منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

أولا : لأجل النسق القرآني ، لنهايات الآيات ، لوضوح أنه بدونه لا يستقيم.

ثانيا : وصف النار بذلك وصفا توضيحيا ، لأجل زيادة الإهانة والتنقيص لأبي لهب.

ثالثا : إن اللهب وإن كان ملازما مع النار العرفية ، كبرت أو صغرت. ومن هنا يغني ذكر أحدهما عن ذكر الآخر. كما هو المفروض في هذا السؤال.

إلّا أن الواقع أن النار أعم من ذلك وأوسع مفهوما. فهي تعني الحرارة العالية أيا كان مصدرها. وجهنم مصداق مهم من ذلك.

وقد ورد (١) أن في كل درك من دركات جهنم ثلاثين ألف من أنواع العذاب. وورد (٢) : أن أشد الناس عذابا في جهنم سبعة : خمسة قبل الإسلام ، واثنان بعده في توابيت مقفلة. فالمهم الآن أنه لا يمكن أن يكون اللهب موجودا في هذه التوابيت.

إذن ، فالنار ذات اللهب ، حصة من جهنم ، أو بعض منها. وهي التي يصلاها هذا المشرك ، وقد ورد وصفها في آية أخرى (٣) : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ). إذن فاللهب والشرر ، قد يكون ضخما جدا ، كالقصر أو كالجمل (٤) : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ). مع انفجارات تقتضي رمي مثل هذا الحجم الضخم من النار إلى مسافة بعيدة.

سؤال : إن «حمّالة» صيغة مبالغة ، وليست اسم فاعل. فلما ذا أعرض عن ذكر اسم الفاعل وقال : حمالة الحطب؟

جوابه : أما من الناحية الكبروية أو الصغروية.

__________________

(١) انظر نحوه في : تفسير علي بن إبراهيم ج ١ ص ٣٧٦ ...

(٢) انظر نحوه في الخصال ص ٣٩٨ ...

(٣) المرسلات / ٣٢.

(٤) المرسلات / ٣٣.

١٠١

أما من الناحية الكبروية ، فإن استعمال صيغة المبالغة لأجل الدلالة على الكثرة والشدة. وأما اسم الفاعل ، فيصدق على المرة الواحدة. فيكون على خلاف المقصود.

وأما صغرويا : فإنه من الواضح أن المراد أن تلك المرأة كانت كثيرة حمل الحطب دائما ، أو في كثير من الأحيان. وهذا يعني :

أولا : إنها كانت تحمل الحطب لإيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تكثر من ذلك لأجل الإكثار من أذيته.

ثانيا : إنها كانت تحمل الحطب كمهنة. أي لتأخذ الأجر عليه ، لا إنها تبيعه وإلّا سمّيت حطّابة. ولم يرد ذلك في القرآن الكريم.

ويمكن ضمّ أحد هذين الوجهين إلى الآخر ، فقد يكون كسبها من حمل الحطب. ولأجل إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. فهي حطابة من كلتا الجهتين.

سؤال : ما هو مؤدى حمل الحطب؟

جوابه : إن حمل الحطب في الآية يعطي إشعارا بأمرين :

الأمر الأول : إنه يدل على حمل الذنوب والطغيان والعصيان. قال تعالى (١) : (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً.) و (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً. خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً). وقال سبحانه (٢) : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ). وقال (٣) : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ).

الأمر الثاني : إن فيه إشعارا أيضا على أن حمل الحطب كان يؤلم الظهر. لأنه ثقيل ـ أولا ـ وفيه وخز ـ ثانيا ـ بل لعله يؤدي إلى الإدماء

__________________

(١) طه / ١٠٠.

(٢) العنكبوت / ١٣.

(٣) النحل / ٢٥.

١٠٢

والمضاعفات الصحية.

وحسب النقل التاريخي ، أنها ـ قاتلها الله ـ كانت تتعمد أن تأتي بالحطب الذي فيه «سلاءة» لكي يكون أشد إيذاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهي بهذا العمل كانت تؤذي نفسها وتظلمها بإرادة الشر لها ماديا ومعنويا ، وبالعنوان الأولي وهو الوخز والعنوان الثانوي وهو الظلم.

سؤال : ما هو موطن هذه الصفات المسندة إلى تلك المرأة. وهي كونها «حمالة الحطب ، في جيدها حبل من مسد»؟

جوابه : إن هاتين الصفتين إما أن تكونا معا في الدنيا ، وإما أن تكونا معا في الآخرة ، وإما أن تكون إحداهما في الدنيا والأخرى في الآخرة. وإما أن تكون كلاهما معا في الدنيا والآخرة معا.

فتكون الاحتمالات أربعة. فما هو منها الموافق للظهور القرآني بالمقدار الذي يعدّ حجة فيه. وما هو المخالف له؟

الاحتمال الأول : إن كلا الأمرين يتحقق في الدنيا. فهي تحمل الحطب في الدنيا. وفي جيدها ـ أي رقبتها ـ حبل من مسد يتعلق به الحطب.

