منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

المثاني في البسملة وعلوم البسملة في الباء وعلوم الباء في النقطة. وأنا تلك النقطة. وحسب فهمي فإن المراد : إن علوم القرآن في الفاتحة مع زيادة في الفاتحة. وعلوم الفاتحة في البسملة مع زيادة في البسملة. وعلوم البسملة في الباء مع زيادة في الباء. وعلوم الباء في النقطة مع زيادة في النقطة. وأما ما هي تلك الزيادة ، فذلك ما لا يعلمه إلّا علّام الغيوب ، لأنها فوق إدراك عقولنا القاصرة. وربما يكون علمها عند قائلها سلام الله عليه.

فعلوم الكون بجميع مراتبه عند أمير المؤمنين (ع). وعلومه أكثر من علوم البسملة وعلوم البسملة أكثر من علوم الفاتحة. وعلوم الفاتحة أكثر من علوم الكتاب الكريم الذي لم يفرط بشيء.

وهذه الرواية تدلنا على مزايا أمير المؤمنين (ع) وهي :

أولا : إن روحه وحقيقته العليا بسيطة. حيث يقول : وأنا النقطة. وإن النقطة بسيطة هندسيا من حيث إنها ليست جسما ولا سطحا ولا خطا. فهي بسيطة من جميع الجهات ، فهي مجرد فرض عقلي وليست مادة. وهذه البساطة المشار إليها في الرواية بساطة فلسفية والنقطة ذات بساطة هندسية. والبساطة الفلسفية مستقاة مجازا من البساطة الهندسية. وإلّا فإن بساطة الروح لا تماثل بساطة النقطة إلّا بعنوان البساطة.

ثانيا : إنه سلام الله عليه ، جامع لكل علوم الكون غير علم الله سبحانه. وقد فاق علمه علم الأولين والآخرين وجميع المعصومين سلام الله عليهم أجمعين عدا الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو مدينة العلم وعليّ بابها.

ثالثا : إنه عليه‌السلام أعلى مراتب الوجود.

فقد قال الفلاسفة بقاعدة صدور الواحد عن الواحد.

فبالضرورة يخلق الله تعالى واحدا في المرتبة الأولى التي تتنزل عن ذاته سبحانه. ثم هذا المخلوق الواحد يخلق الكثرة أي يوجد المتعدد. فهو بسيط

٤١

ولكنه بالتحليل يكون أمرين : محمد وعلي ، لأنهما نفس واحدة. بدليل قوله تعالى (١) : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ). فهو عليه‌السلام نفسه ولكنه غيره. والكثرة عين الوحدة. كما قيل في الحكمة المتعالية.

وليس هذا غريبا ، فنفس الإنسان واحدة ، ولكنها ـ في نفس الوقت ـ كثيرة. ففيها القوة الغضبية والشهوة والرغبات والحاجات ولكنها مع ذلك نفس واحدة. والكثرة عين الوحدة.

ونستنتج من ذلك : إن هذه الحقيقة النورية العليا ، هي أول الموجودات ، وأشرفها وأقدرها وأعلاها وأعلمها ، وهي مسيطرة على جميع الموجودات بأقدار من الله سبحانه.

وينبغي الإلماع إلى أن كون علوم الفاتحة في البسملة ... إلخ ، إنما هو معنى روحي وليس ماديا ولا لغويا ، لتعذر ذلك.

ولئن استطعنا ذلك في البسملة ، فلا يمكن ذلك في الباء والنقطة كما هو واضح ، فيتعين المعنى الروحي.

ويحسن هنا الالتفات إلى نكتة فلسفية : وذلك : إننا قلنا فيما سبق : إن الروح بسيطة وإن العلم مركب. فكيف يتعلق المركب بالبسيط ، الذي هو زائد عن ذاتها لأنها ليست كالباري عين ذاتها؟

ولا بد أن نشير إلى أن هذا الأمر ، قد يعرض بصفته متعلقا بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، لأن روحه العليا متضمنة لكل علوم الكون ، طبقا لهذه الرواية : وأنا النقطة. ولكن قد يعرض فيما هو أوسع من ذلك ، بشكل يشمل كل فرد ، من حيث إن العلم مركب ، في حين أن أي فرد فإن عقله وروحه بسيط.

وهذا له عدة أجوبة :

الجواب الأول : أن نقول إن العلم بسيط وليس بمركب. والذي ندعيه من

__________________

(١) آل عمران / ٦١.

٤٢

الكثرة والتركيب إنما هو في متعلق العلم ، أي في المعلوم. فمجموع العلوم تمثل علما واحدا بسيطا ، وهو الذي يتعلق بالعقل الكلي أو الروح العليا. وإنما يكون التركيب في تفاصيله.

الجواب الثاني : لو تنزلنا عن ذلك ، وقلنا بسراية التركيب إلى العلم ، فنستطيع القول : بأن هذا العلم الذي يحل بالبسيط ليس هو العلم المتكثر بل يحل بها على شكل إجمالي واندماجي. وتكون كثرته تحليلية ، كانحلال الكتاب إلى أوراق ، ويمكن أن نضرب لذلك مثالين :

المثال الأول : إن اللفظ الواحد مفهوم إفرادي ، يدل على كثرة كالحائط والشجرة والكتاب ، وكل لفظ متكون من حروف ، وكل هذه المعاني متكونة من أجزاء.

