موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

مع جبلة خصيّ لهرقل اسمه الصّقلار ، وهم في مائة ألف. وقال : وممن استشهد يومئذ : أبان وعمرو ابنا سعيد بن العاص وعكرمة بن أبي جهل المخزومي (١).

نفاق أبي سفيان وأصحابه :

وروى ابن إسحاق : أن الزبير بن العوام كان قد شهد اليرموك ومعه ابنه عبد الله غلام صغير ، ومعهم مشيخة من قريش من مهاجرة الفتح معهم أبو سفيان بن حرب ، لا يحارب ولا يحاربون بل وقوف على التلّ ينظرون. فروى عن عبد الله بن الزبير : أنه وقف مع هؤلاء وهم لا يتّقونه لصغره ، قال فجعلوا إذا مال المسلمون وغلبهم الروم يقولون : إيه بني الأصفر (الروم) وإذا مال الروم وركبهم المسلمون قالوا : يا ويح بني الأصفر! فلما هزم الروم ورجع أبي حدّثته بخبرهم فأخذ يضحك ويقول : قاتلهم الله! أبو إلّا ضغنا! وما ذا لهم إن يظهر علينا الروم؟! لنحن خير لهم منهم. وقتل من الروم والمستعربة سبعون ألفا (٢).

واشتدّ تطلّع عمر للخبر حتى أرق عدة ليال ، وكان مع أبي عبيدة : حذيفة بن اليمان ، فبعثه في وفد إلى عمر ، فلما ورد عليه الخبر قال : الحمد لله الذي فتح على أبي عبيدة ، فو الله لو لم يفتح لقال قائل : لو كان لم يعزل عمر خالد بن الوليد ... وسجد شكرا.

وعاد أبو عبيدة إلى حمص ووجّه بخالد في آثار الروم ، فصار إلى قنّسرين وتركها إلى حلب فتحصّنوا ، ولحقه أبو عبيدة فنزل عليها ، حتى طلبوا الصلح فصالحهم.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٧٠ ـ ٧١ ، ونقل قول ابن إسحاق هذا الطبري ٣ : ٥٧٠ ـ ٥٧١ بتفصيل أكثر ، ومعلوم أن عدد الروم عند ابن إسحاق أقرب إلى الحق من مبالغة الكلبي.

(٢) الطبري ٣ : ٥٧١ ـ ٥٧٢.

٢٤١

وكان معه مالك بن الأشتر النخعي فوجّهه على جمع في آثار الروم فالتقى بهم وقاتلهم فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم انصرف عنهم.

وجمعت غنائم اليرموك بالجابية ناحية دمشق ، وكتب إليهم عمر أن لا توزّعوها حتى تفتحوا بيت المقدس ، فرجع أبو عبيدة حتى حاصرها طويلا (١).

يوم القادسية (٢) :

قال اليعقوبي : ولما رأى الفرس ما هم فيه من الضعف والمهانة وظهور المسلمين عليهم ، طلبوا ابنا لكسرى حتى وجدوا يزدجرد وهو ابن عشرين سنة ، فملّكوه عليهم ، وحسن تدبيره فضبط أمورهم واشتدت المملكة وقوي أمر الفرس ، فارتد (بل نقض) أهل السواد وخرقوا العهود التي عليهم وأخرجوا العرب المسلمين من مروجهم فصاروا في الأطراف (٣).

وقال المسعودي : شقّ ذلك على المسلمين وعلى عمر ، فخطب الناس وحثّهم على الجهاد وأمرهم بالتأهّب لأرض العراق ، وخرج هو إلى موضع الصّرار ، ودعا الناس يستشيرهم ، فدعا العباس بن عبد المطّلب في جلّة من مشيخة قريش وشاورهم ، فقالوا : أقم وابعث غيرك ليكون للمسلمين فئة إن انهزموا.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤١ ـ ١٤٢.

(٢) روى الطبري ٣ : ٤٩١ عن سيف وصف القادسية في كتاب عمر إلى سعد : والقادسية أجمع أبواب فارس في الجاهلية ، وهو منزل خصيب رغيب حصين دونه أنهار ممتنعة وقناطر. وهو بين الخندق ونهر العتيق.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٣.

٢٤٢

وقال عبد الرحمن بن عوف : أقم وابعث فإنه إن انهزم جيشك فليس ذلك كهزيمتك ، ولكنك إن تهزم أو تقتل يكفر المسلمون ولا يشهدوا أن لا إله إلّا الله أبدا (١)! فقال : فمن أبعث؟ فقال : سعد بن أبي وقاص. قال : أعلم أن سعدا رجل شجاع ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب. قال : هو على ما تصف من الشجاعة وقد صحب رسول الله وشهد بدرا فاعهد إليه عهدا فإنه لن يخالف أمرك.

