منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

سؤال : لما ذا وصف الجنات بأنها : (جَنَّاتِ عَدْنٍ)؟

جوابه : فيها أطروحتان :

الأولى : وهي المشهورة : أن عدن صفة لطبقة من الجنة. وهناك طبقات أخرى كالفردوس والخلد والفردوس الأعلى وغيرها.

الثانية : ما يستفاد من كلام الراغب في المفردات حين قال (١) : جنات عدن أي استقرار وثبات. وعدن بمكان كذا استقرّ. ومنه المعدن لمستقر الجواهر. وقال عليه الصلاة والسلام : المعدن جبار.

أقول : فهي جنات استقرار. ويلزمه أن تكون صفة لكل الجنات لا لبعضها أو لطبقة منها. فإن أي نوع منها ، يبقى فيه صاحبه ويستمر ويعدن فيه بتوفيق الله سبحانه. بل هي لا نهائية في الاستقرار.

ولدى الجمع بين الوجهين ينتج أمران :

الأول : إن تلك الجنة وما فوقها ، فسكانها خالدون فيها أبدا.

الثاني : إنه لا يلزم من ذلك أن المراتب الأدنى من الجنة خالدون فيها أبدا.

سؤال : لما ذا قال : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، ولم يقل من فوقها أو فيها أو عليها. وهذا وصف للجنة مكرر في القرآن الكريم.

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : الإشارة إلى المياه الباطنية في الجنة.

وهو غير تام : لأن ظاهر السياق هو الترغيب وحصول البهجة برؤية الأنهار. مع أن كونها باطنية لا يسبب اللذة المطلوبة للمؤمن. باعتبارها باطنية وغير مرئية. فوجودها كعدمها.

الوجه الثاني : أن تجري من تحتها ، أي على وجه الأرض ، كما تجري

__________________

(١) المفردات ، مادة : «عدن».

٣٨١

الأنهار في الدنيا ، ولعل حوض الكوثر أحد مصاديقها لو فسرناه بأنه نهر في الجنة. وكذلك ما ورد (١) : من أن فيها نهرا من لبن ونهرا من عسل ونهرا من خمر.

إلّا أن هذا بمجرده لا يتم ، لكونه خلاف الظاهر ، من حيث إن هناك تنافيا جزئيا ، بين كون الأنهار «من فتحتها» أو على وجه الأرض. ما لم يرجع الأمر إلى الوجه الآتي :

الوجه الثالث : يمكن أن تشبه درجات الجنة ومراتبها المتعددة بالعمارات العالية أو ناطحات السحاب. فإن أعطي المؤمن عدة درجات أو طوابق. فإنه يملك حينئذ ما تحتها. فالأنهار يراها تجري من تحته في الجنة ، لأنه ينظر إليها من فوق العمارة. فيصدق عليها حقيقة ذلك ، وإن كانت الأنهار جارية على سطح الأرض.

سؤال : ما هو وجه الجمع في الآية بين خالدين وأبدا. ألا يكفي كونهم خالدين فيها فقط؟

جوابه : من وجهين :

الوجه الأول : ما ذكره في الميزان بقوله (٢) : تأكيد بما يدل عليه الاسم.

الوجه الثاني : إن الخلود أقل من الأبد أي أنه لا يفيد الأزلية. وإنما تستفاد من قوله : أبدا.

فإن الخلود يمكن أن يكون له معنيان في اللغة :

الأول : بقاء شيء من شيء مدة طويلة ، كبقاء الأهرام في مصر ، والكعبة المشرفة في مكة ، وهو لا يعني البقاء الأزلي. لأن الفرع يفنى لا محالة بفناء الأصل.

__________________

(١) انظر تفسير الصافي ج ٢ ، ص ٥٦٤.

(٢) ص ٣٤٠ ، ج ٢٠.

٣٨٢

الثاني : ما ذكره الراغب حين قال (١) : الخلود هو تبرّي الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها. وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد تصفه العرب بالخلود ، كقولهم للأثافي خوالد. وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها ... ومنه قيل : رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب ، ودابة مخلدة هي التي تبقى ثناياها حتى تخرج رباعيتها.

ومنه يظهر بوضوح عدم التأبيد ، بل يكفي لذلك عدة سنوات كعشر سنين ، ونحوها!! ومنه يظهر بطلان إطلاقه على الله سبحانه وتعالى بكلا هذين المعنيين ، كما هو موجود فعلا في ارتكاز المتشرعة.

