موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

فلما أبلغوه الكتاب وقرأه قال : اللهم إني تائب! ثم كتب إلى حذيفة وأبي موسى : «إنكما لأهل الكوفة رضا ولنا ثقة ، فتوليا أمرهم وقوما به بالحق ، غفر الله لنا ولكما» (١).

قال خليفة : وكان ذلك سنة (٣٤ ه‍) وسمّي يوم ردّ سعيد بيوم الجرعة (٢).

وتفاقم الأمر على عثمان :

قال المسعودي : وفي سنة (٣٥ ه‍) كثر الطعن على عثمان وظهر النكير عليه ، لأشياء من فعله (وولاته) فمن ذلك : أفعال الوليد في الكوفة ومسجدها ، ومنها : ما كان بينه وبين ابن مسعود وغضب له بنو هذيل ، ومن ذلك : ما فعله بأبي ذر ، ومن ذلك : ما نال عمار بن ياسر من الفتق والضرب وغضب بني مخزوم له (٣) وقال اليعقوبي : وكان ذلك بعد (٦) سنين من ولايته إذ نقم الناس عليه وتكلم فيه من تكلم فقالوا : إنه أهدر دم الهرمزان ولم يقتل به عبيد الله بن عمر ، وآوى إليه الحكم بن أبي العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح طريدي رسول الله ، وآثر الأقرباء ، وحمى الحمى ، وبني الدار ، واتخذ الضياع والأموال من أموال المسلمين ، وولّى الوليد بن عقبة على الكوفة فأحدث في الصلاة (سكرا وشعرا) فلم يمنعه ذلك من إيوائه إليه ، ونفى أبا ذر صاحب رسول الله ، وسيّر عبد الرحمن بن حنبل صاحب رسول الله أيضا إلى قلعة القموص من خيبر وذلك لأنه بلغه ذكره (في شعره) هجاءه ومساوئ ابنه وخاله (٤).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٦ : ١٥٦ فما بعد.

(٢) تاريخ خليفة : ٩٨ وفصّله الطبري ٤ : ٣٤٦.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣٣٨ ورتّبناه.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٣ و ١٧٤ وبهامشه مصادر اخرى.

٤٠١

وروى ابن الكلبي عن أبيه : أن ابن حنبل الجمحي جرح عثمان فقال :

زعم ابن عفّان وليس بهازل

أنّ الفرات وما حواه المشرق

خرج له ، من شاء أعطى مثله

ذهبا وتلك مقالة لا تصدق

أنّى لعفّان أبيك سبيكة

صفراء ، والنهر العباب الأزرق  (١)

فضربه عثمان مائة سوط ، وهو صحابيّ بدري ، وحمله على جمل يطاف به في المدينة ، وحبسه موثّقا بالحديد ، فكتب شعرا إلى عمّار وعلي عليه‌السلام يقول :

أبلغ عليا وعمّارا فإنّهما

بمنزل الرشد أن الرشد مبتدر

لا تتركا جاهلا حتى يوقّره

دين الإله وإن هاجت به مرر

لم يبق لي منه إلّا السيف إذ علقت

حبائل الموت فينا الصادق البرر

يعلم بأني مظلوم إذا ذكرت

وسط النديّ حجاج القوم والعذر

فلم يزل علي عليه‌السلام بعثمان يكلّمه حتى خلّى سبيله على أن لا يساكنه بالمدينة ، فسيّره إلى قلعة القموص في خيبر (٢).

وهو عبد الرحمن الكندي الشاعر ، ومن شعره :

سأحلف بالله جهد اليمي

ن ما ترك الله أمرا سدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلى بك أو تبتلى

دعوت اللعين فأدنيته

خلافا لسنّة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس العبا

د ظلما لهم ، وحميت الحمى  (٣)

ونقص من عائشة ما كان يعطيها عمر (٤).

__________________

(١) مثالب العرب (للكلبي) : ٤٥ و ١٤٥ ، وعنه في الطرائف.

(٢) تقريب المعارف (للحلبي) : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.

(٤) فدخلت عليه وطالبته بذلك فقال لها : كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما

٤٠٢

فكان بينها وبينه منافرة ، فذات يوم كان عثمان يخطب إذ أدلت عائشة قميص رسول الله ونادت : يا معشر المسلمين! هذا جلباب رسول الله لم يبل وقد أبلى عثمان سنّته! فقال عثمان : ربّ اصرف عنّي كيدهن إن كيدهن عظيم (١).

وتكاتب نفر من الصحابة (إلى الكوفة والبصرة ومصر) : أن أقدموا إلينا فالجهاد عندنا! وسكتوا عن نيل الناس من عثمان (٢) فلم ينهوا عن ذلك ولم يذبّوا عنه (٣).

أعضاء الشورى عند عثمان :

قالوا : لما ولى عثمان كتب إلى عمّاله في الأمصار أن يوافوه في كل موسم (٤) وكتب إليهم : أما بعد ، فإني آخذ العمّال بموافاتي في كل موسم (٥).

