موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٧٢

وأمر مهرة :

جاء في خبر الطبري عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن أبا بكر كان قد كتب في كتابه إلى عكرمة : «فإذا فرغتم (من عمان) فامض إلى مهرة» فلما فرغوا من عمان بدأ يستنصر من أهل عمان ومن حولها من بني ناجية والأزد وعبد القيس وراسب وبني تميم ، وخرج بجنده من عمان نحو مهرة حتى اقتحم بلادهم (١) بلاد مهرة بن حيدان بالنّجد.

قال البلاذري : فلما بلغ إليهم عكرمة لم يقاتلوه وأدوا صدقاتهم (٢) فكتب بذلك مع السائب المخزومي إلى أبي بكر (٣).

وأمر اليمن :

وجاء في خبر الطبري عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر : أن أبا بكر كان قد كتب في كتابه إلى عكرمة : «فإذا فرغتم (من عمان) فامض إلى ... اليمن .. وأوطئ من بين عمان واليمن ممن ارتدّ ثم ليكن وجهك منها إلى اليمن حتى تلاقي المهاجر بن أبي أميّة باليمن» (٤) ومنه يعلم أن قلاقل اليمن وتأمير المهاجر عليها كان قبل ذلك ، وقد مرّ خبر ردّة الأسود العنسي في صنعاء ، وغلبة فيروز وجشيش الديلميين ودادويه الاصطخري والأبناء ومعهم قيس بن المكشوح

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣١٥ ـ ٣١٦.

(٢) فتوح البلدان ١ : ٩٣ ، وابن الأعثم ١ : ٧٤.

(٣) الطبري ٣ : ٣١٧ عن سيف ، وفيه أنهم قاتلوه أشد من قتال دبا في عمان ، وقتل منهم أكثر ممن قتل في دبا ، وغنموا منهم أكثر من ألفي نجيبة ثم بايعوه على الإسلام ؛ وانظر عبد الله بن سبأ ٢ : ٦٢.

(٤) الطبري ٣ : ٣١٥.

٢٠١

المرادي على الأسود وقتله وهزيمة أصحابه ، وغلبة هؤلاء على صنعاء ، وهروب الفلول إلى جهة نجران.

وهنا نزداد : كانت فلول خيول العنسي تتردد في عرض البحر بين صنعاء إلى نجران. وكان من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما بين زبيد ورمع إلى حدّ نجران خالد بن سعيد بن العاص ، وعلى نجران نفسها عمرو بن حزم ومعه لجباية الصدقات (أو الجزية) أبو سفيان بن حرب ، فهؤلاء رجعوا مع وفاته إلى المدينة ، ومعهم معاذ بن جبل من صنعاء (١) فما ذا عن المهاجر بن أبي أمية المخزومي؟

وكان فيروز وجشيش الديلميان ودادويه الاصطخري وقيس بن المكشوح المرادي معهم متساندين ، ولما ولى أبو بكر أمّر فيروز وكتب إلى وجوه أهل اليمن :

عمير ذي مرّان وسعيد ذي زود ، وسميفع بن ناكور ذي الكلاع ، وحوشب ذي ظليم ، وشهر ذي يناف : أما بعد ، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم ، وحوطوهم ، واسمعوا من فيروز وجدّوا معه فإني قد ولّيته.

فلما سمع بذلك قيس حسد الأبناء الفرس على ذلك فأرسل إلى ذي الكلاع وأصحابه : أنّ الأبناء نزّاع (غرباء) في بلادكم ونقلاء فيكم ، وإن تتركوهم لن يزالوا عليكم ، وقد أرى من الرأي أن أقتل رءوسهم واخرجهم من بلادنا. فلم يستجيبوا له ولم ينصروا الأبناء واعتزلوا.

فكاتب قيس فلول الأسود سرّا أن يتعجّلوا إليه ليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن ، فاستجابوا له ، واجتمعوا ودنوا من صنعاء وعليهم معاوية بن أنس (٢).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣١٨ ـ ٣١٩ ، عن سيف عن القاسم بن محمد بن أبي بكر.

(٢) الطبري ٣ : ٣١٨ ـ ٣١٩ و٣٢٣ ، عن سيف.