فلما لم يكن الخلود للتأبيد ، احتاج إلى القيد الدال عليه في الآية؟

سؤال : إن قوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ، ظاهر في التأبيد ، ولكنها مقيدة في آية أخرى وهي قوله تعالى (٢) : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ). فما هو الوجه في ذلك؟

جوابه : من عدة وجوه :

الأول : أن نقول بخلود السماوات والأرض ، وكونها أبدية. فتتوافق الآيتان. ويكون الاستثناء للانقطاع.

الثاني : أن نقول بعدم التأبيد للسماوات والأرض ، فيكون من قبيل التقييد ، ويكون التأبيد داخلا في المستثنى من الآية الثانية.

الثالث : أن نقول : إن المراد منها السماوات والأرض الباطنية وهي خالدة حتما ما دام الفرد مستمرا.

سؤال : حول قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ). وإشكاله : أنه ثبت في علم الكلام أن الله تعالى بسيط لا تدخله الحوادث والطبائع مثل الرضا والغضب ، مع أن ظاهر القرآن هو ذلك.

__________________

(١) المفردات مادة «خلد».

(٢) هود / ١٠٧.

٣٨٣

وجوابه : مع تنزيه الذات الإلهية عن الحوادث. أحد شكلين :

الشكل الأول : إن هذه الحوادث والطبائع ، يضعها الله سبحانه في نفوس أوليائه الذين هم قادة الخلق. ومن هنا ورد (١) : رضا الله رضانا أهل البيت.

الشكل الثاني : إننا قلنا في علم الأصول. إن الله تعالى خاطبنا بصفتنا عرفيين وبصفته عرفيا. أي نزّل نفسه إنسانا وتحدث معنا كأحدنا. فحصلت من ذلك التنزيل شخصية وهمية. وتلك الشخصية تكون محطّا للعواطف المذكورة في القرآن كالحب والبغض والرضا والغضب والنسيان (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ)(٢).

وهذان الجوابان كافيان. ولكن يمكن أن نقول أيضا : إن رضا الله ثوابه ، وغضبه عقابه ، وهو فهم المشهور ، ولكنه قابل للمناقشة :

أولا : إنه ليس بسعة الوجهين السابقين ، لوضوح عدم تفسير النسيان ونحوه.

ثانيا : إن ظاهر هذه الآية التي نتكلم عنها (في سورة البينة) أن الرضا غير الجنات بصراحة.

سؤال : ذكره القاضي عبد الجبار (٣). وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) إلى قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ). يدل على أن العلماء خير البرية. لقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وأنت إذا جمعت بين الآيتين ثبت ما ذكرناه. أقول : فهل الأمر كذلك؟

جوابه : نعم ، لظهور الآيتين معا في الحصر. أما إحداهما : فبإنما. وأما

__________________

(١) البحار / ج ٤٤ ، ٣٦٧.

(٢) التوبة / ٦٧.

(٣) تنزيه القرآن عن المطاعن : ص ٤٧٣.

٣٨٤

الأخرى فلأنه قال : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ). فكأنه قال : فقط لهم وليس لغيرهم. وإلّا لما قال : ذلك.

بل يقتضي الأمر أكثر من ذلك. وهو أن كل العناوين السابقة لهم لا تتعداهم إلى غيرهم : الذين آمنوا. وعملوا الصالحات ، لهم جنات عدن ، خالدين فيها أبدا ، رضي الله عنهم ، ورضوا عنه. وليس فقط خير البرية. إذن ، لا تبقى صفة معتدّ بها لغيرهم. وخاصة إذا فهمنا من الجنان مطلق الجنان ، وفهمنا من عدن مطلق الاستقرار والثبوت.

إن قلت : ولكن اختصاص كل هذه المزايا للعلماء غير مفهوم متشرعيا من ظاهر الكتاب والسنة. والمعروف أنه تعالى يجزي كل فرد على مستواه واستحقاقه. بل أكثر من استحقاقه ، بل أكثر من استحقاقه ، باعتبار الرحمة الإلهية ، بلا فرق بين الجاهل والعالم. فكيف تكون هذه المزايا للعلماء؟

قلت : إن ما استنتجناه إنما هو ظاهر القرآن الكريم ، بعد ضم آيتين كلتاهما تدل على الحصر ، ولكن ، مع ذلك ، فهو قابل لعدة أجوبة :

الأول : أن نعمم معنى العلماء. باعتبار أنه يراد من العلم مطلق العلم كالتفقه في الدين. فيشمل المتشرعة والمتفقهة ، فما زاد. وأما من كان دونهم ، فلا يكون كذلك.