__________________

وأنا لا أجد له موضعا لا في الكتاب ولا في السنة فلا أفعل! فقالت : فأعطني ميراثي من رسول الله! وكان عثمان متكئا فاستوى جالسا وقال : ستعلم فاطمة أنّي أيّ ابن عمّ لها اليوم! ألست شهدت عند أبيك ومالك بن أوس البصري أعرابيّ يتوضأ ببوله : أن النبيّ لا يورث ، وأبطلت بذلك حق فاطمة ، وجئت اليوم تطالبينه؟! لا أفعل. كما في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٣ عن القسم الثاني من تقريب المعارف (للحلبي) عن تاريخي الواقدي والثقفي.

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٥ ، ومصادر الخبر في الجمل (للمفيد) : ١٤٨ ـ ١٥٠.

(٢) الطبري ٤ : ٣٣٦ عن الواقدي.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.

(٤) الطبري ٤ : ٣٩٧ عن سيف.

(٥) الطبري ٤ : ٣٤٢ عن سيف أيضا.

٤٠٣

ولعلّ معاوية كان أوّلهم وصولا قبل الموسم هذه السنة ، وتوسّم فيه عثمان الوساطة والشفاعة له لدى أنداده من أصحاب الشورى ، فأرسل إليهم وجمعهم لديه : علي عليه‌السلام والزبير ، وسعد بن أبي وقاص وطلحة (١).

فروى الطبري بسنده عن موسى بن طلحة قال : لما أرسل عثمان إلى طلحة أبي يدعوه خرجت معه حتى دخلنا على عثمان ، وإذا عنده الزبير وسعد ومعاوية ، وتكلم معاوية ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

أنتم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وخيرته في الأرض ، وولاة أمر هذه الامة ، لا يطمع في ذلك أحد غيركم! اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع! وقد كبرت سنّه وولّى عمره ، ولو انتظرتم به الهرم كان قريبا ، مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغ به ذلك! وقد فشت قالة خفتها عليكم ، فما عتبتم فيه من شيء فهذه يدي لكم به ، ولا تطمعوا الناس في أمركم ، فو الله لئن طمعوا في ذلك لا رأيتم فيها أبدا إلّا إدبارا!

فقال له علي عليه‌السلام : وما لك وذلك؟ وما أدراك؟ لا أمّ لك!

فقال معاوية : دع امّي مكانها ، ليست بشرّ امهاتكم! قد أسلمت وبايعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأجبني فيما أقول لك.

فقال عثمان : صدق ابن أخي! وإني اخبركم عنّي وعمّا وليت : إنّ صاحبيّ اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل ، احتسابا! وإنّ رسول الله كان يعطي قرابته ، وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش ، فبسطت يدي في شيء من هذا المال لمكان ما أقوم به ، ورأيت أن ذلك لي ؛ فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه ، فأمري تبع لأمركم!

__________________

(١) ونفتقد منهم ابن عوف في النصّ الآتي مما يدل على أن ذلك كان بعد مقاطعته أو وفاته.

(٢) لا أستبعد أن يكون معاوية أول من حذف «وآله» وأضاف «وسلّم».

٤٠٤

قال موسى بن طلحة : وكانوا يزعمون أنه أعطى عبد الله بن خالد بن اسيد خمسين ألفا ومروان خمسة عشر ألفا ، فقالوا له : إنك أعطيت عبد الله بن خالد ومروان فردّ منهما ذلك. فقال : فردّوا منهما ذلك. فرضوا وخرجوا راضين (١).

مبادي ثورة مصر :

مرّ الخبر عن عزل عثمان عمرو بن العاص عن مصر وتوليتها أخاه ابن أبي سرح سنة (٢٧ ه‍) فروى الطبري عن الواقدي عن الزهري : أن كان ممن خرج مع ابن سرح إلى مصر محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (٢) وكانا ناقمين على عثمان يقولان : قد أخرج رسول الله قوما وهو أدخلهم ، واستعمل عبد الله بن سعد وكان قد نزل القرآن بكفره وأباح رسول الله دمه. وكانا في مصر حين عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة واستعمل ابن خالته عبد الله بن عامر بن كريز ، وعزل الوليد واستعمل سعيد بن العاص قبل سنة (٣٠ ه‍) ، فلما غزاهم القسطنطين بن هر قل الروم في البحر فركب المسلمون السفن في ساحل البحر لحربه سنة إحدى وثلاثين ، ونصر الله المسلمين وغلبت الروم وهزموا ، وقفل عبد الله بذات الصواري أياما ثم رجع ، جعل محمد بن أبي حذيفة يقول لمن معه : أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقا! فيقول الرجل : وأيّ جهاد؟ فيقول : عثمان بن عفان فقد فعل وفعل ، فرجعوا وهم يقولون من القول ما لم يكونوا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

(٢) عتبة بن ربيعة العبشمي هو القتيل بسيف علي عليه‌السلام أول البراز في بدر ، وابنه أبو حذيفة كان قد صاهر سهيل بن عمرو المخزومي وأسلم في الأوائل وهاجر مع زوجته إلى الحبشة فرزق هناك ولدا أسماه محمدا ، وأبو حذيفة أخو هند بنت عتبة أمّ معاوية فهو خال معاوية ، ومحمد هذا ابن خاله ، ولكنه هو الذي حبسه على حبّه لعليّ عليه‌السلام حتى قتله.

٤٠٥

ينطقون به. وبلغ ذلك عبد الله بن سعد فأرسل إليهما يقول لهما : والله لو لا أني لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لحبستكما وعاقبتكما (١)!

