منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

(ضبحا) شدة التعب الذي يصيبهم في سبيل الله أو في تركهم الدنيا وتحمل بلائها وصعوباتها.

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) إما أن نقول إن القدح هو العطاء والنور الإلهي. وإما أن نقول : إنه السرعة في السير والتكامل.

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) يعني المقبلات صبحا أي حين الفجر ، وهو مصداق لقوله تعالى (١) : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ). ويمكن تفسير الصبح بمن ترك ظلام المطامع الدنيوية ، أو بإشراق شمس الهداية والكمال.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) فإن الغبار مما لا مناص منه ، من أثر ضغط النفس والعقل والشبهات والآمال القصيرة.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) إن قلنا إن الجمع جماعة من الناس. فهو قد توسطهم بعد الوصول إلى تلك الدرجة من الكمال. وهم الملأ الأعلى أو نحوه. وإن قلنا إنه اسم لأرض المشعر ، فهي الأرض المقدسة أو المرتبة التي يصل إليها الإنسان.

المعنى الخامس للعاديات : إنها تنطبق على كل ذي هدف كطالب العلم وطالب الشهرة وطالب المال وأضرابهم. يريد السرعة والهمة في الحصول على نتائجه. وعند ما يصل إليها يصدق قوله : (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً). أما قوله فأثرن به نقعا. فهي الموانع والمعوقات عن الوصول إلى الهدف. كما قال الشاعر : تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. بل قد يكون بفعل الفرد نفسه من حيث لا يعلم ، أو من نتائج عمله.

و (جمعا) يمكن أن نفهم منه الهدف نفسه. أو أن نفهم منه جمع الناس المستهدفين لنفس الهدف. وكأنه يريد المال فأصبح من الأثرياء أو بينهم.

إلى معان أخرى محتملة للسياق ، لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.

ولا بد أن نلتفت إلى أن هذه السورة قد حفظت سياقا ونسقا للقسم.

__________________

(١) آل عمران / ١٧.

٣٠١

وهو يتغير بعد ذلك مباشرة لحكمة ندركها ، وهو الإشعار والإشارة إلى الاثنينية بين القسم والمقسم له. أو قل : الإشارة إلى النتيجة بعد الانتهاء من المقدمة ثبوتا أو إثباتا.

سؤال : ما هو معنى كنود ، في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)؟.

جوابه : قال الراغب في المفردات (١) : قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ). أي كفور لنعمته ، لقولهم : أرض كنود إذا لم تنبت شيئا. وأيده صاحب الميزان قال (٢) : الكنود الكفور.

أقول : وهو استعمال مجازي لطيف. وإشكاله : أنه حينئذ ينبغي أن يقال : بربه لكنود. لأننا نقول : كفر به لا كفر له.

فإن قلت : فإن استعمال اللام بمعنى الباء مجازا محتمل.

قلت : هو محتمل ، ولكنه لا يتعين إلّا مع الانحصار ، وسنبين أنه غير منحصر. فيتعين المعنى الحقيقي للام.

إذن ، ليس المراد بالكنود الكفور ، نعم ، هم فهموا ذلك من الأرض غير المنتجة. والكافر بمنزلتها. ولكنه مع ذلك ، ليس هذا معنى منحصرا. فإن الإنسان غير المنتج له عدة معان :

الأول : إن الإنسان غير نافع لربه كالأرض التي لا تنبت شيئا. من حيث إن الله سبحانه غني عن العالمين. كما قال في الدعاء (٣) : إلهي أنت الغني بذاتك أن يصل إليك النفع منك فكيف لا تكون غنيا عني.

الثاني : إن الإنسان قليل الطاعة. كما قال تعالى (٤) : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ). وقال (٥) : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

__________________

(١) المفردات مادة «كند».

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٤٦.

(٣) انظر مفاتيح الجنان ٢٧٣.

(٤) سبأ / ١٣.

(٥) الأحزاب / ٧٢.

٣٠٢

الثالث : إنه قليل الالتفات إلى الآخرة وكثير الغفلة عنها. كما قال تعالى (١) : (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ).

الرابع : إن الآية الكريمة لم تتعرض لمتعلق القلّة ، وإن الإنسان كنود من أي جهة. بل تركت الباب مفتوحا لأجل أن يملأ بأي شيء معقول يمكن أن يخطر على البال. فيمكن أن يقال : إن المراد قلة الاهتمام بأمور الدنيا وقلة الأخذ بزبرجها وزخارفها قربة إلى الله تعالى. ومعنى القربة مفهوم من قوله تعالى : لربه.

فإن قلت : فإن هذا لا يحصل إلّا للقليل ، مع أن الألف واللام جنسية ، فيدل على اتصاف نوع الإنسان بالصفة ، لا حصة منه. فيدل على فساد المعنى الرابع.