المثال الثاني : إننا قلنا إن علوم الفاتحة في البسملة ، وبررنا ذلك ، بأن البسملة متضمنة لأوسع الأسماء وأكبرها وأهمها. وهي : الله الرحمن الرحيم ، لأن لها نحو هيمنة على سائر المخلوقات. إذن فهذه العلوم الكثيرة مستبطنة في هذه الأسماء الثلاثة ، ويمكن اندراجها في لفظ واحد ، وهو لفظ الجلالة ، بعنوان كونه دالا على الذات. باعتبار أن الخلق كله دائم وقائم بالله سبحانه. فحينئذ ندرك أن كل علوم الكون في لفظ الجلالة وحده ، الذي قد يفسر باسم الله الأعظم. ومعه ، فلا بأس أن يرجع الكثير إلى الواحد أو إلى البسيط.

الجواب الثالث : إن كل مخلوق فهو متكون من ماهية ووجود. وكل منها يؤثر أثره الخاص به. فهل العلم يتعلق بالماهية أو بالوجود؟ فهنا نقول : إنه يتعلق بالوجود. فإنه من صفاته ومن صفات الباري سبحانه وتعالى. وقد قال الفلاسفة : إن الوجود كلما كان أشرف كان أكثر تحملا من القوة والعلم والحياة والتأثير.

الجواب الرابع : إننا لو تنزلنا وقبلنا انطباع العلم بالماهية لا بالوجود وهي ماهية بسيطة ، إلّا أن معنى البساطة ليست التفاهة والصغر والضآلة كالنقطة الهندسية ، وإنما هو بمعنى عدم تحقق التحليل العقلي إلى رتب وأجزاء ،

٤٣

وهذا لا ينافي ضخامتها المعنوية وأهميتها. فتكون متحملة للكثير كالوجود نفسه ، الذي قال الفلاسفة ببساطته ، وقالوا : إن الله صرف الوجود ، وهو في نفس الوقت لا نهائي العلم.

سؤال : لما ذا خصّت البسملة بهذه الأسماء الحسنى دون غيرها؟ (١).

وجوابه : قد تحصل مما سبق. وبحسب فهمي : فإن المتعين هو ذكرها دون غيرها.

أما لفظ الجلالة ، فلأنه الإشارة الرئيسة للذات المقدسة تبارك وتعالى. فبسم الله أي باسم الذات. فلا بدّ من ذكر الذات أولا ثم التنزل إلى عالم الأسماء.

وأما الرحمن : فلأن رحمته وسعت كل شيء ، فهو اسم واسع بسعة الله أي إنه أوسع الأسماء على الإطلاق. وكل اسم آخر فهو أكثر محدودية منه أو مثله. ولا يمكن أن يكون أوسع منه.

فقد اختار الله سبحانه في البسملة بعد لفظ الجلالة أوسع الأسماء. مضافا إلى أنه تعبير عن الرحمة لا عن النقمة. ورحمته تقدمت على غضبه.

وبعد هذين الاسمين العامين ، ذكر اسما محدودا ، وهو الرحيم ، لأنه لم يبق إلّا الأسماء المحدودة ، فالرحيم لا يشمل جميع الخلق بل يشمل المحسنين فقط كما قال سبحانه (٢) : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

واختيار اسم الرحيم من الأسماء المحدودة ، لمزيتين :

المزية الأولى : مزية الرحمة لأهميتها وتقدمها على الغضب ، بل على الخلق كله ، لأن الخلق كله بالرحمة.

المزية الثانية : إنه أهم الأسماء في طريق التكامل ، فلا تكامل إلّا بالرحمة الخاصة.

__________________

(١) يعني لما ذا لم يقل : العليم السميع البصير ، مثلا.

(٢) الاعراف / ٥٦.

٤٤

هذا مضافا إلى تشاكل المادة اللفظية والبلاغية بين الرحمن والرحيم.

وبهذا يتضح الجواب على هذا السؤال : لما ذا ذكرت هذه الأسماء بهذا الترتيب؟

فإنه سبحانه بدأ بالاسم الدال على الذات المقدسة ، ثم بأوسع الأسماء الحسنى الذي يشابه العلم في السعة والأهمية. ثم بالاسم الأضيق منهما وهو الرحيم ، وأما أن يقدم الصفة على الذات ، أو أن يقدم الاسم الضيّق على الواسع فهذا واضح الرداءة.

سؤال : لما ذا تكررت مادة الرحمة في السورة مرتين؟

جوابه : قال في الميزان (١) الرحمن : فعلان ، صيغة مبالغة تدل على الكثرة ، والرحيم فعيل ، صفة مشبهة تدل على الثبات والبقاء. ولذلك ناسب الرحمن أن يدل على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر ، وهو الرحمة العامة ... ولذلك أيضا ناسب الرحيم أن يدل على النعمة الدائمة والرحمة الثابتة الباقية التي تفاض على المؤمن.

أقول : ينتج من ذلك عدة أمور ، أهمها :

أولا : إن رحمة الله تعالى تتصف بكلا الوصفين ، فهي واسعة ومنتشرة من ناحية ، وثابتة ومستقرة وغير قابلة للتزلزل من ناحية أخرى.

