منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

لها شر ، وليس كل غاسق ـ وهو الليل ـ له شر ـ وكذا ليس كل حاسد له شر. بل رب حسد محمود. وهو الحسد في الخيرات. أقول : فيراد بالنكرة وهما : غاسق وحاسد. ذلك الفرد منهما القليل المتصف بالشر.

الثاني : إننا هل نريد اشتراك الجميع في التعريف أو اشتراكها في التنكير وكلاهما باطل ، لأنهما معا مغيّران للسياق والذوق القرآني.

أما تنكير المعرّف وهو النفاثات : فهو باطل بأن نقول : ومن شر نفاثات ما في العقد. وهو لا يعطي العموم المطلوب. لأن القضية المهملة بمنزلة الجزئية. وعند ما تكون القضية جزئية ، يعني أعوذ من بعض النفاثات ، لا من الجميع!!

وأما أن نقول : نفاثات العقد ، فهو يوحي ، مضافا إلى الإشكال السابق ، بإضافة المفعول إلى اسم الفاعل وأن العقد هي النافثة ، في حين أنها هي المنفوث فيها.

وأما احتمال تعريف المنكّر وهو الغاسق والحاسد ، كما لو قلنا : ومن شر الغاسق إذا وقب ومن شر الحاسد إذا حسد.

فهذا كله ليس بصحيح ، لأن «الألف واللام» لهما معنيان : إما جنسية وإما عهدية : ونحن لا نريد كليهما.

فالجنسية غير مرادة ، لأنني لا أستعيذ من الحاسد بل من شره أي ذلك الحاسد الذي يترتب عليه الشر ، وليس من كل حاسد. وهذا لا يكون بحسب السياق البلاغي إلّا عن طريق التنكير.

والعهدية أيضا غير مرادة ، لأن المعنى يكون : الحاسد المعيّن. أي فلان ابن فلان. في حين المراد الاستعاذة من أي حاسد.

هذا بالنسبة إلى تعريف (حاسد). ونفس الشيء ينطبق على تعريف (غاسق) ، ونوكله إلى فطنة القارئ اللّبيب.

سؤال : لما ذا قال : إذا حسد. فإن مادة الحسد مأخوذة من لفظ الحاسد.

٨١

فيكون تكرارها بلا موجب!

جوابه : إن المراد : الاستعاذة من شر الحسد. وهذا الشر إنما يترتب على الحسد بعد وجوده لا قبله. فقوله : إذا حسد يعني إذا تحقق بحيث يترتب عليه الشر.

فإن قلت : إن هذا المعنى مفهوم من مادة الحاسد. يعني بصفته حاسدا فعلا.

قلت : كلّا ، بل يراد بالحاسد ، ذات الحاسد ، لا بصفته حاسدا. كأنه قال : ومن شر إنسان إذا حسد. ولا يصدق على الفرد أنه حاسد مطلقا ، إلّا إذا كان من عادته أو طبعه كثرة الحسد. وهو نادر. في حين أن المراد الاستعاذة من الجميع.

وكذلك ، فإن المراد من قوله : إذا حسد. الحسد المؤثر ، يعني : إذا أثر حسده. أو إذا حسد حسدا مؤثرا ، وأما غيره فلا شرّ فيه ، فلا موجب للاستعاذة منه. ومن الواضح أن ذات الحاسد ، وإن لوحظ بصفته حاسدا ، لم يؤخذ فيه كون حسده مؤثرا. في حين أن السياق واضح بالاستعاذة من خصوص الحسد المؤثرة.

٨٢

سورة التوحيد

ينبغي الحديث عن الاسم ، وهو طبقا لما يشبه الأطروحات السابقة يمكن أن يكون على عدة أشكال محتملة :

الشكل الأول : الاسم المشهور ، وهي سورة التوحيد. لأنها تحمل فعلا معنى التوحيد. وقد ورد أنها تتضمن أو تتكفل نسبة الرب (١).

الشكل الثاني : تسميتها باللفظ الذي تبدأ به. وهو (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). أو : (قُلْ هُوَ ...) كما يعبر بعضهم.

الشكل الثالث : تسميتها أو الإشارة إليها برقمها في المصحف وهو السورة ١١٢.

سؤال : تكاثرت الروايات من طرق الفريقين في أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن. فما هو تفسير ذلك؟

جوابه : إن له عدّة تفاسير محتملة :

التفسير الأول : إنها تحمل ثلث الثواب. أي إن لقارئها ثلث الثواب بالنسبة إلى من قرأ القرآن كله.

