موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

أما بعد ـ أيها الناس ـ فإن البغي يقود أصحابه إلى النار ... وقد قتل الله الجبابرة على أفضل أحوالهم وآمن ما كانوا ، وأمات هامان وأهلك فرعون ، وقد قتل عثمان.

ألا وإن بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة ، ولتغربلنّ غربلة ، ولتساطنّ سوطة القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم ، وليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا ، وليقصّرنّ سابقون كانوا قد سبقوا.

والله ما كتمت وشمة ولا كذبت كذبة ؛ ولقد نبّئت بهذا المقام وهذا اليوم!

ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها ، وخلعت لجمها فتقحّمت بهم في النار!

ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمّتها فأوردتهم الجنة ؛ وفتّحت لهم أبوابها ووجدوا ريحها وطيبها وقيل لهم : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ)(١).

ألا وقد سبقني إلى هذا الأمر (الإمارة) من لم اشركه فيه ولم أهبه له ومن ليست له منه نوبة ... أشرف منه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم!

حق وباطل ، ولكل أهل ، فلئن أمر الباطل لقديما فعل ، ولئن قلّ الحقّ فلربّما ولعلّ ، ولقلّ ما أدبر شيء فأقبل ، ولئن ردّ عليكم أمركم أنكم سعداء ، وما عليّ إلّا الجهد.

وإني لأخشى أن تكونوا على فترة ، ملتم عنّي ميلة كنتم فيها عندي غير محمودي الرأي! ولو أشاء لقلت ، (ولكن) (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ)(٢) سبق فيها الرجلان وقام الثالث كالغراب همّه بطنه! ويله لو قصّ جناحاه وقطع رأسه لكان خيرا له ، شغل عن الجنة والنار أمامه!

__________________

(١) الحجر : ٤٦.

(٢) المائدة : ٩٥.

٤٤١

ثلاثة واثنان : خمسة ليس لهم سادس : ملك يطير بجناحيه ، ونبيّ أخذ الله بضبعيه ، وساع مجتهد ، وطالب يرجو ، ومقصّر في النار! اليمين والشمال مضلّة ، والطريق الوسطى هي الجادّة ، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة. هلك من ادّعى وخاب من افترى.

إن الله أدّب هذه الامة بالسيف والسوط ، وليس لأحد عند الإمام فيهما هوادة! فاستتروا في بيوتكم ، وأصلحوا ذات بينكم ، والتوبة من ورائكم ، ومن أبدى صفحته للحقّ هلك (١).

ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، وبقول صادق أخذنا ، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا! معنا راية الحق ، من تبعها لحق ومن تأخّر عنها غرق! ألا وبنا تدرك ترة كل مؤمن ، وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقكم ، وبنا فتح لا بكم ، وبنا يختم لا بكم (٢).

ألا وكلّ قطيعة أقطعها عثمان أو مال أعطاه من مال الله فهو مردود على المسلمين في بيت مالهم ، فإن الحق القديم لا يبطله شيء ، والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو وجدته قد تزوّج به النساء واشتري به الإماء وتفرّق في البلدان لرددته على حاله ، فإنّ في الحقّ والعدل لكم سعة ، ومن ضاق به الحقّ فالجور به أضيق!

أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم (٣).

__________________

(١) روضة الكافي : ٥٥ ـ ٥٦ ، وصدرها في الجمل : ١٢٥ ، وبهامشه مصادرها الكثيرة ، ومنها نهج البلاغة الخطبة ١٧٨ ، ومصادرها في المعجم المفهرس : ١٣٩٠.

(٢) الإرشاد ١ : ٢٤٠ عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى البصري ، وبهامشه مصادرها العديدة.

(٣) شرح الأخبار للقاضي النعمان المصري (المتوفى ٣٦٣ ه‍) ١ : ٣٧٣ ، الحديث ٣١٦ ، وقال : كانت بعد يومين من بيعته عليه‌السلام. وفي نهج البلاغة الخطبة ١٥.

٤٤٢

واكتفى الشريف الرضيّ بالمقطع الأخير ، وقال المعتزلي في شرحها : هذه الخطبة ذكرها الكلبيّ مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس : أنه عليه‌السلام خطبها في اليوم الثاني من بيعته (١) ... ثم أمر عليه‌السلام أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيثما اصيبت واصيب أصحابها ، وأمر بقبض سيف عثمان ودرعه وكل سلاح وجد في داره مما تقوّى به على المسلمين ، وأمر أن لا يعرض لسلاح له لم يقاتل به المسلمين ، وبالكفّ عن جميع أمواله في داره وغير داره ، وأمر بقبض إبل الصدقة وما كان منها من نجائب كانت في دار عثمان ، فقبضت (٢).