ثانيا : إننا يمكن أن نلحظ هذين الاسمين مستقلين ، فهو تعالى (رحمن) وهو أيضا (رحيم). كما هو المتبادر العرفي في سائر الأسماء الحسنى كالغفار والشكور ونحوها.

ويمكننا أيضا ، أن نركب بينهما ، فيكون (الرحمن الرحيم) اسما واحدا ، فنفس الرحمة واسعة وهي ثابتة. فكأنهما صفتان لشيء واحد وهي مادة الرحمة.

ومعه تكون النتيجة هي تصورنا للرحمة الواسعة والثابتة. وذلك على أحد شكلين :

__________________

(١) الميزان ج ١ ، ص ١٨.

٤٥

الشكل الأول : إننا إن رجحنا جانب (الرحمن) فيكون المعنى : إن الرحمة الواسعة ثابتة. وهذا صحيح.

الشكل الثاني : إننا إن رجحنا (الرحيم) فتكون الرحمة الخاصة واسعة.

وهي وإن لم تكن واسعة لكل الخلق ، ولكنها واسعة لكل مستحقيها وطالبيها ، ولكل من (سَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ)(١). فإنه تعالى كريم لا بخل في ساحته.

فيتحصل : إن الرحمة الخاصة واسعة. وإن الرحمة الواسعة ثابتة ، وكلا الأمرين يتحصلان بعد التركيب.

سؤال : لما ذا خصت مادة (الرحمة) بالذكر في البسملة.

جوابه : ظهر مما ذكرناه من حيث إن الله سبحانه اختار بعد لفظ الجلالة ، مادة الرحمة التي هي أوسع الأسماء وأكبرها. ويكفينا هنا أن نتذكر أن الخلق كله موجود بالرحمة ، وأن رحمته وسعت كل شيء ، وأن الرحمة هي الأساس في الكثير من الأمور التشريعية والتكوينية. وأن رحمته تقدمت غضبه وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نبي الرحمة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(٢). إلى غير ذلك من المزايا.

فالرحمة أوسع الأسماء وأكبرها. وفي مقابلها توجد أسماء من سنخين ، كلاهما لا يناسب وجودها في البسملة :

الأول : أسماء الغضب ، كالمنتقم والقهار. ولا يناسب وجودها في البسملة مع أسماء الرحمة.

الثاني : الأسماء المختصة بموارد معينة ، وليست بواسعة ، مثل الغفار ، فإنه لا يشمل جميع الخلق بل يشمل المذنبين فقط. وقد اختار الله سبحانه ترك أمثال ذلك في البسملة.

__________________

(١) الأسراء / ١٩.

(٢) الأنبياء / ١٠٧.

٤٦

مضافا إلى أن كل الأسماء متضمنة للرحمة لا محالة ، وهذا من جملة تفسير قوله : رحمته وسعت كل شيء. يعني : حتى كل الأسماء الحسنى. إذن ، فالتعرض إلى الرحمة تعرض لكل الأسماء أو للسمة العامة لها.

فإن قلت : إن الرحيم ليس من الأسماء العامة الواسعة ، كالاسمين السابقين عليه في البسملة : الله الرحمن ، من حيث إن الرحيم لا يشمل كل الخلق بل يختص بمستحقي الرحمة الخاصة. فكيف ناسب ذكره في البسملة؟

قلت : جواب ذلك على أحد مستويين :

المستوى الأول : بما ذكرناه من التركيب بين الاسمين : الرحمن الرحيم. فإنهما بالانضمام يكون معناهما واسعا ، وموضوعهما غير محدد بحد.

المستوى الثاني : إن الرحمة النازلة على الخلق لها أهمية ، لا يمكن الإعراض عنها. على عكس الأسماء الأخرى كالستار والشافي والمعافي وغيرها ، فإن هذه لها أهمية دنيوية زائلة. أما الرحيم ، فإن له قدسية زائدة على قدسية الأسماء الأخرى. فالرحمة الخاصة أعلى وأوسع وأنور وأكبر من أن نتصورها ولا يعلمها إلّا علّام الغيوب. ومن هنا استحقت أن تكون في البسملة ، وتتبع الاسمين الواسعين فيها.

سؤال : ما معنى الاسم؟

قال السيد الطباطبائي في الميزان (١) : وأما الاسم فهو اللفظ الدال على المسمى ، مشتق من السمة بمعنى العلامة. أو من السمو بمعنى الرفعة. وكيف كان ، فالذي يعرف من اللغة والعرف أنه هو اللفظ الدال. ويستلزم ذلك أن يكون غير المسمى.

أقول : وعلى ذلك ، يكون معنى البسملة بالدوال على الله تعالى التي هي الأسماء الحسنى ، إذا أخذنا الاسم بمعنى العلامة ، وإذا أخذناه بمعنى

__________________

(١) الميزان ج ١ ، ص ١٧.

٤٧

الرفعة ، كانت البسملة تمسكا بعلو الله وبعظمته ، وبسمو الله الرحمن الرحيم.

ولكن ـ حسب فهمي ـ فإن الاحتمال الأول وهو السمة ، هو المرجح والأكثر انفهاما في البسملة. على أنه يمكن أن يراد كلا الأمرين لأن للقرآن بطونا ، فليكن هذا منها.