التفسير الثاني : إنها تحتوي على ثلث علوم القرآن الكريم ، الذي يحتوي علوم الكون كله. وبذلك تكون الفاتحة أعلى منها ، لأنها تحتوي على كل

__________________

(١) انظر نحوه في الميزان بعدة ألفاظ ج ٢٠ ص ٣٩٠ وانظر توحيد الصدوق ص ٩٣. وانظر الوسائل ج ٢ ص ٦٨١.

٨٣

علوم القرآن كما سبق. وليس على ثلثها.

التفسير الثالث : إن علوم القرآن فيما نفهمه ، تنقسم إلى ثلاثة أقسام : عقائد وتشريع وتاريخ. والباقي كله يندرج ضمن هذه الثلاثة. أو قل : إن علوم القرآن هي أصول الدين وفروع الدين وأخبار. ويراد بالأخبار ما يشمل أخبار الماضي والحاضر والمستقبل ، وكله من قبيل التاريخ بالمعنى العام ، وهو بهذا المعنى يشمل أخبار الدنيا والآخرة.

إذن ، فالسورة المباركة تتعرض إلى واحد من هذه العناوين الثلاثة : وهو التوحيد. ومن هنا صدق كونها ثلث القرآن.

فإن قلت : إن أصول الدين خمسة ، والتوحيد أصل واحد منها ، فلا يكون التعرض إلى التوحيد تعرضا لأصول الدين كلها ليكون ثلث القرآن؟

قلت : ما دل على التوحيد دل على كل العقائد ، فإن الأصول الأربعة الأخرى مندرجة فيه ، لأن التوحيد أساسها. والله هو الذي أرادها وشرّعها وأوجدها. وقد ورد عن الإمام الكاظم عليه‌السلام (١) : اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد ، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر ، فاغفر لي ما بينهما.

سؤال : لما ذا بدأت السورة بفعل الأمر : قل؟

جوابه : المراد من السورة ليس هو الإخبار بأن (الله أحد) وإنما المراد الأمر بالإقرار بذلك ، لكي يتبع الفرد الهدى ، ويشهد بالتوحيد ، وهو ـ بالطبع ـ يدل ضمنا على صدق ما قاله ، وإلّا كان الأمر به أمرا بالباطل. فهو أمر وإخبار في نفس الوقت.

وقلنا في كتابنا (٢) فقه الأخلاق : إن امتثال هذا الأمر يكون بأحد أسلوبين :

__________________

(١) عن البلد الأمين مفاتيح الجنان ص ١١٤ ...

(٢) فقه الأخلاق. ج ١ ص ٢٠٢.

٨٤

الأسلوب الأول : ما ورد عن الإمام الرضا (١) من أنه حين كان يقرأ آية : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). فإنه كان يقول بصوت خافت : (اللهُ أَحَدٌ). يعني يكون ذلك امتثالا لقوله : (قُلْ). والتزاما بمضمونه.

الأسلوب الثاني : ما ورد في أخبار أخرى (٢) من أنه يقول بعد الانتهاء من السورة : كذلك الله ربي.

وبحسب فهمي فإن أحد الأسلوبين مجزئ ومغن عن الآخر. بل لا معنى للجمع بينهما ـ كما لا يخفى ـ وإن كان لا يخلو من وجه ضعيف.

وعلى أي حال ، فمع ترك هذين الأسلوبين معا ، وذلك بقراءة السورة كما هي ، فإنه سيكون السياق بلسان الله لا بلسان العبد. وهو لا ينفع العبد. ما لم يوافق على صحته. ويذعن بصدقه. وهو إنما يعلن عن ذلك بأحد الأسلوبين السابقين.

سؤال : إن «قل» فعل أمر ظاهر بالوجوب. وحمله على الاستحباب خلاف الظاهر. فقد يقال : إن علماء الكلام قالوا : إن الإيمان بالعقائد لا معنى للتشريع فيه. وإنما هي واجبة بحكم العقل. والأوامر الواردة إنما هي إرشاد إلى حكم العقل. والله تعالى ينبّه هنا على حكم العقل. فلا يجب علينا طاعة هذا الأمر ، لأنه ليس تشريعا ، فلا يجب علينا اتخاذ أحد الأسلوبين السابقين.

قلنا : هذا قابل للمناقشة :

أولا : إن ما طرق سمعك من أن الأوامر إرشادية ، إنما هو لخصوص وجود الله سبحانه. فهو سبحانه يدرك بالعقل. فإذا ورد عن الله بمضمون : اعترف بوجودي. فإنما هو إرشاد إلى حكم العقل. وهذا صحيح. ولكن سائر أصول الدين ليست كذلك. حتى التوحيد نفسه. فقد شهد الله

__________________

(١) انظر الوسائل ج ٤ ص ٧٥٦.