وقال عثمان : أقم وابعث بالجيوش ، فإنه لا آمن إن أتى عليك آت أن ترجع العرب عن الإسلام (؟!) ولكن ابعث الجيوش ودارك بعضها ببعض ، وابعث عليهم رجلا له تجربة بالحرب وبصر بها. قال عمر : ومن هو؟ قال : علي بن أبي طالب. قال : فالقه وكلّمه وذاكره في ذلك فهل تراه يسرع لذلك أو لا؟ فلقى عثمان عليا عليه‌السلام فذاكره في ذلك فأبى ذلك ، فعاد عثمان إلى عمر فأخبره. فقال عمر : ومن ترى؟ قال : سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. قال : ليس بصاحب ذلك. فقال عثمان : فطلحة بن عبيد الله ، فقال عمر : أين أنت عن رجل شجاع ضروب بالسيف رام بالنبل ، ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب؟ قال : ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال : سعد بن أبي وقّاص. فقال عثمان : هو صاحب ذاك ،

__________________

(١) أفهل من الحق أن يصدّق ابن عوف أنّ الناس كلهم كانوا يعبدون الله هكذا على حرف؟! هذا وقد قال المسعودي قبل هذا : إن عمر قال لعليّ : يا أبا الحسن ما ترى أسير أم أبعث؟ فقال علي عليه‌السلام : سر بنفسك ؛ فإنه أهيب للعدوّ وأرهب له! مروج الذهب ٢ : ٣٠٩. أي على خلاف ما هو المعروف من مشورته عليه‌السلام لعمر كما في نهج البلاغة ، وتلك لم تكن ليوم القادسية بل لفتح الفتوح في نهاوند بعد بناء العراقين المذكورين في الخبر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

٢٤٣

وما منعني من ذكره إلّا أنه غائب في عمل. فقال عمر : أرى أن أكتب إليه أن يسير من وجهه ذلك. فقال عثمان : ومره فليشاور قوما من أهل التجربة والبصر بالحرب ، ولا يقطع الأمور حتى يشاورهم. فكتب عمر إلى سعد بذلك (١).

وكان أبو بكر قد استعمل سعدا لجباية الزكاة من هوازن نجد وبعده أقرّه عمر ، فلما ورد كتابه إليه سار إلى العراق حتى نزل زبالة ثم سيراف (حيث نزلها بنو شيبان وبنو بكر بن وائل مع المثنى ومات فيها) (٢) وهنا تزوج سعد بأرملة المثنى سلمى بنت خصفة ولحق به هنا المنتدبون من الشام (بعد اليرموك) ثم سار فنزل العذيب مما يلي القادسية على طرف البرّ وأرض السواد (٣).

وفي اليعقوبي : وجّهه بثمانية آلاف (٤) .. وأقام سعد بالقادسية ، ثم ظفر المسلمون ببنت آزادمرد وهي تزفّ إلى بعض الملوك ، فأخذوا ما كان معها من الأموال والأثقال وفرّقوها (٥).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

(٢) الطبري ٣ : ٤٩٠ و٥٤٢ و٥٧٠.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٣١٢.

(٤) وفي تاريخ خليفة : ٧١ : كانوا بين السبعة إلى ثمانية آلاف ، ورستم في ٤٠ إلى ٦٠ ألفا ومعهم ٧٠ فيلا. وفي مروج الذهب ٢ : ٣١٢ : المشركون (كذا) في ٦٠ ألفا والمسلمون في ٣٨ ألفا! والتفاصيل في الطبري ٣ : ٤٨٦ و٤٨٩ وجعل عليهم العرفاء من يومئذ. الطبري ٣ : ٤٨٨.

(٥) كان ذلك بعد السيلحين إلى الصّنين إلى الحيرة ، وهي بنت آزاد به مرزبان الحيرة تزفّ إلى صاحب الصّنّين من أشراف الفرس ، وفي ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع ومعهم ما لا يدرى قيمته. الطبري ٣ : ٤٩٤ ، وفي تاريخ خليفة : ٧١ : فأصابوا جواهر وحليا كثيرا.

٢٤٤

ثم وجّه سعد إلى كسرى بالنعمان بن مقرّن ومعه جماعة يدعونه إلى الإسلام ، فلبسوا أحسن زيّهم من البرود وتنعّلوا وساروا حتى دخلوا عليه فأخبروه بما وجّههم له سعد ودعوه إلى الإسلام وإلى شهادة الحق أو أداء الجزية ، فأغضبه ذلك ، ودعا بكيس من تراب وأمرهم أن يحملوه على رأس رئيسهم وقال : لو لا أن الرسل لا تقتل لقتلتهم! فقال عاصم بن عمرو التميمي : أنا سيّد القوم ، فحمّلوه التراب ، فقال : والله لقد ظفرنا بهم ووطئنا أرضهم!

ودعا كسرى برستم (١) وأمره أن يتوجه إليهم ، فأبدى كراهيته لذلك ، فحمل عليه بالقول ، فخرج من عنده مكرها على ذلك.

فلما صار إلى صحراء النجف وجّه إلى سعد : أن ابعث إليّ بقوم من عندكم لأناظرهم.

فأرسل سعد إليه دهاة العرب عنده ، وهم تسعة : بشر بن أبي رهم ، وحذيفة بن محصن ، وربعي بن عامر ، وشعبة بن مرّة ، وعرفجة بن هرثمة الأزدي حليف بني بجلة وزعيمهم السابق ، وقرفة بن زاهر ، ومذعور بن عدي ، ومضارب بن يزيد ، والمغيرة بن شعبة الثقفي (٢) فأدخلوا عليه واحدا بعد واحد ، كل واحد منهم يقول مثل مقالة صاحبه من الدعوة إلى الإسلام أو أداء الجزية.

__________________

(١) رستم بن فرّخ زاد الأرمني ، وعسكر في ساباط المدائن. الطبري ٣ : ٤٩٥ ، ثم ارتحل رستم فنزل النجف ، وكان بين خروجه من المدائن وعسكرته في ساباط وزحفه منها إلى أن لقي سعدا : أربعة أشهر يطاولهم ليضجروا فينصرفوا بغير قتال. الطبري ٣ : ٥٠٩.