ويمكن ترجيح الاحتمال الأول بعدّة أمور منها :

أولا : إن الاسم مفرد الأسماء. وبسم الله يجمع : بأسماء الله. فهو من السمة لا السمو ، لأن السمو لا يجمع على الأسماء. ولذا اتبع (الاسم) بالله الرحمن الرحيم. فلو ضمّت إلى قوله تعالى (١) : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ، لظهر أن المراد بالاسم مفرد الأسماء ويكون الله الرحمن الرحيم مصاديق منه ، يعني كونها مصاديق من الأسماء الحسنى المذكورة في الآية الأخرى.

والسيد الطباطبائي ـ قدس سرّه ـ يفسر القرآن بالقرآن (٢) ، ولكنه غفل عن ذلك. من حيث إن الآية : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تدل على أن المراد من الاسم هو السمة لا السمو.

ثانيا : إن الاسم إذا كان بمعنى السمة كان لتفاصيل الأسماء الثلاثة مجال. فالله يلحظ كاسم مستقل ، وكذلك الرحمن والرحيم. فكل منها له أهميته وسعته.

أما إذا كان بمعنى العظمة أي بعلو الذات ، سقطت تفاصيل هذه الأسماء الحسنى ، ولم يكن لها شأن ، وإنما تشير إلى الذات فقط. فكان الاقتصار على واحد أولى.

ولكن يمكن القول (كأطروحة) :

__________________

(١) الاعراف / ١٨٠.

(٢) كما ورد في ج ١ ، ص ١١.

٤٨

إن الاسم بمعنى العظمة ، ومدخول العظمة ، ليست الذات بل الأسماء ، أي بعظمة هذه الأسماء وسموّها. بعظمة لفظ الجلالة والرحمن والرحيم. وهنا اكتسبت تفاصيل الأسماء الأهمية من جديد. لكل منها عظمة بحياله.

ولكن مع ذلك نقول : إن ذلك مخالف لأذهان العرف والمتشرعة. حيث يقال عادة : إن الاسم مسند إلى الذات ، وهذه الأسماء إنما هي دوال على الذات. ولا يراد عظمة الأسماء بل عظمة الذات. فإذا كانت العظمة عظمة الذات ، سقطت تفاصيل الأسماء كما قلنا ، وبالتالي ينبغي أن يكون الاسم ملحوظا بمعنى السمة ، لتحفظ تفاصيل هذه الأسماء.

مضافا إلى أن ظاهر السياق هو انحفاظ تفاصيل الأسماء لا سقوطها ، وإلّا كان التعبير عن الله بأي اسم كافيا.

سؤال : لما ذا ذكر الاسم مفردا لا جمعا؟ مع أن مدخوله ثلاثة أسماء.

جوابه : إن ذلك لعدّة أمور :

الأمر الأول : الذوق ، فلو قال بأسماء الله الرحمن الرحيم لا نمسخ السياق القرآني.

الأمر الثاني : إن المراد بالاسم : الجنس أو اسم الجنس وهو بمنزلة الجمع لأنه متضمن لأفراده. فيكون بمعنى الأسماء. فيكون تعدادها تفصيلا بعد إجمال.

الأمر الثالث : إن المراد من الاسم مدخوله المباشر وهو لفظ الجلالة. أي بالاسم الذي هو الله. فالاسم مفرد يراد به مدخول مفرد. وأما الرحمن الرحيم ، فهما صفتان للذات الإلهية لا ربط لهما بالاسم. وإنما أضيفا بعد ورود لفظ الجلالة.

الأمر الرابع : يعرض كأطروحة قلما يلتفت إليها :

وحاصلها : إن الاسم هو كل ما يدل على الشيء ، وأسماء الله إنما سميت أسماء لأنها دالة عليه وعلامة عليه ، ومن جملة الأمور التي لها

٤٩

دوال وكواشف عن وجودها نفس الأسماء الحسنى ، فهي أسماء الله وهي أيضا لها أسماء ، أي دوال وكواشف عن ووجودها. فنقول في هذه الأطروحة : إن بسم الله أي باسم الاسم الذي هو الله. فمدخول الاسم ليس هو الذات المقدسة بل الاسم. واسم اسم الله هو الرحمة لما له من السعة والعمق كما سمعنا. وعطف عليه الرحيم لمناسبته له. فيكون الرحمن اسما للفظ الجلالة ودالا عليه. أو نقول إن (اسم الله) هو المجموع المركب من (الرحمن الرحيم).

الأمر الخامس : إن الجمع المقترح هل هو محلى باللام أو بدونها؟

لا يقال إن اللام لا تجتمع مع الإضافة. لأنه يقال : إنه عندئذ ليس مضافا إليه ، بل بدل ، ولكنه على كلا التقديرين باطل.

فالمحلى بالألف واللام باطل : أولا : لرداءته ذوقا. وثانيا : إنه تنتفي الإشارة إلى الذات وتصبح مجهولة غير مشار إليها في السياق.

وإن كان مع عدمها : أصبح لفظ الجلالة دالا على الذات وبقي اسمان بعده ، فكان الأنسب هو التثنية ، وهو كما ترى. أو أن المقصود اسم واحد ، وهو لفظ الرحمن اي بسم الله الذي هو الرحمن الموصوف بالرحيم ، فلا موجب للجمع ، لأنه اسم واحد.

