موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

وكان إذا اجتمع الناس يوم الجمعة يقوم فيقول : أيها الناس ، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو يسلطنّ الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. وإن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار (١).

فكتب الوليد بذلك إلى عثمان ، فبعث عثمان إليه : أن دع هذا الكلام أو اخرج من الكوفة (٢).

وذكر الثقفي في تاريخه ، والواقدي في «كتاب الدار» بإسنادهما عن راو قال : دخلت على عبد الله بن مسعود وعنده أصحابه ، إذ جاءه رسول الوليد بن عقبة فقال له : إن الأمير أرسل إليك : أن أمير المؤمنين يقول : إما أن تدع هذه الكلمات وإما تخرج من أرضك!

فقال ابن مسعود : ربّ كلمات لا أختار مصري عليهن! ليخرجنّ منها ابن أمّ عبد (يعني نفسه) ولا أتركهن أبدا وقد سمعت رسول الله يقولهن ، فقيل : ما هنّ؟ فقال : أفضل الكلام كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة ضلالة (٣).

وبدا اختلاف القراءات :

تأسست الكوفة بسعد بن أبي وقاص وكان كما مرّ لا يحسن قراءة القرآن ، فشكى أهل الكوفة ذلك إلى عمر عام (٢١) فبعث إليهم عبد الله بن مسعود

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٦ ، وتاريخ الخميس ٢ : ٣٧٠.

(٢) تاريخ المدينة للنميري البصري ٣ : ١٠٩٤.

(٣) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٥ ، ٢٩٦ عن القسم الثاني من تقريب المعارف للحلبي عن تاريخ الثقفي وكتاب الدار للواقدي.

٣٤١

معلّما للقرآن والفقه ، وكان على البصرة منذ سنة (١٦) أبو موسى الأشعريّ وله قراءة ، فيبدو أن قراءته انتشرت في الكوفة إلى جانب قراءة ابن مسعود باختلاف في بعضها ، ولعلّه لمّا أبدى ابن مسعود معارضته لبعض سياسات الخليفة ، أثارت السياسة هذا الخلاف عليه :

فقد روى السجستاني عن النخعي قال : كنت في المسجد بالكوفة على عهد الوليد بن عقبة في حلقة حول حذيفة بن اليمان ، إذ هتف هاتف : من كان يقرأ على قراءة أبي موسى فليأت إلى زاوية باب كندة ، ومن يقرأ قراءة ابن مسعود فليأت الزاوية إلى جانب داره. وظهر من خلافهم في قراءة آية من البقرة فقرأ هذا : «وأتمّوا الحجّ والعمرة لله» وقرأ الآخر : «وأتمّوا الحجّ والعمرة للبيت»!

فاحمّرت عينا حذيفة من الغضب وقال : قراءة أبي موسى وقراءة عبد الله ابن أمّ عبد! والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين (عثمان) لآمرنّه بجعلها قراءة واحدة ، وغرق هذه المصاحف.

فالتقى ابن مسعود حذيفة وقال له : بلغني عنك كذا؟ قال : نعم كرهت أن يقال : قراءة فلان وقراءة فلان ، فيختلفون كما اختلف أهل الكتاب!

ثم قدم المدينة فقال لعثمان : يا أمير المؤمنين ، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى ، فقد غزوت مرج أرمينية ، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة ابيّ بن كعب ويأتون بما لم يسمع أهل العراق ، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة ابن مسعود ويأتون بما لم يسمع أهل الشام ، فيكفّر بعضهم بعضا (١).

__________________

(١) انظر التمهيد ١ : ٢٧٨ ـ ٢٧٨ ، وفي تلخيصه ١ : ١٥٩ ـ ١٦١.

٣٤٢

فخطب عثمان فقال : «انما قبض نبيّكم منذ خمس عشرة سنة وقد اختلفتم في القرآن! فعزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله لمّا أتاني به (١) ويا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما» أي مصحفا إماما.

ثم دعا سعيد بن العاص الأموي وعبد الرحمن بن الحارث المخزومي وعبد الله بن الزبير وجعل عليهم زيد بن ثابت الأنصاري ليكتب بإملاء سعيد بن العاص القرشي بلهجة قريش.

ثم تقرّر أن تكون المصاحف بعدد امّهات الأمصار الإسلامية سبعة أو تسعة ، فدعوا عبد الله بن العباس ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن فطيمة ، وكثير بن أفلج ، ومالك بن أبي عامر ، ومصعب بن سعد ، ورجلا آخر تمام الاثني عشر رجلا ، وجعل عليهم ابيّ بن كعب ليملي عليهم من مصحفه وهم يكتبون (٢).

وزاد النميري البصري في الكتّاب مع زيد : نافع بن طريف ، وعبد الله بن الوليد الخزاعي وعبد الرحمن بن أبي لبابة الأنصاري ، وأنّ عائشة أرسلت إليهم بالأدم الذي فيه القرآن (٣) وعليه فيكون مجموع أعضاء اللجنة أربعة عشر رجلا ، وذلك في أوائل عهد عثمان.