وفيه : أن العلماء مقرونون بالخشية ، وظاهر الآية يدل على نسبة التساوي بينهما ، وليس العموم المطلق ، فكل من يخشى فهو عالم وكل عالم فهو يخشى ، ولا يمكن أن نوسع معنى الخشية ، لأنها معنى وجداني ، كما أمكن أن نوسع معنى العلم.

الثاني : أن ننفي ظهور التقسيم إلى قسمين ونقول : إن هناك طبقات وسطى كثيرة بين العالم والجاهل أو المؤمن والكافر. وحينئذ يصدق ما قيل. والله تعالى يعطي لكل فرد حسب استحقاقه. ومع ذلك فإنهم لا يتميزون بالمميزات العليا كالعلماء ، بل لا بد من وجود التفضيل بينهما.

الثالث : إنه بعد التنزل عن الوجهين الأولين ، وافتراض كون البشر

٣٨٥

قسمين فقط ، نقول : إنه يراد أن النسبة والفرق بين العلماء وغيرهم كثير. فنسبة ما يعطى من المميزات لهم بالنسبة إلى غيرهم كالفرق بين السماوات والأرض. بحيث يصدق مجازا على المجموع الباقي أنهم شر البرية.

الرابع : أن الباقي فيه إشكال من الناس ومجموع خليط بما فيهم الكفار والمنافقون. فيكون هذا المجموع هو شر البرية. لا بلحاظ كل فرد منهم. لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين.

الخامس : وبلحاظ الطرف الآخر وهو العلماء نجد فيهم مراتب عديدة أيضا. ويمكن القول إنه بالرحمة الواسعة تكون النتيجة تابعة لأحسن المقدمتين. فيكون هذا المجموع خير البرية.

سؤال : حول قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ). ما هو معنى الخشية بحيث يكون الإنسان عندها عالما؟

جوابه : ما ورد (١). من أن الخوف على أربعة أقسام :

أولا : الخوف وهو لعامة الناس باعتبار ارتكابهم الذنوب.

ثانيا : الخشية وهي للعلماء. قال تعالى (٢) : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).

ثالثا : الرهبة ، وهي للمتقين ، قال تعالى (٣) : (وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).

رابعا : الهيبة. وهي للعظمة ، ولم يذكرها القرآن بصراحة. ولكن أشار إليها بقوله (٤) : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ).

أقول : إن جهات الخوف عديدة ، منها الوجل والحذر. ومنها ما هو مذكور في القرآن الكريم ، غير تلك الأربعة.

__________________

(١) انظر نحوه في الخصال ، ص ٢٨١.

(٢) فاطر / ٢٨.

(٣) الأعراف / ١٥٤.

(٤) آل عمران / ٣٠.

٣٨٦

ويحسن بنا استعراض المعاني اللغوية لكل منها :

قال الراغب في المفردات :

الخوف : توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة. كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أمارة مظنونة أو معلومة. ويضاد الخوف : الأمن. ويستعمل في الأمور الدنيوية والأخروية. قال تعالى : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ ـ وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ـ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً). والخيفة : الحالة التي على الإنسان من الخوف. قال تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا لا تَخَفْ ـ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ).

أقول : والخيفة في الآية الأخيرة ، ليس هو الخوف بل الهيبة والرهبة ، لأن الخوف لا يكون إلّا من ذنب. والملائكة ليس لهم ذنب. ونستمر في نقل كلام الراغب في هذه الموارد :

الوجل : استشعار الخوف. يقال وجل يوجل وجلا فهو وجل. قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ، قالُوا لا تَوْجَلْ ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ).

الحذر : احتراز عن مخيف. قال تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ، وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ، إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) ، وحذار أي احذر نحو مناع أي امنع.

الخشية : خوف شديد يشوبه تعظيم. وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه. ولذا خصّ العلماء بها في قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ). وقال : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً).

أقول : فهو تهيّب ، وجانب الخوف فيه أغلب.

الرهبة : والرّهب ، مخافة مع تحرز واضطراب. قال تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ

٣٨٧

رَهْبَةً). وقال : (رَغَباً وَرَهَباً). وقال : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ). وقال : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

الهيبة : ولم يذكرها الراغب ، لأنها لم تذكر بلفظها في القرآن الكريم ، قال في مجمع البحرين للطريحي (١) : وهاب الشيء إذا أخافه وإذا وقّره وعظّمه. وتهيبت الشيء إذا خفته.

أقول : وحسب فهمي أن هذه الألفاظ على كثرتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : ما فيه توجس بشرّ أو نقص ، وحصول قلق من حصوله ، وهي الخوف والمخافة والحذر والوجل.