فإن قلت : إن التثنية جمع في المنطق والفلسفة ، وإن لم تكن كذلك في النحو والبلاغة. قلنا : إن العرف لا يعتبرها جمعا. والقرآن إنما نزل عرفيا لا دقيا أو فلسفيا ، إلّا في وقت الحاجة. فيكون التعبير عن الاثنين بالثلاثة خلاف الظاهر. مضافا إلى أنه شديد الرداءة من الناحية الذوقية والبلاغية. وعلى أي حال ، يتعين الإفراد :

فإما أن نقصد بالاسم المفرد : الجنس ، كما سبق ، فنعد مصاديق ثلاثة كلها من جنس الاسم : الله الرحمن الرحيم.

أو نقصد به الفرد ونريد به لفظ الجلالة ، أي بسم الله الذي هو الرحمن الموصوف بالرحيم ، أو يراد به كلا الاسمين : الرحمن الرحيم.

٥٠

سورة الناس

يقع الكلام أولا في تسميتها ، فإن لها عدة أطروحات :

الأولى التسمية المشهورة : النّاس. من حيث إن المفروض تسمية السورة بأي لفظ وارد فيها. وهذا منها.

الثانية : ما سار عليه السيد الشريف الرضي في كتابه : حقائق التأويل. فنقول : السورة التي ذكر فيها النّاس.

الثالثة : ما اقترحه بعضهم من تشخيص السورة بالترقيم ورقمها بحسب التسلسل القرآني الحالي ١١٤.

الرابعة : تسمية السورة بأول جملة فيها فنقول سورة : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ).

وأما الكلام عن البسملة ، فقد سبق ، وبه نستغني عن تكراره في صدر كل سورة.

سؤال : قل. ما هو الموجب لذكرها هنا؟

جوابه : إنه ورد لفظ قل في القرآن الكريم (٣٣٢) مرة (١). وأعتقد أنها وردت لثلاثة أغراض :

الغرض الأول : التبليغ إلى الناس. ومنه قوله تعالى (٢) : (قُلْ يا أَيُّهَا

__________________

(١) راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن / محمد فؤاد عبد الباقي ، مادة «قل».

(٢) الأعراف ١٥٨ ، يونس ١٠٤ و ١٠٨ ، الحج ٤٩.

٥١

النَّاسُ). و (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ)(١).

الغرض الثاني : نفع المأمور بالقول أي القائل له. حيث يأمرنا سبحانه أن نقول : الله أحد الله الصمد لنفعنا. ولأجل أن نعرف التوحيد وأن نعرف نسبة الرب ، ونحو ذلك.

الغرض الثالث : عدم مناسبة نسبته إلى الله سبحانه. فالاستعاذة إنما هي للمخاطب دائما. وهي شيء أدنى من أن ينطق بها الله سبحانه عن نفسه. لأنه تعالى منيع لا يتضرر ولا يخاف.

وهذا هو الفرق بين المعوذتين وسورة التوحيد. فإن الله تعالى شهد لنفسه بالتوحيد في قوله (٢) : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ ...) لأن التوحيد يناسب أن ينطقه الخالق والمخلوقات معا. فالله يقول : (اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ). بينما الاستعاذة خاصة بالمخلوق. فلا بد أن تكون لفظة قل ، موجودة.

وعلى أي حال ، فكلا الغرضين الأخيرين متحققان لنا ، في هذا المورد. فلا يمكن حذف قل. بخلاف مثل قوله (٣) : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقوله (٤) : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ونحوها من فواتح السور ، فإنه يناسب صدورها من الباري نفسه.

سؤال : قالوا في علم الأصول : إن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب. ومن المعلوم أن (قل) هي من صيغة الأمر. فهل هي ظاهرة بالوجوب أو في مطلق المطلوبية ، أعني الأعم من الوجوب والاستحباب؟

جوابه : إنه يمكن إقامة عدّة أطروحات على أن قل لا تدل على الوجوب.

__________________

(١) الفرقان / ٧٧.

(٢) آل عمران / ١٨.

(٣) الفاتحة / ١.

(٤) الحديد / ١ ، الحشر / ١ ، الصف / ١.

٥٢

الأطروحة الأولى : إن المراد منها الأثر الوضعي (الدنيوي أو الأخروي) وهو دفع الشر ، والاستعاذة بالله سبحانه من حصوله. وليس المراد منها الحكم التكليفي. والوجوب هو حكم تكليفي لا وضعي. فلا تكون دالة عليه.

الأطروحة الثانية : إن صيغة الأمر إنما يراد بها الوجوب ، فيما لا يقع في مورد احتمال الحظر. وأما إذا كان في ذلك المورد ، فيراد بها الإباحة كما في قوله تعالى (١) : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا). أي يجوز لكم الصيد ، لا أنه يجب عليكم.

فإذا التفتنا أن احتمال الحظر موجود في مورد الآية ، فإنه قد يتصور الإنسان أنه لا يجوز له أن يستعيذ من الشر أو الخطر ، بل يجب عليه التسليم والرضا بقضاء الله سبحانه ، أو قد يعتبر ذلك شكلا من أشكال إساءة الأدب أمامه سبحانه. فجوابا على ذلك يجيز لنا الله تعالى أن نستعيذ به عند ما نقع في ضرر أو ضرورة.