قلت : جوابه من عدة وجوه. منها :

أولا : أن نقيد الإنسان بالإنسان المهتم بآخرته. وهو كنود من الدنيا ومن مصالحه الشخصية. إلّا أن هذا الوجه على خلاف الأصل.

ثانيا : إن الإنسان له إطلاقان : أحدهما : مطلق الإنسان. وله حصص كثيرة ، كالعربي والهندي والمؤمن والفاسق. وثانيهما : الإنسان المطلق ، وهو صنف واحد ، وهم أولياء الله. وإن قسمنا إنسانيتهم إلى مطلق الإنسان كانت بمنزلة قياس الوجود للعدم. ومعه يمكن أن نفهم منها الإنسان المطلق لا مطلق الإنسان.

فإن قلت : ولكن الألف واللام هنا جنسية فتشمل كل البشر.

قلنا : نعم هي جنسية ، والألف واللام الجنسية تستوعب أفراد مدخولها. فإذا فهمنا من مدخولها الإنسان المطلق استوعبت أفراده. وليس لها أن تستوعب كل أفراد الإنسان.

فالإنسان المطلق صفته أنه لربه لكنود. وليس الكافر ، كما عليه مشهور المفسرين. فقد أراده المفسرون شرا وأردناه خيرا!!

__________________

(١) الروم / ٧.

٣٠٣

وكذلك على الوجهين في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ).

فإن الخير يمكن فهمه على وجوه :

الأول : المال. وعليه المشهور. كما في قوله تعالى (١) : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) ... أي ثروة.

الثاني : مطلق الخير ، كما احتمله الطباطبائي قدس‌سره حيث قال (٢) : ولا يبعد أن يكون المراد بالخير مطلقه. ويكون المراد : إن حب الخير فطري للإنسان. ثم إنه يرى عرض الدنيا وزينتها خيرا ، فتنجذب إليه نفسه ، وينسيه ذلك ربه أن يشكره.

أقول : وهذا معناه أن السياق غير مختص بالكافر والفاجر ، لأن كل الناس مجبولون على ذلك. وكذلك الحال بناء على الوجه الأول. فيكون هناك نحو تناف بين تفسير المشهور للآيتين. ولا يبقى وجه للإشارة لحب الكافر بالخصوص للمال ، مع حب الجميع له.

الثالث : الخير المطلق. وهو الله سبحانه. فإنه عين الكمال وحقيقته. حتى سمي بالخير في قوله تعالى (٣) : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً). على مناقشة سبقت في سورة الفلق.

فيكون المعنى : وإنه لحب لله لشديد. فيكون السياق دالا على الفضلاء لا على الفجار.

سؤال : ما هو معنى شهيد في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ).

جوابه : إن فيه عدة أطروحات :

الأطروحة الأولى : ما عليه المشهور من أن الشهيد بمعنى الشاهد. قال في الميزان (٤) : فالمعنى : وإن الإنسان على كفرانه بربه شاهد محتمل. أقول :

__________________

(١) البقرة / ١٨٠.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٤٧.

(٣) يوسف / ٦٤.

(٤) ج ٢٠ ، ص ٣٤٦.

٣٠٤

يعني : متحمل. فالآية تكون في معنى قوله تعالى (١) : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ).

الأطروحة الثانية : إنه بمعنى المقتول في سبيل الله. إما حقيقة : أي في حرب جهادية صحيحة. أو لقتله الشهوات والنزوات من نفسه.

فإن قلت : فإن هذا المعنى لا يناسب قوله «على ذلك». فيكون هذا قرينة على فهم المشهور ، باعتبار أنه يبصره ويراه.

قلت : يمكن أن يكون معنى : على ذلك : إضافة على ذلك. أو إلى ذلك. فكأنه معنى على معنى ، أو مضمون إلى مضمون. فلا يكون الجار والمجرور متعلقا بشهيد ، كما يناسب فهم المشهور. بل متعلقا بمحذوف يعني كائنا على ذلك.

الأطروحة الثالثة : إنه مشاهد لرحمة الله الخاصة مضافا إلى الرحمة العامة.

الأطروحة الرابعة : إنه مشاهد لما ذكر في السورة من أفعاله وأفعال غيره ، كالعاديات والموريات وغيرها. إلّا أنه يلزم على هذا الوجه أن تكون (على) بمعنى اللام.

الأطروحة الخامسة : إنه بمعنى أداء الشهادة يوم القيامة. لما رأى وسمع. فيكون شاهدا على نفسه وعلى غيره.

فهنا نرى أنه قد انسجمت الآيات الثلاث ، على بعض هذه الأطروحات ، على إرادة الخير.