وهبات وعطايا :

وفي سنة (٢٧) حيث غزا عبد الله بن سعد افريقية فأصاب غنائم كثيرة ،

__________________

(١) المصاحف للسجستاني : ٢٤ ، وفي تاريخ المدينة للبصري ٣ : ٩٩٤ : إنما عهدكم بنبيّكم منذ ثلاث عشرة سنة! ولا يصح إلّا تقريبا.

(٢) التمهيد ١ : ٢٨١ ، ٢٨٢ ، وفي تلخيصه ١ : ١٦٢ ، ١٦٣.

(٣) تاريخ المدينة المنورة للنميري البصري ٣ : ٩٩٧.

٣٤٣

ابتاع مروان خمسها بمائتي ألف دينار ، ثم كلّم عثمان فوهبها له! والمظنون أن ذلك كان بعد تزويجه إياه بابنته أمّ أبان ، وحينها أمر له بمائة ألف أيضا (١).

وزوّج ابنته الأخرى عائشة للحارث بن الحكم أخي مروان وأعطاه ثلاثمائة ألف درهم ، وقدمت إبل الصدقة فوهبها له ، وأقطعه أرض مهزوز التي كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بجوار مسجده فتصدق بها للمسلمين فاتخذوه سوقا ، وكان الخلفاء يعشّرونهم يوما ، فكان عامل الصدقات على السوق يأتي بالأعشار مساء إلى عثمان ، فأتاه يوما فقال له عثمان : ادفعها إلى الحكم بن أبي العاص (٢).

عثمان يطعم الصيد محرما :

حج عثمان عام (٢٥) و(٢٦) وكان يصطاد له في المنازل من الوحش فيأكل منه وهو محرم ، حتى قال له الزبير : هذا يصطاد لنا ومن أجلنا ، فلو تركناه!

وكان عثمان قد بعث عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطّلب ، أو أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب عاملا له على الطائف أو العروض ، فنزل بمنزل قديد دون مكة ، ومرّ به صيّاد شاميّ معه صقر وبازيّ فاستعارهما منه وصاد بهما وجعل الصيد في حفيرة ، حتى مرّ به عثمان محرما بالحج لسنة (٢٧ ه‍) فطبخهن وقدّمهن إليه ومن معه ، فقال عثمان لهم : كلوا ، فجاء رجل فقال : إن عليا يكره هذا! فبعث عثمان عليه فلما حضر قال له : إنك لكثير الخلاف علينا!

فغضب علي عليه‌السلام وقال : أنشد الله رجلا شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أتي بقائمة حمار وحش فقال : إنّا قوم حرم فأطعموه أهل الحلّ؟

فشهد اثنا عشر رجلا من أصحاب رسول الله.

__________________

(١) انظر الغدير ٨ : ٢٣٦ ـ ٢٣٨ المورد ٣٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٨ ، وانظر الغدير ٨ : ٢٦٧ ـ ٢٦٩ ، المورد ٣٣٠.

٣٤٤

ثم قال علي عليه‌السلام : أنشد الله رجلا شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أتي ببيض نعام فقال : إنّا قوم حرم أطعموه أهل الحلّ؟ فشهد من الاثني عشر رجلا دونهم في العدة.

فقال عثمان لعلي عليه‌السلام : بيّن لنا. فقال علي عليه‌السلام : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) فقال عثمان : أو نحن قتلناه؟! فقرأ عليه‌السلام : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً)(١).

فنزل عثمان عن سريره! وقال : خبثت علينا! ودخل رحله ، وأكل الطعام أهل الحل في المحل (٢).

وتزوّج وبنى قصره :

نقل ابن الخياط عن الكلبي : أن عثمان في سنة (٢٨) تزوّج نائلة ابنة الفرافصة الكلبي النصراني من سماوة العراق (٣).

ولعلّه لها شيد قصره الزّوراء بين المسجد والسوق عام (٢٩) (٤) بالكلس والحجر وجلب له أبوابا من العرعر والساج ، فتأسّى به كثير من أهل عصره!

منهم : طلحة بن عبيد الله التيمي ، فإنه شيّد داره بالمدينة بالجصّ والآجر والساج.

ومنهم : سعد بن أبي وقّاص الزهري ابتنى دارا بموضع العقيق قرب المدينة ، واسعة مرتفعة وأعلاها شرفات.

__________________

(١) المائدة : ٩٥ ـ ٩٦.

(٢) انظر أخباره ومصادره في الغدير ٨ : ١٢٥ ـ ١٢٨ ، المورد ٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٩٢ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ٤ : ٤٦ ، ولعله وصفها له أخوه الوليد بن عقبة إذ كان عامله على صدقات كلب وبلقين كما في تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦.

٣٤٥

ومنهم : عبد الرحمن بن عوف الزهري ابتنى دارا واسعة وله على مربطها مائة فرس! وله ألف بعير وعشرة آلاف شاة!