إذن ، فالاستعاذة هنا في مورد احتمال الحظر ، فيكون الأمر بها دالا على الإباحة لا على الوجوب.

الأطروحة الثالثة : إن هذا بمنزلة الأمر التقديري أو التعليقي ، وليس صريحا. كما لو قال : إذا أردت الاستعاذة فقل كذا. فيكون معلقا على أمر واجب فلا يكون للوجوب. كما لو قيل : إذا قمت للنافلة فتوضأ أو إذا أكلت فقل : بسم الله. وهنا : إذا وقع عليك الشر والضرر فقل أعوذ برب الناس. فهو ليس ابتدائيا ، بل هو منوط بشعور الفرد بالخوف والعجز والحاجة. والمفروض بالمؤمن أن يكون دائم الشعور بالحاجة إلى الله سبحانه.

إن قلت : إن هذه التعليقية لا تنافى الوجوب ، بل تكون موضوعا له. كما في قولنا : إذا استطعت فحج.

__________________

(١) المائدة / ٢.

٥٣

قلنا : إن ذي المقدمة لما لم يكن واجبا ، لم تكن المقدمة واجبة. وهنا ليست الاستعاذة إلزامية في نفسها. ولا يحتمل وجوبها في الارتكاز المتشرعي ، فلا يكون النطق بها واجبا أيضا. وهذا قرينة على أن (قل) ليست للوجوب ، وإنما هي للحكم الوضعي أو للاستحباب أو لجامع المطلوبية بعنوان إظهار الضعف والخضوع أمام الله سبحانه. قال الله تعالى (١) : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً). إذن ، ففعل الأمر هذا لا يدل على الوجوب من الناحية الفقهية. وإن كان دالا عليه من الناحية الأخلاقية.

فإن قلت : إن قراءة السورة والاستعاذة بها مقدمة لدفع الخطر فينبغي أن نحمل (قل) على الوجوب لا على الاستحباب.

قلت : جواب ذلك من عدّة وجوه :

الوجه الأول : إن هذا يختص بالخطر الواجب الدفع. وهو المتصف بأمرين : أن يكون داهما وعظيما وأن يكون ممكن الدفع. وليس كل خطر ممكن الدفع على أي حال. فإذا لم يكن الخطر كذلك لم يكن واجب الدفع. فلا تكون مقدمته وهي الاستعاذة واجبة.

الوجه الثاني : يختص الوجوب ـ على تقدير ثبوته ـ بما إذا كانت قراءة السورة مؤثرة في دفع الخطر عنه. وذلك فيما إذا كان الإنسان بدرجة عالية من درجات اليقين. وأما لو كانت قراءته لها غير مؤثرة ، كما هو الحال في أغلب الناس ، فلا تكون مقدمة لدفع الخطر ، فلا تكون قراءتها واجبة.

الوجه الثالث : إنه بعد التنزل عن الوجهين السابقين ، قلنا إن (قل) هي لجامع المطلوبية ، فإن استعملت للحصة الاستحبابية كانت مصداقا للجامع ، وإذا استعملت بالحصة الوجوبية كانت مصداقا له أيضا. وكلاهما استعمال حقيقي بنحو الاشتراك المعنوي ، وليس بنحو الاشتراك اللفظي.

ونظيره من القرآن قوله تعالى (٢) : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا

__________________

(١) الفرقان / ٣.

(٢) المائدة / ٦.

٥٤

وُجُوهَكُمْ). لدى تطبيقه على الفريضة تارة وعلى النافلة أخرى.

سؤال : لما ذا نسبت هذه الأسماء الحسنى إلى الناس ، واختصت بذكرهم ، دون غيرهم ، كالعالمين. فقال تعالى : (إِلهِ النَّاسِ) ، ولم يقل إله العالمين ، مثلا ، وكان التركيز على الناس ثلاثا في السورة.

جوابه من عدّة وجوه :

أولا : عدم وجود كلمات لغوية عديدة تناسب التناسق السيني الموجود في السورة الكريمة ، إلّا الناس والخناس.

ثانيا : الاهتمام والتركيز على الناس ، لأن الاستعاذة إنما هي لهم لا للملائكة ولا للحيوانات ، لأن الملائكة أعلى من الشعور بالخوف والحيوانات أدنى من ذلك.

ثالثا : إن كل رحمة إنما هي لموضوعها ، والاستعاذة رحمة ، وموضوعها الناس. وذلك لأجل العموم والخصوص ، فالعموم للناس كلهم والخصوص بهم دون سواهم.

فالاستعاذة تكون معقولة من زاويتين : من زاوية العبد لكونه مستعيذا. ومن زاوية الرب سبحانه لأنه عائذ وراحم ومجيب الدعاء. فيجيب دعاء العبد بصفته واحدا من الناس.

رابعا : إن هناك مصلحة في تكرار كلمة الناس لزيادة التركيز والاهتمام بهذه الطبقة التي تدعي الكمال وليست كاملة ، فالكاملون (لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ)(١) ولا تخطر في ذهنهم الأسباب والمخاوف الأخرى ليجدوا حاجة إلى الاستعاذة. وإنما الاستعاذة للمتدنين ثقافيا وإيمانيا وعمليا ، وهم من يشعر بالخوف من الأسباب. وهذا هو من درجات الشرك الخفي. قال الله تعالى (٢) : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

__________________

(١) الأحزاب / ٣٩.