(٢) في تاريخ خليفة : ٧١ ـ ٧٢ : أقاموا شهرا وكتب سعد إلى عمر يستمده ، فأمدّهم أهل البصرة بألف وخمس مائة ، قيس بن المكشوح في سبع مائة والمغيرة بن شعبة الثقفي في أربع مائة. وانظر الرسل الدعاة : ١٤ شخصا في الطبري ٣ : ٤٩٦ والتسعة في ٣ : ٥١٨.

٢٤٥

وكان منجّما أيقن بالهلكة فكتب إلى أخيه : بسم الله وليّ الرحمة ، من الإصبهبد (العقيد) رستم إلى أخيه «أما بعد : فإني رأيت المشتري في هبوط والزهرة في علوّ فهو آخر العهد منك ، والسلام (كذا) عليك الدهر الدائم».

وخطب سعد بن أبي وقاص المسلمين فرغّبهم في الجهاد وأعلمهم ما وعد الله نبيّه من النصر وإظهار الدين. وكان سعد يومئذ عليلا (١) فصار إلى قصر العذيب فنزله وتحصّن فيه ، فبلغ ذلك إلى رستم فوجّه خيلا فأحدقوا بالقصر ، فصار المسلمون إليهم فانهزموا.

ونشبت الحرب بينهم بعد صلاة الظهر ، وحسن بلاء المسلمين وغناؤهم واقتتلوا قتالا شديدا (٢).

وفي المسعودي : برز أهل النجدات ، فخرج إليهم أقرانهم من صناديد فارس. خرج غاب بن عبد الله الأسدي ، فخرج إليه هرمز وكان ملكا متوّجا ، فاعتوروا الطعن والضرب حتى أسره غالب وذهب به إلى سعد وكرّ راجعا للقتال. وخرج عاصم بن عمرو فبرز إليه عظيم من أساورتهم فجالا حتى ولّى الفارسي ، وغاص عاصم بينهم ثم خرج يسوق بغلا عليه صناديق فيها أطعمة حسنة فذهب بها إلى سعد.

__________________

(١) خرجت بفخذيه دماميل من عرق النسا فاستخلف عليهم خالد بن عرفطة حليف بني أميّة. وأشرف مكبّا على وسادة ينظر إليهم. الطبري ٣ : ٥٣١ ، وإنما تأخر القتال إلى الزوال لإمهالهم الفرس حتى ينتهوا من طمّ نهر العتيق كي لا يعوقهم. الطبري ٣ : ٥٢٩ و٥٧٤ ، ولما صلّى سعد الظهر أمر غلاما ألزمه إياه عمر وكان قارئا أن يقرأ على المسلمين الجهاد (الأنفال) فقرئت في كل كتيبة ولما فرغ القرّاء كبّر سعد فكبّر من سمعه ثم من سمعوهم ، ثم ثنّى ثم ثلث ثم تبارزوا والفرس ينادون : مرد ومرد : رجل ورجل. الطبري ٣ : ٥٣٦ ـ ٥٣٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٣ ـ ١٤٤.

٢٤٦

وكان أمام جيوشهم الفيلة عليها الرجال ، على كل فيل عشرون رجلا ، وعلى الفيلة تجافيف الحديد وقرونها مجلّلة بالديباج والحرير ، وحول الفيلة الرجال والخيول. فحمل منها سبعة عشر فيلا على بني بجلة ، فلما نظر سعد إلى المراكب والفيول مالت إلى بجيلة بعث إلى بني أسد أمرهم بمعونه بجلة.

وكان عمر قد أذن للمرتدين بالغزو ، فكان طليحة بن خويلد الأسدي المرتد السابق مع قومه بني أسد ، فخرج مع فرسان منهم فقتلوا منهم خمس مائة رجل ، واشتد الجلاد في هذا اليوم الأول ـ يوم أغواث ـ على بني أسد من بين الناس حتى أوقفوا الفيلة ورجالها.

فلما أصبحوا في اليوم الثاني رأوا المشرق كأنّما يغطى أشعة الشمس أسنّة الخيل وإذا بخمسة آلاف فارس من ربيعة ومضر وألف معهم من اليمن معهم القعقاع ابن عمرو ، وعليهم جميعا ابن أخي سعد : هاشم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص الزهري مددا لهم من الشام ، وذلك بعد فتح دمشق بشهر (أي في النصف من شعبان ١٥ ه‍) (١) فأيقن أهل القادسية بالنصر على فارس وزال عنهم ما لحقهم بالأمس من القتل والجرح.

وكان القعقاع متقدما في أوائل المدد ، وحين وروده برز أمام الصف ونادى : هل من مبارز؟ فبرز إليه عظيم منهم ، فقال له القعقاع : من أنت؟ قال : أنا بهمن بن جاذويه وهو المعروف بذي الحاجب كان قائد الفرس يوم الجسر وكان اليوم مع رستم ، فنادى القعقاع : يا لثارات أصحابنا يوم الجسر ، ثم جالا ، فقتله القعقاع. ثم كانت له ثلاثون حملة ، وفي كل حملة قتل عظيما من عظمائهم آخرهم بزرجمهر.

__________________

(١) كذلك في اليعقوبي ٢ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

٢٤٧

وبارز في ذلك اليوم الأعور بن قطبة ، فبرز إليه شهريار من سجستان فقتل كل صاحبه ، واشتدّ القتال إلى الليل (١).

