منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

وهذا هو الموافق مع ظاهر مادة أعبد ، ومفادها كلي العبادة ، فيكون المراد من الموصول كليا ، والكلي لا يعقل. ويكون المعنى : أنتم لا تعبدون معبودي وأنا لا أعبد معبودكم.

الوجه الخامس : إن ك «من» الموصولة حدين : حدّا أدنى ، وهو المشهور ، حيث قالوا : إنها لمن يعقل ، وما لغير العاقل. وحدا أعلى ، وهو ما نعبر عنه بعالم الخلق أو عالم الإمكان أو عالم المحدودية.

أما ما كان أعلى من هذه العوالم الثلاثة وهي الإمكان والخلق والمحدودية ، فهو خارج عن حد «من» الموصولة ، وهو الله تعالى ، فإنه أعلى من عالم الإمكان لأنه واجب الوجود ، وأعلى من عالم الخلق لأنه الخالق. وأعلى من عالم المحدودية لأنه لامتناه بذاته وصفاته. إذن فهو أعلى من أن نعبّر عنه ب (من) لأنه أعظم من كل من «يعقل».

إذن ، فمن ، حدها الأدنى البهائم ، وحدها الأعلى من كانت حكمته وعقله غير محدود. فلا نعبّر عن كلا الحدين بمن التي هي للعاقل ، فيتعين التعبير عنه بأسماء موصولة أخرى.

فهذه أيضا ، أطروحة صالحة للجواب.

سؤال : هل إن ما موصولة أم مصدرية؟ حيث قال العكبري (١) : يجوز أن تكون ما بمعنى الذي والعائد محذوف. وأن تكون مصدرية ولا حذف. والتقدير : لا أعبد مثل عبادتكم.

جوابه : إننا نلاحظ هنا أن ما دخلت على الفعل المضارع ثلاث مرات ، وعلى الماضي مرة واحدة ، فنحن بين أمرين :

فإما أن نقول : إن المصدرية كما تدخل على الفعل المضارع فإنها تدخل أيضا على الفعل الماضي ، أو إنها لا تدخل على الفعل الماضي لأنها لا تسبك مع الماضي بمصدر. إذن فقوله : ما عبدتم ، لا يمكن أن تكون مصدرية.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٨.

١٤١

فمن أجل وحدة السياق إما أن تكون كلها مصدرية أو أن تكون كلها موصولة. ولا يمكن التغاير بينها. وما دام أحدها متعينا في الموصولية ، وهي الداخلة على الفعل الماضي ، فنحمل الباقي الذي هو مشكوك على ما هو متيقن. فتكون كلها موصولة ، وليس فيها مصدرية.

سؤال : قوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). قد يقال : إنه يعطي إشعارا بإقرار الدين الذي هم عليه. بل أكثر من ذلك ، وهو عدم الأمر بالخروج منه ، وعدم المنازعة فيه. فهل هذا هو المقصود أم لا؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن ذلك على خلاف الحال القطعي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وعقيدته ودعوته وحروبه وتكسيره الأصنام. مثل قوله تعالى (١) : (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).

وهذا ما التفت إليه صاحب الميزان ، حيث قال (٢) : فالدعوة الحقة التي يتضمنها القرآن ، تدفع ذلك أساسا.

الوجه الثاني : قال في الميزان (٣) : وقيل : الدين في الآية بمعنى الجزاء والمعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي.

أقول : يعني لكم ولي يوم للإدانة وتحمل المسئولية ويوم للثواب والعقاب وهذا معنى جيد ، ولا أقل من الاحتمال المبطل للاستدلال.

فإن هؤلاء الكفار المخاطبين بهذه السورة لا دين لهم ، أي ليس لهم مبدأ وعقيدة ، وكل فكرهم خراب لا أهمية له. وذلك بأحد تقريبين :

التقريب الأول : إن الدين هو الدين السماوي. وأما المخترعات الأرضية الدنيوية ، كالماركسية وغيرها ، فليست بدين. بل تكون كقوله تعالى (٤) :

__________________

(١) يونس / ٤١.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٧٤.

(٣) ج ٢٠ ، ص ٣٧٥.

(٤) النجم / ٢٣.

١٤٢

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). فيكون الدين بالنسبة إليهم سالبة بانتفاء الموضوع.

وهذا يقرّب أن المقصود في الآية التي هي محل الكلام من الدين ليس العقيدة ، بل الجزاء.