وخطبة أخرى (٢):

وروى الطبري عن سيف عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام أن عليا عليه‌السلام في أول خطبة خطبها حين استخلف بعد قتل عثمان ، يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي الحجة ، حمد الله وأثنى عليه وقال : «إن الله عزوجل أنزل كتابا هاديا بيّن فيه الخير والشرّ ، فخذوا بالخير ودعوا الشر ، أدّوا الفرائض لله سبحانه تؤدكم إلى الجنة ، وإن الله حرّم حرما غير مجهولة ، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها ، وشدّ بالإخلاص والتوحيد المسلمين ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلّا بالحق ، فلا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب ، بادروا أمر العامة ، وخاصّة أحدكم الموت وإنما من خلفكم الساعة تحدوكم ، فتخفّفوا تلحقوا ، فإنما ينتظر الناس أخراهم ، واتقوا الله

__________________

(١) كذا ، ومرّ ويأتي أن ابن عباس كان قد حجّ ولم يرجع يومئذ بعد ، فلعلّها كانت في اليوم الثاني من رجوعه ووصوله إلى المدينة في أواخر ذي الحجة.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١ : ٢٧٠ ، وأرسله القاضي النعمان المصري في دعائم الإسلام ١ : ٣٦٦. والغريب أن هذا هو كل ما يوجد في هذا الموضوع!

٤٤٣

ـ عباد الله ـ في عباده وبلاده ، فإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم ، فأطيعوا الله ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشرّ فدعوه. ثم تلا قوله سبحانه : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ)» (١).

وخطبة أخرى (٣):

نقلها الرضيّ في «نهج البلاغة» ولم نعثر لها على مصدر سابق ، ولم ينصّ ايراده عليه‌السلام لها في أوائل خلافته ، إلّا أن المعتزلي الشافعي قال في شرحه لها : خطب بها بعد قتل عثمان حين أفضت الخلافة إليه (٢) ومنها :

قد طلع طالع ولمع لامع ، ولاح لائح واعتدل مائل ، واستبدل الله بقوم قوما وبيوم يوما ، وقد انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر!

وإنّما الأئمة قوّام الله على خلقه ، وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل الجنة إلّا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه!

إنّ الله تعالى خصّكم بالإسلام واستخلصكم له ، فهو اسم سلامة وجماع كرامة ، اصطفى الله منهجه وبيّن حججه ، من ظاهر علم وباطن حكم ، لا تفنى غرائبه ، ولا تنقضي عجائبه.

فيه مرابيع النعم ومصابيح الظلم ، لا تفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه ، ولا تكشف الظلمات إلّا بمصابيحه ، قد أحمى حماه ، وأرعى مرعاه ، فيه شفاء المشتفي ، وكفاية المكتفي (٣).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٣٦ ، والآية من الأنفال : ٢٦ ، وفي الخطبة حديثان نبويان.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٩ : ١٥٣.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٢ ، ولم نعثر لها على مصدر سابق.

٤٤٤

وخطبة اخرى (٤):

رواها القمي بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه بعد ما بويع له بخمسة أيام خطب فقال (فيما قال) :

واعلموا أن على كلّ شارع بدعة وزره ووزر كلّ مقتد به إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزار العاملين شيء وسينتقم الله من الظلمة مأكلا بمأكل ومشربا بمشرب ... فيا مطايا الخطايا ... اسمعوا واعقلوا وتوبوا ، وابكوا على أنفسكم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(١) فأقسم ثم أقسم ليتحملنّها بنو أميّة من بعدي ، وليعرفنّها في دار غيرهم عمّا قليل ، فلا يبعد الله إلّا من ظلم ، وعلى البادي ما سهّل لهم من سبيل الخطايا مثل أوزارهم وأوزار كل من عمل بوزرهم إلى يوم القيامة (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)(٢) ولعله قالها حين بلغه هرب بني أمية إلى مكة.

والولاة الجدد :

كان من أهمّ نقم الناقمين الثوّار على عثمان ولاته ، وكان على ثوار البصرة حكيم بن جبلة العبدي ، ولكنه كان متعبّدا لعلي عليه‌السلام فلم يتوقّع منه إلّا عزل والي عثمان على البصرة ابن خالته عبد الله بن عامر بن كريز ، ولم يكن يتوقّع منه استبداله به ، فاستبدله بعثمان بن حنيف الأنصاري.

وكان على ثوار الكوفة الأشتر النخعي ، وكان خاضعا لعلي عليه‌السلام ، ولكنّه حيث كان هو وأهل الكوفة قد رضوا من قبل بأبي موسى الأشعري ، فكلّم الأشتر عليا عليه‌السلام لإقراره فأقرّه.

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.

(٢) النحل : ٢٥ ، والخبر في تفسير القمي ١ : ٣٨٤.

٤٤٥

وكان على ثوّار مصر التّجيبي ولكنّهم رضوا من قبل بولاية محمد بن أبي بكر عليهم ، وكان ربيب بيت علي عليه‌السلام ، فرأى أن يستبدله بقيس بن سعد بن عبادة على مصر وسيأتي تفصيله.

وكان على اليمن يعلى بن منية التميمي ، وعلى البحرين عبد الله بن سوار العبدي وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان الأموي ، وكأنّ طلحة طمع في اليمن والزبير في البحرين وأوعزا إلى المغيرة بن شعبة أن يشير بهما على علي عليه‌السلام ، فروي أنه دخل عليه وقال له : يا أمير المؤمنين! أنفذ طلحة إلى اليمن ، والزبير إلى البحرين ، واكتب بعهد معاوية على الشام فإذا استقامت لك الامور فشأنك وما تريده فيهم.