فقال ابن أبي حذيفة : والله ما لك إلى ذلك سبيل ، ولو هممت به ما قدرت عليه!

قال : والله لا تركب معنا ، فكفّ خير لك (٢).

ولكنّهما أقاما في مصر مصرّين على تحريض الناس على عثمان حتى منتصف سنة (٣٥ ه‍) ولشهر رجب اجتمع أكثر من خمسمائة رجل يظهرون أنهم يريدون عمرة رجب ، فخرجوا مع عبد الرحمن بن عديس البلويّ ـ من أصحاب بيعة الرضوان تحت الشجرة ـ ومحمد بن أبي بكر ، وشيّعهم ابن أبي حذيفة إلى منزل عجرود وناولهم كتابا إلى علي عليه‌السلام ، وبعث ابن أبي سرح رسولا إلى عثمان يخبره خبرهم (٣).

فروى الطبري عن ابن إسحاق عن ابن الزبير قال : كان أهل مصر الذين ساروا إلى عثمان ستمائة رجل ، على أربعة ألوية ، وجماع أمرهم إلى عبد الرحمن بن عديس البلوي التجيبي وعمرو بن الحمق الخزاعي من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونزلوا السقيا أو ذا خشب وكتبوا كتابا إلى عثمان وحمله رجل منهم إليه حتى دخل عليه وكان فيه :

«أما بعد ، فاعلم أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ؛ فالله الله ثم الله الله ، فإنك على دنيا فاستتمّ معها آخرة ولا تنس نصيبك منها فلا تسوغ لك الدنيا. واعلم أنّا ـ والله ـ نغضب لله ونرضى في الله ، وأنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا

__________________

(١) الطبري ٤ : ٢٩٢.

(٢) الطبري ٤ : ٢٩١ في حوادث سنة (٣١ ه‍) أي قبل وفاة أبي ذرّ وابن مسعود.

(٣) الطبري ٤ : ٣٥٧ ـ ٣٥٨ عن الواقدي قال : وصل المدينة في إحدى عشرة ليلة و٣٧٨.

٤٠٦

حتى تأتينا منك توبة مصرّحة ، أو ضلالة مبلجة ، فهذه مقالتنا لك وقضيّتنا إليك ، والله عذيرنا منك ، والسلام» فكان ردّه عليه أن أمر به فأخرج من داره.

وكتب أهل المدينة إليه يقسمون له بالله أنهم لا يمسكون عنه حتى يعطيهم ما يلزمه من حقّ الله أو يقتلوه (١).

وروى ابن اسحاق أيضا عن الزهري قال : قدم أهل مصر في ستمائة راكب عليهم البلوى ، فنزلوا ذا خشب (٢) وفيهم أبو عمرو بن بديل الخزاعي ، وأبو عروة الليثي ، وكنانة بن بشر الكندي (التجيبي). واجتمع إليهم مالك الأشتر النخعي ، وكميل بن زياد النخعي ، وحجر بن عديّ الكندي وصعصعة بن صوحان العبدي مع جماعة من قرّاء أهل الكوفة الذين سيّرهم عثمان إلى الشام حين شكوا أحداثه التي أنكرها عليه المهاجرون والأنصار. وحكيم بن جبلة العبدي مع طائفة من أهل البصرة.

فمرّ بهم زياد بن النضر وعمر بن عبيد الله فقالا لهم : إن شئنا بلّغنا عنكم أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن أمرنكم أن تقدموا فاقدموا! فقالوا لهما : افعلا ، واقصدا عليا آخر الناس!

فبدأ بعائشة ، ثم الصحابة ، فأمروهم أن يقدموا ، ثم صارا إلى عليّ عليه‌السلام فأخبراه واستأذناه لهم ، فقال : أتيتما قبلي أحدا؟ قالا : نعم ، أتينا عائشة وأزواج النبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار فأمروهم أن يقدموا. فقال عليه‌السلام : لكنّي لا آمرهم بذلك ، بل يستعتبونه ممّن قرب ، فإن أعتبهم فهو خير لهم ، وإن أبى فهم أعلم.

__________________

(١) الطبري ٤ : ٣٦٩.

(٢) على مرحلة من المدينة على طريق الشام ، أو السويداء ثم الأسواق ، كما في الطبري ٤ : ٣٧٣ عن الواقدي. وروى عن سيف : أن مقدمهم الأول كان في أواخر شوال ٤ : ٣٤٨.

٤٠٧

وبلغ اجتماعهم إلى عثمان ، فأرسل إلى علي عليه‌السلام وقال له : يا أبا الحسن! اخرج إلى هؤلاء القوم وردّهم عمّا جاءوا له.

توسّل عثمان بعلي عليه‌السلام :

روى الواقدي بسنده قال : فلما رأى عثمان ما رأى جاء إلى بيت علي ، فدخل عليه وقال له : يا ابن عمّ ، إن قرابتي قريبة ، فلي عليك حق عظيم! وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم ، وهم مصبّحي ، وأنا أعلم أن لك عند الناس قدرا وأنهم يسمعون منك ، فأنا أحبّ أن تركب إليهم فتردّهم عنّي ، فإني لا احبّ أن يدخلوا عليّ فان ذلك منهم جرأة عليّ ـ ، وليسمع بذلك غيرهم ... على أن أصير إلى ما أشرت به عليّ ورأيته لي ، ولست أخرج من يديك!