(٢) انظر وسائل الشيعة ج ٤ ص ٧٥٤ و ٧٥٥ و ٧٥٧.

٨٥

سبحانه نفسه بتوحيده. قال تعالى (١)(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

فالله الذي ثبت بالعقل وجوده ، هو يخبرنا عن توحيده. وهذا ـ في الحقيقة ـ من أدلة التوحيد.

إذن ، فالعبد ، في هذه السورة ، مأمور تعبدا من قبل الله سبحانه بأن يذعن بتوحيده. فلا يكون الأمر إرشاديا ، بل تشريعيا.

ثانيا : إننا لو تنزلنا عما قلناه أولا ، وسلمنا أن الأمر بالتوحيد أيضا إرشادي ، كالاعتراف بوجود الله سبحانه. عندئذ يكون أصل الدخول في الإسلام ، عقليّا إرشاديّا.

إلّا أن غرض السورة لا يكون هو الدخول إلى الإسلام ، وإنما هو لأجل أغراض أخرى كالصلاة والتبرك ونحوها. فيكون : قل ، تشريعيا. حيث يقرؤها الفرد بألفاظها من أجل الاستفادة منها : فرجع الحال إلى كون الأمر تشريعيا لا إرشاديا.

سؤال : من هو المخاطب ب «قل»؟

جوابه : هناك عدة أطروحات لذلك ، نذكرها من الأضيق إلى الأوسع :

أولا : إن المخاطب هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بصفته المخاطب المباشر.

ثانيا : إن المخاطب هو كل المسلمين ، ولا خصوصية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثالثا : إن المخاطب هم كل البشر فإن دين الله إنما هو لإصلاح البشر جميعا. والقرآن لهدايتهم ، حتى لو كانوا كفارا.

رابعا : إن المخاطب كل الخلق. أي كل أجزاء الكون من بشر وملائكة وجن وأي خلق آخر. فإن التوحيد غير مختص بطائفة. لأنه متعلق بالخالق الأزلي الحقيقي. وهذه الصفة الحقيقية ينبغي فرضها وتوزيعها وسيطرتها

__________________

(١) آل عمران / ١٨.

٨٦

على كل الخلق. وكل من عصى ، فقد ضل عن سواء السبيل.

سؤال : هل يجوز حذف : قل : بمعنى جعل قراءة السورة ابتداء ، امتثالا بهذا الأمر؟

جوابه : هذا على مقتضى القاعدة جائز ، لكنها تخرج عن كونها قرآنا. لأن (قل) جزؤها القرآني. والقرآن إنما هو بلسان الله لا بلسان العبد.

سؤال : لما ذا اختار الله سبحانه الضمير هو ، ولم يقل : قل الله أحد؟

الجواب : إنه يمكن تفسير هذا الضمير بحسب معناه أولا ، وبحسب إعرابه ثانيا :

أما الكلام في معناه ، فإنه يحتمل أمرين :

الأمر الأول : ما ذكره صاحب الميزان قدس سرّه حين قال (١) : هو ضمير الشأن والقصة ، يفيد الاهتمام بمضمون الجملة التالية ، أي إن الحال والشأن هو الله أحد.

الأمر الثاني : إن (هو) ضمير عائد على ذات الله سبحانه : أي : ذات الله هو أحد.

وأما إعرابه ، فيحتمل وجهين :

الوجه الأول : أن يكون هو ضميرا لا محل له من الإعراب. كالذي يقع بين المبتدأ والخبر ، كقول : زيد هو عالم ، ولا يفيد إلّا التأكيد.

ففي الآية الكريمة يكون لفظ الجلالة مبتدأ وأحد خبر. سواء قلنا إن معناه ضمير الشأن أو أنه عائد على الذات.

الوجه الثاني : نذكره بنحو الأطروحة. وهو أن يكون (هو) مبتدأ. سواء فهمنا منه ضمير الشأن أو كونه عائدا إلى الذات. وأما خبره ، فله عدة أطروحات :

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣٨٧.

٨٧

الأطروحة الأولى : إن هذا الضمير مبتدأ ولفظ الجلالة مبتدأ ثان وأحد خبر المبتدأ الثاني. والجملة خبر المبتدأ الأول. مثل قولنا : زيد أبوه عالم. غاية الفرق أن الابتداء هناك بالظاهر وهنا بالضمير.

وهذا ممكن سواء كان هو ضمير شأن أو راجعا إلى الذات. ولكنه أوضح وأوكد مع رجوعه إلى الذات. يعني : أن الذات المقدسة التي لا يشار إليها ولا يعبر عنها ولا تحد ، يصدق عليها هذان الاسمان.