مخامرة أبي محجن ومغامرته :

في حوادث السنة ١٤ ذكر الطبري : أن عمر جلد أشخاصا في شرب الخمر منهم ابنه عبيد الله وأصحابه وأبو محجن الثقفي (٢) وروى عن ابن اسحاق أن سعدا حبسه معه في القصر في شرب الخمر (٣) فسمع أبو محجن انتماء الناس بآبائهم وعشائرهم ووقع الحديد وشدّة البأس فتأسف على ما يفوته من تلك المواقف. فمشى حبوا على ركبتيه في قيوده حتى صعد إلى سعد يستقيله ويستشفعه ويسأله أن يخلّى عنه ليخرج للغزو ، فزجره سعد وردّه فرجع.

وكان سعد قد تزوج زوجة المثنّى الشيباني سلمى بنت خصفة فلما كان اللقاء ذكرت المثنّى فغضب عليها وكان بينهما كلام كثير ، وأقامت مغاضبة له ليالي القادسية وأيامها ، ورآها أبو محجن فقال لها : يا بنت خصفة ، هل لك في خير؟ قالت : وما ذاك؟ قال : تخلّين عنّي وتعيريني فرس سعد البلقاء ، ولله عليّ إن سلّمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في القيد! فقالت : وما أنا وذاك؟ فرجع يرسف في قيوده.

فلما أصبحوا جاءت إليه سلمى وقالت له : رضيت بعهدك فشأنك وما أردت ، وأطلقته ، فقام إلى فرس سعد البلقاء وأخرجها من جانب الخندق

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣١٢ ـ ٣١٤.

(٢) الطبري ٣ : ٥٩٧.

(٣) الطبري ٣ : ٥٧٣.

٢٤٨

حول القصر ، ثم ركبها ودبّ عليها حتى كان بحيال ميمنة المسلمين ، كبّر وحمل على ميسرة الفرس بسلاحه بين الصفّين ، فقتل رجالا كثيرا من فتّاكهم ونكّس آخرين ، ثم غاص في المسلمين حتى خرج من ميسرتهم وحمل على ميمنة الفرس بسلاحه لا يبدر له فارس إلّا هتكه حتى هابوه فتوقّفوا عنه. ثم رجع فغاص في ميسرة المسلمين فبرز أمامهم ووقف بإزاء قلب المشركين ، فلم يبرز منهم فارس إلّا اختطفه حتى لم يبرز إليه منهم فارس.

ومن حضر من فرسان المسلمين مثل عمرو بن معدي كرب ، وطلحة بن خويلد الأسدي ، والقعقاع بن عمرو ، وهاشم بن عتبة المرقال وسائر فتّاك العرب وأبطالهم ينظرون إليه وقد حاروا في أمره ، وسعد وهو مشرف على الناس من قصره وجعل يقول : والله لو لا محبس أبي محجن لقلت : هذا أبو محجن وهذه البلقاء.

وتراجع أبو محجن حتى دخل القصر من حيث خرج ورد البلقاء إلى مربطها وعاد إلى محبسه ووضع قيده في رجله. فلما أصبحوا ذهبت سلمى إلى سعد فصالحته وترضّته ثم أخبرته خبر أبي محجن ، فدعا به وقال : اذهب فما أنا مؤاخذك (١) لا والله لا أحدّ اليوم رجلا أبلى الله المسلمين على يديه ما أبلاهم! وخلّى سبيله. فقال أبو محجن : لقد كنت أشربها إذا كان يقام عليّ الحدّ أطهّر منها! فأما إذا بهرجتني فو الله لا أشربها أبدا (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣١٤ ـ ٣١٧ ، وهو خبر الطبري ٣ : ٥٤٧ ـ ٥٥٠ ، عن سيف بتحريفاته في أول الخبر وآخره ، وعدّلناهما بخبري الطبري عن ابن اسحاق ، وخبري الإصابة والاستيعاب عن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، وانظر وقارن : عبد الله بن سبأ ١ : ٢٣٥ ـ ٢٤٢.

(٢) الطبري ٣ : ٥٥٠.

٢٤٩

وفي ثالث أيام القادسية أصبح الفريقان على مصافهم ، وأصبحت (الأرض) بين الفريقين حمراء من كثرة الدماء ، قتل من الفرس ما لا يحصى ومن المسلمين ألفان وخمس مائة ما بين قتيل وجريح. وأحرز المسلمون قتلاهم وحملوهم إلى وراء ظهورهم عند حصن العذيب ، فالجريح يعالجه النساء والشهداء يدفنهم النساء والصبيان (١).

والليلة الرابعة سميت ليلة القادسية وليلة الهرير ، والناس فيها حيارى لم يغمضوا ليلتهم كلها. وحرّض رؤساء القبائل عشائرهم ، وبدأ القتال واشتد حتى الزوال ، فلما قام قائم الظهيرة تأخّر الهرمزان والنيرمران (؟) فانفرج القلب ، وهبّت ريح عاصف فأطارت سقيفة رستم عن سريره في نهر العتيق ، ومال الغبار عليهم ، وانتهى القعقاع وأصحابه إلى سرير رستم وقام رستم عنه فاستظلّ بظل بغال عليها أموال ، فضرب هلال بن علقمة حمل البغل فوقع العدل على رستم ، فمضى رستم حتى رمى نفسه في نهر العتيق وتعقّبه هلال حتى تناول رجله وخرج به وضربه بسيفه حتى قتله ، ورجع حتى صعد سريره ونادى : قتلت رستم وربّ الكعبة ، فجبن المشركون (كذا) وانهزموا وأخذهم السيف فمن قتيل وغريق.