التقريب الثاني : إن الدين أصول وفروع أو عقيدة وتشريع أو فقه. وأما الآراء التي لا تقابل الأصول والفروع ، فهي بمنزلة التسيّب عمليا وفقهيا وسلوكا ، فهم لا دين لهم. بل يكون أيضا بمنزلة السالبة بانتفاء الموضوع. فيتعين معنى الجزاء.

الوجه الثالث : إن الكلام في قوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ) ، ليس للإقرار بل للاختصاص. وهناك قرينتان على ذلك :

الأولى : قرينة عامة ، وهو هدف السورة ، كما عرفناه ، وهو الفرقة والانعزال بين الحق والباطل. والسياق العام للسورة حال على ذلك ، مضافا إلى الظهور اللغوي. فأهل الباطل مختصون بكفرهم لا أنهم مقرون عليه.

الثانية : قرينة خاصة ، وهي ظهور اللام بالاختصاص لغة. وهذا مما يدم القرينة العامة. وليس في العبارة ما هو زائد على ذلك ليدل على الإقرار ، بأي حال.

١٤٣
١٤٤

سورة الكوثر

وهي أصغر السور ، لا بعدد الآيات ، بل بعدد الكلمات والحروف. وقد أشار المفسرون إلى ذلك. كما أن لها هدفا واضحا ، على بعض التقادير ، كما سيأتي بيانه.

وأما عن تسميتها ، ففيها الأطروحات الآتية :

الأولى : الكوثر ، وهو الاسم المشهور.

الثانية : السورة التي ذكر فيها الكوثر. وذلك على طريقة الشريف الرضي. (قدس‌سره).

الثالثة : إعطاؤها رقمها في ترتيبها من المصحف الموجود وهو : ١٠٨.

وأهم الأسئلة التي قد ترد في هذه السورة المباركة ، هي عن معنى : الكوثر والنحر والأبتر.

سؤال : ما معنى الكوثر؟.

جوابه : قال الرازي (١) في هامش العكبري : إنه الخير الكثير. فوعل من الكثرة. كقولهم : رجل نوفل أي كثير النوافل. ومنه قول الشاعر :

وأنت كثير يا ابن مروان طيب

وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

أقول : ينبغي أن نسلم بأن الكوثر هو الخير الكثير. أو كثرة الخير. لا بمعنى ذو الخير الكثير. وإن صح ذلك مجازا ، وإلّا فسوف يسقط تفسير الآية. إذ يكون المعنى : إنا أعطيناك ذا الخير الكثير. وهو مما لا محصل له

__________________

(١) ج ٢ ص ١٥٧.

١٤٥

إلّا على بعض التفاسير الشاذة. بأن يراد من الكوثر المصدر ، ويسند إلى الرجل تجوزا ، كما يقال : زيد عدل ، أي ذو عدل أو متصف بالعدل. فنحتاج إلى التقدير. وهذا هو الاشتباه الذي وقع به الرازي.

والكوثر يمكن أن يكون بمعنى المصدر : وأن يكون بمعنى اسم المصدر. والفرق بينهما ـ كما أشرنا في درس الأصول ـ : إن المصدر عبارة عن المعنى حال كونه ملحوظا متحركا ومستمرا. واسم المصدر عبارة عن المعنى حال كونه ثابتا قائما بنفسه. فالخير الكثير يمكن أن يلحظ ثابتا مفهوما ، فيكون اسم مصدر ، ويمكن أن نتصور له معنى مستمرا ، فيكون مصدرا.

وعلى ذلك ، فالكوثر هو الخير الكثير أو كثرة الخير ، وعليه تحمل سائر المعاني التي ذكرت للكوثر. حتى أنهاها بعضهم إلى ستة وعشرين معنى ، كما في الميزان (١). وكلها مصاديق بالحمل الشائع منه.

ومن هنا يتضح ما ذكره في الميزان ، حيث قال (٢) : وقد اختلفت أقوالهم في نفس الكوثر اختلافا عجيبا. فقيل : هو الخير الكثير. وقيل : نهر في الجنة ، وقيل : حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجنة ، أو في المحشر ، وقيل : أولاده ، وقيل : أصحابه وأشياعه إلى يوم القيامة. وقيل : علماء أمته. وقيل : القرآن وفضائله كثيرة ، وقيل : النبوة. وقيل : تيسير القرآن وتخفيف الشرائع. وقيل : الإسلام. وقيل : التوحيد. وقيل : العلم والحكمة. وقيل : فضائله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل : المقام المحمود. وقيل : هو نور قلبه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى غير ذلك مما قيل.