فروي أنه عليه‌السلام استكتب عبد الله بن أبي رافع وأملى عليه عهدا لهما ، فلما دفع إليهما عهدهما قالا : وصلتك رحم! فقال : إنما وصلتكما بولاية امور المسلمين ، ثم استردّ عهدهما ، فقالا : آثرت علينا! قال : لقد كان لي فيكما رأي ، لو لا ما ظهر من حرصكما! فقالا : إنه قد نالتنا بعد رسول الله جفوة ، فأشركنا في أمرك!

فقال لهما : أنتما شريكاي في الاستقامة والقوة وعوناي على العجز والأود (١).

ثم ولّى اليمن عبيد الله بن العباس ، وأخاه القثم على مكة ، وكان عليها عبد الله بن عمرو الحضرمي (٢).

ولم يتعيّن الزمن لتلك العهود ولا لمشورة المغيرة إلّا في خبر الطبري عن الواقدي عن ابن عباس عن علي عليه‌السلام قال له : جاءني (المغيرة) بعد مقتل عثمان بيومين (٣) في حين مرّ عن الرواة وفيهم الواقدي أن البيعة له عليه‌السلام كان بعد مقتل عثمان

__________________

(١) هذه الجملة في نهج البلاغة : الحكمة ٢٠٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٠ و ١٧٦.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٤٤١.

٤٤٦

بأكثر من ثلاثة أيام فلعل الأولى أن ذلك كان بعد البيعة بيومين. وتمام الخبر : قال : فقال لي : أخلني ، ففعلت ، فقال لي : إني اشير عليك أن تكتب إلى عمّال عثمان بإثباتهم على أعمالهم ، فإذا بايعوا لك واطمأنّ أمرك عزلت من أحببت وأقررت من أحببت.

فقلت له : والله لا أداهن في ديني ولا اعطى الرياء في أمري.

فقال (المغيرة) : فإن أبيت فانزع من شئت واترك معاوية ، فإن له جرأة وهو في أهل الشام يسمع منه ، ولك حجة في إثباته ، فقد كان عمر ولّاه الشام كلّها!

فقلت له : لا والله لا استعمل معاوية يومين أبدا (١)! فخرج من عندي على ما أشار به.

ثم عاد (اليوم الخامس من البيعة) فقال : إني أشرت عليك بما أشرت به وأبيت عليّ ، فنظرت في الأمر فإذا أنت مصيب ، لا ينبغي أن تأخذ أمرك بخدعة ولا يكون فيه تدليس.

قال ابن عباس : فقلت : وأنا اشير عليك بأن تثبت معاوية فإن بايع لك فعليّ أن أقلعه من منزله. فقال علي عليه‌السلام : لا والله لا أعطيه إلّا السيف!

فقلت : يا أمير المؤمنين ، أما سمعت رسول الله يقول : الحرب خدعة! أما والله لئن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد ورد ، ولأتركنّهم ينظرون في دبر الامور لا يعرفون ما كان وجهها ، في غير نقصان عليك ولا إثم!

__________________

(١) ونقل الحلبي قوله في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٢٦ كذا : إن معاوية من قد علمت ، وقد ولّاه الشام من كان قبلك ، فولّه أنت كيما تتسق عرى الإسلام ثم اعزله إن بدا لك. فقال عليه‌السلام : يا مغيرة أتضمن لي عمري فيما بين توليته إلى خلعه؟ قال : لا ، قال : فلا يسألني الله عن توليته على رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبدا! (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً).

٤٤٧

فقال عليه‌السلام : يا ابن عباس ، لست من هنيئاتك وهنيئات معاوية في شيء ، تشير عليّ وأرى ، فإذا عصيتك فأطعني.

فقلت له : أفعل ، فإن أيسر ما لك عندي الطاعة. وكنت قد قدمت المدينة (من الحج سنة ٣٥) بعد مقتل عثمان بخمسة أيام (١) بل لعلّ الصحيح بعد بيعة عليّ عليه‌السلام بخمسة أيام.

وقد جاء في خبر آخر للطبري عن الواقدي عن ابن عباس أيضا قال : قدمت المدينة وقد بويع لعلي عليه‌السلام فأتيته إلى داره فوجدت المغيرة بن شعبة قد أشار عليه أن يقر عمّال عثمان على أعمالهم يبايعون له الناس ولا سيّما معاوية ، فقلت (لعلي عليه‌السلام) : إنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا ، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن يلي هذا الأمر ، ومتى تعزلهم يؤلّبون عليك ويقولون : هو قتل صاحبنا وأخذ هذا الأمر بغير شورى ، فينتقض عليك أهل الشام والعراق ، مع أني لا آمن أن يكرّ عليك طلحة والزبير!

فقال علي عليه‌السلام : أما ما ذكرت من إقرارهم ؛ فو الله ما أشك أن ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها ؛ وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمّال عثمان فو الله لا اولّي منهم أحدا أبدا ، فإن قبلوا فذلك خير لهم ، وإن أدبروا بذلت لهم السيف!

ثم قال لي : سر إلى الشام فقد ولّيتكها!