٢٠٢

فلما دنوا من صنعاء عزم قيس أن يقتل رءوس الأبناء غيلة ، ودعاهم إلى طعامه واحدا بعد الآخر وبدأ بدادويه ، فلما دخل داره قتله ، وعلم الباقون بذلك فهربوا إلى الجبال ، فسيّر قيس عيالاتهم إلى بلادهم برّا وبحرا بمعونة فلول الأسود.

واستمد فيروز الديلمي من بعض القبائل فأجابوه فاسترجعوا عوائلهم ، ثم تقاتلوا خارج صنعاء قتالا شديدا حتى هزم قيس (١) وأصحابه ولحق بنجران.

فما هو دور المهاجر بن أبي أمية المخزومي؟ وهو أخو أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

روى الطبري عن سيف قال : كان المهاجر لم يهاجر مع رسول الله إلى تبوك فهو عاتب عليه ، فبينا أم سلمة تغسل رأس رسول الله قالت له : ما ينفعني شيء وأنت عاتب على أخي! ورأت رقّة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله فأومأت إلى الخادم أن تأتي بالمهاجر فأتت به ، فلم يزل ينشر عذره حتى عذره ورضى عنه ، ثم أمّره على كندة في اليمن وحضرموت ، ولكنه مرض فلم يذهب حتى توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان على حضرموت من قبله زياد بن لبيد البياضي ، فكتب المهاجر إليه ليقوم له على عمله! فلما ولى أبو بكر أمره بقتال من بين نجران إلى صنعاء إلى أقصى اليمن إلى حضرموت من كندة ، ومنها السكون والسكاسك ، وكان عليهما عكّاشة بن محصن ، وعلم هو وزياد بذلك فانتظراه. وكانت كندة ممن أجاب الأسود العنسي (٢).

وكان على مكة عتّاب بن أسيد الأموي ، وكان في عمله تهامة أيضا ، وتجمّع بها بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع من بني مدلج وخزاعة وكنانة عليهم جندب بن سلمى

__________________

(١) بالإفادة من تلخيص العسكري في عبد الله بن سبأ ٢ : ٦٦.

(٢) الطبري ٣ : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، بتصرف يسير.

٢٠٣

المدلحى. وكان عتّاب كتب بذلك إلى أبي بكر فكتب إليه بحربهم ، فبعث عليهم أخاه خالد بن أسيد ، فالتقوا بموضع الأبارق فقاتلهم وفرّقهم ثم تاب جندب (١) ورجع خالد إلى مكة.

وكتب أبو بكر إلى عتّاب بن اسيد : أن اضرب على أهل مكة وعملها خمسمائة مقاتل وأن يسمّي من يبعثه معهم ولينتظر حتى يمرّ بهم المهاجر. فأعدّهم وأمّر عليهم أخاه خالدا.

وكان على الطائف : عثمان بن أبي العاص ، فكتب إليه أبو بكر : أن يضرب بعثا على أهل الطائف على كل حيّ منهم بقدره ويولّى عليهم رجلا ، فضرب على كل حيّ عشرين رجلا وأمّر عليهم أخاه (عبد الرحمن) (٢).

وكان قد كتب إلى عبد الله بن ثور أن يجمع إليه من يستجيب له من أهل تهامة وينتظر المهاجر (٣)!

وكانت خثعم حاولت أن تعيد صنمها ذا الخلصة ، فأمر أبو بكر جرير بن عبد الله البجلي أن يستنفر الأقوياء من قومه فيقاتل بهم خثعم ، ثم يقيم في نجران ينتظر المهاجر ، فخرج جرير فلم يثبت لقتاله إلّا قليل قاتلهم وتتبّعهم إلى نجران فأقام بها ينتظر المهاجر (٤).

وخرج المهاجر من المدينة إلى مكة فتبعه خالد بن أسيد بمن معه ، ثم مرّ بالطائف فتبعه عبد الرحمن بن أبي العاص بمن معه ، وانضمّ إليه عبد الله بن ثور

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣١٩.

(٢) الطبري ٣ : ٣٢٢.

(٣) الطبري ٣ : ٣٢٨.

(٤) الطبري ٣ : ٣٢٢.

٢٠٤

ومن معه حين حاذاه بتهامة ، ثم قدم نجران فانضمّ إليه جرير بن عبد الله البجلي ، وفروة بن مسيك المرادي (١).

وكان فروة قد وفد بقومه من مراد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في العاشرة فاستعمله رسول الله على صدقات مراد ومن معهم ، وكان معهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي ، ثم تبع مذحج فيمن تبع الأسود العنسي فجعله العنسي مقابل مراد ، ثم لحق بعمرو قيس المرادي منهزما من فيروز الديلمي من صنعاء ، ثم تفارقا (٢).