أقول : فكل ذلك مصاديق من الكوثر ، ولا تنافي بينها ، وكلها ليست كوثرا بالمفهوم أو بالحمل الأولى. بل هي منه بالحمل الشائع. ومعه يمكن القول بصدق الأقوال كلها من هذه الجهة ، مع وجود حصص أخرى للخير الكثير لم يلتفت إليها المفسرون.

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣٧٠.

(٢) المصدر والصفحة.

١٤٦

وخاصة إن علمنا أن الكوثر من مختصات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكل مختصاته خير كثير بل هي غير متناهية ، بل إن كل صفاته كوثر ، من مصاديق الكوثر. وقد عرفنا أنها معان غير متنافية.

ولكن على تقدير التنافي ، كما هو ظاهر قائليها ، وظاهر المفسرين ، كما هو ظاهر الميزان أيضا ، لا بد من الرجوع في التعيين إلى حجة. وإلّا كان من تفسير القرآن بالرأي وهو محرم. والحجة هنا ، هي إما ظاهر القرآن أو هي السنة الشريفة ، فإن أقمناها ، لم يبق أمامنا إلّا معنيان أو ثلاثة ، على ما سيأتي.

والمعاني المهمة المتصورة ثلاثة :

المعنى الأول : الذرية ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). إذا فسرناه بما فسره مشهور المفسرين وأيده صاحب الميزان ، حين قال (١) : الأبتر من لا عقب له. فيكون ذلك ، بمنزلة القرينة المتصلة على أن المراد هو الذرية.

وبه يتحد مضمون السورة كلها ، وهدفها ، وقد وردت في ذلك روايات ، نقلها صاحب الميزان (٢). فراجع.

المعنى الثاني : الحكمة ، بدليل قوله تعالى (٣) : (مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً). فهي إذن خير كثير بالحمل الشائع بنص القرآن ، فيكون بمعنى الكوثر.

المعنى الثالث : حوض الكوثر. أو نقول : ماء في الدار الآخرة ، إما بشكل حوض أو نهر ، في القيامة أو في الجنة. فإن شكله الحقيقي عند الله ، وهو مما لا نفهمه الآن بطبيعة الحال.

وعلى أي حال ، فهذا المعنى ما استفاضت به الروايات. وأشهر حديث

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣٧١.

(٢) ج ٢٠ ص ٣٧٢.

(٣) البقرة / ٣٦٩.

١٤٧

روي (١) عن الفريقين : علي مع الحق والحق مع علي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. وهو حوض الكوثر لا غير.

وقلنا إنه لا تنافي بين هذه المعاني ، لورود روايات بوجود بواطن للقرآن الكريم. فليكن هذا منها.

ولكن مع التنزل عن ذلك ، يمكن القول : بأن هدف السورة بمنزلة القرينة المتصلة على أن المراد من الكوثر هو الذرية. ويدعمه أيضا النقل التاريخي (٢) بأن السورة إنما نزلت فيمن عابه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبتر ، بعد ما مات ابناه القاسم وعبد الله.

هذا ، مضافا إلى المعنى اللغوي ، للأبتر. قال الراغب في المفردات (٣) : البتر يستعمل في قطع الذنب ، ثم أجري قطع العقب مجراه ، فقيل : فلان أبتر ، إذا لم يكن له عقب يخلفه.

وإذا تخلينا عن ذلك ، لم يبق لقوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) فائدة ، بل سيكون للسورة هدفان ، لا هدف واحد ، أحدهما : إعطاء الكوثر ، والآخر : إن شانئك هو الأبتر. في حين أن وحدة الهدف ، مطلب جيد ، فينبغي أن نحمل السورة على ما هو جيد. فيكون بمنزلة القرينة المتصلة على أن المراد بالكوثر : الذرية كما قال صاحب الميزان : إن كثرة ذريته صلى‌الله‌عليه‌وآله هي المرادة وحدها ، بالكوثر الذي أعطيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إلّا أن ذلك قابل للمناقشة من أكثر من وجه :

وجه الأول : قبول أن للسورة هدفين ، وليس بالضرورة أن يكون واحدا ، فإن الهدف المتعدد موجود في كثير من السور. ووحدة الهدف في

__________________

(١) انظر أمالي الصدوق ص ٧٩ ومستدرك الصحيحين ج ٣ / ١٢٤ وتاريخ بغداد ج ٤ / ٣٢١ ومجمع الزوائد ج ٧ / ٢٣٥ ...

