولا الفقير بالفقر وواسى بعضهم بعضا ، حتى كأنهم المهاجرون في الهجرة والأنصار في الأثرة (الإيثار) وهم جيرانكم في الديار وخلطاؤكم في الأموال ، فأنشدكم الله لا يقول الناس غدا : نصرت طيّئ وخذلت بنو أسد ، وإن الجار يقاس بالجار كالنعل بالنعل ، فإن خفتم فتوسّعوا في بلادهم وانضمّوا إلى جبلهم. وهذه دعوة لها ثواب من الله في الدنيا والآخرة.

فقام إليه رجل منهم وقال له : يا زفر ؛ إنك لست كعديّ ولا أسد كطيّئ ، لقد ارتدّت العرب فثبتت طيّئ على الإسلام ، وجاد عديّ بالصدقة (الزكاة) وقاتل بقومه قومك ، وو الله لو نفرت طيّئ بأجمعها لمنعت رعاؤها دارها ، ولو أن معنا أضعافنا لخفنا على ديارنا! فإن كان لا يرضيك منّا إلّا ما أرضى عديا من طيّئ فليس ذلك عندنا! وأما إن كان يرضيك منّا قدر ما يردّ عنّا عذر الخذلان وإثم المعصية ، فلك منّا ذلك.

فرضي منهم بذلك فاجتمع إليه منهم جمع ، فلما صار إليهم عليّ لحقوا به عليه‌السلام (١).

ولم نتحقق أين لحق به عامله على مكة أبو قتادة الأنصاري ، حيث بعث بدله إلى مكة قثم بن العباس ، كما استخلف على المدينة سهل بن حنيف ، واستصحب معه أخاهم عبد الله بن العباس مع سبعمائة من المهاجرين والأنصار محدقين به عن يمينه وشماله ، ومعهم من سمع بمسيرهم فاتّبعهم ، راكبا جملا أحمر قائدا فرسه الكميت بين يديه (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٥٨ ـ ٥٩ ولحوقهم في أرضهم مع بني طيّئ في اليعقوبي ٢ : ١٨١. والجمل للمفيد : ٢٦١ ، وفي ٢٦٥ : أنه لحق به منهم ومن غيرهم ألفا رجل.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٤٠ وفيه : أنه استخلف على المدينة تمّام بن العباس ، بل الصحيح

٥١٤

وكأنّ بعث قثم إلى مكة كان قبل خروجه من المدينة بحيث كأنّه بوصول قثم إلى مكة علم القوم بخروج الإمام فخرجوا مسرعين يقولون : نستبق عليا من خلاف طريقه إلى البصرة.

فكتب قثم إلى علي عليه‌السلام يخبره أن طلحة والزبير وعائشة قد خرجوا من مكة يريدون البصرة ، وقد استنفروا الناس فلم يخفّ معهم إلّا من لا يعتدّ بمسيره ، ومن خلّفت بعدك فعلى ما تحب (١).

وأيضا لم نتحقّق متى وكيف وأين التحق بالإمام عامله على مصر قيس بن سعد بن عبادة ، إلّا أن ابن قتيبة قال : لما وصل كتاب قثم إلى الإمام أعظمه الناس ، فقام قيس بن سعد وقال :

يا أمير المؤمنين ، إنه ـ والله ـ ما غمّنا بهذين الرجلين مثل غمّنا بعائشة ؛ لأنّ هذين الرجلين حلالا الدم عندنا لبيعتهما ونكثهما ، ولكن عائشة من قد علمت مقامها في الإسلام! ومكانها من رسول الله! مع فضلها ودينها وأمومتها منك ومنّا! ولكنّهما يقدمان البصرة وليس كل أهلها لهما ، وتقدم أنت الكوفة! وكلّ أهلها لك ، وتسير بحقك إلى باطلهم ، ولقد كنا نخاف أن يسيرا إلى الشام فيقال :