فقلت له : إن معاوية رجل من بني أميّة ، وهو ابن عمّ عثمان وعامله على الشام ، وإن أدنى ما هو صانع بي أن يحبسني فيتحكّم عليّ ، بل لست آمن أن يضرب عنقي لعثمان ؛ لقرابة ما بيني وبينك وأن كلّ ما يحمّله عليك يحمّله عليّ! ولكن اكتب إلى معاوية فعده ومنّه!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٤٠ ـ ٤٤١. والجملة الأخيرة من الخبر في نهج البلاغة ، الحكمة ٣٢١.

٤٤٨

فقال علي عليه‌السلام : والله لا كان هذا أبدا (١).

ولكنّه لعله رأى الأصلح أن يتم الحجة عليه وعليهم فكتب إلى معاوية :

من عبد الله عليّ أمير المؤمنين ، إلى معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد ، فقد علمت إعذاري فيكم (يا بني أمية) وإعراضي عنكم ، حتى كان ما لا بدّ منه ولا دفع له ، والحديث طويل والكلام كثير ، وقد أدبر ما أدبر وأقبل ما أقبل ، فبايع من قبلك وأقبل إليّ في وفد من أصحابك ، والسلام.

هذا ما نقله الرضيّ عن الواقدي (٢) وذكره البلاذري عن أبي مخنف كذا : إن الناس قد قتلوا عثمان عن غير مشورة مني ، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع ، فبايع موفّقا ، وفد إليّ في أشراف أهل الشام. ولم يذكر له ولاية ، ووجّه إليه بالكتاب مع المسور بن مخرمة الزهري (٣).

ونقل الطبري : أن رسول أمير المؤمنين إلى معاوية كان سبرة الجهني ، قدم على معاوية فقرأ الكتاب ولم يكتب الجواب ، وكلّما طالبه الجهني بتنجيز الكتاب لم يزده على أبيات من الشعر يقرأها له ، حتى كان شهر صفر الثالث من مقتل عثمان (٤).

ومآل بيت المال :

وكانت تصرفات عثمان من أهمّ ما نقم الناقمون عليه ، ومع ذلك خلت أخبار مقتله من بيان عنه اللهم إلّا ما مرّ أنّ عثمان أمر أبا كرب الهمداني ومعه رجلا من

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

(٢) نهج البلاغة ك : ٧٥ عن كتاب الجمل للواقدي ، وهو مفقود ، وانظر شرح النهج للمعتزلي ١٠ : ٢٣٢ ـ ٢٤٧ و ١٨ : ٦٨ ، ٦٩.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٢١١ ، ح ٢٦٢.

(٤) الطبري ٤ : ٤٤٣ عن سيف.

٤٤٩

الأنصار أن يقوما عليه ، وليس فيه إلّا غرارتان من فضة (١) وأنّهم تنادوا في الدار : أدركوا بيت المال ، وسمع الرجلان أصواتهم فهربوا ، وأتوا بيت المال فانتهبوه (٢) وهما من أخبار الطبري عن سيف التميمي.

وجاء في خبر غريب عن هاشم مولى عثمان عن شيخ كوفي عن شيخ آخر : أنّ عليا عليه‌السلام كان بخيبر لما حصر طلحة عثمان ، فلما قدم أرسل إليه وقال له : إن رسول الله آخى بيني وبينك (!) وشكا إليه حصر طلحة له وابتزازه أمره! فخرج عليّ عليه‌السلام إلى المسجد فأخذ بيد اسامة وذهب به إلى بيت المال فلم يتمكّن من مفاتيحه فقال : اكسروا الباب فكسروه فجعل يعطي الناس فتفرقوا عن طلحة حتى مشى إلى عثمان فاعتذر إليه (٣).

وهذا كما ترى غريب في طريقه ومعناه ، غير ملائم لظاهر الحال وسائر الأخبار ، وكذا ما قبله من خبر سيف عن نهبهم بيت المال ، بل انتقل إلى علي عليه‌السلام فجعل عليه كاتبه عبد الله بن أبي رافع القبطي من موالي النبيّ والوصيّ عليهما‌السلام.

فنقل المعتزلي عن الإسكافي : أنه عليه‌السلام صعد المنبر (٤) فحمد الله وأثنى عليه ،

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

(٢) الطبري ٤ : ٣٩١.

(٣) الطبري ٤ : ٤٣٠ ـ ٤٣١ ، ونقله عن الطبري البحراني في شرح النهج ١ : ٣٣٣ ، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ٣٢ : ٥٧. بل أغرب منه ما نقله البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ٢١٤ ، الحديث ٢٦٩ : أن الناس اجتمعوا بعد عثمان على طلحة ففتح علي بيت المال فمال الناس إليه فبايعوه!

(٤) جاء فيه : أن بيعته كانت في يوم الجمعة لاثني عشر يوما بقين من ذي الحجة ، ففي اليوم الثاني من بيعته يوم السبت خطب فقال ... ولا يستقيم ، بل كان بعد ذلك ، ولعله لأوائل محرم لسنة (٣٦ ه‍).