(٢) الدر المنثور ج ٨ ص ٦٤٧.

(٣) المفردات مادة : بتر ...

١٤٨

هذه السورة ليست قطعية. بل هي الأفضل ، كما ذكرنا.

الوجه الثاني : إن وجود القرائن الثلاث ، على أن المراد من الكوثر هو الذرية ، ينافي الروايات المستفيضة الدالة على كون المراد منه حوض الكوثر ، ومعه فيمكن اعتباره تقييدا أو تفسيرا للكوثر. فمن حق السنة ، أن تقييد ظاهر القرآن الكريم.

الوجه الثالث : عدم المنافاة بين كثرة الذرية وغيره من المعاني ، كما سبق أن بيّناه ، غاية الأمر أن الآية الأخيرة ، تكون خاصة بهذا المعنى فقط.

الوجه الرابع : إن كل ذلك مبني على أن الأبتر هو من لا ذرية له. وأما إذا فهمنا منه معنى أوسع من ذلك ، صح. لأن الأبتر هو مبتور الذنب.

فيصلح أن يكون مجازا لأي حرمان أو نقصان. ومعه فأي معنى قصدناه من الكوثر ، يمكن أن نقصد عدمه من الأبتر. ومنه الحرمان من الخير الكثير. فإنه معطى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومحروم منه عدوه ، فيتحد بذلك هدف السورة ويكون بعضها قرينة على بعض :

ويمكن أن نفهم العموم من الثلاثة ألفاظ في السورة :

* الكوثر : وهو الخير ، بالمعنى الكلي.

* الأبتر : منقطع الخير ، أي خير.

* شانئك : مطلق المنتقد والعدو. وكل عدو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يصدق عليه ذلك ، ولا ينبغي أن نحمله على ما ورد في الروايات (١) من أن المراد به «العاص بن وائل» لأن ذلك على خلاف مضامين أخبار الجري. كالذي ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام (٢) : إن القرآن حي لم يمت وإنه يجري كما يجري الليل والنهار وكما يجري الشمس والقمر. ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا. فمثل هذه الأخبار تكون قرينة على التجريد

__________________

(١) ان «ر الميزان ج ٢٠ ص ٣٧٤ ...

(٢) البحار ج ٣٥ ، ص ٤٠٤.

١٤٩

عن الخصوصية ليس هنا فحسب بل في كل القرآن.

كما أنه لا وجه لأن نفهم من (شانئك) خصوص هذا الرجل لأنها خالية من الألف واللام. ليمكن حملها على العهد. وإن كان ذلك هو سبب النزول ، إلّا أن المورد لا يخصص الوارد. كما هو القاعدة المتفق عليها.

وتكون النتيجة : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له الكوثر أي الخير الكثير من جميع الجهات. وهو أهل لذلك لأنه أعلى الخلق وأعلم الخلق. وعدوه خال من ذلك. وبيان ذلك هو هدف السورة. وكل من كان له بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أسوة حسنة ، وبالمعصومين (عليهم‌السلام) فإنه ينال من خيره صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقدار استحقاقه.

إن قلت : إننا إن فهمنا من الشانئ : العدو بالمعنى العام ، لم يكن أبتر ، لأنه قد أوتي خيرا كثيرا. كما نراه اليوم للكافرين. فإن الدنيا لهم متسقة ومستوسقة ، وليس لأهل الحق منها شيء. بل «أيديهم من فيئهم صفرات» (١) فكيف وصف الشانئ بأنه أبتر بهذا المعنى؟

قلت : إنه خير مادي ، خال من الخير المعنوي. فإن قلوبهم خراب من الهدى. وهذا هو الجانب الأهم في نظر الشريعة ، إلى حد يبقى الظاهر ناقصا جدا ، بل ملحقا بالعدم. بالرغم من أهميته.