فلما لحق فروة بالمهاجر لحقه عمرو بغير أمان ولحقه قيس فأمر المهاجر بأسرهما وبعث بهما إلى أبي بكر.

فقال له أبو بكر : يا قيس ، أعدوت على عباد الله تقتلهم ، وتتخذ المشركين والمرتدّين وليجة من دون المؤمنين! وكان قتل دادويه سرّا بلا بيّنة فانتفى قيس أن يكون قارف منه شيئا! فتجافى أبو بكر عن دمه وخلّاه. وعاتب عمرا وخلّاه (٣).

ثم سار المهاجر من نجران إلى صنعاء في طلب فلول الأسود العنسي والتفّ بخيله حولهم ، واستأمنوه فأبى ، فافترقوا فرقتين لقي المهاجر إحداهما في موضع عجيب فأتى عليهم ، ولقي عبد الله بن ثور ومن معه الفرقة الأخرى بطريق الأخابث فأتى عليهم.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٢٩.

(٢) الطبري ٣ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

(٣) الطبري ٣ : ٣٢٩. ورجّح السيد العسكري خبر البلاذري قال : بلغ أبا بكر اتّهام قيس بقتل دادويه وأنه كان على اجلاء الأبناء من صنعاء ، فكتب إلى عامله على صنعاء (فيروز؟) أن يحمله إليه فحمله إليه ، فلما قدم عليه أحلفه عند منبر رسول الله خمسين يمينا أنه ما قتل دادويه وخلّى سبيله ، ثم وجّهه مع المنتدبين لغزو الروم إلى الشام. عبد الله بن سبأ ٢ : ٦٨ ، عن فتوح البلدان ١ : ١٢٧.

٢٠٥

ثم سار المهاجر من عجيب وتتبّع هو وخيله من قدروا عليه من الهاربين الشاردين ، قبل توبة من أناب ، حتى دخل صنعاء ، وكتب بذلك إلى أبي بكر.

فكتب إليه أبو بكر : أن يأذن لمن معه من بين مكة واليمن أن يرجعوا إلّا من يؤثر الجهاد ويسير إلى حضرموت فيقرّ زياد بن لبيد البياضي على عمله فيها (١).

وأما عكرمة :

وخرج عكرمة من مهرة ومعه بشر كثير من مهرة بن حيدان ، وسعد بن زيد ، والأزد ، وناجية ، وعبد القيس ، وكنانة ، وعنبر ، والنخع ، وحمير ، إلى اليمن حتى ورد أبين (٢). وكتب أبو بكر إلى عكرمة أن يسير إلى حضرموت ، فسار المهاجر من صنعاء ، وعكرمة من أبين حتى التقيا في مأرب ، ثم سلكا البرّ من صهيد حتى دخلا بلاد حضرموت (٣).

ردّة كندة وحضرموت :

لما أسلمت كندة وأهل حضرموت أمّر رسول الله عليهم لصدقاتهم زياد بن لبيد البياضي فتوفى رسول الله وهو على جبابة صدقات حضرموت ، وعلى كندة المهاجر بن أبي أمية ولمرضه كتب إلى زياد بعمله ، وعلى خصوص السكاسك والسكون من كندة عكّاشة بن محصن. ومن كندة بنو الحارث بن معاوية وبنو عمرو بن معاوية ، ومنهم رؤساؤهم الأربعة : أبضعة وجمد ومخوص

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٢٩ ـ ٣٣١.

(٢) الطبري ٣ : ٣٢٧.

(٣) الطبري ٣ : ٣٣١.

٢٠٦

ومشرح واختهم العمرّدة. وأجاب هؤلاء الرؤساء الأربعة وجمع من بني عمرو الأسود العنسي في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلعنهم ، وبقي جمع كثير من بني عمرو على الإسلام ، وهم في موضع الرياض.

فقدم عليهم زياد بن لبيد لزكواتهم ، وكان إذا أخذ ناقة للصدقة وسمها بالنار ، فأخذ ناقة لأحد أخوين ووسمها ثم تبيّن أنها لأخيه وطلبها ، فزعم زياد أن ذلك اعتلال واتّهمه بالكفر والردة! فاستغاث الرجل برجل من قومه : حارثة بن سراقة فجاء وأطلق عقالها وأقامها وقام هو ورجلان معه دونها ، وكان مع زياد شباب من حضرموت والسكون وأشار إليهم زياد فضربوا الرجال الثلاثة بأيديهم ووطئوهم بأرجلهم وكتّفوهم وحبسوهم واستعادوا الناقة (١)!