فقال علي : إني قد كنت كلّمتك مرّة بعد مرة ، وكلّ ذلك نقول وتقول ونخرج فتكلّم ، وكل ذلك فعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر ومعاوية ، وأطعتهم وعصيتني.

فقال عثمان : فإني أعصيهم وأطيعك! فقبل علي عليه‌السلام.

فأرسل عثمان تلك الليلة إلى نفر من المهاجرين منهم : أبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ، وسعيد بن زيد ، وثلاثة من بني أميّة : عبد الرحمن ابن عتاب بن اسيد ، وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم! ومن الأنصار : أبو اسيد وأبو حميد الساعديان ، ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت ، والشاعران : حسّان بن ثابت وكعب بن مالك في ثلاثين رجلا. وأرسل عثمان سعد بن أبي وقاص إلى عمار بن ياسر ليذهب معهم (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

٤٠٨

توسّط سعد عند عمار :

فروى عن سعد قال : فلمّا وصلت إلى عمار قام إليّ ، فلمّا ابتدأت الكلام معه (في عثمان) جلس ثم استلقى على قفاه ووضع يده على وجهه!

فقلت له : ويحك يا أبا يقظان ، إنك كنت فينا لمن أهل الخير والسابقة ومن عذّب في الله ، فما تبغيه مما صنعت بأمير المؤمنين وسعيك في فسادهم؟!

فقال عمار : إني اريد أن تكون الخلافة كما كانت على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأما أن يعطى مروان خمس إفريقية ، ومعاوية على الشام ، والوليد بن عقبة ـ شارب الخمر ـ على الكوفة (كذا) وابن عامر على البصرة. والكافر بما انزل على محمّد على مصر! فلا والله لا كان هذا أبدا حتى يبعج في خاصرته بالحق (١).

علي عليه‌السلام والمصريّون :

فخرج إليهم علي عليه‌السلام ، فلما رأوه رحّبوا به ، ثم قالوا له :

يا أبا الحسن ؛ قد علمت ما أحدثه هذا الرجل من الأعمال الخبيثة ، وما يلقاه المسلمون منه ومن عمّاله ، وكنا لقيناه واستعتبناه فلم يعتبنا ، وكلّمناه فلم يصغ إلى كلامنا ، وأغراه ذلك بنا (٢) فجئنا نطالبه بالاعتزال عن إمرة المسلمين ، واستأذنا في ذلك الأنصار والمهاجرين وأزواج النبيّ امهات المؤمنين فأذنوا لنا في ورود المدينة فنحن على ذلك.

__________________

(١) عن تاريخ الواقدي في القسم الثاني من تقريب المعارف كما عنه في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، وانظر وقارن الطبري ٤ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(٢) فلعلّ هذا كان بعد عودتهم وعثورهم في طريقهم بغلام عثمان ، ولكنه سيأتي في باقي الخبر.

٤٠٩

فقال لهم علي عليه‌السلام : يا هؤلاء ، إنا كنّا قد عتبناه على شيء من هذا ، وإنه قد رجع عنه ، فتريّثوا ولا تسرعوا إلى شيء لا تعرف عاقبته!

فقالوا : يا أبا الحسن ، هيهات ، ما نقنع منه إلّا بالاعتزال عن هذا الأمر ليقوم به من يوثق بأمانته!

فرجع علي عليه‌السلام إلى عثمان وأخبره بمقالتهم.

فخرج عثمان إلى المنبر فخطب وجعل يدعو الناس إلى نصرته ودفع القوم عنه.

فقام إليه عمرو بن العاص وقال : يا عثمان! إنك قد ركبت من الناس المهالك وركبوها منك ، فتب إلى الله.

فقال له عثمان : وإنك لها هنا يا ابن النابغة! ثم رفع يديه وقال مرتين : اللهم إني أتوب إليك.

ولكن القوم ساروا إلى المدينة جميعا ، وفيهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي يحرّض الناس عليه ، وانضمّ إليهم من الأنصار جمهورهم ومن المهاجرين طلحة والزبير.

فخرج إليهم علي عليه‌السلام وقال لهم : يا هؤلاء ؛ اتقوا الله ، ما لكم وللرّجل؟! أما رجع عمّا أنكرتموه؟! أما تاب توبة جهر بها؟! فسكنوا وسألوه أن يعزل عنهم أخاه عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وسأله أهل النهروان (؟!) أن يصرف عنهم ابن خالته عبد الله بن عامر بن كريز ، ويعدل عمّا كان عليه من الأفعال المنكرة (١).

__________________

(١) كذا ، وانفرد هذا الخبر به ، ولعل الأصل : أهل النهر ، يعني نهر المرأة في البصرة. وجاء في الخبر : أن أهل الكوفة طلبوا عزل سعيد بن العاص ، وقد سبق عزله من قبل.

٤١٠

فدخل علي عليه‌السلام على عثمان ، ولم يزل به حتى أعطاه ما أراد القوم من ذلك وبذل لهم العهود والمواثيق. فخرج إلى القوم بما ضمنه له عثمان ، ولم يزل بهم حتى توجّه كل قوم إلى بلادهم (١).