٤٥٠

وذكر محمدا فصلّى عليه ، ثم ذكر نعمة الله على أهل الإسلام ، ثم ذكر الدنيا فزهّدهم فيها وذكر الآخرة فرغّبهم فيها ثم قال :

وأما بعد ، فإنه لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلف الناس أبا بكر ، ثم استخلف أبو بكر عمر ، فعمل بطريقه ، ثم جعلها شورى بين ستة فأفضى الأمر منهم إلى عثمان ، فعمل ما أنكرتم وما عرفتم ، ثم حصر وقتل ، ثم جئتموني فطلبتم إليّ ، وإنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعليّ ما عليكم.

وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة فأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، ولا يحمل هذا الأمر إلّا أهل الصبر والبصر ، والعلم بمواقع الأمر. وإني حاملكم على منهج نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنفّذ فيكم ما امرت به ، إن استقمتم لي ، والله المستعان ، ألا إن موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته ، فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عند ما تنهون عنه ، ولا تعجلوا في أمر حتى نبيّنه لكم ، فإنّ لنا عن كل أمر تنكرونه عذرا.

ألا وإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه أني كنت كارها للولاية على امة محمد حتى اجتمع رأيكم على ذلك ؛ لأني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «أيّما وال ولي الأمر من بعدي اقيم على حدّ الصراط ، ونشرت الملائكة صحيفته ، فإن كان عادلا أنجاه الله بعدله ، وإن كان جائرا انتقض به الصراط حتى تتزايل مفاصله ثم يهوى به إلى النار ، فيكون أول ما يتّقيها به أنفه وحرّ وجهه» ولكنّي لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم.

ثم التفت يمينا وشمالا فقال : ألا لا يقولنّ رجال منكم قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار وفجّروا الأنهار ، وركبوا الخيول الفارهة ، واتّخذوا الوصائف الرّوقة (الرائقة) فصار ذلك عليهم عارا وشنارا إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه ، وصيّرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون ، فينقمون ذلك ويستنكرونه ويقولون غدا : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!

٤٥١

ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته ، فإن له الفضل النيّر غدا عند الله وثوابه وأجره على الله. فأنتم عباد الله ، والمال مال الله يقسم بينكم بالسويّة ، لا فضل فيه لأحد على أحد ، وللمتّقين عند الله غدا أحسن الجزاء وأفضل الثواب ، ولم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا ، وما عند الله خير للأبرار.

وإن عندنا مالا نقسمه فيكم ، فإذا كان غدا فاغدوا علينا إن شاء الله ، ولا يتخلّفنّ أحد منكم ـ عربي ولا عجمي ، كان من أهل العطاء أو لم يكن ـ إلّا حضر ، إذا كان مسلما حرّا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. ثم نزل.

وكان سعيد بن العاص وأصحابه من بني أمية وسائر قريش حاضرين ، وكان التفات علي عليه‌السلام إليهم ، فسمع يقول : قاتل الله ابن العاص ؛ لقد عرف من كلامي ونظري إليه أنّي أريده وأصحابه من هلك فيمن هلك (١)!

وتقسيم المال :

قال : فلما كان الغد وغدا الناس وصلّى الصبح ، طلع طلحة والزبير فانتحيا عن علي عليه‌السلام ناحية ، ومع الزبير ابنه عبد الله وعبد الله بن عمر ، وطلع سعيد والوليد بن عقبة فجلسا إليهما (٢) ثم جاء قوم من قريش فانضمّوا إليهم وأخذوا يتناجون فيما بينهم ، ومعهم زيد بن ثابت الأنصاري.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٧ : ٣٥ ـ ٣٨ ، عن كتاب الإسكافي في نقض الرسالة العثمانية للجاحظ البصري.

(٢) ذكر هنا في الخبر مروان ، وقد مرّ أنّه كان قد هرب إلى مكة فهل رجع يومئذ بأمان؟!

٤٥٢

ومرّ بهم عبيد الله بن أبي رافع القبطي فسمع ابن الزبير يقول لأبيه وأصحابه : ما خفى علينا أمس من كلام عليّ ما يريد! فالتفت سعيد إلى زيد بن ثابت وقال : إياك أعني واسمعي يا جارة! فالتفت إليهم عبيد الله وتلا قوله سبحانه : (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ)(١).

ومضى إلى علي عليه‌السلام فأخبره بذلك فقال : والله إن بقيت وسلمت لهم لأقيمنّهم على المحجّة البيضاء والطريق الواضح.

فقام الوليد بن عقبة وجاء إلى علي عليه‌السلام فقال له :

يا أبا الحسن! (كذا) إنك قد وترتنا جميعا : أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبرا! وخذلت أخي (عثمان) بالأمس! وأما سعيد ؛ فقتلت أباه يوم بدر في الحرب ، وكان ثور قريش! وأما مروان ؛ فسخّفت أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه! ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف! وإنما نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال في أيام عثمان ، وأن تقتل قتلته ، وإلّا فإن خفناك تركناك والتحقنا بالشام!

فقال عليه‌السلام : أما ما ذكرتم من وتري إياكم ؛ فالحقّ وتركم ، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم. وأما قتلي قتلة عثمان ؛ فلو لزمني اليوم قتلهم لقاتلتهم أمس! ولكن لكم عليّ إن خفتموني أن اؤمنّكم ، وإن خفتكم أن اسيّركم!