هذا ما لدى الطبريّ عن سيف ، ولدى الواقدي وابن الأعثم أنّ حارثة تحدّث فقال : «نحن إنما أطعنا رسول الله إذ كان حيّا ، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه! وأما ابن أبي قحافة فما له طاعة في رقابنا ولا بيعة!» ولعله كان يعني عليا عليه‌السلام لأنهم إنما عرفوا الإسلام واعتنقوه بفضله. ونظم ذلك شعرا فقال :

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا

فيا عجبا من ذا يطيع أبا بكر

وإنّ أناسا يأخذون زكاتكم

أقل ورب البيت عندي من الذّر

أنعطي قريشا مالنا؟ إنّ هذه

كتلك التي يخزى بها المرء في القبر

وما لبني تيم بن مرّة إمرة

علينا ولا تلك القبائل في الأسر

لأن رسول الله أوجب طاعة

وأولى بما استولى عليهم من الأمر (٢)

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٣٠ ـ ٣٣٢.

(٢) كتاب الردة للواقدي : ١٧١ ، والفتوح لابن الأعثم ١ : ٤٧.

٢٠٧

فهو مطيع لرسول الله ولرجل من أهل بيته غير مطيع لأبي بكر ولا هو مرتد ، وقال :

كان الرسول هو المطاع وقد مضى

صلّى عليه الله لم يستخلف

هذا مقالك يا زياد ، وقد أرى

أن قد أتيت بقول سوء مخلف

ومقالنا : أن النبيّ محمدا

صلّى عليه الله غير مكلّف

ترك الخلافة بعده لولاته

ودعا زياد لامرئ لم يعرف

إن كان لابن أبي قحافة إمرة

فلقد أتى في أمره بتعسّف

أم كيف سلّمت الخلافة هاشم

لعتيق تيم؟ كيف ما لم تأنف  (١)

فهو يقول بأن الرسول لم يكلّف تكليفا خاصا في الخلافة ومع ذلك لا يصح القول بأنه لم يستخلف ، بل تركها لأوليائه الأدنين الأقربين من بني هاشم ، وإن كان بدون تكليف خاص ، وتبعه ذلك جمع من قومه منهم عرفجة بن عبد الله فقد قال بمثل مقالته في الخلافة (٢).

وتنادى لذلك بنو معاوية (عمرو والحارث) في أهل الرياض وغضبوا لحارثة بن سراقة من بني عمرو بن معاوية وقاموا له بعسكر كثير ، فأرسل زياد إليهم : إما أن تضعوا السلاح أو تؤذنوا بحرب! فقالوا : لا نضع السلاح حتى ترسلوا أصحابنا. فقال : لا يرسلون أبدا!

واجتمع لزياد جمع من أهل حضرموت ومن السّكون ، ولم تسكن السكون حتى أثارت زيادا على بني معاوية فانهدّ إليهم ليلا وفرّقهم ، فلما هربوا رجع عنهم وخلّى لهم عن أصحابهم الثلاثة ، ثم اجتمعوا وعسكروا وتنادوا بمنع الزكاة!

__________________

(١) كتاب الردة للواقدي : ١٧٦ ، والفتوح لابن الأعثم ١ : ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) المصدران السابقان.

٢٠٨

وخرج بنو عمرو بن معاوية ومنهم رؤساؤهم الأربعة وبنو الحارث بن معاوية فاتخذوا لأنفسهم محاجر حموها وطابقوا على منع الصدقة ، وانضمّ إليهم أقوام من السكاسك والسكون وأهل حضرموت.

واجتمع جمع منهم حول زياد وعرضوا عليه أن يغيروا على اولئك ، فقال : شأنكم ، فأكبوا على بني عمرو بن معاوية في محاجرهم في خمس فرق من خمسة أوجه ، فقتلوا الرؤساء الأربعة واختهم وغيرهم ، وضعفوا وهربوا ، وغنموا أموالهم وسبوا منهم سبايا ومرّوا بهنّ على عسكر بني الحارث بن معاوية وعليهم الأشعث بن قيس الكندي ، واستغاث النساء به ، فثار بعسكره فأنقذهنّ.