__________________

(١) الجمل (للمفيد) : ١٣٨ ـ ١٤٠ ، عن كتاب مقتل عثمان (لإسحاق البلخي البخاري الهاشمي ولاء) المتوفى في بغداد (٢٠٦ ه‍) وانظر قاموس الرجال ١ : ٧٣٧. هذا وانفرد اليعقوبي ٢ : ١٧٤ بدعوى هذا الدور لعمرو بن العاص! قال : وجّه إليهم عمرو بن العاص فكلمهم وقال لهم : إنه يرجع إلى ما تحبّون ، وكتب لهم بذلك فانصرفوا! فطلب منه عثمان أن يعذره للناس في المدينة ، ونادى في الناس : الصلاة جامعة! ثم صعد عمرو المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر محمدا وقال : بعثه الله رأفة ورحمة ، فبلّغ الرسالة ونصح الامة ، وجاهد في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، ثم قال : أليس كذلك؟! قالوا : بلى. ثم قال : وولى بعده رجل حكم بالحق وعدل في الرعيّة ، ثم قال : أليس كذلك؟! قالوا : بلى ، فقال : ثم ولي الأحول الأعسر ابن حنتمة ، فأبدت له الأرض أفلاذ أكبادها ، وأظهرت له مكنون كنوزها ، وخرج هو من الدنيا وما ابتلّت عصاه! ثمّ قال : أليس كذلك؟! قالوا : بلى. فقال : ثم ولى عثمان ، فقلتم تلومونه ، وقال يعذر نفسه! ثم قال : أليس كذلك؟! قالوا : بلى ، قال : فاصبروا له ؛ فلعل تأخير أمر خير من تقديمه حتى يكبر الصغير ويسمن الهزيل! ونزل!

فدخل أهل عثمان عليه وقالوا له : وهل عابك أحد بمثل ما عابك به عمرو؟!

ودخل عمرو على عثمان فقال له : يا ابن النابغة والله ما زدت أن حرضت الناس عليّ.

فقال عمرو : والله لقد قلت فيك أحسن ما علمت ، فلقد ركبت من الناس وركبوا منك فإن لم تعتدل فاعتزل!

فقال له عثمان : يا ابن النابغة! قد قمل درعك مذ عزلتك عن مصر.

٤١١

مسير المصريّين وعودتهم :

قال المسعودي : كان أهل مصر ستمائة رجل عليهم البلوي ، ومن الكوفة مائتا رجل مع الأشتر ، ومن أهل البصرة مائة رجل مع العبدي (١).

وكان هوى المصريين مع علي عليه‌السلام ، وهوى الكوفيين مع الزبير ، وهوى البصريين مع طلحة. وطلب الناس منه : عزل صهره مروان عن كتابته له ، وعزل أخيه ابن أبي سرح عن صرح مصر ، واتفق عليّ مع عثمان على ما طلبه الناس فعزل ابن أبي سرح عن مصر وولّاها محمد بن أبي بكر ، وتفرق الناس وتوجّه مع ابن أبي بكر جمع من المهاجرين والأنصار (٢).

وفي خبر ابن إسحاق عن الزهري : أن المصريّين في الطريق بالبويب (٣) أو بحسمى (٤) نظروا وإذا راكب مسرع ، فلما دنا تأمّلوه فإذا هو غلام لعثمان (يدعى ورش) (٥) على ناقة من نوقه ، فاسترابوا به فقالوا له : أين تذهب؟ قال : بعثني عثمان في حاجة. قالوا : إلى أين؟ فتلعثم في كلامه وارتج عليه ، فنهروه وزبروه فقال : أنفذني إلى مصر ، قالوا : فيم؟ قال : لا أعلم! ففتّشوه فلم يجدوا عنده شيئا ، ولكنهم رأوا أن قربته الصغيرة لا ماء فيها وفيها شيء ففتّشوها فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح وفيه : «إذا أتاك كتابي هذا فاضرب عنق عبد الرحمن البلوي وأبي عمرو بن بديل ، واقطع أيدي وأرجل كلّ من عروة وعلقمة وكنانة ، فإذا ماتوا فارفعهم على جذوع النخل» (٦).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٤٣.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.

(٣) الطبري ٤ : ٣٧٥.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٣٤٤.

(٥) مروج الذهب ٢ : ٣٤٤.

(٦) الجمل (للمفيد) : ١٤٠.

٤١٢

وكانوا يأخذون عن محمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة المخزومي ، وكنانة بن بشر الكندي وابن عديس البلوي ، واتفقوا على الرجوع والخروج على عثمان ، فرجعوا إلى المدينة (١).

فلما عادوا إليها استأذنوا على عليّ عليه‌السلام ودفعوا الكتاب إليه ، فلما قرأه فزع منه.

ودخل به على عثمان وقال له : إنك وسّطتني أمرا بذلت فيه الجهد لك وفي نصيحتك ، واستوهبت لك من القوم! قال عثمان : فما ذا؟ فأخرج الكتاب وفضّه وقرأه ، فأنكره! فقال علي عليه‌السلام : أتعرف الخطّ؟ (وكان بخطّ مروان (٢)) فقال : الخطّ يتشابه! قال : أتعرف الختم؟! قال : والختم ينقش عليه! قال : فهذا البعير الذي على باب دارك تعرفه؟ قال : هو بعيري ولم آمر أحدا بأخذه ولا بركوبه! قال : فغلامك من أنفذه؟ قال : انفذ بغير أمري!