وهذا هو سبب نزول السورة. وهو لا ينافي شيئا من السياق.

الاحتمال الثاني : أن يكون الوصف الأول في الدنيا والثاني في الآخرة. فهي حمالة الحطب لإيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفي الآخرة يكون في جيدها حبل ، تجرها الملائكة بواسطته إلى النار.

ولكن يرد على هذا الاحتمال إشكالان :

الإشكال الأول : أن «في جيدها» جار ومجرور ، ينبغي أن يتعلق بفعل أو شبهة. وليس هناك فعل إلّا قوله : (سَيَصْلى). وفاعله مذكر ، والمراد به أبو لهب. ولا يمكن أن يتعلق هذا الجار والمجرور به لأنه مؤنث ، فيكون تعلقه به مفسدا للسياق القرآني.

فإن قلت : يمكن تقديره مؤنثا ، ليصلح متعلقا للجار والمجرور. كأنه قال :

١٠٣

وستصلى امرأته حمالة الحطب.

قلت : لا يمكن أن يتعلق الجار والمجرور بفعل محذوف. ولم يقل به أحد من النحويين. فالمتعين أن يتعلق الجار والمجرور. ب «حمالة» أي : بهذه الصفة. ولكن يرد عليه : أننا افترضنا أن في جيدها حبل من مسد في الآخرة. وهي حمالة الحطب في الدنيا. فيكون هناك تناف في المعنى والسياق.

الإشكال الثاني : أن الحبل الذي يكون من مسد في الآخرة ، أضعف من أن يؤثر أو يمكن أن تجرّ به الملائكة ، تلك المرأة الشريرة. فإن الحبل من المسد ، يتقطع بسرعة.

فإن قلت : إن حبل الآخرة غير حبل الدنيا ، بل هو مناسب مع وجودها الأخروي ، فلا يكون قابلا للانقطاع.

قلت : نعم ، ولكنه عندئذ لا يكون من مسد ، بل من شيء آخر.

فإن قلت : إن القرآن سمّاه مسدا.

قلت : إن المسد هو الحبل المفتول من الليف. فإن أخذناه بمعناه الحقيقي أو المادي ، فإنه لا ينسجم مع الآخرة كما أوضحنا. وإن أخذناه بالمعنى المجازي ، فهو ينسجم مع الآخرة. ويمكن أن نعطي لذلك أطروحة ، كما يلي :

إن المسد هو الليف. ولكن الذي أفهمه : أن مسّد أي فرك ، والحبل يصنع بالمسد والفرك ، فحبل من مسد ، أي ممسود ومفتول. وحينئذ يمكن أن يناسب وروده في الآخرة. لأنه لم تتعين مادته. فقد يكون حبلا مفتولا شديد القوة.

الاحتمال الثالث : أن كلتا الصفتين معا في الآخرة. فلا يكون هناك دليل على وجودها في الدنيا.

وقد يدعي وجود الدليل اللفظي على صحة هذا الاحتمال ، وهو أن

١٠٤

حمالة الحطب حال من «تصلى» التقديرية. ولا مرجع لها غيرها.

إلّا أن الصحيح : أن الحال يكون من الاسم لا من الفعل. وليس كالظرف والجار والمجرور. فهو حال من امرأته. وأن حالها الدنيوي على ذلك. ومعه ينتفي هذا الاحتمال ، مضافا إلى حال إيذائها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الثابت تأريخيا.

الاحتمال الرابع : أن يكون كلاهما موجودا في الدنيا والآخرة.

وهو الذي ذهب إليه المشهور وصاحب الميزان قدس‌سره. حين قال (١) : والظاهر أن المراد بالآيتين أنها ستتمثل في النار التي تصلاها يوم القيامة في هيئتها التي كانت تتلبس بها الدنيا ... فتعذب بالنار وهي تحمل الحطب وفي جيدها حبل من مسد.

أقول : وهو معنى له درجة من الوجاهة والإشعار به قائم. خاصة إذا ضممنا الفكرتين السابقتين ، وهما : أن المراد بالحمالة هو حمل مسئولية الذنوب ، وأن المراد بالليف ما يناسب وجوده مع وجود الآخرة.

لكنه من التفسير الباطني ، وليس هناك دليل لفظي عليه. وذلك : لأن الحطب هو الخشب المتكسر. وأما التعبير به عن الذنوب فهو مجازي. والمسد هو الليف أو الحبل المفتول. فإنه ينصرف عرفا إلى الحبل الدنيوي لا الأخروي. ومعه نحتاج إلى ذوق معنوي في الفهم على أنها ، أعني هذه المرأة ، تحشر على نفس تلك الهيئة في الآخرة. ولا يتعين ذلك بحسب الحكمة الإلهية ، ولا قرينة عليه.