ثم جمع إلى بني الحارث بني عمرو ومن أطاعه من السكاسك وقبائل ما حولهم.

وعلم زياد باتجاه المهاجر إليه فكتب إليه بذلك يستحثّه ، فتلقّاه الرسول بكتابه وقد قطع صحراء الصّهيد ما بين مأرب وحضرموت ، فاستخلف المهاجر عكرمة على جيشه وتعجّل بجيشه حتى قدم على زياد ، فالتقوا بالأشعث في محجر الزّرقان.

وكان الأشعث رمّم حصن النّجير ، فلما تقاتل وهرب لجأ هو وجمعه إلى حصن النجير ، وتابعهم المهاجر وجيشه وزياد وعسكره ، وكان لحصن النجير ثلاثة طرق ، فنزل كل واحد منهما على طريق ، وانتظروا عكرمة فنزل على الثالث فقطعوا طرقهم.

وبعث المهاجر يزيد بن قنان في خيل إلى قرى برهوت وبني هند فقاتلوا من بها من كندة.

وبعث ربيعة الحضرمي وخالد المخزومي إلى الساحل فقاتلوا أهل محيى وأحياء أخر من كندة.

٢٠٩

وبلغ ذلك أهل الحصار فجزّوا نواصيهم متعاقدين على الموت وأن لا يفرّوا.

فلما أصبحوا خرجوا يقاتلون بفناء الحصن وعلى كل طريق من الطرق الثلاثة حتى انهزموا (١).

وكان النعمان بن الجون الكندي الذي أهدى ابنته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال أزيدك أنها لم تجع شيئا قط! فقال : لو كان لها عند الله خير لاشتكت ، ورغب عنها (٢) وطلّقها ، كان هو وابنته في عدن باليمن ، فلما نزلها عكرمة خطبها وتزوجها وأوصلها أبوها إلى عكرمة وهو بالجند ينتظر المهاجر. وكان الأشعث علم ذلك فبعث إلى عكرمة بطلب الأمان فآمنه وأوصله إلى المهاجر ، واستأمن منه لنفسه وماله وتسعة معه وأهليهم ، على أن يفتحوا لهم الباب فيدخلوا على قومه! فقال له المهاجر : اكتب ما شئت وهلمّ إلى أختمه ، فكتب أمانهم ولما لم يبق إلّا أن يكتب نفسه وثب عليه أحدهم بشفرته وهدّده أن يكتبه ، فتعجل وكتبه ودهش أن يكتب نفسه ، ثم جاء بالكتاب فختمه ، ورجع فسرّ بهم ، ثم فتح الباب.

فاقتحمه المسلمون وقتلوا المقاتلين ، وفي الحصن ألف امرأة فسبوهنّ ، وجاء الأشعث باولئك النفر فعرضهم على كتابه فإذا ليس فيه اسمه ، فقال المهاجر : الحمد لله الذي أخطأ نوءك (نجمك) يا عدوّ الله وهمّ بقتله ، فشفع له عكرمة أن يبعث به مع السبايا إلى أبي بكر ، فقبل المهاجر المشورة وبعث به مع السبي ، فكان سبايا قومه يلعنونه لغدره بهم.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٣٣ ـ ٣٣٦.

(٢) الطبري ٣ : ٣٣٧ و٣٤٠ ، وفي اليعقوبي ٢ : ٨٥ : أن عكرمة تزوج قتيلة اخت الأشعث الكندي.

٢١٠

وكان الأشعث لما قدم على رسول الله خطب أم فروة بنت أبي قحافة من أخيها أبي بكر ، فلما قدم على أبي بكر قال له : ما تراني صانعا بك؟ قال : أنت أعلم ، قال : فإني أرى قتلك! قال : أو تحتسب فيّ خيرا : تطلق اسارى وتقيلني عثرتي وتقبل إسلامي وتردّ عليّ زوجتي (أم فروة)! فقبل منه وزوّجه اخته ، وأخذ خمس المغنم وقسّمه ، وبقى الأشعث بالمدينة حتى فتح العراق (١).

وكتب أبو بكر إلى المهاجر يخيّره بين حضرموت واليمن ، وأن يقرّ زياد بن لبيد على عمله (!) ولكن يمدّه بعبيدة بن سعد ، فجعل المهاجر زيادا على حضرموت ، وعبيدة بن سعد على كندة السكاسك ، وهو اختار اليمن مع فيروز الديلمي في صنعاء (٢).