__________________

سهل بن حنيف ، وسيأتي بعض أخباره. وعن سعيد بن جبير : كان معه ثمانمائة من الأنصار وأربعمائة ممن شهد بيعة الرضوان ، بل عن رجل من أسلم قال : كنا مع علي عليه‌السلام من أهل المدينة أربعة آلاف ، تاريخ ابن الخياط : ١١٠ ، وفي اليعقوبي ٢ : ١٨١ : معه أربعمائة من الأصحاب ، فلما صاروا إلى أرض أسد وطيّئ تبعه منهم ستمائة. وفي مروج الذهب ٢ : ٣٥٨ : في سبعمائة من الأصحاب أربعمائة من المهاجرين والأنصار ، سبعون من البدريين ثم سائر الصحابة! واستخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصار ، ولحقه من طيّئ ستمائة راكب.

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٢.

٥١٥

صاحبا رسول الله وأم المؤمنين فيشتدّ البلاء وتعظم الفتنة ، فأما إذا أتيا البصرة وقد سبقت إلى طاعتك وسبقوا إلى بيعتك وحكم عليها عاملك ، فلا والله ما معهما مثل ما معك ، ولا يقدمان على مثل ما تقدم عليه ، فسر فإن الله معك!

وتتابع بعده جمع من الأنصار على مثل قوله فقالوا وأحسنوا (١).

وخطبته لما بلغه خبرهما :

ولما بلغه مسير الزبير وطلحة وعائشة من مكة إلى البصرة ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : قد سارت عائشة وطلحة والزبير كل واحد منهما يدّعي الخلافة دون صاحبه ، فلا يدّعي طلحة الخلافة إلّا أنه ابن عمّ عائشة ، ولا يدّعيها الزبير إلّا أنه صهر أبيها ، والله لئن ظفرا بما يريدان ليضربنّ الزبير عنق طلحة ، وليضربنّ طلحة عنق الزبير ، ينازع هذا ذاك على الملك (٢)!

وقد ـ والله ـ علمت راكبة الجمل أنها لا تحلّ عقدة ولا تسير عقبة ولا تنزل منزلا إلّا إلى معصية ، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة ، إي والله ليقتلنّ ثلثهم ، وليهربنّ ثلثهم ، وليؤوبنّ ثلثهم! وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٢.

(٢) روى الطبري ٤ : ٤٥٤ : عن النميري البصري عن المدائني البصري عن معاذ بن عبيد الله قال : والله لو ظفرنا لا فتتّنا ، ما خلّى الزبير بين طلحة والأمر ، ولا خلّى طلحة ما بين الزبير والأمر. وعن ابن عباس قال : كان مروان يؤذّن لهم ، فلما فصلوا من مكة أذّن ثم وقف عليهما وقال لهما : أيكما أؤذّن له واسلّم عليه بالإمرة! فقال ابن الزبير : على أبي ، وقال محمد بن طلحة : بل على أبي ، فأرسلت عائشة : ليصلّي ابن اختي : عبد الله! وقالت لمروان : مالك أتريد أن تفرّق أمرنا!

٥١٦

والله إنّ طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان ، ولربّ عالم قتله جهله ومعه علمه لا ينفعه ، فهل يعتبر معتبر أو يتفكر متفكّر (١)! وحسبنا الله ونعم الوكيل ، فقد أقامت الفتنة الفئة «الباغية» ، أين المحتسبون؟ أين المؤمنون؟ مالي ولقريش! أما والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنّهم مفتونين ، وما لنا إلى عائشة من ذنب إلّا أنّا أدخلناها في حيزنا.

والله لأبقرنّ الباطل حتى يظهر الحقّ من خاصرته «فقل لقريش فلتضجّ ضجيجها» ثم نزل (٢).