وقال لعبيد الله بن أبي رافع : ابدأ بالمهاجرين فنادهم (حسب أسمائهم في الديوان) وأعط من حضر منهم ثلاثة دنانير ، ثمّ ثنّ بالأنصار ، ثم من يحضر من الأسود والأحمر.

__________________

(١) الزخرف : ٧٨.

٤٥٣

وكان سهل بن حنيف حاضرا ومعه غلامه وقد اعتقه ، فقال : يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد اعتقته اليوم؟ فقال : نعطيه كما نعطيك (١).

مصر ، والأمير السابق واللاحق :

روى الثقفي في «الغارات» عن ابن السائب الكلبي عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي الأنصاري : أن ابن أبي سرح لما طرد من مصر نزل على تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين وانتظر ما يكون من أمر عثمان ، حتى طلع عليه راكب فأخبره بقتل عثمان وبيعة علي عليه‌السلام ، فاسترجع ، فعرفه الرجل فقال له : فالنجاء النجاء ، فإنّ رأي أمير المؤمنين إن ظفر بكم نفاكم عن بلاد المسلمين أو قتلكم ، وهذا أميره يقدم عليكم بعدي ، قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري. فخرج ابن أبي سرح إلى ابن أبي سفيان بدمشق.

وكان علي عليه‌السلام قد دعا قيس بن سعد فقال له : سر إلى مصر فقد ولّيتكها ، فاخرج إلى رحلك فاجمع فيه من ثقاتك من أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند (٢) فإن ذلك أرهب لعدوّك وأعزّ لوليّك ، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن ، واشتدّ على المريب ، وارفق بالخاصة والعامة ، فإن الرفق يمن.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٧ : ٣٧ ـ ٣٩ ، عن كتاب الإسكافي في نقض الرسالة العثمانية للجاحظ مرسلا بلا إسناد ، ورواه الطوسي في الأمالي : ٧٢٧ ، الحديث ١٥٣٠ بإسناده إلى ابن عقدة الزيدي عن أبي الصلت الهروي عن الصحابي مالك بن أوس بن الحدثان ، وليس فيه التوقيت بيومين أو ثلاثة بعد البيعة العامة مما هو مستبعد جدّا من محتوى الخبر. وروى آخر الخبر بإسناد آخر في ٦٨٦ ، الحديث ١٤٥٧.

(٢) فيبدو أن ثوار مصر كانوا قد رجعوا ولم يبقوا.

٤٥٤

فقال قيس : رحمك الله يا أمير المؤمنين ، قد فهمت ما ذكرت ، أما قولك : اخرج إليها بجند ، فو الله إن لم أدخلها بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا ، فإذا أدع ذلك الجند لك فان احتجت إليهم كانوا قريبا منك ، وإن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدّة لك ، ولكنّي أسير إليها بنفسي وأهل بيتي! وأما ما أوصيتني به من الرفق والإحسان ، فإن الله تعالى هو المستعان على ذلك.

ثم أمر علي عليه‌السلام كاتبه ابن أبي رافع أن يكتب له عهده فكتب :

بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين (١) سلام عليكم ، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو ، أما بعد ، فإن الله ـ بحسن صنعه وتقديره وتدبيره ـ اختار الإسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله ، وبعث به الرسل إلى عباده ، وخصّ من انتجب من خلقه ، فكان مما أكرم الله به هذه الامة وخصهم به من الفضيلة : أن بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم ، فعلّمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة ، وأدّبهم كيما يهتدوا وجمعهم كيلا يتفرقوا ، وزكّاهم كيما يتطهّروا ، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه ، فعليه صلوات الله وسلامه ورحمته ورضوانه ، إنه حميد مجيد.

ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا امرأين منهم صالحين ، عملا بالكتاب وأحسنا السيرة ولم يتعدّيا السنة (٢) ثم توفّاهما الله (فرحمهما‌الله). ثم ولي من بعدهما وال أحدث أحداثا فوجدت الامة عليه مقالا ، ثم نقموا عليه فغيّروا ثم جاءوني فبايعوني ، فأستهدي الله الهدى وأستعينه على التقوى. ألا وإنّ لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله والقيام بحقّه ، والنصح لكم بالغيب ، والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

(١) فلم يكن الكتاب إلى محمد بن أبي حذيفة العبشمي ، فلعلّه عليه‌السلام لم ير من الصالح إقرار تغلّبه على مصر.

(٢) ذلك ولو بالنسبة إلى من بعدهما.

٤٥٥

وقد بعثت إليكم قيس بن سعد أميرا ، فوازروه وأعينوه على الحق ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم ، والشدة على مريبكم ، والرفق بعوامّكم وخواصّكم ، وهو ممّن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصيحته. نسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب عبيد الله بن أبي رافع في (غرة) صفر سنة (٣٦ ه‍).