ومنهم : المقداد بن عمرو الأسود الكندي ابتنى داره بالجرف على أميال من المدينة ، بالآجر والجصّ من الظاهر والباطن وأعلاها شرفات!

ذكر ذلك المسعودي وزاد يقول : وهذا باب في من تملك الأموال في أيامه يكثر وصفه ويتّسع ذكره (١).

ويظهر أن بناء عثمان لداره الزوراء بجوار المسجد كان مع توسيعه له ، فجعل عرضه مائة وخمسين ذراعا وطوله مائة وستين ، وجعل له أعمدة من الحجر وسقفا من الساج ، وحمل حجره من موضع بطن نخلة ، وجعل في عمده الرّصاص ، من دون أن أن يزيد في الأبواب (٢).

عثمان وابن مسعود :

مرّ الخبر أن ابن مسعود كان إذا اجتمع الناس يوم الجمعة يقوم فيعترض على سياسات عثمان ، وأن الوليد كتب بذلك إلى عثمان ، وأن عثمان كتب إلى ابن مسعود أن يترك ذلك الكلام أو يعود إلى المدينة.

ونرى في أخبار صلاة الوليد سكرانا : أنه لما قال لهم : هل أزيدكم؟ قال له ابن مسعود : لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا! ثم أخذ خفّه وضرب به وجهه فقام ودخل إلى القصر (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٣٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٦ ، والطبري ٤ : ٢٦٧.

(٣) انظر الغدير ٨ : ١٢٣ ، عن السيرة الحلبية.

٣٤٦

وعليه فتسيير ابن مسعود كان بعد صلاة الوليد وقبل عزله عام (٢٩ ه‍) وكان ذلك لمواقفه السياسية لا للخلاف على القرآن.

وإنما عزل عثمان الوليد بسعيد بن العاص الذي كان في لجنة المصاحف ، ونرى من الأعضاء فيها عبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير وهما مع سعيد بن العاص في غزو طبرستان عام (٣٠) ، ولم يعد سعيد إلى المدينة إلّا عام (٣٤) قبل مقتل عثمان بسنة ، فيظهر أن كل ذلك كان بعد إتمام أعمالهم في المصاحف وإرسالها إلى البلدان.

ونرى في الأخبار : أن عثمان لما كتب المصاحف بلغه أن أهل الكوفة يقرءون بقراءة ابن مسعود فتعجّل وبعث إليهم بالمصحف قبل العرض والمقابلة بسائر النسخ (١).

وبعث معه قارئا يقرؤهم هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي (٢) وهذا يعني عزل ابن مسعود عن سمة تعليم القرآن التي كان بعثه بها عمر إلى الكوفة.

وهنا يقول اليعقوبي : بعث بمصحف إلى الكوفة ... وكتب بجمع المصاحف من الآفاق ... وكان ابن مسعود بالكوفة فامتنع أن يدفع مصحفه ، فكتب عثمان بإشخاصه (٣) وعليه فاليعقوبي يسند استعادة ابن مسعود إلى المدينة إلى خلافه في المصاحف.

__________________

(١) عن المصاحف لابن داود : ٣٥.

(٢) التمهيد ١ : ٢٩٨ و٢ : ١٠ ، وتلخيصه ١ : ١٧٤ و٢١٤.

(٣) اليعقوبي ٢ : ١٧٠ وفيه : أنه كتب إلى عبد الله بن عامر بإشخاصه ، فلعلّه وهم ، أو كان ذلك بعد عزل الوليد وقبل وصول سعيد فكان والي البصرة يلي أمر الكوفة ، ولم يذكر هذا في التاريخ.

٣٤٧

وعاد ابن مسعود إلى المدينة ودخل المسجد وعثمان يخطب (يوم الجمعة) فلما رآه عثمان قال (في خطبته) : إنه قد قدمت عليكم دابّة سوء (١)! من تمشي على طعامه يقيء ويسلح (٢).

وعرف ابن مسعود أنه أراده فردّه وقال : لست كذلك ، ولكنّي صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ، وصاحبه يوم احد ، وصاحبه يوم الخندق ، وصاحبه يوم بيعة الرضوان ، وصاحبه يوم حنين.

وسمعت عائشة كلام عثمان فصاحت به : أيا عثمان ؛ أتقول هذا لصاحب رسول الله؟! فناداها عثمان : اسكتي! ونادى بمولى له أسود يدعى ابن زمعة : أخرجه إخراجا عنيفا! وكان ابن مسعود قصيرا دقيق الساقين ، فلما احتمله العبد ليخرجه من المسجد ناداه ابن مسعود : أنشدك الله أن لا تخرجني من مسجد خليلي رسول الله!

فحمله العبد ورجلا ابن مسعود تختلفان على عنق العبد حتى أخرجه إلى باب المسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه! فصاح ابن مسعود : قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان (٣)!