ولكل منها انطباع خاص ومعين يختلف عن الآخر ، بالرغم من مادتها قد تكون واحدة لغة ، ومعه لا يجوز تبديل بعضها ببعض. فلا تقول : على تخوف : على خيفة ، ولا تقول : في مخافة الله : التخوف من الله سبحانه.

ففي هذا القسم يكون خوف بلا تعظيم ولا شعور بالهيبة. وأوضح مصاديقه ، هي عبادة العبيد.

القسم الثاني : ما كان شعورا بالتعظيم بدون خوف فعلي. وهو معنى التعظيم والاحترام والهيبة والرهبة. على اختلاف ضمني فيما بينها.

القسم الثالث : مركب بين الخوف والتعظيم ، وهي الخيفة والخشية.

وهذا التسلسل المعنوي يبدأ بخوف خال من التعظيم ، ثم بما يشوبه تعظيم ثم يكون تعظيم بلا خوف. لأن النفس في ذلك المقام تكون طاهرة ، والخشية من النوع الوسط الذي يجتمع فيه الخوف مع التعظيم وليس تعظيما صرفا. ومن هنا نعلم عدم ارتفاعها العالي. ومن هنا نعلم أيضا عدم ارتفاع العلماء بذلك المعنى ، لظهور التساوي بين العلم والخشية. كما أنها وردت في الرواية في المرحلة الثانية.

__________________

(١) مادة (هيب).

٣٨٨

والخوف يمكن أن ينسب إلى متعددين من الناحية الأخروية : كالذنب والنفس والشيطان والآخرة والعذاب والله سبحانه ، وكل منها له درجة من الإعداد له بلا شك. إلّا أن الأمر يرجع بالنهاية إلى سوء الاختيار والمسئولية الأخلاقية. ولذا يقول أمير المؤمنين (ع) : ولا يخافن إلّا ذنبه (١).

ونلاحظ أن ثلاثة منها تقع في علل الذنب وثلاثة في جانب معلولاته. أما التي في طرف العلل : فقصد المعصية والنفس والشيطان. وأما التي تقع في طرف معلولاته فهي : الآخرة وجهنم وغضب الله سبحانه.

والخوف في القرآن الكريم منصوص في جانب المعلولات (خف أن تذنب لكي لا تقع في النتائج) وأما جانب العلل فغير منصوص. ولكنها كلها لها نحو التسبب للخوف. وأول الخيط هو قصد المعصية بسوء الاختيار.

هذا ، ونستطيع أن نفهم معنى العلم من القرآن الكريم. من قوله تعالى (٢) : (عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ). حيث استطاع به أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين في أقل من طرفة عين. فكيف من كان مصداقا لقوله تعالى (٣) : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ). يعني علم الكتاب كله. كما ورد بهذا المضمون عن المعصومين عليهم‌السلام.

إن قلت : إنكم نزّلتم قبل قليل من أهمية العلماء لأنهم بالدرجة الثانية من الأربعة في الرواية التي قسمت الخوف إلى أربعة أقسام. وهنا صعدنا بهم إلى درجة عالية جدا.

قلت : هذا صحيح ، إلّا أن العلم إذا كان في مرتبة ثانية لا يعني عدمه في المراحل التي بعدها ، بل هو أولى بالثبوت.

__________________

(١) الخصال ، ص ٣١٥.

(٢) النمل / ٤٠.

(٣) الرعد / ٤٣.

٣٨٩

سؤال : عن الوجوه الإعرابية للآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة.

جوابه : الذين اسم إن ، وفي نار جهنم خبرها. وخالدين حال منها. وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان وشر البرية خبر المبتدأ الثاني. والجملة خبر المبتدأ الأول. أو هو ضمير فصل بين المبتدأ والخبر.

وما يصدق من هذه الأمور على الآية الأولى يصدق على الثانية أيضا.

قال العكبري عن خالدين الثانية (١) : حال من الضمير في الخبر. أقول : لا يأتي الحال من الضمير بل من الظاهر فقط. وحينئذ يكون هذا الوجه بعيدا. ولكن حسب فهمي أنه ليس بمتعذر. لأن الحال من الضمير إنما هو حال من مرجعه ، لا من الضمير نفسه. والضمير إنما يكون مشيرا إلى مرجعه. كما يمكن جعله حالا من مرجع الضمير رأسا ، وهو اسم إن.