الأطروحة الثانية : أن يكون ضمير : هو ، مبتدأ ولفظ الجلالة خبره. و (أحد) بدل أو عطف بيان أو معطوف بحذف حرف العطف. فتكون الذات المعبر عنها بهو ، مبتدأ واسمها ، وهو لفظ الجلالة الخبر.

الأطروحة الثالثة : أن يكون هو مبتدأ ولفظ الجلالة خبر أول ، وأحد خبر ثان للمبتدإ الأول. كقولنا : زيد عالم حاذق. أو زيد عالم في الدار.

الأطروحة الرابعة : أن يكون قوله : هو الله مبتدأ وخبر. ويكون «أحد» خبرا لمبتدإ محذوف دلّ عليه ما سبق ، يعني : هو أحد.

الأطروحة الخامسة : ما ذكره العكبري حين قال (١) : ويجوز أن يكون الله بدلا ، وأحد الخبر. أقول : يعني خبر هو.

سؤال : لما ذا وجد الضمير : هو في هذا المحل من الآية الكريمة؟

جوابه متفرع على ما قلناه في معناه وإعرابه. وهو أربع صور :

الصورة الأولى : أن يكون معناه ضمير شأن وإعرابه ضمير فصل. فهو للتأكيد ، لأجل الترسيخ الإيماني.

الصورة الثانية : أن يكون معناه ضمير الشأن وإعرابه : مبتدأ وخبره الجملة التي بعده. فعندئذ لا يفيد التأكيد ، بل مجرد الإخبار بأن الشأن والحال : أن الله أحد ، ويكون الاستغناء عنه أولى. ومن هنا فسد هذا الوجه. وإن كان مستفادا من مطاوي كلمات الميزان.

__________________

(١) ج ٢ ص ١٥٩.

٨٨

الصورة الثالثة : أن يكون معناه كونه دالا على الذات وإعرابه كونه ضمير فصل. فهو غير محتمل ، لوجود التنافي بين هذين الاحتمالين. مضافا إلى لزوم كون الدال على الذات متكررا في الآية ، وهو الضمير ولفظ الجلالة.

الصورة الرابعة : أن يكون معناه دالا على الذات ، وإعرابه أنه مبتدأ. وهو المتعين : على معنى أن الذات تتصف بهاتين الصفتين أو الاسمين.

إن قلت : إن اسم الجلالة دالّ على الذات ، والضمير دالّ على الذات أيضا ، فكيف يستقيم ذلك؟

والظاهر أن هذا هو السبب الذي حدا بصاحب الميزان (قدس‌سره) إلى اعتباره ضمير شأن ، لكي لا يكون الدال على الذات مكررا.

قلت : أولا : إن لفظ الجلالة من الأسماء الحسنى. فإن توخينا مطلق الدلالة على الذات ، كانت كل الأسماء الحسنى دالة عليها. كـ (١) : (الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ). وإن توخينا لخص من ذلك ، كالعلمية لذاته سبحانه ، كما في لفظ الجلالة ، فهذا لا يخرجه عن كونه من الأسماء الحسنى.

ولذا لم يقل الفلاسفة إنه عين ذاته ، كما قالوا : في العالم والرحمن ، إنه عين ذاته ، بل قالوا إنه علم خارج عن الذات ، فكونه علما لا يخرجه عن كونه أحد الأسماء الحسنى. أو قل هو أهم الأسماء الحسنى.

إذن ، يكون المقصود أن الذات يصدق عليها هذان الاسمان : الله والأحد.

ثانيا : إن دلالة (هو) على الذات أعمق من دلالة لفظ الجلالة عليه. لبساطة الضمير وإحاطته ، فيكون من هذه الناحية شبيها ببساطة الذات وإحاطتها. بخلاف لفظ الجلالة ، فإنه لا يخلو من تعقيد بالتشديد وتكرار اللامات.

__________________

(١) الحشر / ٢٣.

٨٩

بل يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر ، بأن نقول بنحو الأطروحة : إن لفظ الجلالة : الله هو تعريف للضمير ، بإدخال الألف واللام على الهاء مع أنه غني عن التعريف ولا يتعرف بمخلوقاته. بل بذاته ، وهنا يكون وجود الضمير ، بدون التعريف أولى.

سؤال : قال الرازي في هامش (العكبري) (١) : المشهور في كلام العرب إن الأحد يستعمل بعد النفي. والواحد يستعمل بعد الإثبات. يقال : في الدار واحد. وما في الدار أحد. وجاءني واحد ، وما جاءني أحد. ومنه قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). وقوله تعالى : (الْواحِدُ الْقَهَّارُ). (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ). (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ). (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ). (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) ، فكيف جاء «أحد» هنا في الإثبات»؟

جوابه :

أولا : ما قاله الرازي أيضا (٢) : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا فرق بين الواحد والأحد في المعنى. واختاره أبو عبيدة. ويؤيده قوله تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ). وقولهم : أحد وعشرون وما أشبهه. وإذا كانا بمعنى واحد ، لا يختص أحدهما بمكان دون مكان. وإن غلب استعمال أحدهما في النفي والآخر في الإثبات.