فإن قلت : إن هذا مناف مع القرائن الآتية وهي قوله تعالى : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ). وهو سياق التهديد. وهو ينافي ما قلناه من إرادة الخير ، إذ لا حاجة معه إلى التهديد.

جوابه : إنه بناء على فهمنا يكون الاستفهام إثباتيا لا استنكاريا. فلا يكون للتهديد.

__________________

(١) القيامة / ١٤.

٣٠٥

يعني أنه يعلم ذلك كله ، لا أنه جاهل به أو بمنزلة الجاهل.

سؤال : عن معنى قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ).

جوابه : تقدم معنى الخير وحب الخير. وقد فسره المشهور ، بأنه حب المال ، وأنه شديد البخل به لزيادة حبه له.

ويرد عليه :

أولا : أن حب الخير بالمال ، قد يقتضي العكس. وهو زيادة التصدق به وإنفاقه.

ثانيا : بالإمكان القول بأن الشديد ليس صفة للحب. وإلّا لكان الأنسب استعمال الباء أو «في» مع أنه استعمل اللام. وإنما هو شديد لأجل أو من أجل حب الخير. وأما متعلق الشديد فمحذوف ، مضمونه أنه لا تأخذه في الله لومة لائم يعني في الخير أيا كان معناه.

سؤال : ما هو الوجه في استعمال : ما في القبور ، بدل من في القبور. مع أن المهم هو الحديث عن انبعاث الموتى ، وهم من يعقل؟

جوابه : لأكثر من وجه :

أولا : إن الإنسان بما هو إنسان ، هو ممن يعقل. ولكن المراد هنا جسمه أو جنازته أو التراب الحاصل من ذلك. وكلها لا تعقل.

ثانيا : إن خروج الموتى يتم ببعثرة التراب في القبور لإخراج من فيها. وهذا يفهم من السياق بالدلالة التضمنية لا المطابقية. أي : حفر القبور لإخراج الموتى منها.

سؤال : وهل تتوقف قدرة الباري عزوجل على إخراج الموتى ببعثرة القبور؟

جوابه : من وجوه :

أولا : إنه كلام على مقتضى القانون الطبيعي والأسباب الاعتيادية.

٣٠٦

فيكون هنا بمنزلة المجاز. إذ ليس المقصود بعثرة القبور حقيقة ، بل مجرد إخراج الموتى.

ثانيا : إنه كلام مبني على الفهم العرفي العام ، وإن لم يكن على القانون الطبيعي.

ثالثا : إنه مجاز إذا لم نقل بالبعث الجسماني ، لأنه لا حاجة إلى البعثرة يومئذ.

رابعا : إنه مجاز ، من حيث إن أكثر البشر لا قبور لها. بل لا يوجد قبور يومئذ إطلاقا. وإنما يراد بها إمكان تواجد بقايا تلك الأجساد.

سؤال : لما ذا تقدمت الهمزة على الفاء في قوله تعالى : (أَفَلا يَعْلَمُ ...)؟.

جوابه : إنه أفصح في اللغة العربية. كقوله تعالى (١) : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ـ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٢)ـ أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٣) ... أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(٤). ولا فرق في ذلك بين الإثبات والنفي.

فإن قلت : لمجرد التوضيح : إن الفاء متقدمة في قوله تعالى (٥) : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ). فليكن هنا كذلك.

قلت : إن الهمزة في المقيس عليه أصلية وليست استفهامية. والتقدم للاستفهامية لا للأصلية. وهذا رباعي (مزيد فيه) من جاء. ومعناه قهر على المجيء أو حمل عليه حملا. باعتبار أن المخاض يقهر المرأة ويزعجها.

سؤال : عن معنى الفاء في قوله تعالى : أفلا.

جوابه : لها أطروحتان :

__________________

(١) الجاثية / ٢٣.

(٢) الواقعة / ٦٣.

(٣) الواقعة / ٥٨.

(٤) الأنبياء / ٥٠.

(٥) مريم / ٢٣.

٣٠٧

الأولى : إنها للتفريع لإعطاء النتيجة من قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) وهي نتيجة عقوبة وتهديد ، على المشهور.

الثانية : إنها فاء جواب الشرط متقدمة. كأنها داخلة على قوله تعالى : إن ربك. أو إن جملة : أفلا يعلم ، جواب شرط متقدم.

وهذا واضح ، لو قلنا بضرورة دخول الفاء ، ولو باعتبار أنه أفصح ، والقرآن يختار الأفصح.

وأما إذا لم نقل بضرورتها ، وقلنا إن عدمها لا ينافي الفصاحة. أو قلنا إن للقرآن أن يختار بعض ما لا يتفق مع الفصاحة ، من باب : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١). يعني حتى ما ينافي الفصاحة ، إذن يتعين أن تكون الفاء تفريعية ، لظهورها الأولي في ذلك ، والشك في كونها شرطية.