(٢) يوسف / ١٠٣.

٥٥

وقد أشرنا في درس الأصول إلى نكتة يحسن ذكرها هنا :

وهي أن لفظ الناس استعمله في القرآن الكريم وأراد به البشر المتدنين في الإيمان والثقافة والمقتربين إلى الذنب والرذيلة. قال تعالى (١) : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ). وكلا الاستعمالين للناس هنا كذلك. والأعم الأغلب من الآيات القرآنية التي ذكرت الناس كذلك. فإذا استطعنا القول إن الأعم الأغلب يكون قرينة على غيره ، فيكون ذلك قرينة على أن المراد بهم في هذه السورة أيضا ذلك.

ولأن الله سبحانه وإن كان هو إله كل الناس وملك كل الناس ورب كل الناس ، بمختلف مستوياتهم ، إلّا أن الذي يقصد الاستعاذة هو الذي يشعر بالخوف ، وهم طبقة غير عالية في درجات اليقين.

سؤال : لما ذا كرر الناس عدّة مرات ، ولم يعد لهم الضمير في المرتين الأخيرتين (٢).

جوابه : مضافا إلى ما قلناه في أجوبة السؤال السابق من ضرورة حفظ النسق القرآني السيني أولا ، وبيان الاهتمام والتركيز على الناس ثانيا ، وحفظ السياق القرآني في السورة ثالثا. وحفظ الذوق العام اللطيف فيها رابعا.

مضافا إلى كل كذلك ، قال صاحب الميزان (٣) : (وبذلك يظهر وجه تكرار الناس من غير أن يقال : ربهم وإلههم وملكهم. فقد أشير إلى أن كلا من الصفات الثلاث ، يمكن أن يتعلق بها العوذ وحدها من غير ذكر الآخرين لاستقلالها) أي استقلاليتها في دفع الشر ، فكل واحد منها له استقلالية ، وإنما اجتمعت كلها لمزيد الرحمة والعطاء. ولو ذكر الضمير لكان المنظور جملة واحدة أو شيئا مجملا ، فاقدا للاستقلالية.

__________________

(١) آل عمران / ١٧٣.

(٢) كما لو قال : أعوذ برب الناس ملكهم وإلههم ...

(٣) انظر : ج ٢٠ ، ص ٣٩٦.

٥٦

هذا مضافا إلى وجهين آخرين محتملين :

الوجه الأول : إن هذه الأسماء الحسنى ، إنما تكون مؤثرة في الاستعاذة إذا أسندت إلى الظاهر دون الضمير.

الوجه الثاني : إنها لو أسندت إلى الضمير ، اقتضت التعاطف بالواو. بأن يقول : رب الناس وإلههم وملكهم ونحو ذلك. ولا معنى لحذف الواو عندئذ. مع العلم أن الحكمة اقتضت حذفه فلزم ذكر الظاهر من أجل ذلك.

سؤال : لما ذا ذكرت الأسماء الثلاثة ، ولم يكتف بواحد منها؟

جوابه من عدّة جهات. منها :

أولا : ما أشرنا إليه من زيادة الرحمة في البشر المستعيذين من الشر. من حيث إن دفع الشر وإن كان يحدث في واحد من الأسماء إلّا أن دفعه ثلاث مرات أو بثلاثة أسماء أوكد وأشد وأسرع.

ثانيا : زيادة التركيز والأهمية لذات الله سبحانه. فهو إله ورب وملك ، وقد يجمع هذه الصفات كلها لنفسه ، وكان من الحكمة التنبيه على ذلك. قال تعالى (١) : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).

ثالثا : وهو ما نعرضه كأطروحة لدفع الاستدلال المقابل :

إن هذه الأسماء الحسنى قد تكون مفردة ، كما هو فهم مشهور المفسرين ، وقد تكون مركبة. فإله اسم مفرد. ولكن (إِلهِ النَّاسِ) اسم آخر. وكذلك (مَلِكِ النَّاسِ) و (بِرَبِّ النَّاسِ). إذن يوجد في السورة ثلاثة أسماء مركبة.

وهنا لا بد من ضمّ فكرة أخرى كأطروحة أيضا. وهي :

إن الأثر لا يؤثر ولا يحصل إلّا بضم هذه الأسماء الثلاثة كلها. فلا بد

__________________

(١) الزمر / ٦.

٥٧

من الاستعاذة بهذا المجموع لكي يندفع الشيطان الرجيم. في مقابل ما رجحه صاحب الميزان (١) وأشرنا إليه قبلا من استقلالية هذه الأسماء ، وتأثير كل واحد منها بانفراده.

سؤال : لما ذا حذفت الواو العاطفة بين هذه الأسماء الثلاثة؟

جوابه : من وجوه :

أولا : إنه هو الأنسب بالذوق والسياق القرآني. ويكفينا في ذلك أن نلتفت إلى صورة ما إذا كانت الواو العاطفة موجودة. فكم سيكون السياق مخالفا للذوق؟

ثانيا : إن المسألة اختيارية للمتكلم ، وقد أشرنا في المقدمات ، أننا ليس لنا أن نعترض على المتكلم فيما يقول ، أيا كان.