ثانيا : ما أشار إليه الرازي أيضا بقوله (٣) : ويجوز أن يكون العدول عن الغالب ، رعاية لمقابلة الصمد ، أقول : يعني : لحفظ النسق في نهايات هذه الآيات.

ثالثا : ويعرض كأطروحة :

إن أحد ـ من الأسماء الحسنى ، والواحد ليس منها. وإنما هو صفة إعلامية فقط ، تتضمن الإخبار عن كونه تعالى واحدا لا شريك له. وحيث

__________________

(١) ج ٢ ص ١٦٠ ...

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) المصدر والصفحة.

٩٠

أن المراد في السياق ذكر الأسماء الحسنى : الله أحد الصّمد وصدقها على الذات ، ناسب ذلك ترك «الواحد».

سؤال : لما ذا كرر لفظ الجلالة ، في قوله تعالى : (اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ)؟

جوابه : أولا : إنه لإفادة التأكيد ، بتقدير تكرار العامل وهو الأمر السابق ، أي : قل هو الله أحد وقل هو الله الصّمد. وإفادة تكرار العامل أوضح لدى تكرار لفظ الجلالة ، ولو اكتفى بالصمد. لما أفاد هذه الفائدة.

ثانيا : لسماجة عدمه. لو قال : الله أحد الصمد ، فالصفة البلاغية تقتضي تكرار لفظ الجلالة.

سؤال : لما ذا قدم «يلد» وهو من حقه التأخير؟ لأنه بعده في الزمان عادة.

جوابه : من وجوه :

أولا : إننا إن نظرنا إلى الزمان العرفي ، كان السؤال واردا. إلّا أنه ملغى بحق ذات الله سبحانه. فلم يبق فرق في التقديم والتأخير. وهو فوق الزمان والمكان ، وقد ورد عنهم عليهم‌السلام : لا تحده الأزمنة ولا تحيط به الأمكنة ولا يأخذه نوم ولا سنة.

هذا إذا كان الفعلان منفيين كما هما في السورة.

ثانيا : إنهما لو كانا مثبتين لأي ذات ، كان من حق الآخر التقديم. لأنه إن حدث كان متقدما في الزمان ، ولحاظ الزمان عرفي. إلّا أن لحاظه في ذات الله عزوجل منسد. مضافا إلى أنهما في السورة في سياق النفي لا الإثبات.

ثالثا : نعرضه كأطروحة وهو كون النظر إلى الصفة الحالية أو الفعلية.

ثم الصعود منها إلى الصفة الأخرى «الصفة التاريخية أو الماضية» أي : إنه ليس فقط لم يلد بل لم يولد أيضا.

رابعا : لحاظ المشكلة المثارة اجتماعيا بين الأديان ، من أن الله سبحانه له

٩١

ولد. تعالى عما يقولون علوا كبيرا. فمن هنا اكتسب الأهمية. فيكون الأهم مقدما ، وهو نفي الولد. باعتبار ما قيل من أن عزير ابن الله وأن المسيح ابن الله ، ونحو ذلك. كما نطق به القرآن الكريم (١). فقد قدم الأهم. وقام بتأخير ما دونه في الأهمية الاجتماعية.

خامسا : إن «لم يلد» مساقة للشأنية لا الفعلية. فالمراد نفي الشأنية. ومن لم يكن من شأنه أن يلد ليس من شأنه أن يولد. ولو كان من شأنه أن يلد لكان من شأنه أن يولد. كما في الخلق. فقدم «يلد» لكونها حاصلة بالفعل في حاله جلّ جلاله. لتكون بمنزلة البرهان إثباتا على صحة الأخرى التي بعدها. بنحو الدليل : الإنّي ، الذي يستدل به من المعلول على العلة.

قال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

فقوله تعالى : أحد ، اسم كان مؤخّر ، وهنا يحصل سؤال. وحاصله : ما هو خبر كان؟

جوابه : إن في خبرها وجهين :

الوجه الأول : إن خبرها : كفوا. وعلى هذا يجوز أن يكون «له» حالا من كفوا أو صفة له ، لأن التقدير : ولم يكن أحد كفوا له. وأن يتعلق بيكن.