مضافا إلى أننا لو لاحظنا هذا الخير الدنيوي ، بالقياس إلى خير الآخرة ، لرأيناه أيضا ملحقا بالعدم. كما روي عن الإمام الحسن السبط عليه‌السلام (٢) : ما مضمونه : إنك لو رأيت ثوابي في الجنة لقلت : إني الآن في سجن ، هذا بالرغم من حسن لباسه وكثرة ماله.

إذن ، فابن الدنيا (أبتر) من الناحية العقلية والمعنوية والأخلاقية وإن لم يكن كذلك من الناحية الدنيوية.

__________________

(١) ديوان دعبل الخزاعي : ص ٩٥.

(٢) البحار : ج ٤٣ ص ٣٤٦.

١٥٠

قال في الميزان (١) : وقيل : المراد بالأبتر المنقطع عن الخير ... وقد عرفت أن روايات سبب نزول السورة لا تلائمه ... إلخ.

أقول : إن القرينة المتصلة في السورة ، إنما هي على ذلك ، ووحدة هدف السورة منه ، كما تقدم.

سؤال : ما هو وجه تعلق الكوثر والأبتر ، بالنحر ، والصلاة؟ في قوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)؟.

جوابه : المراد به إعطاء التوجيه والتعليم ، بأسلوب الشكر على هذه النعمة بالكوثر. فإن أسلوب الشكر هو بالصلاة والنحر.

وهذا المعنى يوافق المعنى (الكلامي) بوجوب عبادة المنعم.

سؤال : ما المراد بالنحر؟

جوابه : فسروا النحر بعدة معان تعرض الميزان للمهم منها حيث قال (٢) :

والمراد بالنحر على ما رواه الفريقان ... هو رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر. وقيل : صلّ صلاة العيد وانحر البدن. وقيل : صلّ لربك واستو قائما عند رفع رأسك من الركوع. وقيل غير ذلك.

أقول : والذي أفهمه أمران :

الأمر الأول : وهو الأمر الظاهر : فالمطلوب هو الصلاة والنحر. وذلك لا يختص بالعبد بل هو ممكن في سبيل الله في سائر أيام السنة. كما أنه لا يختص بالبدن. وإن اختص بالنحر (والنحر لا يكون إلّا للجمال) ولكن يمكن التجريد عن الخصوصية لكل ذبح وجريان دم ، أو لكل صدقة على المحتاجين. والصدقات له سبحانه ، وهو يقبضها (٣).

الأمر الثاني : وهو الأمر الباطن : فالصلاة هي التوجه إلى الله سبحانه

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٧٤.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٧٤.

(٣) كما قال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ). التوبة / ١٠٤.

١٥١

بالتكامل الحقيقي. والنحر هو نحر النفس الأمارة بالسوء وكبت الشهوات. وعلى ذلك ستكون عدة افتراضات منها :

أولا : إن قلنا إن الكوثر هو حوض الكوثر ونحوه. والأبتر هو مقطوع الذرية ، كان للسورة هدفان : أحدهما : في الآيتين الأوليتين ، لأنهما متكفلتان لذكر النعمة وكيفية شكرها ، كما سبق. والثاني : في الآية الأخيرة.

ثانيا : إننا إن قلنا إن الكوثر كثرة الذرية والأبتر عدمها ، اتحد هدف السورة وتعين هدف الشانئ بواحد.

ثالثا : إننا إن فهمنا العموم اتحد الهدف أيضا ، إلّا أن العموم ينبغي أن يكون شاملا لكل ألفاظ السورة. وإن الخير المعطى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير معطى لعدوه طبعا.

ولكن يبقى الأقرب إلى الوجدان : الهدف الواحد ، لعدة أسباب :

الأول : ما قلناه من أننا نفهم العموم ، أي بيان خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الخاصة به وبأتباعه ، ولا تشمل الفسقة والفجرة. وأن طريقة الشكر لهذه العطاءات تكون بالنحر والصلاة.

الثاني : أن نفهم من الكوثر والأبتر معنى متقابلا خاصا ، ولكنه متناسق إلى حد يحفظ تناسق السياق. وأوضح أشكاله هو أن الكوثر هو كوثر الذرية ، والأبتر عدم الذرية. وهذا هو الموافق مع سبب النزول.