وأما في قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). فأولئك خبر إن. ويمكن ـ كأطروحة ـ أنها تصلح أن تكون خبرا أول وجزاؤهم خبر ثان. مع إمكان أن يكون للمبتدإ الواحد خبران. ومعه يكون أولئك هم للفصل. إما بدون محل للإعراب أو هي جملة من مبتدأ وخبر. والجملة للفصل بدون محل أيضا.

أو أن جملة : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). خبر للذين آمنوا. ومعه يكون جزاؤهم مبتدأ وخبره الظرف : عند. أو جزاؤهم خبر بتقدير تكرار العامل الذي هو المبتدأ ، يعني : الذين آمنوا جزاؤهم. أو يكون المبتدأ ضمير مقدر : هم. مضافا إلى ما سبق من أنه يصلح أن يكون خبرا ثانيا.

كما يصلح أن يكون أولئك مبتدأ ثانيا وجزاؤهم خبره ، والجملة خبر من اسم إن. كما يمكن أن يكون أولئك ليس للفصل بل مبتدأ ثان وله خبران : (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، وجَزاؤُهُمْ). وتكون الجملة خبر من اسم إن. أو تكون معطوفة بواو استئنافية مقدرة.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٧.

٣٩٠

كما يصلح أن يكون جزاؤهم مبتدأ وجنات خبره. مع ضمّه إلى بعض التقادير السابقة أيضا. وجملة تجري ، نعت.

وقوله : خالدين. قال عنها العكبري (١) : هي حال والعامل فيه محذوف تقديره ادخلوها خالدين أو أعطوها خالدين. ولا يكون حالا من الضمير في جزاؤهم ، لأنك لو قلت ذلك لفصلت بين المصدر ومعموله بالخبر. وقد أجازه قوم واعتلوا له بأن المصدر هنا ليس في تقدير أن والفعل. وفيه بعد. أقول : على أي حال يصلح ذلك بأن يكون من بعض الأطروحات.

قال : فأما عند ربّهم فيجوز أن يكون ظرفا لجزائهم. وأن يكون حالا منه. أقول : وهو لمعنى الظرفية أقرب ، بلا إشكال.

__________________

(١) المصدر والصفحة.

٣٩١
٣٩٢

سورة القدر

أما عن اسمها ففيه عدة أطروحات :

الأولى : سورة القدر وهو المشهور جدا بل المتسالم عليه عمليا.

الثانية : السورة التي ذكر فيها القدر أو التي ذكرت فيها ليلة القدر.

الثالثة : رقمها من المصحف الشريف. وهو ٩٧.

الرابعة : تسميتها بأول لفظ فيها وهو المشهور عند العامة : إنّا أنزلناه.

ويمكن أن نذكر لهذه السورة مقدمة كما يلي :

هذه السورة ملحوظة لحاظا خاصا من قبل الله تعالى ، وفيها دلالات على مزايا يعبر عنها فلسفيا بتعبير ومتشرعيا بتعبير آخر.

أما الفكرة الفلسفية ، فهي أنهم قالوا : كما ذكرنا في كتابنا (حديث حول البداء) (١) : إن الأوامر تنزل على النفس الفلكية العليا والتي تسمى «فلك الأفلاك» ثم تتوزع على مواردها ومصاديقها. وهو ما يحصل في ليلة القدر. ثم يتم التوزيع خلال السنة بالتدريج.

ويرد عليه : أن هذه الأفلاك متناهية ومواردها في الخلق لا متناهية. فكيف تتحمل الأوامر المتعلقة بجميع الخلق؟

أجابوا على ذلك : أنه تنزل عليه أوامر سنة واحد ، وهي محدودة ، فتتحملها تلك الأفلاك المحدودة. سواء كانت رحمات أم نقمات كبيرة كانت أو صغيرة.

__________________

(١) ص : ٢٧.

٣٩٣

وأما الفكرة المتشرعية ، فإنهم قالوا : كما ورد ذلك في الأخبار المستفيضة (١) : إنه تنزل على الإمام الحي (عليه‌السلام) في كل عصر أوامر السنة الكاملة في ليلة القدر. ويمثلونها بصحيفة مكتوب عليها ما يكون إلى سنة ، ويوقع عليها الإمام ويقرّها. وقد ورد عنهم عليهم‌السلام (٢) : أن الأوامر تصدر عن بيوتكم. أي عنكم.

فهذه هي أهم مزايا هذه السورة ، ولعله هدفها الأساسي.

سؤال : لما ذا سميت ليلة القدر؟

جوابه : لذلك عدة أطروحات غير متنافية :

الأطروحة الأولى : القدر بمعنى العظمة والجلالة والمنزلة والمهابة. أي ليلة المنزلة العظيمة.