الوجه الثاني : أن يكون الخبر : له. وكفوا حال من أحد. أي ولم يكن له أحد كفوا. أو لم يكن أحد له كفوا. فلما قدم النكرة نصبها على الحالية.

سؤال : لما ذا قدم سبحانه : (له وكفوا ، على أحد)؟

__________________

(١) قال تعالى : (قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) التوبة / ٣٠.

٩٢

جوابه : أولا : لاختلال نسق الآيات بتقديم أحد. وهذا واضح. كما لو قال : لم يكن له أحد كفوءا.

ثانيا : قالوا في اللغة الحديثة : إن التقديم يفيد الالتفات والتركيز. والأمر هنا كذلك في النفي والمنفي ، أعني نفي الكفوء. فإنه لا يحتمل أن نتصور له كفوءا وكل شيء فهو حقير بالنسبة إليه. فينبغي أن يؤخر تجاه عظمة الله سبحانه. قال الله تعالى (١) : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً).

سؤال : ما هي أرجح القراءات في «كفوا»؟

جوابه : هي سكون الفاء مع الهمزة «كفأ» لأنه يعني في اللغة المساوي والنظير ، فيكون هو الأحوط. باعتبار دوران الأمر بين الأفصح وغيره ، فيتعين الأفصح.

غير أننا نعرف أن القراءات الأربعة الأخرى لهذه الكلمة ، هي وجوه منسوبة إلى بعض القراء السبعة ، وهي ممضاة كلها من قبل الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين. وخاصة في المصحف ، بقراءة حفص عن عاصم. وذلك بضم الفاء وترك الهمزة.

وقد استشكل بعض المتأخرين (٢) من قراءتها بسكون الفاء وترك الهمزة ، لضعف نسبتها إلى القراء السبعة.

أقول : ولكنها محرزة النسبة إلى أحد القراء العشرة ، فيكفي في جواز القراءة بها على ذلك. كما ذكرنا ذلك في منهج الصالحين (٣). واعترف به هؤلاء المتأخرون في رسائلهم (٤).

__________________

(١) الإسراء / ١١٦.

(٢) انظر مستند العروة الوثقى (ج ٣ ص ٤٨٣) حيث قال : وأما الوجه الأخير أعني مع الواو وسكون الفاء فهو وإن نسب إلى بعضهم لكنه لم يثبت ، فالأحوط تركه.

(٣) الجزء الأول ، مسألة ٧٨٥.

(٤) انظر منهاج الصالحين للخوئي ، ج ١ ، ص ١٦٥ ، ط ٢٩ ...

٩٣
٩٤

سورة اللهب

في اسمها عدة أطروحات :

أولا : اللهب ، بصفته لفظا موجودا خلالها.

ثانيا : المسد ، بنفس تلك الصفة.

ثالثا : السورة التي ذكر فيها اللهب أو التي ذكر فيها المسد. على طريقة ما فعله الشريف الرضي في كتابه.

رابعا : تبّت. بإطلاق الاسم من أول لفظ فيها.

خامسا : أن نطلق عليها رقمها بالقرآن الكريم وهو ١١١.

سؤال : كيف أو لما ذا ذكر الله تعالى أبا لهب بكنيته دون اسمه. مع أن ذلك إكرام أو احترام ، مع أن السياق سياق اللعنة والغضب؟

جوابه : عدة أمور :

الأمر الأول : ما ذكره الرازي في هامش العكبري (١) من : (أنه يجوز أنه لا يعرف له اسم ولم يشتهر إلّا بكنيته) كأبي جهل وأبي لبابة (أو أن اسمه موجود إلّا أن كنيته هي السائدة بين الناس) بحيث لا يعرف إلّا بها.

الأمر الثاني : إنه نقل (٢) أن اسمه كان ، عبد العزى ، في حين أنه في الواقع عبد الله وليس عبدا للعزى ، فلو ذكر اسمه كان على خلاف الواقع.

__________________

(١) ج ٢ ص ١٥٩.

(٢) المصدر والصفحة.

٩٥

وبتعبير آخر : إن القرآن لم يذكر اسمه : عبد العزى لأمرين :

١ ـ لمانع ثبوتي ، وهو مخالفته للواقع ، من حيث كونه عبد لله حقيقة.

٢ ـ لمانع إثباتي أو إعلامي. وهو تعمد حذف أمثال هذه الأسماء من السياق القرآني. لأن في ذكرها شهادة حالية بصحتها وتخليدا لذكرها مع أنها فاسدة أساسا. وليس حذفها فاسدا ، لأنه اسم شخص رديء ، وقد ذكر الله سبحانه عددا من الأشخاص بالكنية ، بصفتها أسماء سوء ، وإن لم تكن أعلامهم الشخصية ، كالشيطان وفرعون.