سؤال : عن زمن العلم في قوله : (أَفَلا يَعْلَمُ)؟

جوابه : فيه عدة أطروحات من حيث الزمان! الأولى : إنه يعلم بيوم القيامة في حينه. وهذا هو المناسب مع كونه كافرا به الآن ، كما عليه المشهور.

الثانية : إنه يعلم بها الآن لأنه مؤمن بيوم القيامة.

الثالثة : إنه خطاب لفساق المسلمين. يعني : كيف تذنب وأنت تعلم بيوم القيامة.

وكل هذه الأطروحات صحيحة ، بمعنى من المعاني ، لكنهم أجناس يختلفون في ذلك ، فالكافر تنطبق عليه الأطروحة الأولى والمؤمن تنطبق عليه الثانية والفاسق الثالثة. لأن العلم من الأمور المشكلة التي قد يحصل التدرج فيها.

سؤال : ما المراد بقوله تعالى : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ)؟.

__________________

(١) الأنعام / ٣٨.

٣٠٨

جوابه : ما في الصدور هي النوايا والارتكازات والذكريات وغير ذلك ، مما في باطن النفس.

والمراد بالتحصيل إما ثبوتي وإما إثباتي. فما يحصل ثبوتا هو بروز المرتكزات من القوة إلى الفعل. وذلك عن طريق أسبابها في الدنيا. وأما الإثباتي ، فهو بمعنى التعرف عليه والتذكير به في الآخرة.

وأما عن الصدور فهي كوامن النفس ومحتوياتها. وإنما عبر بالجمع باعتبار تعدد الأفراد المقصودين.

وليس الآن محل الكلام في التفريق بين القلب والصدر في القرآن الكريم ، بل له فرصة أخرى إن شاء الله تعالى. وإنما لنا الآن أن نعدّهما بمعنى واحد ، كما هو إحدى الأطروحات. فيكون المراد بالصدور أحد معنيين :

أولا : كوامن النفس اللاشعورية.

ثانيا : ما هو مخزون في الذاكرة.

فهنا مستويان من التفكير :

المستوى الأول : إن الذاكرة من سنخ العقل ، والعقل في الرأس عرفا وليس في الصدر. وإنما في الصدر العواطف والكوامن.

المستوى الثاني : إن الذاكرة مناسبة مع تحصيل الآخرة وحسابها لأنه يتذكر ما مرّ عليه في الدنيا. وفي الحديث (١) : في الدنيا عمل ولا حساب وفي الآخرة حساب ولا عمل.

إذن ، فمن الممكن جعل الصدور قرينة متصلة على كون المراد حصول التحصيل في الدنيا.

فإن قلت : فإن قوله تعالى : (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ). قرينة قطعية على أنه يحصل في الآخرة ، لأن بعثرة القبور تكون يومئذ.

__________________

(١) نهج البلاغة ج ١ ، ص ٩٣ ، شرح محمد عبده.

٣٠٩

قلت : يمكن المناقشة في ذلك بوجوه :

أولا : إن الآية غير واضحة في أن البعثرة والتحصيل يكونان في زمان واحد. وإن كان لا يبعد أن تكون الإشارة إلى السابق قبل اللاحق.

ثانيا : إنه يمكن أن يكون للقبر معان أخرى ، فإن حاصله : وجود ما هو مخفي فيه وهو الميت وظهوره بعد الكمون. وكذلك كوامن النفس لا حركة فيها ـ كالميت ـ فتخرج بالتمحيص. وكذلك الذاكرة ، فإن المنسيّ بمنزلة الميت ، فيظهر بالتذكر.

وحيث قلنا إن الأقرب تحصيل ما في الصدور في الدنيا ، فبعثرة القبور أيضا يكون بالمعنى المناسب لها. ومن الواضح أن البعثرة من قبيل إزالة المانع في طرف العلة ، والتحصيل بمنزلة المعلول. فيكون الأول متقدما على الثاني. وقوله : يومئذ ، يدل على أن المراد كلا هذين المعنيين ، لأن يومهما واحد عرفا.

سؤال : أثاره الرازي في هامش العكبري حيث قال (١) : كيف قال الله تعالى : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ). مع أنه تعالى أخبر بهم في كل زمان. فما هو الوجه في تخصيص ذلك اليوم؟

جوابه : ما ذكره في جوابه بقوله (٢) : معناه أن ربهم سبحانه مجازيهم يومئذ عن أعمالهم. فالعلم مجاز عن المجازات. ونظيره قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) ، معناه يجازيهم على ما فيها. لأن علمه شامل لما في قلوب كل العباد. ويقرب منه قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ).