الأطروحة الثانية : القدر من القدرة ، والقدرة مؤنث القدر أي ليلة القدرة. فهي تدل على قدرة الله. فكأنه تنزل قدرة الله وسلطنته وتدبيره للكون.

الأطروحة الثالثة : القدر بمعنى الحد التكويني الثبوتي : فقدره كذا أي حدّه كذا. غير قابل للزيادة والنقيصة. والمعنى : الليلة التي يبت فيها عن تحديدات الأمور تكوينا.

الأطروحة الرابعة : التقدير الإثباتي. يعني بيان كمية الشيء. وهو ما ذكره الراغب ، حين قال (٣) : والقدر والتقدير تبيين كمية الشيء.

الأطروحة الخامسة : الليلة التي يقدر فيها حوادث السنة في مرتبة المحو والإثبات ويحصل إنزال هذه الأوامر في النفس الفلكية التي تطبقها خلال السنة. أو ينزل على الإمام الظاهري (الحي) لكي يمضيها ويوقع عليها.

__________________

(١) أصول الكافي ، كتاب الحجة حديث ٢ ، ج ١ ، ص ٢٤٧.

(٢) مفاتيح الجنان ، ص : ٤٢٣.

(٣) المفردات ، مادة : «قدر».

٣٩٤

ويدل عليه قوله تعالى (١) : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا).

وباعتبار وحدة مرجع الضمير في الآيتين (أنزلناه) نعرف أنها ليلة القدر. وأنها نفسها موصوفة بأنها يفرق فيها كل أمر حكيم. فهي ليلة الفرق وهو معنى القدر. بمعنى توزيع الأوامر على مواضعها ومستحقيها.

كما نعرف من قوله تعالى (٢) : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). بعد العلم أن مرجع الضمير في (أنزلناه) هو القرآن. إذن فيكون المراد القرآن في الآيتين. إذن ، فليلة القدر في شهر رمضان.

فالله أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان : فينطبقان على كلا العنوانين والزمانين.

سؤال : ما هو مرجع الضمير في أنزلناه؟

جوابه : ليس له مرجع ظاهر ، والمشهور بما فيهم الميزان (٣) ، أن مرجعه القرآن ، بأحد تقريبات :

الأول : إن ترك ذكره للتعظيم.

الثاني : ما ذكره القاضي عبد الجبار (٤) من أن الأمر إذا صار معروفا جاز إرجاع الضمير إليه.

الثالث : العود إلى ما هو فعلي. لأن الكلام موجود في القرآن ، فيعود الضمير إليه. كما لو دفعت شيئا إلى شخص وقلت له : هذا ، فيعود اسم الإشارة إليه.

وفي مقابل ذلك أيضا أطروحتان محتملتان :

__________________

(١) الدخان / ٣ ـ ٥.

(٢) البقرة / ١٨٥.

(٣) ج ٢٠ ، ص ٣٣٠.

(٤) تنزيه القرآن عن المطاعن / سورة القدر.

٣٩٥

إحداهما : أطروحة عودة الضمير إلى نفس ما ينزل في ليلة القدر من الأوامر أو العطاء. وهذا بمعنى قد يكون مباينا للقرآن وبمعنى آخر قد يكون أعم منه وشاملا له.

الأخرى : الخلق كله. فإن الإنزال هو الخلق باصطلاح القرآن ، كما قال تعالى (١) : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي خلقناه وأوجدناه. ويراد بليلة القدر كتم العدم. ومن القدر أهمية وتعظيم هذا الخلق والإيجاد.

سؤال : عن الفرق بين الإنزال والتنزيل.

جوابه : المشهور بما فيهم الميزان (٢) ، قالوا : بأنهما بمعنيين : الأول. دفعي والثاني : تدريجي. وأيد ذلك صاحب المفردات (٣) وسيأتي أنه ليس معنى لغويا.

فإن كان المقصود بالكتاب القرآن ، كما عليه المشهور ، كان للقرآن نزولان دفعي وتدريجي ، أما الدفعي ففي ليلة القدر وأما التدريجي ففي خلال ثلاث وعشرين سنة منذ البعثة إلى وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. كما قال الله سبحانه (٤) : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً). بأن نفهم من قوله (على مكث) أنه ببطء وبالتدريج.