الأمر الثالث : ما ذكره الرازي في هامش العكبري (١) من (أنه ذكره بكنيته لموافقة حاله لكنيته. فإن مصيره إلى النار ذات اللهب) فيكون أبو لهب يعني الحاصل على لهب جهنم (وإنما كني بتلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما).

أقول : إن لفظة : أبي لهب. مناسبة مع حاله الأخروي. فمن اللطيف أن يسبّ بكنيته. باعتباره من المعاقبين في الآخرة.

الأمر الرابع : إن اسمه الشخصي هو أبو لهب. فهو علم له وليس بكنيته ، لأنه لا يوجد له علم سواه ، كما نسمي : أبو الحسن وأبو الخير.

الأمر الخامس : وهو يشبه الأمر الثالث إلّا أنه بتبرير آخر. وذلك : أننا لو غضضنا النظر عن اسمه ولقبه الدنيويين. فإنه تعالى أراد أن يعلمنا بأنه معاقب على أي حال. فهو ذو لهب في الآخرة ، وهو تعبير عرفي شائع. تقول : أبو البيت وأبو المسجد.

فإن قلت : فإنه تعالى كناه ولم يكنّ أنبياءه ورسله. فهل هو أكثر احتراما منهم؟

أقول : من حيث إنه كناه. فإن كل الأجوبة السابقة ترد فيه.

وأما لما ذا سمى أنبياءه. فنقول : كفى بالمرء ذاته. مضافا إلى أن المسمّى

__________________

(١) المصدر والصفحة.

٩٦

أعظم من المسمّى. فكل الخلق أذلاء تجاه عظمته. ومدحهم ليس مقترنا بأسمائهم بل بمدى عطائهم واستحقاقهم.

ومن الواضح أنه ليس في الآية الكريمة أي إشعار إلى أنه أكثر احتراما من الأنبياء ، سلام الله عليهم أجمعين.

مضافا إلى إمكان الطعن بالكبرى التي أخذتها المصادر مسلمة ، كما سبق. وهي أن ذكر الكنية تعني الاحترام دائما. فقد لا يكون الأمر كذلك دائما ، إذ إن هذا مسلك عرفي حاصل بعد عصر الإسلام ، ولم يكن له وجود في عصر نزول القرآن مهما كان الآن في أذهاننا واضحا.

سؤال : ما الوجه في تخصيص البدء بالتّب ، وهو الهلاك والخسران. وقد عزلها من السياق عن ذاته ، ولم يقل : وجهه أو رقبته أو أخلاقه ونحو ذلك.

جوابه : لأكثر من وجه :

الأمر الأول : ما ذكره صاحب الميزان (١) من أن : يد الإنسان هي عضوه الذي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده وينسب إليه جلّ أعماله. وتباب يديه فسادهما فيما يكتسبانه من عمل.

أقول : إن يديه كانتا فعلا تؤذيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فخصّصتا بالذكر ، باعتبارهما العضوان الرئيسيان اللذان صدرت منهما المظالم والاعتداءات.

ولكن لو اقتصرنا على ما ذكره الميزان ، كان معناه أن اليدين هما سبب الذنوب كلها ، وليستا كذلك. فإن العين والبطن وغيرهما سبب للذنوب أيضا ، نعم ، ذكرت اليدان ، لأهميتهما في مورد التنزيل.

الأمر الثاني : إنه ذكر الجزء وأراد به الكل. كما عبر عن الإنسان بالرقبة في قوله (٢) : (فَكُّ رَقَبَةٍ). فيكون معنى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) أنه تبّ كله.

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣٨٤.

(٢) البلد / ١٣.

٩٧

وينبغي بحسب الحكمة الإلهية أن يخص الأول للبعض والثاني للكل. لأنه قال : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ). وبهذا نجيب على السؤال الآتي :

سؤال : ما الحاجة إلى تبّ الثانية؟

جوابه : لأمرين :

الأمر الأول : تغيير نسق الآيات فإنه وإن كان حرف الباء موجودا في نهايات الآيات. إلّا أن حذفها ـ أعني تبّ الثانية ـ يؤدي إلى تكرار لفظ اللهب مرتين ، وهو على خلاف الحكمة والبلاغة.

وهذا هو الفرق بين (القافية) و (النسق). ففي القافية قد يستعمل نفس اللفظ بمعنيين. بخلافه في النسق. فقد ذكرت (تبّ) الثانية لمنع ذلك ، وهو ما حصل فعلا.