أقول : أما أن السياق سياق المجاز ، فنعم. ولكن هذا يتم على أشكال عديدة :

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) المصدر والصفحة.

٣١٠

أولا : إنه يقال عرفا : إني أعلم ما ذا أفعل ، أي في ذلك المورد. فإنه وإن كان يعلم دائما ما ذا يفعل ، إلّا أنه ما دام بصدد حديث معين ، فهو يكون قرينة على أن المراد وجود التخصيص بذلك.

ثانيا : إنه يقال عرفا : إني أعلم ما ذا أفعل ، أي في مقام العقوبة والتنكيل ، وهذا واضح عرفا ، ومن الممكن حمل الآية عليه.

ثالثا : أن يكون بتقدير مضاف ، أو كلمة بين حرف الجر والضمير في قوله : بهم. هو استحقاقهم من الثواب والعقاب أو بمستواهم من الإيمان أو الكفر. غير أن التقدير خلاف الأصل ولا يصار إليه إلّا مع الانحصار.

رابعا : إننا نقدر في المحل المشار إليه معنى : مستواهم ، لأن مستواهم عين ذاتهم ، ولا يحتاج إلى تقدير. فإنه إذا علم بمستواهم علم بهم أنفسهم.

خامسا : ما قاله الرازي ـ كما سمعنا ـ من أن العلم بمعنى المجازات ، مجازا لفظيا ، فتصل إليه النوبة بعد غض النظر عن الوجوه السابقة. وهو وجه رديء لأكثر من مناقشة :

الأولى : إن المستعمل ليس هو لفظ العلم ليكون مجازا في المجازات. بل : الخبير. ولا ملازمة بين قصد المجازات في الآيات الأخرى وقصدها في هذه الآية ، لتعدد المادة. والمعنى لا يكون مجازا بل اللفظ.

الثانية : إنه إذا كان خبير بمعنى معاقب ، لزم استعمال «لهم» لا «بهم». لأن العقاب يتعدى باللام.

اللهم إلّا أن يقال : باستعمال الحرف مجازا أيضا. فنبتلى بمجازين في حين يكفينا في التقدير تجوز واحد. بل لا حاجة إلى التقدير ، كما قلنا ، لأنه سبحانه يعلم بهم أنفسهم.

وهنا نكتة كلامية يحسن مجرد الإشارة إليها ، فإنه سبحانه وإن كان خبيرا بهم دائما ، إلّا أن المراد هنا هو العلم المتجدد في عالم المحو والإثبات ، لا العلم الأزلي.

٣١١

وهذا العلم المتجدد يحصل بعد تحول ما بالقوة إلى ما بالفعل نتيجة للبلاء والتمحيص ، فيكون علما بمعلول التمحيص. كما في قوله تعالى (١) : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).

فإذا أصبح صابرا كتب في الصابرين. وإذا أصبح مجاهدا كتب في المجاهدين ، وإن أصبح معاندا كتب في المعاندين. وهكذا. فالعلم ينطبق على ما هو موجود فعلا من قيود الزمان والمكان. وهو المراد من : يومئذ أو عندئذ. أي عند إنتاج التمحيص لمعلوله.

فهو سبحانه خبير بمستواهم الذي هو نفس ذواتهم ، كما قلنا. وهذا كما ينطبق في الآخرة ينطبق في الدنيا أيضا.

__________________

(١) آل عمران / ١٤٢.

٣١٢

سورة الزلزال

وفي تسميتها عدة أطروحات :

أولا : الزلزلة : وهو المشهور. فإنه وإن كان لفظ الزلزلة غير موجود ، إلّا أن مادتها موجودة.

ثانيا : الزلزال. كما في بعض المصادر (١). وهو لفظ موجود في السورة مع حذف المضاف.

ثالثا : السورة التي ذكر فيها الزلزال. إذا سرنا على حسب ما ذكره الشريف الرضي في مجازات القرآن.

رابعا : إذا زلزلت. يعني باللفظ الذي بدأت به السورة.

خامسا : برقمها في المصحف السائد ، وهو : ٩٩.

سؤال : ما هو معنى الأرض في قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها). وما المراد من زلزالها؟

جوابه : إن هنا عدة احتمالات. باعتبار انقسامات ثلاثة :

الانقسام الأول : إن الأرض هل يراد بها الأرض المعنوية المعهودة أو الأرض ، باعتبار أن النفس لها أرض وسماء. فأرضها الشهوات وسماؤها العقل.

الانقسام الثاني : إن الزلزلة هل تحدث بقانون طبيعي أو بسبب غير طبيعي؟

__________________

(١) انظر الميزان : ج ٢٠ ، ص ٢٤١.