وإن فهمنا من قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) : رفع اليد في الصلاة أو رفع الجسم بعد الركوع ، فهذا وإن كان موافقا مع الصلاة ، إلّا أن فيه أخذ الآية مستقلة عن السورة ، وهو باطل جزما. إذ لا يكون لذكرها وجه معتد به. لأن شكر النعمة لا يكون بذلك (أي بحركة اليد أو رفع الجسم). أو أنه أقل من أن يكون بمنزلة الشكر. بخلاف ما إذا كان يراد بالنحر : نحر البدن أو نحوها أو يراد به نحر الباطل في النفس أو في الغير.

والله سبحانه يرشدنا إلى الشكل الأمثل من الشكر على إعطاء الكوثر ،

١٥٢

بطبيعة الحال. لا إلى صورة ضئيلة منه.

إن قلت : فإن الصلاة تكفي شكرا ، فإنها عمود الدين ، ويكون (انحر) جزءا للصلاة استحبابيا أو وجوبيا ، مثل (انحر القبلة) أي توجه إليها بنحرك فلا حاجة إلى فهم نحر البدن ونحوها.

قلت : هذا لا يتم لعدة وجوه ، منها :

أولا : إنه يكون أقل شكرا. لأنه من الواضح أن إضافة نحر البدن إلى الصلاة أكثر شكرا.

ثانيا : التساؤل عن ذكر هذا الجزء بالتعيين من الصلاة دون غيره ، إلّا أن يراد به كون اختياره من أجل الحفاظ على قافية الراء. وهو وجه ، إلّا أن ما سبق أقوى بلا شك.

١٥٣
١٥٤

سورة الماعون

وفي تسميتها عدة أطروحات :

الأولى : الماعون ، وهي التسمية المشهورة.

الثانية : اليتيم. كما سماها أبو البقاء العكبري (١).

الثالثة : السورة التي ذكر فيها الماعون أو التي ذكر فيها اليتيم. سيرا على طريقة الشريف الرضي قدس‌سره.

الرابعة : الإشارة لها برقمها في المصحف المتداول وهو ١٠٧.

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ). الاستفهام هنا على معنى الاستنكار وليس استفهاما حقيقيا. لأن المراد الاستنكار من العمل لا الرؤية الحقيقية.

سؤال : ما المراد بالرؤية؟

جوابه : عدة وجوه :

الأول : ما قاله في الميزان (٢). وهو الرؤية البصرية.

الثاني : ما ذكره أيضا (٣) من احتمال أن تكون بمعنى المعرفة.

الثالث : أن يكون المراد الرؤية بالبصيرة ، وهي الرؤية القلبية التي تنصب مفعولين. ويكون التقدير : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) فاعلا لكذا وكذا. أو رأيته مكذبا بالدين.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٩.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٦٨.

(٣) المصدر والصفحة.

١٥٥

سؤال : ما المراد بالذي؟

جوابه : من وجهين :

الأول : أن يكون المراد به الجزئي ، إن فهمنا المعنى المادي. وهو الفهم الضيق ، لأنه خلاف أخبار الجري. وعلى هذا التقدير يكون المرئي جزئيا.

الثاني : أن يكون المراد به الكلي أو اسم الجنس. ومعه لا يحتمل أن تكون الرؤية حسية ، لأن الكلي لا نراه حقيقة بل مجازا. فإن أسندت إلى الكلي ، فإنما المراد مصاديقه وأفراده. فتتعين عندئذ الرؤية العقلية أو القلبية. لأن العقل (وهو النفس الناطقة) يدرك الكليات إدراكا ابتدائيا كاملا. أي بغض النظر عن أفراده.

سؤال : ما المراد بالدين؟

جوابه : من وجهين :

الأول : الإدانة. أي يوم القيامة أو مطلق الإدانة والمسئولية أمام الله سبحانه وتعالى.

الثاني : الملة أو العقيدة.

وكلا المعنيين متلازمان. لأن الذي يكذب بأحدهما يكذب بالآخر. فيكونان متساويين مصداقا. وإن كان الاحتمال الأول أرجح. لأن الذنوب المذكورة في السورة فيه إدانة ومسئولية أمام الله سبحانه.

سؤال : ما هو الوجه في ذكر الفاء في قوله تعالى : (فَذلِكَ)؟

جوابه : من عدة وجوه :

الأول : إنها فاء تفريعية ، لأن من يكذب بالدين يفعل ذلك. فيكون من قبيل التعبير عن المعلول الموجود في الرتبة المتأخرة.