فخرج قيس في سبعة نفر من أهله حتى دخل مصر ، فصعد المنبر وجلس عليه ومعه الكتاب فأمر به فقرئ على الناس ، فلما فرغ من قراءة الكتاب قام قيس خطيبا :

فحمد الله وأثنى عليه فقال : الحمد لله الذي أمات الباطل وأحيا الحق وكبت الظالمين!

أيها الناس ، إنا بايعنا خير من نعلم بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنة نبيّه ، فإن نحن لم نعمل فيكم بكتاب الله وسنّة رسوله فلا بيعة لنا عليكم! فقام الناس فبايعوا.

ووثب مسلمة بن مخلّد الأنصاري فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه ، واعتزل معه جمع ، فأرسل قيس إليهم : إني لا اكرهكم على البيعة بل أكف عنكم وأدعكم. فهادنهم ، وأرسل إلى مسلمة يقول له : ويحك أعليّ تثب؟ والله ما احب أن لي ملك مصر إلى الشام وأني قتلتك! فقال مسلمة : فأنا كافّ عنك ما دمت أنت والي مصر.

وكان بقرية من قراها يزيد بن الحارث الكناني قد أعظم أهلها قتل عثمان ، فبعث يزيد إلى قيس يقول : إنا لا نأتيك (نبايعك) والأرض أرضك فابعث عمّالك ، ولكن أقرّنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس ، فهادنهم.

وبعث عمّاله على أعمالها وجبا خراجها ولم ينازعه أحد منهم (١).

__________________

(١) الغارات (للثقفي) ١ : ٢٠٦ ـ ٢١٢.

٤٥٦

وأبقى حذيفة على المدائن :

وأقام حذيفة بن اليمان العبسي على المدائن كما كان وكتب إليه :

«بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان ، سلام عليك ، أما بعد ، فإني قد ولّيتك ما كنت عليه لمن كان قبلي من حرف المدائن ، وقد جعلت إليك أعمال الخراج والرستاق وجبابة أهل الذمة ، فاجمع إليك ثقاتك ومن أحببت ممن ترضى دينه وأمانته ، واستعزّ بهم على أعمالك ، فإن ذلك أعزّ لك ولوليك وأكبت لعدوّك ، وإني آمرك بتقوى الله وطاعته في السرّ والعلانية ، واحذّرك عقابه في المغيب والمشهد. وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المحسن والشدة على المعاند ، وآمرك بالرفق في امورك والدين ، والعدل في رعيّتك ـ فإنك مسائل عن ذلك ـ وإنصاف المظلوم ، والعفو عن الناس ، وحسن السيرة ما استطعت ، فإن الله يجزي المحسنين. وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحق والنصفة ، ولا تجاوز ما تقدّمت به إليك ولا تدع منه شيئا ولا تبدع فيه أمرا. ثم اقسم بين أهله بالسويّة والعدل ، واخفض لرعيّتك جناحك وآس بينهم في مجلسك ، وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء ، واحكم بين الناس بالحق ، وأقم فيهم بالقسط ، ولا تتّبع الهوى ، ولا تخف في الله لومة لائم (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

وقد وجّهت إليك كتابا عهدا لتقرأه على أهل مملكتك ليعلموا رأينا فيهم وفي جميع المسلمين ، فأحضرهم واقرأ عليهم وخذ البيعة لنا على الصغير والكبير منهم إن شاء الله تعالى».

وكان كتابه إليهم : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، من علي بن أبي طالب إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو ، وأسأله أن يصلّي على محمد وآله.

٤٥٧

أما بعد ، فإن الله تعالى اختار الإسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله ، إحكاما لصنعه وحسن تدبيره ، ونظرا منه لعباده ، وخصّ به من أحبّه من خلقه ، فبعث إليهم محمدا فعلّمهم الكتاب والحكمة ، إكراما وتفضيلا لهذه الأمة ، وأدّبهم لكي يهتدوا وجمعهم لئلّا يتفرّقوا ووقّفهم لئلّا يجوروا ، فلما قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى رحمة الله به حميدا محمودا.

ثم إن بعض المسلمين أقاموا بعده رجلين رضوا بهديهما وسيرتهما ، فأقاما ما شاء الله ثم توفّاهما الله عزوجل ، ثم ولّوا بعدهما الثالث فأحدث أحداثا ووجدت الأمة عليه فعالا ، فاتّفقوا عليه ثم نقموا منه فغيّروا ، ثم جاءوني كتتابع الخيل فبايعوني ، وإني أستهدي الله بهداه واستعينه على تقواه ، ألا وإنّ لكم علينا العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والقيام عليكم بحقّه واحياء سنّته ، والنصح لكم بالمغيب والمشهد ، وبالله نستعين على ذلك وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وقد ولّيت أموركم حذيفة بن اليمان ، وهو ممّن أرضى بهداه وأرجو صلاحه ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم والشدّة على مريبكم والرفق بجميعكم ، أسأل الله لنا ولكم حسن الخيرة والإسلام ، ورحمته الواسعة في الدنيا والآخرة ورحمة الله وبركاته».