ورفع إليه امرأتان غنّت إحداهما بشتم رسول الله والاخرى بهجو المسلمين ، فنزع ثناياهما وقطع يدهما ، وبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه بقتل الشاتمة وتأديب الهاجية ونهاه عن المثلة إلّا قصاصا (٣).

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٣٧ ـ ٣٣٩ ، وذكر مختصر خبر النجير وقتل الملوك الأربعة وأمان الأشعث في تاريخ خليفة : ٩١ ، واليعقوبي ٢ : ١٣٢.

(٢) الطبري ٣ : ٣٣١ و٣٤١.

(٣) الطبري ٣ : ٣٤١ ، ٣٤٢ ، عن سيف عن موسى بن عقبة صاحب المغازي.

٢١١
٢١٢

أهم حوادث

السنة الثالثة عشرة

٢١٣
٢١٤

بداية أخبار العراق :

لما انتهى الملك في فارس إلى ابنة خسرو پرويز الساساني (١) شاع في العرب أن لا ملك لفارس وإنما ملكتهم ابنة ملكهم ، وكان بنو بكر بن وائل وبنو شيبان يراوحون في ما بين البصرة والحيرة حوالي السماوة والناصرية اليوم والقادسية من ثغور العراق. فأقبل رجلان منهم يغيران بجمعهما على القرى القريبة منهم فيأخذان ما قدرا عليه ، فإذا طلبا أمعنا في البرّ فلا يتّبعونهم : أحدهما سويد الذهلي في نواحي ثغر البصرة الأبلّة ، والآخر : المثنى بن حارثة الشيباني في نواحي الحيرة ، وذلك في خلافة أبي بكر (٢).

__________________

(١) تنبّه لهذا التحليل والتعليل الدينوري في الأخبار الطوال : ١١١ قال : لما أفضى الملك إلى بوران بنت كسرى .. وذكر بوران المسعودي في التنبيه والإشراف : ٩٠ وقال : كان ملكها في السنة الثانية للهجرة ، وملكت سنة وستة أشهر. فليس ملكها هو المقصود هنا ، ولكنه ذكر اختها آزرميدخت وقال : قتلت في العاشرة للهجرة. وهذه يمكن أن تكون المقصودة بالتحليل.

(٢) الأخبار الطوال : ١١١ ، بينما روى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف : أن المثنّى

٢١٥

ثم كتب المثنى إلى أبي بكر يعلمه ضرواته بفارس ووهنهم عنه ، ويسأله أن يمدّه بجيش عليهم. وكان خالد بن الوليد قد فرغ من حروب الردّة فكتب إليه أبو بكر أن يسير إلى المثنّى (١) وأن يبدأ بفرج الهند : الأبلّة : البصرة (٢) فسار في المحرم سنة اثنتي عشرة (٣) وكان بنو شيبان على طريقه فحمل عليهم فقالوا : انا مسلمون فتركهم وتبعه منهم قطبة بن قتادة بجمعه (٤).

ونزل خالد بالنّباج والمثنّى في خفّان (٥) وكان مع خالد كتاب من أبي بكر إلى المثنّى يأمره فيه بطاعة خالد ، فكتب إليه خالد وبعث بكتاب أبي بكر إليه فأتاه. وأخذ خالد يسير في الثغور إلى الّيس (٦) فخرج إليه صاحب الّيس : جابان بجيشه ، فبعث خالد إليه المثنّى فالتقى به إلى جانب نهر فقاتلهم حتى هزمهم ثم صالح أهل الّيس.

__________________

ابن حارثة قدم على أبي بكر وقال له : أمّرني على قومي أكفيك ناحيتي واقاتل من يليني من أهل فارس ، ففعل أبو بكر ذلك ، فرجع وجمع قومه وأخذ يغير في أسفل الفرات إلى ناحية كسكر ، وكان معسكرا في خفّان. الطبري ٣ : ٣٤٤. خفّان نحو البصرة ، مركز بني شيبان ، وكسكر قرب قلعة سكر. انظر أطلس تاريخ الإسلام الخارطة : ٦٢.

(١) الأخبار الطوال : ١١١.

(٢) كانت مفترق الطرق برّا ، وبحرا إلى الهند وغيرها ، ولذلك أسماها الفرس : بسراه أي كثيرة الطرق ، كما في معجم البلدان ٢ : ١٩٣. والأبلّة : آب پل : أي جسر الماء.