الأمر الثاني : إنه من عطف الكل على الجزء أي تبت يداه ، بل تب كله. لعدم الملازمة بين تباب اليد وتباب الكل. فإن المقصود بتباب اليد هو أعمالها الفاسدة. فيكون المعنى : تب عمل أبي لهب. ولا ملازمة بين عمله وذاته ، كما قلنا ، فإن العمل قد يغفر ، وتناله الرحمة والشفاعة. وعندئذ لا يكون التباب لذاته. إلّا أنه إذا تب كله تعينت عليه النار. باعتباره غير مستحق للتوبة.

أو نقول : إن عمله يستحق عقابا أقل من ذاته. لأن أصل ذاته ليست فقط لأذية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل لعبادة الأصنام وشرب الخمر ، وغير ذلك. فتكون تبّ الثانية لمجموع أعماله. فتتعين الإشارة إليها والتصريح بها.

سؤال : في قوله تعالى : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ). ما الفرق بين ماله وما كسب. فإن الذي يكسبه هو المال. فلما ذا التكرار؟

جوابه :

أولا : ليس هناك محذور من التكرار ، ولا مانع من عطف التفسير ، على معنى : ماله الذي كسب.

٩٨

ثانيا : إن «كسب» بمعنى الفعل الاختياري ونتائجه ، لا بمعنى المال.

فإن الفعل ونتائجه يصدق عليها المال والكسب ، وإنما يكون مالا باعتبار القدرة والسلطة عليه والحيازة له. ومن ذلك ما روي عن النبي هود عليه‌السلام (١) حين سئل عن زوجته قال : تلك زوجتي وهي عدوي. وأنا أدعو الله لها بطول البقاء ، لأن عدوا أملكه خير من عدو يملكني. فقد عبر عن السيطرة والقدرة بالملك. ومنه قوله تعالى : (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ)(٢). أي تحت سلطته وقدرته.

فالفعل الاختياري نحو من الكسب ونحو من المال ، حين يكون الفرد قادرا عليه ومتسلطا عليه. وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم. قال تعالى (٣) : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). وقال (٤) : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ). وقال (٥) : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). إلى غير ذلك من الآيات.

فمن الواضح من تلك الآيات : أن «كسب» بمعنى الفعل الاختياري ونتائجه ، وليس بمعنى المال.

ولم يرد الكسب بمعنى المال في القرآن إلّا في مورد واحد. وهو قوله تعالى (٦) : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ). أي من المال الحلال. أما بقية الآيات الكريمة ، فهي غير ظاهرة بالمال. بل الظاهر منها ما هو الأعم من فعل اختياري من طاعة وعصيان.

ومن هنا قال المعتزلة باصطلاح الكسب في علم الكلام ، يريدون الفعل

__________________

(١) انظر نحوه في تفسير علي بن إبراهيم ج ١ ص ٣٢٩ ...

(٢) البقرة / ٢٣٧.

(٣) الحجر / ٨٤ ، غافر / ٨٢.

(٤) الطور / ٢١.

(٥) آل عمران / ١٦١ ، البقرة / ٢٨١.

(٦) البقرة / ١٦٧.

٩٩

الاختياري أو نتائجه الدنيوية أو الأخروية. ولم يوافقهم على اصطلاحهم هذا الإمامية والأشاعرة.

أما الأشاعرة ، فلأنهم مجبرة. وأما الإمامية ، فلأنهم نفوا الجبر والتفويض ، في حين يكون الكسب أقرب إلى معنى الجبر ، لأن إسناده إلى الله سبحانه. ويصبح كأنه لصيق بالعبد لا يمكن فكاكه عنه. والكلام عنه في محله.

فإن قيل : فإن الكسب في القرآن الكريم مسند إلى الفاعل البشري.

قلنا : نعم. وهو فعله الاختياري. إلّا أنه استعمال مجازي. فلا يصلح أن يكون اصطلاحا ، لأنه يجب أن يقوم على معنى حقيقي.

أما المال ، فمستعمل في القرآن كله بالمعنى العرفي وهو الثروة. قال تعالى (١) : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ). وقال سبحانه (٢) : (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا). وقال (٣) : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى). وقال (٤) : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ). إلى غير ذلك.

إلّا في هذا المورد من سورة اللهب. فإنه قابل للوجهين : المال والكسب ومثله قوله تعالى (٥) : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ).

وعلى أي حال ، فكل منهما أطروحة قابلة للتصور والفهم. غير أن الظاهر القرآني هو أن المال هو الثراء. والكسب هو العمل.

سؤال : لما ذا وصفت النار بذات لهب. مع أن كل نار هي ذات لهب؟

جوابه : من وجوه :

__________________

(١) البقرة / ١١٧.

(٢) الفجر / ٢٠.

(٣) الليل / ١٨.

(٤) الحاقة / ٢٨.

(٥) الهمزة / ٣.

١٠٠