الثاني : إنها بمنزلة التعليل إثباتا. أي بالدليل الآني أي الاستدلال بالمعلول على العلة. فإننا حين نرى عمله السّيّئ ، نعرف كونه مكذبا بالدين. فتكون بمنزلة التعليل للاستفهام الاستنكاري في أول السورة.

١٥٦

الثالث : إنها بمنزلة جزاء الشرط. قال في الميزان (١) : والفاء في «فذلك» لتوهم معنى الشرط. أقول : أي إن أداة الشرط وفعل الشرط مقدّران : على معنى : إن عرفته فهو المطلوب وإن لم تعرفه فاعرفه بصفاته ، فإنه كذا وكذا.

والوجوه التي لا تحتاج إلى تقدير هي الأفضل بطبيعة الحال. فإن التقدير خلاف الأصل وخلاف الظاهر.

سؤال : ما هو معنى : يدعّ؟

قرئ بالتخفيف : يدع اليتيم أي يهمله وينساه ، وقرئ بالتشديد وهو المشهور.

قال الراغب (٢) : الدع الدفع الشديد ، وأصله : أن يقال للعاثر : دع دع. كما يقال له : لعا. وقال في الميزان (٣) : الدع هو الرد بعنف وجفاء.

أقول : فيكون في الدع عناصر ثلاثة :

الأول : إن الدع يكون دفعا من جهة الظهر.

ثانيا : إنه دفع على حين غرة وغفلة. وهو المناسب مع احتقار المجرم.

ثالثا : ما قاله سيد قطب في بعض كتبه (٤) ، من أن الإنسان حين يدفع بعنف يخرج منه صوت «أع» فأخذ منه معنى الدع.

أقول : إن القرآن يستعمله كلفظ لغوي ، ولم يجد مناسبا إلّا ذلك. فإن اللغة قائمة أساسا على الأصوات. وهي منشؤها الطبيعي ، كالتألم والضحك وأصوات الحيوانات ، وغيرها. إذن ، فالدع والدفع من الألفاظ الصوتية. وفيه صوتان : أحدهما : فع. وهو يمثل الصوت الذي عبر عنه سيد قطب. ثانيهما : الدال. وهو صوت الضربة ، وهي التي إن أنتجت

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) المفردات مادة «دع».

(٣) ج ٢٠ ، ص ٣٦٨.

(٤) انظر مشاهد القيامة في القرآن الكريم.

١٥٧

سقوطا أو تقيؤا ـ لو صح التعبير ـ وقد تقدم الدال على الصوت الآخر ، كما هو كذلك تكوينا.

وكثير من الألفاظ من هذا القبيل ، كالتنفس فصوته : تن. فس. للشهيق والزفير. والتنخم والطقطقة والفأفأة. وغيرها.

سؤال : كيف يتم دع اليتيم؟

جوابه : يكون الدع على شكلين :

الشكل الأول : فعلي. وهو متوقف على حضور اليتيم وطلبه للمساعدة.

الشكل الثاني : تشريعي. وهو مناسب أيضا ، بل هو الأنسب. وطلب اليتيم يكون بلسان التشريع ، وبحرمانه يكون الإنسان قد عصى المشرّع له والمشرّع. فكما هو دع لليتيم هو دع الله عزوجل. وظلمه هذا إنما هو ظلم لنفسه ، قال سبحانه (١) : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

وقد فسرت هذه الآية الكريمة بأهل البيت (٢) لأنهم هم الشارع المقدس ، والتشريع بيدهم. فقد ظلموا أهل البيت (ع) بعصيانهم. وأما الله سبحانه فهو أمنع من أن يظلم.

سؤال : ما معنى «الحضّ» في قوله تعالى : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ).

قال في الميزان (٣) : الحضّ الترغيب. وقال الراغب (٤) : الحض التحريض كالحثّ. إلّا أن الحثّ يكون بسوق وسير والحضّ لا يكون بذلك.

أقول : الحثّ والحضّ : بمعنى واحد ، إلّا أن الأخير يزيد عليه بالأهمية والهمة. ومعه يكون المعنى : إن اليتيم يحض الآخرين على إكرامه. والعتب إنما يكون على من لا يحضّ على إكرامه.

__________________

(١) الأعراف / ١٦٠ والبقرة / ٥٧.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ٤٣٥.

(٣) ج ٢٠ ، ٣٦٨.

(٤) المفردات مادة «حضّ».