تخلّف المغيرة الثقفي :

اتفقوا على تخلّف المغيرة الثقفي عن علي عليه‌السلام وأجملوا كيفيته ، وإنّما :

روى المفيد في أماليه بسنده عن مالك بن أنس الأصبحي الفقيه ، عن عمّه نافع بن مالك ، عن أبيه مالك بن أبي عامر الأصبحي التيمي ، قال : كنت عند نهوض علي عليه‌السلام إلى البصرة واقفا مع المغيرة بن شعبة إذ أقبل عمّار بن ياسر ، فلما رأى المغيرة قال له : يا مغيرة ، هل لك في الله؟ قال : وأين هو (أو : وما هو) يا عمّار؟ قال : تدخل في هذه الدعوة فتلحق من سبقك وتسود من خلفك؟

فقال المغيرة : أو خير من ذلك يا أبا اليقظان! قال : وما هو؟ قال : ندخل بيوتنا ونغلق علينا أبوابنا ، حتى يضيء لنا الأمر فنخرج مبصرين! ولا نكون كقاطع السلسلة أراد الضّحك فوقع في الغم!

فقال له عمّار : هيهات هيهات! أجهلا بعد علم وعمى بعد استبصار؟! ولكن اسمع قولي ، فو الله لن تراني إلّا في الرعيل الأول!

__________________

(١) الجمل للمفيد : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٣٣ عن الجمل لأبي مخنف.

٥١٧

فبينما هما كذلك إذ طلع أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال لعمّار : يا أبا اليقظان ؛ ما يقول لك الأعور! فإنه دائبا ـ والله ـ يلبس الحق بالباطل ويموّه فيه! ولن يتعلق من الدين إلّا بما يوافق الدنيا!

ثم التفت إلى المغيرة وقال له : يا مغيرة ؛ ويحك إنها دعوة تسوق من يدخل فيها إلى الجنة.

فقال المغيرة : صدقت يا أمير المؤمنين ، فإن لم أكن معك فلن أكون عليك (١).

ونقله قبله ابن قتيبة في «الإمامة والسياسة» ولكنّه ذكر بعد هذا أنه لحق بهم بمكة وخرج معهم مع سعيد بن العاص إلى أرض أوطاس من أراضي خيبر (كذا) ثم تغيّر عن هذا ، فلما نزلوا بأوطاس أقبل مع سعيد بن العاص على عائشة فنزلا عندها وتوكّأ سعيد على قوسه وقال لها : يا أم المؤمنين أين تريدين؟ قالت : البصرة ، قال : وما تصنعين بالبصرة؟ قالت : أطلب بدم عثمان! وكان عندها مروان فأقبل عليه وقال له : وأنت أين تريد أيضا؟ قال : البصرة ، قال : وما تصنع بها؟ قال : أطلب قتلة عثمان! وكان طلحة والزبير قريبين فأشار إليهما وقال : فهؤلاء قتلة عثمان معك ؛ إنّ هذين الرجلان قتلا عثمان وهما يريدان الأمر لأنفسهما ، فلما غلبا عليه قالا : نغسل الحوبة بالتوبة والدم بالدم!

ثم أشرف المغيرة على الناس ونادى فيهم : أيها الناس : إن كنتم إنما خرجتم مع امّكم فارجعوا بها خيرا لكم! وإن كنتم غضبتم لعثمان فرؤساؤكم قتلوا عثمان! وإن كنتم نقمتم على عليّ شيئا فبيّنوا ما نقمتم عليه؟ أنشدكم الله فتنتين في عام واحد!

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢١٧ ـ ٢١٨ ، ونقله قبله ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ : ٥٠ مرسلا محرفا مضافا فيه قوله : أريد إن أذنت لي أن أنام في بيتي حتى تنجلي الظلمة! فقال علي عليه‌السلام : قد أذنت لك فكن من أمرك على ما بدا لك ... فإذا غشيناك فنم في بيتك! مما يعذّر المغيرة في تخلّفه عن الإمام عليه‌السلام.

٥١٨

ثم عادا فرجع المغيرة الثقفي إلى قبيلته ثقيف بالطائف ، ورجع سعيد إلى حيث كان على عمله من قبل في اليمن (١).