فقال عليه‌السلام : أما أنا فمعتزلك ، وشأنك وأصحابك! وخرج من عنده ودخل داره وأغلق بابه ولم يأذن لأحد.

فلما رأى ذلك طلحة والزبير قالا لهم : قد اعتزل عليّ ، وانتدبنا معكم على هذا الرجل ، فحصروه (٣).

وكان عبد الله بن سعد قد كتب إلى عثمان يستأذنه للقدوم إليه ، فأذن له (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٥. وكان قدومهم (الثاني) في الليلة الاولى من شهر ذي القعدة ، كما في تاريخ خليفة : ٩٨.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٤٤.

(٣) الجمل (للمفيد) : ١٤١ ، وبهامشه مصادر اخرى كثيرة.

(٤) الطبري ٤ : ٣٧٨.

٤١٣

فاستخلف على مصر السائب بن هشام العامري وخرج ، فأخرجه منها محمد بن أبي حذيفة وغلب على مصر (١) واستجابوا له ، ولما بلغ ابن سعد إلى أيلة بلغه أن المصريين قد رجعوا إلى عثمان وحصروه ، فرجع ابن سعد إلى مصر فمنعه ابن أبي حذيفة ، فخرج إلى الشام (٢).

ومن أخبار الحوار :

ما رواه الطوسي في «الأمالي» عن المفيد ـ وليس في أماليه ـ بسنده عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان العبدي : أن جمعا من المصريّين دخلوا على عثمان ـ ولعلّها بعد الرجعة ـ فقال لهم : قدّموا رجلا يكلّمني ، فقدّموه ، فكأنّه رآه شابا حدث السنّ فقال : هذا! قال : فقلت له : لو كان العلم بالسنّ لم يكن لي ولا لك سهم منه ، ولكنّه بالتعلم. فقال عثمان : هات. فقرأت : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٣) فقال عثمان : فينا نزلت هذه الآية! فقلت : فمر بالمعروف وانه عن المنكر! فقال عثمان : دع هذا وهات ما معك! فقرأت ما قبلها : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)(٤) فقال عثمان : وهذه أيضا نزلت فينا! فقلت له : فأعطنا بما أخذت من الله.

فالتفت عثمان للجمع وقال : يا أيها الناس ، عليكم بالسمع والطاعة فإن يد الله على الجماعة (كذا) وإن الشيطان مع الفذّ (الفرد الشاذ) فلا تستمعوا إلى قول هذا فإنه لا يدري من الله ولا أين الله؟!

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٢١.

(٢) الطبري ٤ : ٣٧٨ عن الواقدي.

(٣) الحج : ٤١.

(٤) الحج : ٤٠ ، وكأنه أراد تطبيقها على أنفسهم ، فهي أوفق برجوعهم.

٤١٤

فقلت له : أما قولك : عليكم بالسمع والطاعة فإنك تريد منا أن نقول غدا : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)(١) وأما قولك : إني لا أدري من الله ؛ فإن الله ربّنا وربّ آبائنا الأولين ، وأما قولك : إني لا أدري أين الله ، فإن الله لبالمرصاد! فغضب وأمر بإخراجنا ، وغلق الأبواب (٢).

وكتب إلى علي عليه‌السلام : أما بعد ، فقد جاوز الماء الزبى ، وبلغ الحزام الطبيين ، وتجاوز الأمر بي قدره ، وطمع فيّ من لا يدفع عن نفسه ، ثم تمثل شعرا :

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلّا فأدركني ولما امزّق  (٣)

وحجّت عائشة :

روى الحميري في «قرب الأسناد» بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لما حضر الناس عثمان تجهّزت عائشة للحج ، فجاء إليها مروان بن الحكم فقال لها : يا أم المؤمنين! قد حصر الناس عثمان ، فلو تركت الحجّ وأصلحت أمره كان الناس يسمعون منك! فقالت : قد أوجبت (التزمت) الحجّ وشددت غرائري (أحمالي) فولّى مروان وهو يقول :

وحرّق قيس عليّ البلا

د حتى إذا اضطرمت أجذما (٤)

فسمعته عائشة فقالت له : تعال ، لعلّك تظن أني في شكّ من صاحبك؟! والله لوددت أنك وهو في غرارتين من غرائري (أحمالي) مخيط عليكما ، تغطّان في البحر حتى تموتا (٥).

__________________

(١) الأحزاب : ٦٧.

(٢) أمالي الطوسي : ٢٣٦ ، الحديث ٤١٨ ، م ٩.

(٣) معاني الأخبار : ٣٥٨ عن الأصبغ بن نباتة.

(٤) أي : قطع ، وقرى : أحجما : أمسك.

(٥) قرب الأسناد : ٤٠ ، الحديث ٨٤ ، ونقله الحلبي في القسم الثاني من تقريب المعارف عن تاريخ الثقفي من عدّة طرق ، كما عنه في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٥ بتحقيق

٤١٥

وذكره الواقدي في «كتاب الدار» وزاد فيه عن زيد بن ثابت : أن مروان جاءني فاستصحبني معه إلى عائشة ... فأقبلت عليّ وقالت لي : وما يمنعك يا ابن ثابت أن تمنع عنه وقد أقطعك عثمان الأساويف ، وأعطاك من بيت المال عشرة آلاف دينار ، ولك كذا وكذا ، قال : فلم أرد عليها حرفا ، وأشرت إلى مروان فقمنا وخرجنا من عندها آيسين (١).