وأمّا النزول الدفعي في ليلة القدر ، فقد كان إلى السماء الأولى ، كما في بعض الروايات (٥) ، أو نزول على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولكن حسب فهمي : أنه لا يوجد في أصل اللغة بينهما فرق ، أعني : نزّل وأنزل ، وإنما المادة تدل على الانحطاط من فوق إلى تحت ، وكلاهما متعدّ. وإن لم يكن نزل متعديا. ولكن أنزل أو نزّل غيره ، يعني جعل غيره ينحط.

__________________

(١) الحديد / ٢٥.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٣٠.

(٣) المفردات مادة : «نزل».

(٤) الإسراء / ١٠٦.

(٥) انظر مجمع البيان ج ١٠ ، ص ٥١٨.

٣٩٦

وأما أن النازل كله (ليكون دفعيا) أو بعضه (ليكون تدريجيا) ، فلم يلحظ في أصل اللغة. وما دعمه الراغب به من الكلام إنما هو بالرأي لا بحسب الأصل اللغوي. وكذلك المشهور.

ولكن مع ذلك يمكن القول إن له نحوا من الظهور في ذلك ، بعد الالتفات : إلى أن اللغة المعتمدة في الكتاب والسنة ليست هي اللغة القاموسية أو الأصلية ، فقط. بل العرف أيضا له دخل فيها. والظهور العرفي وإن لم يكن له دخل في اللغة ، إلّا أن له دخلا في الفهم الاجتماعي والعام لها.

وعندئذ ففي الإمكان القول إن العرف يوافق على فهم الدفعية في أنزل والتدرج في نزّل ، يعني بعضا بعد بعض.

ولكن هذا يحتاج إلى صغرى وهي وجود هذا العرف في عصر الصدور والنزول. فإننا لا بد أن نحمل النص القرآني ، على ما كان عليه يوم نزوله في لغته وعرفه. وعندئذ ففي الإمكان القول : إن ما كان يومئذ متحققا في ذلك الحين هو الإنزال الأعم بدون لحاظ التدريجية والدفعية.

فإن قلت : فإننا حيث نفهمها الآن يمكن أن نستصحبه استصحابا عكسيا قهقرائيا ، كما في غيره من الظهورات ، فيثبت وجوده آنئذ.

قلت : ولكنه معارض باستصحاب آخر غير قهقري. لأننا نعلم أن الاستعمال قبل الإسلام كان بالمعنى المذكور في أصل اللغة. وهو مطلق النزول. ونشك أنه بعد الإسلام هل تحول إلى معنى التدريج أم لا ، فنستصحب عدم التحول. أو قل : بقاءه على معناه الأصلي. فيثبت نزول القرآن على ذلك الفهم. ولا أقل من التعارض والتساقط بين الاستصحابين فلا يثبت مراد المشهور.

أو نقول : إن الاستصحاب القهقري لما كان عكس القاعدة ، فيقدم الاستصحاب الموافق للقاعدة ، وهو الآخر المخالف للمشهور في النتيجة.

ونستطيع التمسك بإطلاق ما هو منزل للشمول لجميعه. فإنه لو كان

٣٩٧

النازل بعضه لبيّنه ، وحيث إنه لم يبين ، تعين أن النازل كله. فالضمير الذي يعود على القرآن أو إلى غيره نازل كله ، أعني في قوله تعالى : إنا أنزلناه. وهذا على خلاف المشهور.

وبذلك يندفع بالبرهان ، ما دفعه السيد الطباطبائي بالوجدان ، حيث قال في الميزان (١) : فلا يعبأ بما قيل : إن معنى قوله تعالى : أنزلناه : ابتدأنا بإنزاله.

مضافا إلى أن يوم المبعث هو اليوم السابع والعشرون من رجب. وفيه نزل أول ما نزل من القرآن الكريم : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ). وليس أوله نازلا في رمضان كما قيل.

وإلّا فما ذا يكون معنى قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ؟) لو كان المراد بدء النزول. وهو لم يبدأ به قطعا ، بل المراد الإنزال الكامل.

فالضمير في أنزلناه يعود إلى أمر غير مقيد بالبعض ، وهذا الأمر حاصل في شهر رمضان وفي ليلة القدر. والله سبحانه ذكر كلا الزمانين لنزوله ، فيثبت كونهما متداخلين من أجل صدق كلتا القضيتين ، لاستحالة النزول الكامل مرتين ، واستحالة تحصيل الحاصل.

ومعه يتعين ، بظهور القرآن كون ليلة القدر في شهر رمضان. إذن ، فما في ذهن المتشرعة وعليه بعض الروايات الضعيفة (٢) من أن ليلة القدر مشتبهة بين جميع أيام السنة أو أنها من المحتمل أن تكون هي ليلة النصف من شعبان ، ونحو ذلك. سيكون خلاف ظهور القرآن الكريم بعد ضم الآيتين المذكورتين فيسقط عن الحجية.