وروى المفيد عن علي عليه‌السلام قال : ما يبالي المغيرة أيّ لواء رفع : لواء ضلالة أو لواء هدى! (وقد) لزم الطائف فأقام بها ينظر على من تستقيم الامة (٢) أو يستقيم الأمر. ولعلّه تذكر فضيحته بالبصرة بالزنا بأم جميل ، فرجع عنها!

وبلغوا إلى الحوأب (٣) :

قال المسعودي : وجهّزهم عبد الله بن عامر الفهري بألف ألف درهم ومائة من الإبل ، وساروا نحو البصرة في ستمائة راكب (٤) ، حتى انتهوا في الليل إلى ماء لبني كلاب يعرف بالحوأب فعوت كلابهم على الركب (٥).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٣.

(٢) الجمل للمفيد : ٢٩٦. وروى الطبري ٤ : ٤٥٢ خبرا مختصرا عن سيف : في رجوعهما ، وأن سعيدا أقام بمكة ومعه عبد الله بن خالد بن أسيد. ثم آخر عن النميري البصري عن المدائني البصري : أنه كان معهم أبان والوليد ابنا عثمان ، وأن سعيدا بدأ يطالب بالأمر لولد عثمان! وأنه عاد عنهم لذلك ، فتبعه المغيرة الثقفي واستتبع معه قومه من ثقيف. وآخر عن موسى بن عقبة : أنهم استعرضوا عسكرهم بذات عرق فردّوا عروة بن الزبير لصغره.

(٣) الحوأب : أقرب إلى البصرة من نحو الحجاز ـ تهذيب اللغة ومعجم ما استعجم. وهي قبل حفر أبي موسى ، وبينها وبين البصرة خمس ليال ـ معجم البلدان ٢ : ٢٧٥. وإنما سميت باسم امرأة من بني كلاب كما في مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٧٦ والحوأب : الوادي المنحدر.

(٤) كذا وفي أنساب الأشراف ٢ : ٢٢٤ : ثلاثة آلاف ، تسعمائة منهم من مكة والمدينة.

(٥) مروج الذهب ٢ : ٣٥٧.

٥١٩

وكان محمد بن طلحة (المعروف بالعبادة) قريبا منها فسألته : أيّ ماء هذا؟ فقال : هذا ماء الحوأب. فقالت : ما أراني إلّا راجعة! قال : ولم؟ قالت : سمعت رسول الله يقول لنسائه : كأني بإحداكنّ تنبحها كلاب الحوأب ، ثم قال لي : وإياك أن تكوني أنت يا حميراء ، فقال لها محمد بن طلحة : تقدّمي رحمك الله ودعي هذا القول (١)!

فقالت ردّوني إلى حرم رسول الله ، لا حاجة لي في المسير! وكان طلحة في ساقة القوم فلحقها وأقسم لها أن ذلك ليس بالحوأب! وقال الزبير : بالله ما هذا بالحوأب ولقد غلط فيما أخبرك به (٢).

وأتاها عبد الله بن الزبير ببيّنة زور من الأعراب فشهدوا بالله لقد خلّفتيه أوّل الليل (٣) فأتوها بأربعين رجلا (٤) أو خمسين ممن كان معهم (٥) وقال لها : لا ترجعي عسى الله أن يصلح بك (٦).

ونقل المعتزلي عن «كتاب الجمل» لأبي مخنف قال : لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب ، وهو ماء لبني عامر بن صعصعة (الكلابي) ونبحتهم الكلاب حتى نفرت الإبل الصعاب ، فقال بعض الأصحاب : ألا ترون ما أكثر وأشد نباح هذه الكلاب في الحوأب! فسمعته عائشة فأمسكت بزمام بعيرها

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ٦٣.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٥٨.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ٦٣.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨١.

(٥) مروج الذهب ٢ : ٣٥٨.

(٦) أنساب الأشرف ٢ : ٢٢٤ وانظر التحقيق بهامشه ، وكفاية الطالب : ١٧١ عن مسند ابن خزيمة وبهامشه مصادر كثيرة.

٥٢٠