وكان ثلاثون ألفا منهم قد تحالفوا بالنور في بيوت النيران أنهم يقترنون بالسلاسل فلا يبرحون حتى يقتحموا أو يقتلوا ، وقرنوا أنفسهم بالسلاسل ،

__________________

(١) وفي الطبري أكثر تفصيلا ٣ : ٥٤٢ و٥٥٠ ، وقتلى المشركين (كذا) بين الصفّين اضيعوا لا يعرضون لهم : ٥٥١ ، وقتلى المسلمين أيضا : ٣ : ٥٦٥. وفي ٥٨١ : عن أم كثير النخعية وقد شهدت القادسية قالت : لما أتانا الخبر أن قد فرغوا ، شددنا علينا ثيابنا وأخذنا الهراوي وأتينا القتلى فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه ، ومن كان من المشركين (كذا) أجهزنا عليه ، ومعنا الصبيان.

٢٥٠

وجثوا على الركب ، فقتلوا جميعا! وقتل منهم سوى هؤلاء حول راية درفش كاويان عشرة آلاف (١)!

وجمعت الأموال والأسلاب ، وبيع سلب رستم ، فبلغ سهم الفارس ١٤ ألفا والراجل ٧ آلاف ومائة ، ورضخ للنساء من عوائل الشهداء وغيرهم من الفيء (٢).

وكان بالقادسية من أصحاب رسول الله من أهل بدر سبعون رجلا ، ومن أهل بيعة الرضوان ومن شهد فتح مكة مائة وعشرون ، ومن سائر أصحاب رسول الله مائة.

ونفر الفرس منهزمين إلى المدائن ، فأتبعهم سعد بالمسلمين حتى حاصرهم شهرا واسبوعين حتى خرج الفرس هاربين (٣).

وكان فتح القادسية في منتصف شهر شعبان عام (١٥ ه‍) يوافق سبتامبر (٦٣٦ م) (٤).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٣١٧ ـ ٣١٩. وفي الطبري ٣ : ٥١٠ : أن المقترنين كانوا ١٥ ألفا من الشرفاء. وهو أولى وأقرب.

(٢) وفي الطبري ٣ : ٥١٢ : وأناس من الحمراء (الفرس) استجابوا للمسلمين ، أسلم بعضهم قبل القتال وأعانوهم وأسلم بعض بعد بدء القتال ، ففرضت لهم فرائض ، ألفين ألفين.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٥ ، وكان سلمان الفارسي رائدهم وداعيتهم وقاضيهم ومقسّم الغنائم عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي أخو سلمان الباهلي والترجمان : هلال الهجري والكاتب زياد بن أبيه. الطبري ٣ : ٤٨٩ ، وأعداد الصحابة في ٣ : ٤٩٠ ، وترجمان رستم عربي من الحيرة يدعى عبّود. الطبري ٣ : ٥٢٤.

(٤) انظر أطلس تاريخ الإسلام : ١٤٢. وكان الفصل شتاء. الطبري ٣ : ٤٨٦. وفيه : ٥٨١ : كان مع بني بجلة ألف امرأة ومع النخع سبعمائة أبكار ، فصاهرهن المهاجرون الغزاة قبل القتال وبعده حتى استوعبوهن ولذا سموا أختان المهاجرين. ومع ذلك قال بعضهم :

٢٥١

ولم يعذر الغزاة سعدا حتى خرج إليهم وأراهم ما به من القرح في فخذيه وأليته فعذروه (١).

فتح بهرسير به اردشير :

وأمر سعد خالد بن عرفطة أن يعقّبهم حتى وضعوا العسكر والأثقال دون دجلة مقابل بهرسير (به اردشير اولى مدائن تيسفون السبع) وطلبوا مخاضة قليلة العمق ليعبروا فلم يهتدوا ، حتى حسن حال سعد فتبعهم (٢).

فأتاه أهل الحيرة فقالوا : نحن على عهدنا. ولما بلغ نهر بسطام صالحه صاحبه ، ثم عبر الفرات فلقي جمعا عليهم بصبهرى فقاتلوهم فهزموهم ، ثم بلغ كوثا وبها جمع عليهم الفيروزان فقاتلوهم فهزموهم ، ثم بلغ دير كعب وبها جمع عليهم الفرّخان فقاتلوهم فهزموهم ، ثم نزلوا بإزاء المدائن (٣) فأتاه رجل منهم وقال له : هل أدلكم على طريق؟ فدلّهم على مخاضة (قليلة العمق) في قطربل (پل : الجسر) فخاضوها وعبروا إليهم (٤).

فروى ابن الخياط عن أبي وائل قال : أقحمنا في الماء حتى عبرنا إليهم من فوق المدائن ومن أسفل ، وحاصرناهم في الجانب الشرقي منها حتى أكلوا

__________________

لم نجد كثير مسلمات فتزوجنا من أهل الكتاب ومنهم حذيفة بن اليمان تزوج امرأة من أهل المدائن فكتب إليه عمر : هن حلال ولكن في نساء العجم خلابة فإن أقبلتم عليهن غلبنكم على نسائكم فطلقها ومنهم من أمسك كما فيه ٣ : ٥٨٨.

(١) الطبري ٣ : ٥٧٧ عن ابن اسحاق.

(٢) الطبري ٣ : ٥٧٨ عن ابن اسحاق.

(٣) تاريخ خليفة : ٧٢.

(٤) الطبري ٣ : ٥٧٨ عن ابن اسحاق.