عثمان في حصار الثوّار :

وحيث انتهى أمر عثمان إلى حصره في داره من قبل الثوّار ، وكان اجتماعهم عليه مرّتين بفاصل قفول المصريين وعودتهم عليه ، لذلك عبّر عنهما بالحصرين تغليبا ، وإلّا فلم يكن في الأول حصر وإنما كان الحصر الأخير.

__________________

اليوسفي الغروي ، ومرسلا في الإيضاح : ٢٦٤ واليعقوبي ٢ : ١٧٥ ـ ١٧٦ ، وفي الجمل (للمفيد) : ١٤٨ عن أبي حذيفة وابن إسحاق والمدائني.

(١) الشافي ٤ وتلخيصه ٤ : ٦٩ ، وعن الواقدي أيضا الحلبي في تقريب المعارف السابق نحوه ، كما في بحار الأنوار ٣١ : ٣٠٥ ، وفيه عنه ما يفيد أن خروجها كان بعد شدة الحصار ومنع الماء! عن كريمة ابنة المقداد الكندي عن عائشة قالت : إن عثمان أرسل إليّ أن أرسل إلى طلحة فأبيت ، وأرسل إليّ أن لا تخرجي إلى مكة ، فقلت : قد جلبت ظهري (مركوبي) وإني خارجة غدا. ولا والله ما أراني أرجع حتى يقتل! قالت كريمة : فقلت : إن أبي المقداد كان ينصح له فيأبى إلّا تقريب مروان وسعيد وابن عامر. فقالت عائشة : حبّهم والله صنع ما ترين ، حمل إلى سعيد بن العاص مائة ألف ، وإلى عبد الله بن خالد بن اسيد ثلاثمائة ألف ، وإلى الحارث بن الحكم مائة ألف ، وأعطى مروان خمس إفريقية لا يدرى كم هو! فلم يكن الله ليدع عثمان!

وعن عائشة ابنة قدامة قالت : سمعت عائشة تقول : لقد أحسن أبو محمد (طلحة) لما حال بينه وبين الماء!

٤١٦

وبهذا المعنى ما رواه الطبريّ عن الواقدي بسنده عن عكرمة : أن ابن عباس قال : لما كان الحصر الآخر ، فقلت له : أو كانا حصرين؟ قال : نعم ، قدم المصريون فلقيهم عليّ بذي خشب فردّهم عنه بعد اثنتي عشرة يوما (١) مقيمين بذي خشب حول المدينة غير محاصرين.

فإذا كان وصولهم الأول في ٢٥ من شوال كان خروجهم في ٧ ذي القعدة وعودتهم بعد العاشر منه.

وقال المسعودي : ولما عرف القوم خطّ مروان في الكتاب رجعوا إلى المدينة حتى نزلوا المسجد ، وتوافقوا مع من كان قدم من العراق ، فتكلّموا وتذاكروا ما نزل بهم من عمّالهم ، فاتفق رأيهم ورأي العراقيين فرجعوا على عثمان ...

وأحدقوا بداره بالسلاح وطالبوه بمروان فأبى أن يخلّى عنه ... فحاصروه في داره ومنعوه الماء (٢).

وقال ابن الوردي : فرجع محمد بن أبي بكر ومن معه بالكتاب إلى المدينة وجمعوا الصحابة على الكتاب ، وأقرّ عثمان بختمه وخطّ كاتبه مروان ، فطلبوا منه أن يسلّمه إليهم فامتنع ، فجدّوا في قتاله (٣) وحصره ابن عديس البلوي (٤) وبعد ما نزل هؤلاء في المسجد ، كان عثمان يخرج من داره فيصلي إلى ثلاثين يوما ، ثم منعوه من الخروج للصلاة ... ودام حصره أربعين يوما (٥).

__________________

(١) الطبري ٤ : ٤٠٥.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٤٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٦.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٥.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٥.

٤١٧

فروى ابن الخياط عن الحسن البصري عن وثّاب مولى عثمان قال : قال لي عثمان يوما : ادع لي الأشتر ، فدعوته له ، فقال له : ما يريد الناس منّي؟ قال : إحدى ثلاث لا بدّ من إحداهن : إما أن تقصّ من نفسك ، وإما أن تخلع لهم أمرهم فتقول لهم : هذا أمركم فاختاروا له من شئتم ، فإن أبيت فهم قاتلوك (١).

بعثه لابن عباس بالحج :

وفي العشر الآخر من ذي القعدة دعا عثمان ابن عباس وقال له :

إني قد استعملت خالد بن العاص بن هشام على مكة ، وقد بلغ أهل مكة ما صنع الناس ، فأنا أخاف أن يمنعوه الموقف ... فرأيت أن اولّيك أمر الموسم (٢) فاذهب إليه فقل له : إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني محصور منذ كذا يوما ، لا أشرب إلّا من اجاج داري ... ولا آكل إلّا مما في بيتي ، فقل له فليحجّ بالناس ، وليس بفاعل ، فإن أبى فاحجج أنت بالناس (٣) وكتب معه إلى أهل الموسم كتابا يسألهم فيه النصرة (٤).