فقال علي عليه‌السلام لعثمان : يا عثمان! أتفعل هذا بصاحب رسول الله بقول الوليد؟!

فقال : ما فعلت هذا بقول الوليد ، ولكن وجّهت إليه زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة فقال له ابن مسعود : إنّ دم عثمان حلال!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٠.

(٢) السلح : الخرء.

(٣) أنساب الأشراف ٥ : ٣٦ ، والشافي ٤ : ٢٧٩ ـ ٢٨٢ ، وتلخيصه ٤ : ١٠٤ ، واليعقوبي ملخصا.

٣٤٨

فقال علي عليه‌السلام : أحلت على زبيد (وهو) غير ثقة!

وأتى علي عليه‌السلام بابن مسعود إلى منزله (؟).

وحين برئ أراد الغزو (إلى الشام) فقال مروان لعثمان : إن ابن مسعود أفسد عليك العراق أفيريد أن يفسد عليك الشام؟! فمنعه عثمان من ذلك ، وكان لا يأذن له بالخروج حتى إلى ضواحي المدينة ، هذا وقد قطع عطاءه من بيت المال حتى مات بعد ثلاث سنين (١).

وبعد إشارة اليعقوبي إلى خبر ابن مسعود عاد إلى ذكر سائر المصاحف المرسلة إلى الأمصار بعد أن احتفظ بنسخة للمدينة ، فأرسل مصحفا إلى مكة ، وآخر لليمن ، وآخر لمصر ، وآخر لدمشق ، وآخر للبحرين ، وآخر للبصرة ، وآخر للجزيرة. وجمع المصاحف من الآفاق فقيل : أحرقها وقيل : بل سلقها بالماء الحارّ والخلّ ، فلم يبق مصحفا إلّا فعل به ذلك (٢).

فسق الوليد في الكوفة :

قال المسعودي : كان الوليد يشرب مع ندمائه ومغنّيه من أول الليل إلى الصباح ، فلما آذنوه بالصلاة خرج بثيابه (الداخليّة) وتقدم إلى المحراب لصلاة الصبح فصلّى بهم أربعا وقال في سجوده : اشرب واسقني! فلمّا سلّم التفت إلى من خلفه وقال لهم : ألا تريدون أن أزيدكم؟

فقال له عتّاب بن غيلان الثقفي : ما تزيد؟ لا زادك الله من الخير! والله لا أعجب إلّا ممن بعثك إلينا واليا وعلينا أميرا! ثم حمل إلى دار الإمارة.

__________________

(١) انظر الغدير ٩ : ٣ و٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٠ ، وانظر التمهيد ١ : ٢٩٧ ـ ٣٠٠ ، وفي تلخيصه ١ : ١٧٣ ـ ١٧٦. وانظر بحار الأنوار ٣١ : ١٥٠ ـ ١٥١ بتحقيق اليوسفي الغروي.

٣٤٩

فهجم عليه جماعة من المسجد إلى قصره منهم : جندب بن زهير وأبو زينب ابن عوف الأزديان ، فوجدوه مضطجعا على سريره سكران لا يعقل ، وأيقظوه فلم يستيقظ ، ثم تقيّأ عليهم الخمر ، فانتزعوا خاتمه من يده.

وخرجوا من فورهم إلى عثمان بالمدينة ، فشهدوا عنده على الوليد بشرب الخمر ، فقال لهما عثمان : وما يدريكما أنه شرب خمرا؟! فقالا : هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية. وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه ، فدفع في صدريهما وقال لهما : تنحّيا عنّي ، وزجرهما (١).

وفي البلاذري : أنه كان معهما أبو حبيبة الغفاري والصعب بن جثّامة (٢).

وفي «الأغاني» عن المدائني عن الزهري قول عثمان لهم : أكلّما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل؟ لئن أصبحت لأنكّلنّ بكم!

وأصبح عثمان فسمع من حجرة عائشة صوتا وكلاما غليظا ، وكانوا استجاروا بها ، فقال عثمان : أما يجد فسّاق أهل العراق ومرّاقهم ملجأ إلّا بيت عائشة؟!

فمدّت عائشة يدها وأخرجت نعل رسول الله ورفعته إليه وقالت له : لقد تركت سنّة رسول الله صاحب هذا النعل (٣)! فأغلظ لها عثمان وقال : وما أنت وهذا؟! إنما امرت أن تقرّي في بيتك (٤).

وتسامع الناس بذلك فجاءوا حتى امتلأ بهم المسجد فمنهم من قال

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٣٥ ، ٣٣٦.

(٢) أنساب الأشراف ٥ : ٣٣.

(٣) انظر الغدير ٨ : ١٢٣.

(٤) انظر الغدير ٨ : ١٢٠.