ثالثا : إبراز هيبة وهيمنة هذه الأسماء الحسنى ، سواء قلنا إنها مفردة أم مركبة. وهو جانب بلاغي. إذ مع وجود الواو يتضاءل هذا الجانب بلا شك.

رابعا : ما أشار إليه الطباطبائي في الميزان (٢) أنه لأجل جعل كل من هذه الصفات هي سبب مستقل في التأثير ، بينما لو عطف بالواو ، لكان السياق مشعرا بأن المجموع هو المؤثر.

قوله تعالى (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ).

الوسواس بالكسر مصدر أو صفة مشبهة : حديث النفس ، كالصوت الخفي الذي يشعر به الفرد في داخله ، كالوسوسة. وأما بالفتح فلا يمكن أن يكون بنفس المعنى ، وإلّا كان مخلا بالاشتقاق ، على ما سيأتي.

والخنّاس صيغة مبالغة من الخنّوس ، بمعنى الاختفاء بعد الظهور. يعني :

__________________

(١) الميزان ج ٢٠ ، ص ٣٩٦.

(٢) المصدر والصفحة.

٥٨

كثير الاختفاء بعد الظهور. وهو ملازم لكثرة الظهور أيضا ، لأنه إذا قلّ ظهوره عددا قلّ خنوسه أيضا.

سؤال : لما ذا خصّ الشر بالذكر؟

جوابه : لأن أصل وجود الشيطان لنفسه نعمة وخير. ولا تكون الاستعاذة من ذات الشيطان ، بل من تأثيراته السيئة على الإنسان.

فإن قلت : فإننا نقول كما ورد (١) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فيكون استعاذة من ذاته لا من شرّه.

قلنا : إذا لم يكن الشرّ مذكورا فهو مقدّر ومقصود لا محالة. لعدم الداعي إلى الإشارة إلى الشيطان بصفته أحد الموجودات فحسب.

سؤال : الوسواس ، مصدر ـ كما عرفنا ـ بمعنى حديث النفس فينبغي أن يكون بالكسر. مع أنه ورد في القرآن بالفتح.

جوابه : أولا : إن المصدر قد يفتح وقد يكسر ، في اللغة.

ثانيا : إن الوسواس بالفتح ، ليس معناه المصدرية. بل هو صيغة مبالغة من اسم الفاعل أي الموسوس. وهذا أقرب إلى الحدس. فلذا لا نضطر إلى تقدير مضاف أي : ذي الوسواس كما ذكروا. فمعنى الوسواس الخناس : الموسوس الخناس.

وإذا قلنا إن الوسواس ، بالفتح ، بمعنى الوسواس بالكسر ، وهو معنى مصدري ، فسيكون الألف واللام داخلا على المضاف. وهو باطل. وبالإيضاح : يكون بمعنى وسوسة الخناس. ودخول الألف واللام على المضاف غير ممكن في اللغة.

اللهم ، إلّا إذا لم يكن بمعنى المصدر ، أو يكون بتقدير (ذي) أي ذا الوسوسة الخناس. بينما يكون بناء على ما ذكرنا بمعنى الموسوس والخناس صفة أخرى ، وليس مضافا إليه.

__________________

(١) انظر نحوه في وسائل الشيعة ج ٤ ص ٨٨٠ ـ ٨٠١.

٥٩

في الرواية في مصادر الفريقين (١) : إن الشيطان جاثم على قلب كل إنسان ، فإذا ذكر الله خنس ، وإذا غفل وسوس. والوسوسة كلام يشعر به الإنسان في ذاته ، لذا يقول الشاعر :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فالإنسان يستطيع أن يتحدث مع نفسه ، ويشعر كأن أحدا في باطنه يتحدث معه. فإذا كان هذا الحديث باطلا ، فهو من الوسوسة.

ومحل الشاهد : إن عمل الشيطان ليس الوسوسة فقط ، بل يعمل أعمالا عديدة في باطن النفس ، ولذا كانت الاستعاذة من شرّه مطلقا ، وليس الأمر خاصا بالوسوسة.

سؤال : إنه قد يشعر الفرد بأن الاستعاذة من خصوص الوسوسة لا من مطلق أعمال الشيطان. وذلك من قبيل قوله تعالى (٢)(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). أي أحمده بهذه الصفة ولأجل كونه فاعلا لهذا الفعل. وإلّا فمن الناحية اللغوية والعرفية ، إن (الذي) صفة والله موصوف ، ولا دخل له بهذه الجهة.

إلّا أن الإشعار العرفي هو أن الحمد بهذا السبب. وفي القرآن الكريم والأدعية والسيرة اللغوية شواهد كثيرة على ذلك.

فهل تنطبق مثل هذه الفكرة على قوله تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ). أي من حيثية الوسوسة دون غيرها؟

جوابه من وجوه :

أولا : إنه يمكن فهم الإطلاق من كلمة (شر) في الآية الكريمة ، وهي عامة لكل الشرور وغير خاصة بالوسوسة.

__________________

(١) انظر نحوه في الميزان ج ٢٠ ص ٣٩٧ ، وانظر تفسير البرهان ج ٤ ص ٥٣١.

(٢) سورة إبراهيم / ٣٩.

٦٠