٢٥٢

الكلاب والسنانير ، ثم خرجوا بأثقالهم وعيالهم تحميهم حاميتهم (١) واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والحرير والسلاح ، وثياب كسرى وبناته ، وخلّوا ما سوى ذلك (٢) وساروا إلى جلولاء.

فدخل المسلمون المدائن ، وقتلوا من وجد بها ، ونزل سعد بقصر كسرى الأبيض يصلي في ايوانه الكبير ، وكان بساط كسرى على صورة روضة صوّرت فيها الزهور بالجواهر على قضبان الذهب ، فاستوهب سعد حصص الغزاة وبعث به إلى عمر ، فقطّعه عمر وقسّمه بين المسلمين في المدينة ، منها قطعة لعليّ عليه‌السلام باعها بعشرين ألف درهم (٣).

وكان فتح بهرسير المدائن في شهر صفر من السنة ١٦ الموافق لشهر مارس (٦٣٧ م) (٤).

فتح سائر الشام وخروج الروم :

وبعد فراغ أبي عبيدة في الشام من اليرموك بعث عمرو بن العاص إلى قنّسرين ، فصالح أهل حلب وكتب لهم كتابا ، وصالح انطاكية ومنبج (٥).

وأورد ابن الوردي : أن أبا عبيدة بعد أن فتح أنطرطوس وجبلة واللاذقية عنوة ، دخل مملكة حلب ومن أعمالها قنّسرين وبها جمع عظيم من الروم ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٧٣ ، وفي اليعقوبي ٢ : ٢٤٥ : حاصرهم شهرا واسبوعين ، وفي الطبري ٣ : ٦٢٣ : شهرين.

(٢) الطبري ٣ : ٥٧٨ عن ابن اسحاق.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٣٨.

(٤) انظر أطلس تاريخ الإسلام : ١٤٢ ، الترجمة الفارسية.

(٥) تاريخ خليفة : ٧٣.

٢٥٣

فتقاتلوا فانتصر المسلمون ، ثم صالحوه على صلح حمص ، على أن يخرجوا المدينة! فخرّبت. ثم فتح كرسيّ المملكة حلب ومنبج ودلوك وسرمين ويبرين وعزاز ، وفتح خالد مرعش وأجلاهم وخرّبها ، وفتح حصن الحدث ، وفتح أبو عبيدة أنطاكية.

فحينئذ أيس هرقل (هراگليوس) من الشام وسار إلى قسطنطينية باتجاه الرّها ، وفي مسيره وعلى مرتفع من الأرض التفت إلى الشام وقال : عليك السلام يا سوريا ، سلام لا اجتماع بعده (١).

وعند ابن العبري : رحل هرقل من انطاكية إلى قسطنطينية وهو يقول باليونانية : سورية سوزه (وتأويلها : سوريه تسلمى) وهي كلمة وداع لبلاد الشام وأرضها (٢).

فتح القدس صلحا :

ثم بعث أبو عبيدة على مقدمته خالد بن الوليد إلى مدينة ايليا (القدس) ثم شخص بنفسه ، فحاصروها حتى سألوهم الصلح ، على أن يكون عمر هو يكتب لهم ذلك. فكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر ، فقدم عمر فصالحهم (٣) وكتب لهم كتابا : «بسم الله الرحمنِ الرحيم ، هذا كتاب كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس ، إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم ، لا تسكن ولا تخرّب ، إلّا أن تحدثوا حدثا عامّا» وأشهد شهودا ، وذلك في شهر رجب سنة (١٦) (٤).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٣٧ ، وأصله في الطبري ٣ : ٦٠٣ عن سيف.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٠٢.

(٣) تاريخ خليفة : ٧٣.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٧.

٢٥٤

وهنا روى البيهقيّ عن مكحول قال : إن عبادة بن الصامت الأنصاري كان معهم وأراد أن يدخل إلى بيت المقدس ، فدعا نبطيا ليمسك له دابّته فأبى فضربه فشجّه ، فاستعدى عليه عمر فدعا عمر عبادة وقال له : ما دعاك إلى ما صنعت بهذا؟ فقال : أمرته أن يمسك دابّتي فأبى ، وأنا رجل فيّ حدّة فضربته! فقال له : اجلس للقصاص! وكان زيد بن ثابت عنده فقال له : أتقيد عبدك (!) من أخيك؟! فقضى عمر عليه بالدية وترك عنه القود (١).

وكان عمر قد أمر أن لا تقسم غنائم اليرموك حتى يفتحوا القدس ، فحينئذ أمر أن تقسم بين الناس الغزاة بالسويّة ، ما خلا لخم وجذام ، وقال : لا أجعل من خرج من الشّقة إلى عدوّه كمن خرج من بيته.

وكان بلال بن رباح مع أبي عبيدة بن الجرّاح فقام إلى عمر وقال له : يا أمير المؤمنين : إنّ أمراء أجناد الشام ما يأكلون إلّا لحوم الطير والخبز النقيّ! وما يجد ذلك عامة الناس.

فأخذ عمر على أمراء أجناد الشام أن يضمنوا له لكل رجل من المسلمين معهم لكل يوم خبزين وما يصلحه من الخلّ والزيت (٢).

الغساسنة وعمر :

ولما انهزم الروم من اليرموك : وكان جبلة بن الأيهم الغسّاني في جيش قومه في مقدمة الروم ، فلما انهزموا صار مع جماعة قومه إلى مواضعهم. فأرسل إليه

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٨ : ٣٢ ، وعنه في هامش الإيضاح لابن شاذان : ٣٦٥ ، وانظر نظائره هناك قبله وبعده.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٤٧.