٣١٣

الانقسام الثالث : إنه هل يتحرك بالزلزلة المجموع أم البعض؟

فتكون الاحتمالات ثمانية ناتجة من ضرب الاثنين في نفسها ثلاث مرات ٢* ٢* ٢. وسنستعرض فيما يلي مجملها.

مقتضى فهم المشهور أن المراد من الأرض : الكرة الأرضية. فيرد عليهم هنا سؤال ، هو هل أن الزلزلة المذكورة تشمل كل الأرض أم بعضها؟ فإن كانت تشمل الأرض كلها ، فيرد عليها إشكالان.

الإشكال الأول : عدم تحقق ذلك تاريخيا.

الإشكال الثاني : وهو الأهم أنهم قالوا في علم الفلك : إن سبب عدم الإحساس بحركة الأرض حول نفسها ونحو ذلك ، هو : أن الحركة فيها كلية وليس موضعية. أو قل : إنها حركة مجموعية لمجموع الأرض. وليست لجزئها. ومن جملة مصاديقها : ما إذا كان الإنسان راكبا في واسطة نقل ، فإنه لا يحس بحركتها ولا حركته ، مع كونهما متحركين واقعا.

فإذا عرفنا ذلك ، فإن الزلزلة إذا أصابت كل الأرض ، فستكون حركتها كلية ، ولن يحس بها مهما كانت سريعة. هذا مضافا إلى وجود الجاذبية ، ووضوح أن الأرض حينئذ تتحرك مع طبقاتها الهوائية وليس وحدها. وهذا يدعم عدم الإحساس بالحركة.

ومعه يتعين على فهم المشهور أن تكون حركة الزلزلة في جزء الأرض لا في الجميع. في حين أنه يفهم من الأرض كل الأرض لا الجزء. فيقع في تهافت واضح. فلا بد من عرض الأمر بشكل آخر.

وذلك له عدة فهوم :

الفهم الأول : إن المراد من الأرض مجموع الأرض ، ومن الزلزلة حركتها حول نفسها طبيعيا.

إلّا أنه لا يتم لأمرين :

أحدهما : إن السياق سياق التهويل والتهديد ، وهذه الحركة فاقدة لذلك.

٣١٤

ثانيهما : إن السياق دالّ على أن هذه الحركة لم تحدث لحد الآن وإن التنبؤ قائم على حصولها في المستقبل. كما هو المستفاد من قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ). مع أن هذه الحركة متحققة فعلا.

الفهم الثاني : أن يكون المراد الزلازل الاعتيادية لجزء من الأرض.

ويرد عليه كلا الإشكالين السابقين. ومضافا إلى إمكان القول : بأن المراد من الأرض كلها لا جزؤها ، ولو باعتبار أن الأصل في الألف واللام الجنسية لا العهدية. فتأمل.

الفهم الثالث : أن يراد تحرك الأرض كلها بشكل غير معهود. كما لو كانت تهتز ونحو ذلك. وبهذا تندفع الإشكالات الواردة على الفهمين السابقين. مع إمكان دعمه بأن السياق يدل على حدوثه بالمعجزة ، لا بالقانون الطبيعي. ويكون هذا الفهم مؤيدا للمشهور بحدوثه عند يوم القيامة.

الفهم الرابع : أن يراد تحرك بعض الأرض بشكل غير معهود.

ويرد عليه مضافا إلى ما قلناه في الإشكال على الفهم الثاني ، وجهان آخران :

الاول : إن قوله : زلزالها يشعر بأن الزلزال المشار إليه هو زلزال عظيم. بحيث تكون نسبة الباقي إليه كالعدم. وهذا كما يكون قرينة على عدم إرادة الزلازل الاعتيادية ، يكون قرينة أيضا على عدم كونه في جزء بسيط من الأرض ، وإن لم يكن اعتياديا ، لأنه على كلا التقديرين لا يتصف بتلك الصفة.

الثاني : قوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) ، مشعر بأن ذلك هو نتيجة الزلزال ، والزلزال الموضعي لا ينتج مثل ذلك ، بل يصلح هذا وجها لمناقشة عدد من الوجوه السابقة أيضا.

الفهم الخامس : أن يكون المراد بالأرض : الأرض المعنوية وهي أرض النفس.

٣١٥

فإن قلت : وما ربط ذلك بالزلزلة؟

قلت : إن نفهم منها الزلزلة المعنوية ، فإن نفس الإنسان تتزلزل عند البلاء الدنيوي وعند الفرج والحزن والغضب والشكوك وغيرها. ولعل كل أفراد البشر قد مروا في ذلك.

ومعه فيكون المراد من قوله تعالى : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها). يعني : صاحب تلك النفس وحاملها.