٣٥٠

بقول عثمان : ما للنساء ولهذا؟ ومنهم من قال : بل أحسنت ، ومن أولى بذلك منها؟! حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ؛ فكان أول تناوش بين المسلمين بعد نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وأتوا عليا عليه‌السلام فخرج إلى عثمان ولحقه الزبير ولحقه طلحة فقالوا له : قد نهيناك عن تولية الوليد شيئا من امور المسلمين فأبيت ، وقد شهدوا عليه بشرب الخمر والسكر فاعزله. وقال علي عليه‌السلام : إذا شهد الشهود عليه في وجهه فاعزله وحدّه!

فولّى عثمان على الكوفة سعيد بن العاص وأمره بإشخاص الوليد.

فلما قدم سعيد الكوفة أمر فغسلوا دار الإمارة ومنبر المسجد ، وأشخص الوليد سنة (٢٩).

فلما شهد الشهود في وجه الوليد وأراد عثمان أن يحدّه ألبسه جبّة حبر وأدخله بيتا ، فقيل له : إن عمر كان يحلق مثله! فقال : قد كان فعل ذلك ثم تركه (٢) ثم قال عثمان : من يضربه؟ وإذ كان أخا عثمان لأمه أحجم عنه الناس لقرابته (٣) فألقى عثمان السوط إلى علي عليه‌السلام.

فلما نظر علي عليه‌السلام إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحدّ عليه توقّيا لغضب عثمان لقرابته منه أخذ السوط وأقبل عليه ، فلما دنا منه قال له الوليد : يا صاحب مكس (بخل) يريد سبّه!

وكان عقيل بن أبي طالب النسّابة حاضرا فقال للوليد : يا ابن أبي معيط!

__________________

(١) انظر الغدير ٨ : ١٢١ و ١٢٣.

(٢) انظر الغدير ٨ : ١٢١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٥.

٣٥١

وإنك لتتكلّم؟! كأنك لا تدري من أنت؟! إنما أنت علج (أعجميّ) من أهل صفورية (١).

فاستشاط عثمان غضبا وقال لعليّ عليه‌السلام : يا علي! ليس لك أن تتعتعه ولا أن تسبّه! فقال علي عليه‌السلام : بلى لي أن أقهره على الصبر على الحدّ ، وما سببته إلّا لمّا سبّني بباطل فقلت فيه حقا.

وكان لسوطه رأسان فضربه به أربعين جلدة بثمانين (٢).

عثمان والقصر في السفر :

روى الطبري عن الواقدي عن ابن عباس قال : إنّ عثمان صلّى بالناس (الحجّاج) بمنى في ولايته ركعتين (قصرا) حتى إذا كانت السنة السادسة (من حكمه ٢٩ ه‍) أتمّ الصلاة بها وبعرفة ، فتكلّم في ذلك غير واحد من أصحاب النبيّ وعابه عليه ، وجاءه في من جاءه علي عليه‌السلام فقال له : لقد عهدت نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي ركعتين ، ثم أبا بكر ثم عمر ، وأنت صدرا من ولايتك ، والله ما حدث أمر ... فما أدري ما ترجع إليه؟ فقال : رأي رأيته!

__________________

(١) وقال المسعودي هنا : صفورية قرية من الأردن إلى عكّا (في فلسطين) من بلاد طبريّة ، وقد ذكر أن أباه كان يهوديا منها. مروج الذهب ٢ : ٣٣٦ ، وانظر تلخيص الشافي ٤ : ٧٤ ـ ٧٨ ، وبحار الأنوار ٣١ : ٢٣١ ـ ٢٣٧ بتحقيق اليوسفي الغروي ، وانظر تاريخ المدينة للنميري ٣ : ٩٧٠ ـ ٩٧٦.

(٢) الجمل للمفيد : ١٧٩ ، وبهامشه عن الشافي ٤ : ٢٤٥ ، واليعقوبي ٢ : ١٦٥ ، ومصادر اخرى. ورواه الحلبيّ عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام في مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٦٨ والشهود في ١٦٩.

٣٥٢

ودخل عليه عبد الرحمن بن عوف فقال له : ألم تصلّ في هذا المكان مع رسول الله ركعتين؟ قال : بلى ، قال : أفلم تصلّ مع أبي بكر ركعتين؟ قال : بلى ، قال : أفلم تصلّ مع عمر ركعتين؟ قال : بلى ، قال : ألم تصلّ صدرا من خلافتك ركعتين؟ قال : بلى (ولكن) اسمع مني يا أبا محمد ؛ إني اخبرت : أن بعض من حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين فالصلاة للمقيم ركعتان! وقد اتخذت بمكة أهلا فرأيت أن أصلّي أربعا لما أخاف على الناس! ولي بالطائف مال فربّما أقمت فيه!

فقال له ابن عوف : ما من هذا شيء لك فيه عذر ؛ أما قولك : اتخذت أهلا ، فزوجتك بالمدينة وإنما تسكن بسكناك! وأما قولك : ولي مال بالطائف ، فأنت لست من أهل الطائف وبينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال! وأما قولك : يرجع من حجّ من أهل اليمن فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين وهو مقيم ، فقد كان رسول الله ينزل عليه الوحي والإسلام يومئذ في الناس قليل ، وقد ضرب الإسلام بجرانه اليوم. فقال عثمان : رأي رأيته (١).