٢٥٥

يزيد بن أبي سفيان : أن اقطع على أرضك بالخراج وأداء الجزية. فقال : أنا رجل من العرب وإنما يؤدي الجزية العلوج (العجم) (١) فلما أتى عمر إلى الشام أتاه جبلة وقال له : تأخذ مني الصدقة (الزكاة) كما تصنع بالعرب؟ قال عمر : بل الجزية ، وإلّا فالحق بمن هو على دينك!

فخرج جبلة بثلاثين ألفا من قومه من قضاعة حتى لحق بأرض الروم ، فندم عمر (٢).

ورجع عمر وفي رجوعه مرّ على قوم يعذّبونهم على الخراج ، فقال : لا تعذبوهم ، فإني سمعت رسول الله يقول : إنّ الذين يعذّبون الناس في الدنيا يعذّبهم الله في الآخرة ، فأطلقهم (٣).

الأشعري للبصرة والأهواز :

وفي سنة (١٧) ارتكب المغيرة بن شعبة شعبة من الفجور ، وسنأتي عليه فيما يأتي ، فاستدعى عمر أبا موسى الأشعري واستعمله على البصرة وكتب معه كتابا بعزل المغيرة وجلبه إلى المدينة ، ثم كتب عمر إلى الأشعري أن يسير إلى كور الأهواز ، فاستخلف الأشعري عمران بن حصين الأنصاري وخرج إلى الأهواز حتى افتتحها وكلّفهم بعشرة آلاف ألف (عشرة ملايين) وأربع مائة ألف. ثم صالحه أهل نهر تيري ، وأهل السبان ، ثم سار إلى مناذر ومعه الربيع بن زياد الحارثي فاستخلفه عليها فافتتحها بقتال ، وقتل بها أخوه المهاجر بن زياد الحارثي (٤).

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١٤٢.

(٢) اليعقوبي ٢ : ١٤٧ ، وفيه أخبار أخرى أكثر تفصيلا منها في تاريخ ابن الوردي ١ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣) اليعقوبي ٢ : ١٤٧.

(٤) تاريخ خليفة : ٧٤ ـ ٧٥.

٢٥٦

وفتحوا رامهرمز وتستر (شوشتر) ونزل الهرمزان من قلعتها على حكم عمر ، فأرسل مع وفد منهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس ، فوصلوا به إلى المدينة ، فوجدوا عمر نائما في المسجد بلا حرس ولا حجّاب ، فأدخلوه عليه وقد ألبسوه ملابسه من الديباج المذهّب وعلى رأسه تاجه مكلّلا بالياقوت ، ومن جلبة الأصوات استيقظ عمر فلما رآه قال : الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه! ثم نزع ما عليه وألبسه ثوبا خشنا. ثم قال له : كيف رأيت عاقبة أمر الله؟ فقال الهرمزان : لما خلّى الله بيننا وبينكم في الجاهلية غلبناكم ، فلما كان الله الآن معكم غلبتمونا (١).

فروى ابن الخياط عن أنس : أنه لما قال له عمر تكلّم ، قال : كلام حيّ أو ميّت؟ (يسأله هل يبقيه أو يقتله؟) فقال عمر : تكلم فلا بأس! فلما أجابه بما قال ، قال لي عمر : يا أنس ما تقول؟ قلت : يا أمير المؤمنين ؛ تركت بعدي عددا كثيرا وشوكة شديدة ، فإن تقتله ييأس القوم من الحياة فيكون أشدّ لشوكتهم! فقال عمر : أفأستحيي قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور السدوسي (قتلا في حصار شوشتر)؟ فلما خفت أن يقتله قلت : قد قلت له تكلّم فلا بأس ، فليس إلى قتله سبيل ، وشهد معي الزبير بذلك ، فأمسك عمر عنه ، فأسلم (٢).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٤٠.

(٢) تاريخ خليفة : ٨٢ ـ ٨٣. ودون هذا الخبر المسند عن الحاضر الناظر المباشر أنس ، رووا مرسلا : أن الهرمزان طلب ماء فأتي به ، فقال : أخاف أن يقتلني وأنا أشرب! فقال عمر : لا بأس عليك حتى تشرب ، فرمى الإناء فانكسر ، فهمّ عمر أن يأمر بقتله فقالوا له : إنك بقولك له : لا بأس عليك إلى أن تشرب ، ولم يشرب الماء ، فقد أمنته ، فامسك عمر عنه ، فأسلم ، كما في ابن الوردي ١ : ١٤٠ ـ ١٤١ ، وليس بشيء.

٢٥٧

جولة الفرس في جلولاء :

في وقعة المدائن هرب يزدجرد بن كسرى منها ودخلها وأقام بها سعد ، وأقام يزدجرد في جلولاء وكتب إلى البلدان فجمع إليه بها من مقاتليهم جمعا كثيرا ، وجعل عليهم فرّخزاد بن خرهرمز. وبلغ ذلك سعدا ، فكتب سعد إلى عمر يخبره ، فكتب له عمر : أقم بمكانك ووجّه إليهم جيشا فإن الله ناصرك ومتمّ وعده. فعقد سعد لابن أخيه هاشم المرقال بن عتبة بن أبي وقّاص على ثلاثة آلاف. فالتقوا وتقاتلوا وجالت الحرب على العرب فهربوا ، فناداهم سعد : يا معشر المسلمين أين أين؟ فعطف المسلمون عليهم فهزموهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وحووا عسكرهم فأصابوا أموالا عظيمة وسلاحا ودوابّ وسبايا ، وبلغت الغنائم ثمانية عشر ألف ألف (١).