قال : فخرجت من عنده ، ودخلت على علي عليه‌السلام في اليوم الذي خرجت فيه إلى مكة ، وكان قد عزم على أن لا يدفع عنه ، فذكرت له : أن عثمان دعاني للخروج للحج ، فقال لي : إن عثمان ما يريد أن ينصحه أحد ، اتّخذ بطانة أهل غش ، ليس منهم أحد إلّا قد تسيّب بطائفة من الأرض يستذل أهلها ويأكل خراجها (٥).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٩٩.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٧.

(٣) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٦.

(٤) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٧ ، هذا وسيأتي ما ينافي هذا.

(٥) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٦ عن عكرمة.

٤١٨

ونقل الرضيّ : أن ابن عباس حمل من عثمان وهو في الحصار رسالة إلى علي عليه‌السلام يسأله فيها الخروج إلى ما له في ينبع ، وكأنه كان قد طلب منه ذلك في القدمة الاولى للمصريين فلما خرجوا أرسل إليه أن يرجع ، فلما عاد المصريّون عاد لطلبه هذا. ولعلها كانت مع هذه الزيارة لابن عباس ، فقال عليه‌السلام : يا ابن عباس ، ما يريد عثمان إلّا أن يجعلني جملا ناضخا بالغرب (١) أقبل وأدبر! بعث إليّ أن أخرج ، ثم بعث إليّ أن أقدم ، ثم هو الآن يبعث إليّ أن أخرج! والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما (٢).

ثم خرج ابن عباس حتى التقى في منزل الصلصل (٣) بعائشة فقالت له : يا ابن عباس ، إن الناس قد رفع لهم المنار فبانت لهم بصائرهم ووضحت لهم الطرق فتحلّبوا من البلدان لأمر قد قرب ، وقد أعطيت لسانا إزعيلا (ذلقا) فأنشدك الله أن تخذّل الناس عن هذا الرجل (٤).

قال ابن عباس : فقدمت الحج في العشر (من ذي الحج) فذهبت إلى خالد بن العاص وأبلغته ما قال لي عثمان ، فأبى أن يحجّ وقال : وهل لي طاقة بعداوة من ترى؟! وأنت ابن عمّ الرّجل ـ يعني عليا ـ وهذا الأمر لا يفضي إلّا إليه ، فحجّ أنت بالناس ، فأنت أحق أن تحمل له ذلك. فحججت بالناس.

__________________

(١) الجمل يستقى عليه بدلو عظيمة.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٤٠ وأقدم مصدر له الكامل (للمبرد) ١ : ١١ وانظر المعجم المفهرس : ١٣٩٣.

(٣) على سبعة أميال من المدينة نحو مكة.

(٤) نقله القاضي النعمان في شرح الأخبار ١ : ٣٤٣ ، عن الباقر عن السجاد عليهما‌السلام ، عن مروان بن الحكم! والمفيد في الجمل : ١٤٩ عن ابن اسحاق والمدائني وأبي حذيفة القرشي ، في رجوعه من الحج في الصلعاء!

٤١٩

نقل الطبريّ هذا عن الواقدي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس ، وليس فيه أنه قرأ كتاب عثمان على الناس. ثم نقل عن الواقدي أيضا عن ابن أبي سبرة عن ابن سهيل أنه انتسخ رسالة عثمان من عكرمة أربع صفحات ، وفي آخرها عنه : أنه قرأها عليهم في اليوم السابع (١).

بينما قال ابن قتيبة : استعمل عثمان ابن عباس على الموسم ، وكتب كتابا إلى أهل مكة ومن حضر الموسم ، بعثه مع نافع بن طريف فوافى به مكة يوم عرفة وابن عباس قائم يخطبهم ، فقام نافع وفتح الكتاب ليقرأه عليهم فجلس ابن عباس وقرأ نافع الكتاب : «من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى من حضر الحج من المسلمين ، أما بعد : فإني كتبت إليكم كتابي هذا وأنا محصور ، أشرب من بئر القصر ، ولا آكل من الطعام ما يكفيني خيفة أن تنفد ذخيرتي فأموت جوعا أنا ومن معي ، لا ادعى إلى توبة فأقبلها! ولا تسمع مني حجة أقولها! فأنشد الله رجلا من المسلمين بلغه كتابي إلّا قدم عليّ يأخذ بالحق فيّ ويمنعني عن الظلم والباطل» وجلس نافع ، فقام ابن عباس وأتمّ خطبته من دون أن يعرض لشيء من شأن عثمان (٢).

واستمدّ من معاوية :

مرّ في الخبر : أن عثمان عاد إلى الطلب من علي عليه‌السلام أن يخلى المدينة ليقلّ هتاف الثوار باسمه ، فيبدو من خبر الحلبي في «المناقب» أنه عليه‌السلام خرج إلى ما له في ينبع

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٤٠٧ ـ ٤١١.

(٢) الإمامة والسياسة : ٣٥ ـ ٣٦ ، ورجّح الأميني أمانة النقل فيما رواه ابن قتيبة على ما رواه الواقدي عن محمد بن أبي سبرة العامري القرشي المدني المتوفى في (١٦٠ ه‍) وقد وصفه الواقدي نفسه : أنه كان كثير الحديث وليس بحجة ، إلى نحوه عن كثير منهم كما في الغدير ٩ : ١٩٣ ، وانظر ٥ : ٢٦٠.

٤٢٠