وأما تعيين ليلة القدر في ليالي شهر رمضان نفسه ، فهو غير مستفاد من ظهور القرآن الكريم. وهي عند المتشرعة مشتبهة ومرددة بين ثلاث ليال هي

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٣٠.

(٢) انظر مجمع البيان ج ١٠ ، ص ٥١٨.

٣٩٨

التاسعة عشرة والحادية والعشرون والثالثة والعشرون من شهر رمضان. غير أن الروايات الآتية صالحة لنفي الاحتمال الأول.

وقد سئل المعصوم عليه‌السلام في عدة أحاديث عن ليلة القدر ، وأنها في أي الليلتين فلم يعيّن. بل قال (١) : ما أيسر ليلتين فيما تطلب. أو قال : ما عليك أن تفعل خيرا في ليلتين. ونحو ذلك.

سؤال : ما هو حساب شهر رمضان في الكون. ولما ذا هذا التركيز والأهمية له؟ علما أن الأرض ليس لها أهمية في هذا الكون.

وبتعبير آخر أوضح : إن شهر رمضان كامن في الأرض ، لأنه من نتائج حركتها السنوية حول الشمس. فإذا كان الإنزال الدفعي في السماء الأولى ، فهناك لا يوجد شهر رمضان ، لكي يكون نازلا فيه ولا توجد ليلة القدر. بل كلها أرضية. فما دخل السماء فيها؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن الأرض وإن زعموا أنها في مكان مد حوض من المجرة التي نحن فيها وهي درب التبانة. فإن هذا وإن صح ماديا في علم الفلك. إلّا أنه ليس بصحيح معنويا.

وقد قال متشرعة الإسلام ومتشرعة الأديان السابقة ، بإزاء ذلك : إن الأرض هي مركز الكون. وتخيل بعض المتشرعة أن المراد هو المركز المادي ، فنفى ذلك لثبوت خلافه في علم الفلك. ولكن الواقع أن المراد به الجهة المعنوية والتركيز على الأهمية.

وذلك : لأنه في الأرض سكن الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم وسكنها خير الخلق والمعصومون عليهم‌السلام. وكذلك هي محط نزول الملائكة والرسل والكتب ومحط ذكر الله وعبادة الله. فالأهمية الإلهية والروحية جعلت منها مركزا للكون.

__________________

(١) انظر مفاتيح الجنان ، ص ٢٢٦ وغيره.

٣٩٩

ونتيجة ذلك : إن الكون يقاس بالأرض. أي أن فيه شهر رمضان وليلة القدر ، وكذلك : العيدان ويوم عاشوراء وغيرها ، ما دام أحد هذه الأزمنة متحققا في الأرض فانسدّ السؤال.

الوجه الثاني : أن يكون المراد من الأرض والسماء : أرض النفس وسماءها. فأرض النفس هي الشهوات وسماؤها العقل. فنعقد لذلك قضيتين :

الأولى : إن أرض النفس موجودة في الأرض الخارجية ، تحس أنها في شهر رمضان أو في ليلة القدر. لأنها حقيقة كذلك. والإنسان يعيش إحساسا هكذا.

الثانية : إن هذا الإحساس ينتشر في جميع النفس : أرضها وسمائها. لأن النفس ، كما قال الشيخ السبزواري (١) : النفس في وحدتها كل القوى. من حيث إن قواها وملكاتها متعددة ، إلّا أن النفس مجموعها واحدة لا تتعدد. بما فيها من أرض وسماء.

وعندئذ فإذا سرت ليلة القدر إلى أرض النفس من الخارج ، فقد سرت إلى النفس كلها طبقا للوحدة. فتنتشر ليلة القدر وينتشر شهر رمضان في كل النفس ، سمائها وأرضها.

الوجه الثالث : إنه يمكن القول بعد التنزل عن الوجهين السابقين : إن القرآن نزل إلى السماء الأولى في وقت كانت الأرض فيها ليلة القدر ، وكانت البشرية متصفة بهذا الزمان.

الوجه الرابع : إنها ليلة القدر بإحساس المتلقي بالعرف الأرضي وهذا يكفي. من باب كلم الناس على قدر عقولهم.

سؤال : حول قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ). من حيث إن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يعلم ما ليلة القدر. فكيف ينكر إدراكه له؟

__________________

(١) انظر غرر الفرائد في فن الحكمة ، ص ٣٠٩.

٤٠٠