فروى الكليني بسنده عن الباقر عليه‌السلام قال : ثم إنه ليشدّ بدعته عارض وقال لمؤذّنه : اذهب إلى عليّ وقل له فليصلّ بالناس العصر. فأتى المؤذّن عليا عليه‌السلام فقال له : إن أمير المؤمنين يأمرك أن تصلّي بالناس العصر. فقال علي عليه‌السلام : إذن لا اصلّي إلّا ركعتين كما صلّى رسول الله.

فذهب المؤذّن فأخبر عثمان بما قال علي. فقال له : اذهب إليه وقل له : إنك لست من هذا في شيء! اذهب فصلّ كما تؤمر! فقال علي عليه‌السلام : لا والله لا أفعل!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٢٦٧ ، ٢٦٨ ، وأنساب الأشراف ٥ : ٣٩ ، وانظر الغدير ٨ : ٩٨ ـ ١١٩ ، والنص والاجتهاد : ٤٠٥ ـ ٤١٠ المورد ٧٢ بتحقيق الشيخ حسين الراضي.

٣٥٣

فخرج عثمان فصلّى بهم أربعا (١).

ثم إنّ عثمان رأى أن يقلّص صلاة القصر في السفر في سائر الموارد ويكتفي للقصر بموردين فقط ، فكتب إلى عمّاله : لا يصلّي الركعتين مقيم ، ولا جاب ، ولا تاجر ، ولا زارع ، ولا راع ، وإنما يقصّر الصلاة يصليها ركعتين : من كان شاخصا مسافرا في حاجة ، أو بحضرة عدوّ (٢).

عثمان وعبد الرحمن ووليمة الزوراء :

قال اليعقوبي : واعتلّ عثمان علة شديدة ، فكتب بيده عهدا لمن بعده وكتب اسم عبد الرحمن بن عوف ، وربطه ، ودعا مولاه حمران بن أبان فبعث معه بالكتاب إلى أم حبيبة ابنة أبي سفيان! لكن حمران في الطريق فتحه وقرأه ثم دفعه إلى أم حبيبة ، ثم مضى إلى ابن عوف فأخبره خبره ، فغضب وقال : استعملته علانية ويستعملني سرّا؟! وبلغ ذلك عثمان فدعا بحمران وأمر فضرب مائة سوط! ثم سيّره إلى البصرة! وبلغ ذلك ابن عوف فعادى عثمان لذلك (٣).

ولكن عثمان لم يقاطع ابن عوف ، فلما بنى قصره الزوراء وأولم لذلك ودعا الناس إليه دعا ابن عوف فيمن دعاه ، فلما رأى ابن عوف الزوراء قال له : يا ابن عفّان! لقد صدّقنا عليك ما كنا نكذّب فيك! وإني أستعيذ الله من بيعتك!

__________________

(١) فروع الكافي ٤ : ٣.

(٢) الغدير ٨ : ١٨٥ ، ١٨٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٩.

٣٥٤

فغضب عثمان وقال لغلامه : يا غلام! أخرجه عنّي! فأخرجوه! ونهى الناس أن يجالسوه ، فلم يجالسه أحد إلّا ابن عبّاس كان يعلّمه القرآن فلم ينقطع عنه.

نقل ذلك المعتزليّ ونقل بعده عن «الأوائل» لأبي هلال العسكري قال : وهكذا استجيبت دعوة علي عليه‌السلام فيه وفي عثمان فما ماتا إلّا متهاجرين متعاديين (١).

وتوقّع ابن عوف من ابن عفّان أن يعهد بالخلافة إليه كان مبنيّا على ما جاء عن علي عليه‌السلام في يوم الشورى قال : صيّرها شورى وسمّى قوما أنا سادسهم ... فكنت إذا خلوت بواحدهم وذكّرته وحذّرته .. التمس مني شرطا : أن أصيّرها له بعدي ... ثم شدّ من القوم مستبدّ فأزالها عنّي إلى ابن عفّان طمعا معه فيها ... ثم لم تطل الأيام بالمستبدّ بالأمر لابن عفان حتى أكفره وتبرّأ منه ، ومشى إلى أصحابه خاصّة وسائر أصحاب رسول الله عامة يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته (٢).

ووجّه ابن عوف ابنه إلى عثمان وقال له : قل له : والله لقد بايعتك وإنّ فيّ ثلاث خصال أفضلك بهن : أنّي حضرت بدرا ولم تحضرها ، وثبتّ يوم احد وانهزمت ، وحضرت بيعة الرضوان ولم تحضرها. فلمّا أدّى ابنه الرسالة إلى عثمان قال له : قل له : أما غيبتي عن بدر فإني أقمت على بنت رسول الله فضرب لي رسول الله بسهمي وأجري ، وأما يوم احد فقد كان ما ذكرت ، إلّا أنّ الله عفا عنّي ،

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١ : ١٩٦ ، ودعاء علي عليه‌السلام في ٩ : ٥٤ ، ٥٥ ، وقبله في الإرشاد ١ : ٢٨٦ ، والجمل : ١٢٣ ، وقبله في الطبري ٤ : ٢٣٣.