١٥٨

وهذا الفعل يحتاج إلى مفعول ، وهو محذوف. قال في الميزان (١) : والكلام على تقدير مضاف ، أي لا يرغب الناس. إلخ.

وهذا التقدير إن كان بالمعنى المادي ، فنحن في غنى عنه عرفا. لأن المفعول أحيانا يكون من الوضوح بمكان ، بحيث لا نحتاج إلى التصريح به. كما في الأفعال التالية : يرغب ويرهب ويخوف ويطعم ويخلق ، كله بمعنى : الغير. وكذلك يزرع ويأكل ويشرب. لا حاجة عرفا إلى التصريح بالمفعول كما قلنا.

سؤال : لما ذا عدل عن الإطعام إلى الطعام ، مع أنها المناسبة في المقام؟

هذا السؤال له جوابان :

الأول : إن الطعام مصدر ثلاثي يستعمل بدل المصدر الرباعي (أو المزيد) وهو الإطعام. وهو وارد في اللغة. كجرى وأجرى. تقول : أجرى الميزاب. وأجرى الميزاب الماء. فيكون المعنى : إنه لا يحض على إعطاء طعام المسكين.

الثاني : الطعام بمعنى الذات. وهنا نحتاج إلى تقدير ، أي إطعام الطعام أو إعطاؤه ونحو ذلك. ولا معنى له بدون تقدير. بينما لا نحتاج في الجواب الأول إلى تقدير.

قال في الميزان (٢) : قيل : إن التعبير بالطعام دون الإطعام للإشعار بأن المسكين كأنه مالك لما يعطى له. كما قال تعالى (٣) : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). أقول : اللام هنا للملك. كما نفهم الملكية من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) : الأرض لمن أحياها.

سؤال : لما ذا قال تعالى : (وَلا يَحُضُ) ولم يقل : ولا يطعم؟

__________________

(١) ج ٢٠ ، ٣٦٨.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) الذاريات / ١٩.

(٤) انظر نحوه في الوسائل ج ١٧ ، ص ٣٢٦.

١٥٩

جوابه : أولا : واضح من السياق عدم الأمرين. فهو لا يطعم المسكين ، ولا يحض على إطعامه. ومن هنا كان الانتقاد شديدا. ولو كان يطعم ولا يحض غيره ، لما كان شديدا.

ثانيا : إن عدم الحض له حصتان : إما مع ترك العمل نفسه ، وإما مع وجوده. فلو تنزلنا عن الوجه الأول ، وقلنا بشمول الآية لهما معا ، فتكون كلتا الحصتين مرجوحة. فإنه إذا كان ترك الحض مرجوحا حتى مع عمل نفسه ، فكيف إذا كان ذلك مع تركه.

سؤال : ما معنى المسكين؟

جوابه : قالوا : إن معناه الفقير. ورجح أكثر الفقهاء أنه أسوأ حالا من الفقير. وهذا ـ حسب فهمي ـ ليس بصحيح. فالفقير من لا مال له أو قل إنه لا يستطيع أن يصرف على حوائجه. وأما المسكين فهو لا يشبهه البتة. لأن المسكنة تعني الذلة. فالمسكين هو الذليل ، سواء كان غنيا أو فقيرا ، أو عالما أو جاهلا ، ذكرا أو أنثى. فتكون بينهما نسبة العموم من وجه تطبيقا بالحمل الشائع. إلّا أنه غلب استعماله في الذليل الناشئة ذلته من الفقر. لأن الفقر هو السبب الغالب للذلة.

وهذا هو المراد بالآية ، بدلالة القرائن المتصلة. أي الفقير الذي نشأت مسكنته من فقره.

وهذان اللفظان من الكلمات التي إذا اجتمعتا افترقتا. وإذا افترقتا اجتمعتا. يعني إذا افترقتا لفظا اجتمعتا في المعنى وإذا اجتمعتا باللفظ افترقتا في المعنى وإلّا فهما ـ على كلا التقديرين ـ متباينان في اللغة مفهوما. وإن كانا مجتمعين بنحو العموم من وجه تطبيقا ومصداقا.

سؤال : لما ذا يقال (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ). مع أن الصلاة عمود الدين؟ وهل يكون ذلك إلّا مثل قول الشاعر :

دع المساجد للعباد تسكنها

وقف على دكة الخمار واسقينا

ما قال ربك ويل للأولى شربوا

بل قال ربك : ويل للمصلينا

١٦٠