فإن قلت : إننا عرفنا أن المراد الإشارة إلى زلزال رئيسي ، عظيم الأهمية ، فهل لدى النفس شيء من هذا القبيل؟

قلت : نعم ، ولذلك عدة مصاديق أوضحها ما يحدث حالة الاحتضار ، فتخرج الأرض أثقالها وهو البدن ويقول المحتضر ما لها. ولما ذا حصل الألم إلى هذه الدرجة؟

فإن قلت : فإن حمل اللفظ ، وهو الأرض على الأرض المعنوية ، مجاز ، وهو مناف لأصالة الحقيقة.

قلنا : نعم ، إلّا أن استعمال القواعد اللغوية العامة في الفهم المعنوي للقرآن ، ليس في محله.

الفهم السادس : أن نفهم من الأرض : ما على الأرض لا الأرض نفسها ، أي أن نفهم الجانب الاجتماعي والإنساني من الأرض. كما قال تعالى (١) : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، أي أهل القرية بصفتهم متضمنين في معنى القرية نفسها ، فالأرض متضمنة للمجتمع أيضا.

وفي هذا الفهم ، أن المراد تزلزل المجتمع بالبلاء الدنيوي ، أو بأي شيء يشاؤه الله تعالى. وأخرجت الأرض أثقالها ، وهو سقوط المهمين في المجتمع ، وقال الإنسان ما لها ، وهم أفراد المجتمع.

ولكن لما ذا يعبر بالزلزال هنا؟

__________________

(١) يوسف / ٨٢.

٣١٦

وذلك لأحد وجوه :

الأول : إن البلاء يوجب كثرة حركة الأفراد إما خوفا أو لقضاء حاجاتهم الآنية ، ونحو ذلك.

الثاني : إن كثرة الحركة هذه توجب حركة في القشرة الأرضية ، وإن كانت قليلة ، فهي تشبه الزلزلة من هذه الناحية.

الثالث : إن أرض النفوس كلها تتزلزل من الناحية النفسية على العموم.

فإن قلت : فإننا استفدنا من الآية الكريمة أن المراد الإشارة إلى زلزال رئيسي للأرض ، فلا ينطبق على هذا الفهم ، وخاصة على الوجه الثاني حيث لا يحصل في قشرة الأرض إلّا حركة قليلة.

قلت : نعم ، لا بد أن يكون المراد حصول بلاء رئيسي في المجتمع أو في المجتمعات أو في البشرية ولو باعتبار أشراط يوم القيامة.

وأما قصة القشرة الأرضية ، فهي خارجة موضوعا ، بعد أن نقلنا ـ بناء على هذا الفهم ـ معنى الزلزال من الأرض إلى المجتمع.

سؤال : ما هو معنى أخرجت ، في قوله تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها)؟.

جوابه : إحدى أطروحتين ـ على الأقل ـ :

الأولى : أنها تخلصت ورفضت ولفظت أثقالها. كأن شيئا مزعجا كان في داخلها فأخرجته. وهذا هو الأوفق بالفهم المشهوري.

الثانية : أنها أبرزت وبينت ذلك ، لأجل مصلحة وحكمة إلهية. وأوضح مصاديق ذلك هو إخراجها للكنوز والمعادن عند ظهور الإمام المنتظر سلام الله عليه (١). فهو إظهار لطيف وليس مزعجا.

سؤال : ما هي الأثقال التي تخرجها الأرض يومئذ؟

__________________

(١) مستدرك الصحيحين ج ٤ ، ص ٥١٤.

٣١٧

جوابه : إن فيها تسعة احتمالات :

الاحتمال الأول : الموتى. كما رجحه الطباطبائي في الميزان (١).

ويرد عليه : أن الله تعالى هو الذي يبعث من في القبور. ولا دخل للأرض في ذلك ، ونسبة الإخراج تكون للفاعل لا للمكان. وإلّا كان مجازا والأصل التمسك بالمعنى الحقيقي.

هذا ، مضافا إلى أننا نسأل : هل أن عودة الموتى تتوقف على زلزلة من هذا القبيل؟ نقول :

أولا : إن قدرته سبحانه على ذلك لا تتوقف على ذلك.

ثانيا : إن أكثر الموتى من البشرية ليس لهم جثث ، بل قد اختلطت أجسامهم بالرمال. وحصول الزلزلة ليس سببا لإعادة الرمل جسما. إلّا إذا قلنا إن ذلك مما يحدث بقدرة الله تعالى. فإذا أخذنا قدرة الله بنظر الاعتبار ، فلا حاجة إلى الزلزلة.

اللهم إلّا أن يقال : إن المراد أن الأرض تفتقت عن جثث الموتى إلى الحياة ، فيعبر عن هذا التفتق أو التفتح بالزلزلة. ولكنه ليس هو المعنى الحقيقي للزلزلة على أي حال.