(٢) الخصال للصدوق : ٣٧٥ ، ٣٧٦ ، والاختصاص : ١٦٦.

٣٥٥

ولقد فعلنا أفعالا لا ندري أغفرها الله أم لا؟ وأما بيعة الرضوان ، فقد صفّق لي رسول الله بيمينه على شماله (١).

ولعلّ هذا هو الذي بعث عثمان على أن يكون أول من اتّخذ المقصورة في المسجد خوفا من أن يصيبه ما أصاب عمر ، وأول من اتّخذ لذلك شرطة وصاحب شرطة (٢).

عثمان وخطبة العيدين :

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في العيدين يصلّي ثم يخطب ، ورووا عن الحسن البصري قال : كان عثمان يفعل ذلك حتى صلّى بهم مرة ثم خطبهم فرأى ناسا لم يدركوا الصلاة ، فقام بعد ذلك يخطبهم قبل الصلاة ثم يصلّي بهم (٣) وفي آخر قال : رأى كثيرا من الناس يذهبون ، فخطب ثم صلّى (٤).

عثمان وزيادة الأذان :

كان بلال يوم الجمعة إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المنبر يؤذّن ، فإذا أتمّ الخطبتين ونزل أقام له الصلاة ، وكذلك كان على عهد أبي بكر وعمر ، حتى كان عهد عثمان وكثر الناس وبنى داره الزوراء بجوار المسجد والسوق ، أمر المؤذّن أن يبدأ

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٦٩ ، ونحوه في تاريخ المدينة للنميري ٣ : ١٠٣١ ، وشرح النهج للمعتزلي عن أبي هلال العسكري في كتابه الأوائل ١ : ١٩٦.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١٩٣ ، عن العسكري في الأوائل أيضا.

(٣) انظر الغدير ٨ : ١٦٠ ـ ١٦٧ ، المورد ١١.

(٤) تاريخ المدينة للبصري ٣ : ٩٦٤.

٣٥٦

فيؤذّن أولا على داره الزوراء لأهل الأسواق ليجتمعوا ، وذلك في السابعة من عهده أي للثلاثين من الهجرة ، فعرّف هذا النداء بالنداء الثالث (في التشريع) وعاب الناس ذلك وقالوا : هي بدعة ، على سبيل الإنكار ، ومع ذلك أخذ الناس بفعله في جميع البلاد لكونه خليفة مطاعا (١).

عثمان وبنات يزدجرد :

في سنة ثلاثين أو إحدى وثلاثين وصل يزدجرد في هروبه بأصحابه إلى مرو وبها عامله ماهويه ، وأخذ يتشدّد عليه لإحضار أمواله ، وكان خاقان ملك الترك قد صاهر ماهويه ، فكتب ماهويه إليه وأعلمه بالأمر ورغّبه في الزحف إليه لفتح بلاده ، فجاء بجنوده وفتح ماهويه له أبواب المدينة ، فقتل أصحاب يزدجرد وقتل بنوه ، وهرب هو على رجليه ليلا حتى لجأ إلى بيت رحى على الماء فاستضاف الطحان ، فلما عرفه الطحان قتله وسلبه وألقاه في الماء (٢).

وروى الصدوق عن الرضا عليه‌السلام قال : لما فتح عبد الله بن عامر خراسان أيام عثمان ، أصاب ابنتين ليزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس ، فبعث بهما إلى عثمان فوهبهما للحسنين عليهما‌السلام ، فماتتا عندهما نفساوين وكانت صاحبة الحسين عليه‌السلام نفست بعلي بن الحسين عليهما‌السلام (٣).

__________________

(١) انظر أخباره ومصادره في الغدير ٨ : ١٢٥ ـ ١٢٨ ، المورد ٤.

(٢) الأخبار الطوال للدينوري : ١٤١ ، وفتوح البلدان للبلاذري : ٣٢٢.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٢٨ ، الباب ٣٥ ، الحديث ٦ ، وانظر حياة الإمام زين العابدين عليه‌السلام للموسوي المقرّم : ٩ ـ ١٩. ولا حظ الإسلام وإيران للاستاذ الشهيد المطهري : ١٠٠ ـ ١١٠.

٣٥٧

خطبة أبي ذر في مكة :

مرّ أنّ عثمان حجّ في عهده ما عدا السنتين الأولى والأخيرة ، ويبدو أن سليم بن قيس الهلالي وحنش بن المعتمر الكناني حجّا من الكوفة عام (٣٠ ه‍) تقريبا إذ قام أبو ذر وأخذ بحلقة باب الكعبة ورفع صوته يقول :

أيها الناس ؛ من عرفني فقد عرفني ، ومن جهلني فأنا جندب بن جنادة أنا أبو ذر.