فلما وصل عهده عليه‌السلام إلى حذيفة جمع الناس فصلّى بهم ، ثم أمر أن يقرأ هذا الكتاب عليهم فقرئ ، ثم صعد هو المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ثم قال : الحمد لله الذي أحيا الحق وأمات الباطل! وجاء بالعدل ودحض الجور وكبت الظالمين! أيها الناس ، إنه ولّاكم الله أمير المؤمنين حقا حقا ، وخير من نعلمه بعد نبيّنا ، وأولى الناس بالناس ، وأحقّهم بالأمر ، وأقربهم إلى الصدق ، وأرشدهم إلى العدل ، وأهداهم سبيلا ، وأدناهم إلى الله وسيلة ، وأمسّهم برسول الله رحما ، فأنيبوا إلى طاعة أول الناس سلما ، وأكثرهم علما ، وأقصدهم طريقة ،

٤٥٨

وأسبقهم إيمانا ، وأحسنهم يقينا ، وأكثرهم معروفا ، وأقدمهم جهادا ، وأعزّهم مقاما : أخي رسول الله وابن عمه وأبي الحسن والحسين ، وزوج الزهراء البتول سيدة نساء العالمين.

فقوموا أيها الناس فبايعوا على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فإن لله في ذلك رضا ولكم مقنع وصلاح ، والسلام.

فقام الناس فبايعوا لأمير المؤمنين عليه‌السلام أحسن بيعة وأجمعها.

فلما استتمّت البيعة قام إليه فتى مسلم من أبناء العجم مولى لمحمد بن عمارة الأنصاري ، من أقصى الناس وناداه : أيها الأمير ، إنا سمعناك تقول في أول كلامك : قد ولّاكم الله أمير المؤمنين حقا حقا (كأنّك) تعرّض بمن كان قبله من الخلفاء أنهم لم يكونوا أمراء المؤمنين حقا حقا ، فعرّفنا ذلك أيها الأمير رحمك الله ولا تكتمنا ، فإنك ممّن شهد وعاين ، ونحن مقلّدون ذلك في أعناقكم ، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لامتكم وصدق الخبر عن نبيّكم!

فقال حذيفة : أيها الرجل ؛ أما إذ سألت وفحصت هكذا فاسمع وافهم ما أخبرك به : أما من تسمّى بأمير المؤمنين ممن تقدم من الخلفاء قبل علي بن أبي طالب فإنهم سمّاهم الناس وتسمّوا بذلك ، وأمّا علي بن أبي طالب فإن جبرئيل شهد له وسمّاه بذلك الاسم عن الله تعالى ، وعن سلام جبرئيل عليه بإمرة المؤمنين شهد له رسول الله به ، وأصحاب رسول الله في حياة رسول الله كانوا يدعونه بإمرة المؤمنين. ثم فصّل له الحديث في ذلك (١).

__________________

(١) إرشاد القلوب للديلمي (ق ٨ ه‍) ٢ : ٣٢١ ـ ٣٤٣ وأخرج المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤ طرفا منه في أصل بيعته له ودعوته الناس إلى ذلك ، وأنه على الحق أولا وأخيرا وهو بعد النبيّ خير من مضى ومن بقي ومن خالفه على الباطل ، إلّا أن

٤٥٩

نعي عثمان عند معاوية :

مرّ الخبر عن استغاثة عثمان بمعاوية ، وإغاثته له بجيش مع يزيد بن أسد القسري ، وأنه أمرهم أن يبقوا خارج المدينة لا يدخلوها حتى يأذن لهم ، فأتاهم النعمان بن بشير الأنصاري مبعوثا من نائلة زوجة عثمان بقميصه إلى معاوية ، فرجعوا به إلى الشام.

ولا نجد خبرا عن وصولهم إلى دمشق ، إلّا خبرا عن مبادرة أحدهم وهو الحجاج بن خزيمة الثقفي بنعي عثمان إلى معاوية ، دخل إليه وهو متلفّف ، ثم كشف عن وجهه وبدأه بخطاب : يا أمير المؤمنين! أتعرفني؟ قال : نعم ما تريد؟ قال : أنعى إليك ابن عفّان ، إني كنت فيمن خرج مع يزيد بن أسد مغيثا لعثمان ، ولقينا رجلا ممن قتل عثمان فقتلناه (١) ثم لا يخبره عن بيعة علي عليه‌السلام وإنما يحرّضه على الطلب بدم عثمان منه ، ولا يسأله معاوية عن أي شيء في ذلك ، مما يظهر منه أن الخبر متأخر عن أن يكون النعي الأول.

ولا نجد كتابا نصّا عن علي عليه‌السلام في عزل معاوية إلّا التالي : لما أتى معاوية كتاب علي عليه‌السلام بعزله عن الشام ، نادى في الناس أن يحضروا المسجد ثم خرج حتى صعد المنبر ، وخطب فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيّه ثم قال : يا أهل الشام قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، ثم خليفة عثمان ، وقد قتل مظلوما وأنا ابن عمه ووليّه ، والله يقول في كتابه : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) فأنا أحب أن تعلّموني ما في أنفسكم من قتل عثمان.

__________________

المسعودي قال : كان بالكوفة ودعا إلى الصلاة جامعة! وكان مريضا فحملوه ووضعوه على المنبر! أليس كان أميرهم أبا موسى الأشعري؟!

(١) وقعة صفين : ٧٧.

٤٦٠