إلّا أن يكون نظير قوله تعالى (٢) : (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ). لحصول اهتزاز التراب بخروج النبات من البذر. إلّا أن معنى الزلزلة غير ذلك بالوضع الحقيقي.

الاحتمال الثاني : ـ للأثقال ـ : المعادن والكنوز.

وهذا المعنى مشهوري أيضا وله عدة تطبيقات :

١ ـ فمرة نحمله على استخراج المعادن من الأرض من قبل البشر. وإنما نسب إلى الأرض باعتبارها مكانا للتعدين. إلّا أنه لا يناسب السياق

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٤٢.

(٢) الحج / ٥.

٣١٨

العام ، كما هو واضح وأوضح ذلك أنها غير مسبوقة بالزلزلة.

٢ ـ ما ورد من أن الأرض تلقي بأفلاذ أكبادها من الذهب والفضة عند ظهور المهدي (١).

ويرد عليه ما أوردناه على الأول. مع أن كليهما غير مربوط بيوم القيامة. كما عليه المشهور من أن سياق السورة كله مربوط به.

٣ ـ إن المشهور يقول : إن الزلزلة يوم القيامة تخرج المعادن من جوف الأرض وتطرحها على الأرض ، كما فهموا من السياق. ولعل بعض التقريبات تدل على عدم الحكمة من ذلك وكونه لغوا ، واللغو لا يصدر من الحكيم لا إثباتا ولا ثبوتا.

مضافا إلى نكتة أخرى لا ينبغي إهمالها ، وهي : أن سياق الآيات حسب فهم المشهور : أن كلّا من الموتى والمعادن تخرج بنفس الزلزلة.

ونحن نلاحظ أن هذا يحتاج إلى معجزتين ولا تكفي معجزة واحدة. فإذا أخرجت الأرض المعادن ، فكيف سيكون إخراج الموتى؟ وعندئذ لا بد من مضاعفة المعجزة ، ولا حاجة إلى ذلك فيكون عبثا أو لغوا. وإنما يومئذ المهم هو إخراج الموتى فقط.

أو نقول : إن المعادن نفسها متكونة من جثث الموتى. إما باعتبار التعبير مجازا عن الجثث بكونها معادن. أو أن بعض المعادن متكونة من الجثث ، كما يقال في النفط من كونه متكونا من أجساد متحللة من الحيوانات والبشر من ملايين السنين ، تحت الضغط والحرارة الباطنية العالية.

إلّا أن ذلك ، يقتضي تحول المعادن إلى أجساد بشرية لدى الإخراج إلى سطح الأرض. ومعه لن تجد معادن خارجة. وهذا ينافي الوجه الخاص بإخراج المعادن.

الاحتمال الثالث : للأثقال ، أنها أخرجت ما على وجهها من سكان

__________________

(١) مستدرك الصحيحين ج ٤ ، ص ٥١٤.

٣١٩

ونبات وحيوان. فإن الثقل عرفا يكون على الشيء أو على سطح الأرض لا في الباطن. ويؤيده قوله تعالى (١) : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ). أي أصبحت خالية منها ، إذا أعرضت عنها ولفظتها.

الاحتمال الرابع : أن يكون الثقل ثقل الذنوب والمسئولية وثقل استحقاق العقوبة. ويؤيده قوله تعالى (٢) : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ). أي أصبحت أرضا لم يذنب عليها إنسان كما ورد (٣). كأن الأرض هي السبب في التنظيف من الذنوب.

الاحتمال الخامس : أن يكون المراد : الظلام المعنوي الناتج من الذنب أو المنتج له. وهو القصور والتقصير. كما في قوله تعالى (٤) : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها). فيتحول الظلام إلى النور بعد إلقاء الثقل والتخلص منه.

الاحتمال السادس : التخلص من العيوب بحصول الكمال.

الاحتمال السابع : الأعمال.

فإن قلت : هل أنه نتيجة للزلزلة؟ قلت : نعم ، فإننا إنما نتحرك للعمل الرئيسي عند العاطفة الحقيقية.

فإن قلنا : إن أخرجت بمعنى لفظت أو رفضت. فتكون الأعمال مرفوضة على أحد شكلين :

أحدهما : أن نقول : إن الإنسان قد يكون في حالة يأس من نفع الآخرين وإفادتهم له وقضاء حاجته ، فيكون خاملا لا نشاط له.

ثانيهما : أن نقول : إن الإنسان يكون في درجة من التكامل المعنوي. فلا

__________________

(١) الانشقاق / ٤.

(٢) إبراهيم / ٤٨.

(٣) انظر نحوه في الميزان ج ١٣ ، ص ٩١.

(٤) الزمر / ٦٩.

٣٢٠