أيها الناس ؛ إني سمعت نبيّكم يقول : مثل أهل بيتي في أمّتي كمثل سفينة نوح في قومه ، من ركبها نجا ، ومن تركها غرق. ومثل باب حطّة في بني إسرائيل.

أيها الناس ، إني سمعت نبيّكم يقول : إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسّكتم بهما : كتاب الله وأهل بيتي ... وكان عثمان في الموسم ولم يؤاخذه بشيء.

وكأنّ سليم قدم المدينة بعد الحجّ فروى أن أبا ذر لما رجع إلى المدينة بعث عليه عثمان فقال له : ما حملك على ما قمت به في الموسم؟ فقال : عهد عهده إليّ رسول الله وأمرني به! فقال : من يشهد بذلك؟ وكان عليّ عليه‌السلام والمقداد حاضرين فقاما وشهدا له بذلك ، ثم انصرف أبو ذر وانصرف معه علي عليه‌السلام والمقداد يمشون ثلاثتهم. فقال عثمان : إن هذا وصاحبيه يحسبون أنهم على شيء (١)!

وخطبته في المدينة :

وعملا بأمر رسول الله وعهده إلى أبي ذر ، وقف كذلك بباب مسجد رسول الله فقال :

__________________

(١) الاحتجاج ١ : ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، وجاءت الإشارة إليها في مفتتح كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٦٠.

٣٥٨

«أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري ، أنا جندب بن جنادة الرّبذي (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(١) محمد الصفوة من نوح ، فالأصل من إبراهيم والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية من محمد (٢) أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، وهم كالسماء المرفوعة والجبال المنصوبة والكعبة المستورة ، والعين الصافية والنجوم الهادية والشجرة المباركة ، أضاء نورها وبورك زيتها. محمد خاتم الأنبياء وسيّد ولد آدم وعلي وصي الأوصياء ، وإمام المتقين وقائد الغر المحجّلين ، وهو الصديق الأكبر والفارق الأعظم ، وصيّ محمد ووارث علمه ، وأولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ... فقدّموا من قدّم الله وأخّروا من أخّر الله ، واجعلوا الولاية والوزارة لمن جعل له الله (٣).

فما بالكم أيتها الامة المتحيّرة بعد نبيّها ، لو قدّمتم من قدّم الله ، وخلّفتم الولاية لمن خلّفها النبيّ له لما عال وليّ ولما اختلف اثنان في حكم ، ولا سقط سهم من فرائض الله ، ولا تنازعت هذه الامة في شيء من أمر دينها إلّا وجدتم علم ذلك عند أهل بيت نبيّكم ، فإنّ الله يقول : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) فذوقوا وبال ما فرّطتم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)» (٤).

وروى الحلبي في القسم الثاني من «تقريب المعارف» عن الثقفي في تاريخه عن المعرور بن سويد : أن أبا ذر قطع على عثمان خطبته فحدّث الناس

__________________

(١) آل عمران : الآيتان ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧١ وفيه ما بعده باختلاف في الألفاظ.

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٥٩٢.

(٤) تفسير فرات الكوفي : ٨٢.

٣٥٩

بحديث السفينة ، فقال له عثمان : كذبت! وكان علي عليه‌السلام حاضرا فقال لعثمان : إنما كان لك أن تقول كما قال العبد الصالح (إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)(١) ، فما أتمّ الآية حتى قال له عثمان : بفيك التراب! فقال له علي عليه‌السلام : بل بفيك التراب (٢).

أبو ذر وعثمان :

قال اليعقوبي : وبلغ عثمان أنّ أبا ذر يقعد في مسجد رسول الله فيجتمع الناس إليه فيحدّثهم بما فيه طعن عليه ... ويقع فيه ، ويذكر ما غيّر وبدّل من سنن رسول الله وأبي بكر وعمر (٣).

وقال المرتضى : روى جميع أهل السيرة على اختلاف أسنادهم وطرقهم : أن مروان رفع ذلك إلى عثمان ، فأرسل عثمان إليه مولاه ناتلا : أن انته عمّا بلغني عنك!

فقال أبو ذر : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله! فو الله لئن أرضى الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه!

فغضب عثمان لذلك ولكنه صبر وكفّ عنه (٤).

__________________

(١) غافر : الآية ٢٨.

(٢) كما في بحار الأنوار ٣١ : ٢٩٢ بتحقيق اليوسفي الغروي ، ولم ينشر القسم الثاني من تقريب المعارف في النسخة الوحيدة المنشورة ، ولا يوجد كتاب تاريخ الثقفي الكوفي الاصفهاني (م ٢٨٣ ه‍).

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧١.

(٤) الشافي ٤ : ٢٩٣ ، وتلخيصه ٤ : ١١٥.

٣٦٠