(٣) الطبري ٣ : ٣٤٣ هذا وقد مرّ أن قتل مسيلمة كان في ربيع الأول سنة ١٢ فهذه سنة ١٣.

(٤) تاريخ خليفة : ٦١ وانظر أطلس تاريخ الإسلام : ١٤٢ من الترجمة الفارسية.

(٥) النّباج وخفّان من منازل بني شيبان في حدود العراق نحو البصرة ، انظر النباج في الخارطة : ٩ ، وخفّان في الخارطة : ٦٢ من أطلس تاريخ الإسلام.

(٦) الّيس من ثغور العراق قرب السماوة ، انظر الخارطة : ٦٢ في أطلس تاريخ الإسلام.

٢١٦

ودنا من الحيرة ، فخرجت إليه خيول آزاد به صاحب خيل كسرى التي كانت في مخافر الحدود بينهم وبين العرب ، فتوجّه إليهم المثنّى فهزمهم.

فلما رأى ذلك أهل الحيرة خرجوا يستقبلون خالدا ، وفيهم هانئ بن قبيصة الطائي وعبد المسيح بن عمرو ، فقال لهم خالد : إني أدعوكم إلى الإسلام فإن قبلتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فالحرب. فقالوا : لا حاجة في حربك ، فصالحهم على أن يكونوا له عيونا.

ثم نزل على بانقيا فصالحهم (١).

وروى ابن الخيّاط عن الشّعبي أن خالدا افتتح نهر الملك وهزمزجرد (قلعة هرمز) وباروسما (قرب بابل) ووجّه المثنّى إلى سوق بغداد فأغار عليها (٢).

غزو الشام :

قال اليعقوبي : وأراد أبو بكر أن يغزو الروم ، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله فقدّموا وأخّروا ، فاستشار عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأشار أن يفعل وقال : إن فعلت ظفرت! فقال أبو بكر : بشّرت بخير!

فقام أبو بكر وخطب ودعاهم لغزو الروم ، فسكتوا. فقام عمر وقال : لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لانتدبتم. فقام عمرو بن سعيد بن العاص وقال له : يا ابن الخطّاب تضرب لنا أمثال المنافقين ، فما يمنعك أنت؟! فقام أخو عمرو : خالد بن سعيد وأسكت أخاه وقال : ما لنا إلّا الطاعة ، فجزّاه أبو بكر خيرا وعيّنه أميرا لذلك.

__________________

(١) الطبري ٣ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ، عن الكلبي عن أبي مخنف ، وقريب منه عن ابن إسحاق : ٣٤٣ ، وراجع فتوح البلدان للبلاذري : ١٣١ ـ ٢٩٨ ، وعبد الله بن سبأ ٢ : ٧٥ فما بعدها.

(٢) تاريخ خليفة : ٦٢.

٢١٧

فخلا عمر بأبي بكر وقال له : أتولّي خالدا وقد حبس عنك بيعته وقال لبني هاشم ما بلغك؟! فو الله ما أرى أن توجّهه!

فحلّ أبو بكر لواءه ودعا يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجرّاح وشرحبيل ابن حسنة وعمرو بن العاص فعقد لهم وقال : إذا اجتمعتم فأمير الناس أبو عبيدة.

وقدمت عليه العشائر من اليمن فأنفذهم جيشا بعد جيش. وكتب إليه أبو عبيدة بإقبال ملك الروم بجيش عظيم وتتابعت كتبه بأخبار جموع الروم (١).

فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد بالعراق أن يخلّف المثنّى في العراق ويسير هو إلى الشام ، فخلّف خالد المثنّى بجيشه بالعراق ونفذ هو في أهل القوة معه نحو الشام (٢) ليس عن طريق نينوى وشمال العراق بل عن طريق الأنبار والأردن وصحراء الشام ، فسار من الحيرة نحو بابل.

خبر عين التمر :

قال اليعقوبي فلما صار إلى عين التمر (نحو بابل) لقى رابطة لكسرى (من العرب) عليهم عقبة النمري ، فتحصّنوا منه في حصن عين التمر ، ثم نزلوا على حكمه ، فقتل النمري (٣) وأسر جماعة يبلغ عددهم أربعين ، فمنهم سيرين أبو محمد بن سيرين ، ومنهم يسار أبو إسحاق أبو محمد بن إسحاق صاحب السيرة ، ومنهم نصير أبو موسى بن نصير (٤) القائد الأموي.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٣. وبلغ هر قل ملك الروم ورود العرب إلى الشام فوجّه لحربهم البطريرك سرجيس في خمسة آلاف ـ مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ٩٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٣.