وعند اليعقوبي : لما كتب سعد إلى عمر يعلمه باجتماع الفرس في جلولاء نحو حلوان ، كتب إليه عمر أن ينهض هو إليهم ، ووجّه إليه عبد الله بن مسعود ليعلمهم ويفقّههم ، وصيّر سلمان الفارسي على المدائن ، ثم لم يزل يقاتلهم وقتل من الفرس مقتلة عظيمة حتى فتح الله عليه.

__________________

ولا يخفى أن البراء بن مالك هو أخو أنس ، وذكر في أنس أنه كان من المنحرفين عن علي عليه‌السلام أما هذا فقد نقل الكشي : ٣٨ ح ٧٨ عن الفضل بن شاذان أنه كان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو كان على ميمنة المسلمين يوم شوشتر ومجزأة على ميسرتهم ، وقتل كل منهما مائة من الفرس فقتلهما الهرمزان لدى باب البلد. انظر قاموس الرجال ١ : ٢٦٥ برقم ١٠٦٠ و٨ : ٦٧٢ برقم ٦٢٥٠.

(١) تاريخ خليفة : ٧٥ ، وفي الطبري ٣ : ٥٧٨ عن ابن اسحاق : أنهم سبوا ابنة لكسرى تدعى : منجان ، ومن الفيء أفضل من فيء القادسية.

٢٥٨

وهرب يزدجرد في من بقي معه إلى اصفهان ثم الري ثم مرو ، ومعه ألف إسوار من أساورته وألف جبار (؟ خبّاز؟) وألف صنّاجة (١)!

تمصير الكوفة :

ورجع المسلمون فنزلوا المدائن ، ثم كرهوا الإقامة فيها لبعوضها وإن كانوا في نعمة ، فشكوا ذلك إلى عمر ، فقال عمر : أتصبر الإبل بالمدائن؟ قالوا : لا لما بها من البعوض! فقال : فإن العرب لا تصبر ببلاد لا تصبر فيها الإبل ، فارتادوا. فخرجوا إلى الحيرة ، فلقيهم رجل منها وأراد صرفهم عنها فقال لهم : أدلكم على بلدة ارتفعت عن البعوضة وتطأطأت عن البقّة ، وطعنت في البريّة وخالطت الريف. فدلهم على الكوفة ، فاختطّوها ونزلوها (٢).

واختطّ سعد مسجدها وقصر إمارتها ، واختطّ الأشعث الكندي جبّانة كندة وحوله قبيله ، واختطّ يزيد بن عبد الله البجلي أخو جرير في ناحية البريّة وحوله بنو بجلة (٣).

ونزلها المسلمون واختطّوا بها الخطط وبنوا المنازل ، ونزلها من أصحاب رسول الله ثمانون رجلا ، وكان ذلك في أواخر (١٧) أو أول سنة (١٨) (٤).

حكم سواد العراق :

مر الخبر (٣ : ١٠٦) (٥) عن الصادق عليه‌السلام : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك خيبر في

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥١.

(٢) تاريخ خليفة : ٧٦. وانظر الطبري ٣ : ٥٩٨.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥١.

(٤) اليعقوبي ٢ : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٥) من موسوعتنا هذه.

٢٥٩

أيديهم على نصف المحصول (١) ولذا جاء عن الرضا عليه‌السلام قال : ما أخذ بالسيف (كالعراق) فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى ؛ كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بخيبر : قبّل أرضها ونخلها (٢).

وما كان ينبغي أن يخفى هذا على الصحابة وفيهم عمر ، ومع ذلك فقد شاور عمر أصحاب رسول الله في سواد الكوفة ، فقال بعضهم : تقسمها بيننا! فقال علي عليه‌السلام : إن قسمتها اليوم لم يبق شيء لمن يجيء بعدنا ، ولكن تقرّها في أيديهم ، يعملونها فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال له عمر : وفّقك الله! هذا الرأي.

ثم وجّه حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف الأنصاريّين وأمرهما أن يمسحا السواد ويجعلا عليهم ضريبة الخراج ، وأن لا يحملا أحدا فوق طاقته ، وأن لا أجمة ولا تلّا ولا مستنقع ماء ولا ما لا يبلغه الماء ، ويمسحا بذراع وقبضة وأقام إبهامه يسيرا فوق القبضة. وأجرى لهما جرابا من دقيق ولكل يوم خمسة دراهم.

فمسح عثمان كل شيء من دون جبل حلوان ـ وهو آخر ما فتح حينئذ ـ إلى أرض العرب في أسفل فرات الكوفة ، وجعل عليه ضريبة الخراج.

وبالجزية جعل على رقابهم : على الموسر ثمانية وأربعين درهما ، ودون ذلك أربعة وعشرين ، ومن لا يجد اثني عشر درهما ، ومن أهل كل صناعة من صناعاتهم بقيمة ما يناسبهم. فاجتبي وحمل من خراج السواد في أول سنة (؟) ثمانون ألف ألف (مليون) درهما ، وفي قابلها : عشرون ومائة ألف ألف (مليون) درهما ، وحمل منه

__________________

(١) راجع فروع الكافي ٥ : ٢٦٦ ، وأمالي الصدوق : ٢١٨.

(٢) الكافي ٣ : ٥١٢ ح ٢. وفي الطبري ٣ : ٥٨٨ : عن ابن سيرين : أن عمر والمسلمين عمل على آخر ما عمل به رسول الله في ذلك.

٢٦٠