(٤) تاريخ خليفة : ٦٢ ، وعن ابن إسحاق نفسه في الطبري ٣ : ٤١٥.

٢١٨

ثم سار حتى لقي جمعا من بني تغلب النصارى عليهم الهذيل بن عمران فقاتله وقتله وسبى منهم كثيرا بعث بهم إلى المدينة. وبعث إلى كنيسة اليهود فأخذ منهم عشرين غلاما.

وصار إلى الأنبار فأخذ منهم دليلا دلّه على طريق المفازة (الصحراء) في ثمانية أيام.

فمرّ ببلدة تدمر فتحصّن أهلها فحاصرهم حتى صالحهم.

ثم صار إلى غوطة دمشق وعبرها إلى الثنية التي سمّيت ثنيّة العقاب باسم رايته البيضاء ، ثم صار إلى حوران ، ثم قصد مدينة بصرى ، فحاربهم ثم صالحهم (مع ابن الجرّاح والآخرين).

ثم صاروا إلى أجنادين من فلسطين وبها اجتماع الروميين ، فكانت بينهم وقعات صعبة وحاربوهم حربا شديدة ، في كل ذلك يهزم الله الروم وتكون العاقبة للمسلمين ، حتى تفرق جمع الكفرة ، وكانت ليومين بقيتا من جمادى الأولى سنة (١٣) (١).

ويزعم بعضهم أن عمرو بن العاص كان عليهم ، وقتل فيها أخوه هشام بن العاص السهمي ، والفضل بن العباس (وهبّار بن الأسود).

وفي جمادى من هذه السنة كانت وقعة مرج الصفر ، وأميرهم خالد بن سعيد بن العاص ، معه أخواه أبان وعمرو ، فقتلوا ومعهم عكرمة بن أبي جهل ، وقتل من المشركين مقتلة عظيمة حتى هزمهم الله (٢) ثم ساروا إلى دمشق فحاصروها (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٤ ، وتاريخ خليفة : ٦٣ ، والطبري ٣ : ٤١٨ ، وأجنادين بين بيت جبرين والرملة في فلسطين.

(٢) تاريخ خليفة : ٦٣.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٤٨.

٢١٩

وقال اليعقوبي هنا : ووجّه أبو بكر العلاء بن الحضرمي في جيش من أرض البحرين لفتح الزّارة فافتتحها (١) وقال البلاذري : بل صالحوه على أن يأخذ النصف مما هو لهم خارجها وعلى ثلث المدينة وثلث ما فيها من ذهب وفضة (وكانوا قد بعثوا بذراريهم إلى دارين من البحرين) فأخبره بذلك الأخنس العامري ودلّه كراز النكري على مخاضة إليهم قليلة المياه فاقتحمها إليهم مكبّرا فخرجوا إليه وقاتلوه فقاتلهم فقتلهم ، وسبى أهلهم وذراريهم (٢). فكان أول ما قسمه أبو بكر في الناس دينارا لكل إنسان الحر والعبد والأحمر والأسود (٣).

أبو بكر وسهم ذوي القربى :

هذا ، وقد أجمع أهل العلم كافّة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقسم خمسه من المغنم سهمين فسهم له وسهم لذوي قرباه من هاشم حتى توفّاه الله إليه ، من دون أن يعهد بتغيير ذلك ، فلما ولي أبو بكر أسقط هذين السهمين بموته ومنع بني هاشم منه ، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل (٤) هذا في خمس المغانم ، ومن الزكاة.

أبو بكر وسهم المؤلّفة قلوبهم :

أول ما أعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للمؤلّفة قلوبهم كان من غنائم هوازن في حرب حنين

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١٣٤.

(٢) فتوح البلدان للبلاذري : ١٠٤. وانظر العسكري في عبد الله بن سبأ ٢ : ١٩٣ ـ ٢٠٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٤.

(٤) راجع النص والاجتهاد : ٥٠ ـ ٥٥ المورد ٦ مع تعاليق أبي مجتبى الشيخ حسين الراضي ، ط. قم.

٢٢٠