إلّا أنه نفهم أنهما معا في الدنيا ويكون السياق دالا على وجودهما هناك. بلسان الحال ، أو باعتبار أن الحبل من مسد ، إنما يكون في جهنم لتجر به تلك المرأة إليها.

وهذا بعيد. إلّا أن يراد بالمسد ، شيء آخر مجازا. وهو أيضا خلاف الظاهر.

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣٨٥.

١٠٥

وإذا تمّ ، فستكون وحدة السياق على أن كليهما هناك. وهذا لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ، كما سبق. مضافا إلى صيرورة وجود حبلين في الآخرة في عنقها : حبل الحطب وحبل المسد. وهو بعيد. لأنه في الدنيا واحد. وأن حبل المسد هو حبل الحطب. ولكنها تجر في الآخرة بحبل آخر لا محالة.

فإن مقتضى التشابه التام بين حالها في الدنيا وحالها في الآخرة ، هو أن يكون في جيدها حبل واحد تحمل به الحطب وتجر به إلى جهنم ، وهو ممكن تصورا وعقلا. إلّا أنه غير عملي. بل حبل المسد للحطب وهناك حبل آخر تجر به. وهو ما لا يستفاد من الآية بل السياق يعطي وجود حبل واحد.

إذن ، يرجح القول بأنها تعذب في الآخرة كغيرها من المجرمات ، وليس تماما ، كحالها في الدنيا ، كما عليه مشهور المفسرين.

الوجوه الإعرابية في السورة :

«تبّ» بكلا وجوديها في السورة ، يمكن أن تكون إنشاء بمعنى الدعاء ، ويمكن أن تكون إخبارا.

أما الإنشاء ، بمعنى الدعاء ، فتفسيره من الله سبحانه وتعالى عدة أطروحات :

الأطروحة الأولى : إنه نحو من أساليب البلاغة. فإنه كما يستعمله المخلوق يمكن أن يستعمله الخالق.

الأطروحة الثانية : إنه دعاء لنفسه بأن يفعل. فكل فاعل اختياري يمكن أن يأمر نفسه اختيارا أو حقيقة ، أو باعتبار تنزيل الشخص الواحد منزلة شخصين.

الأطروحة الثالثة : إن بعض الأسماء الحسنى تدعو بعضا. فكما أن رحمته تقدمت على غضبه أي أنها تذهب بالغضب إما تكميلا أو تنقيضا.

١٠٦

فكذا الحكمة تدعو «ذو الانتقام» لأن مقتضي الحكمة الانتقام منه. وهكذا.

الأطروحة الرابعة : إنه إنشاء بمنزلة التنبؤ.

فإن قلت : إن التنبؤ يكون للمستقبل. فيدل عليه الفعل المضارع. فلما ذا عبّر عنه بالماضي؟

قلت : هذا الأسلوب متكرر كثيرا في الأسلوب القرآني. وهو تنزيل ما هو مستقبل منزلة ما هو ماض. لعدة أهداف :

أولا : لأهميته.

ثانيا : للتأكيد على وقوعه.

ثالثا : للتأكيد من حدوثه والفراغ منه.

وأما إذا أريد بها الإخبار ، كما هو الأقرب. فهنا وجوه :

أولا : إنها أخبار عن الآخرة ، فيكون بمعنى المضارع ، كما سبق.

ثانيا : إنها أخبار عن الدنيا. يعني أنه قد هلك بنفس فعله باعتبار كونه قد فعل القبيح.

ثالثا : إن الأظهر هو النظر إلى نتائج الفعل. وهو الرسوب في الامتحان الإلهي وهو الهلاك المعنوي الحاصل فعلا. وهو على معنى الفعل الماضي.

وهذه الاحتمالات ، تأتي في كلا الفعلين : تبت يد أبي لهب وتب. وهي في الثاني أوضح.

وفرقه عن السابق : أن في الآخرة عقابه ، وأما في الدنيا فيراد به أحد أمرين :

الأمر الأول : نفس عصيانه. فتبت أي عصت يدا أبي لهب وعصى هو أيضا. فنفس العصيان هو الهلاك. أو يلحظ بصفته علة تامة للهلاك.

الأمر الثاني : أن يراد بالهلاك الأثر الوضعي لإيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يحصل في الدنيا. وهو تعبير آخر عن الفشل في الامتحان الإلهي.

١٠٧

سؤال : ما المقصود من حرف «ما» في قوله تعالى : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ)؟.

الجواب : قال أبو البقاء العكبري (١) : ما أغنى (يجوز أن يكون نفيا) أي لم يغن عنه ماله وكسبه في نجاته من العقاب. (وأن يكون استفهاما) أي استفهاما استنكاريا للاستهزاء. بمعنى هل أغنى عنه ماله وما كسب (ولا يكون بمعنى الذي) فيكون المعنى : الذي أغنى ماله وما كسب. فيتحول النفي إلى إثبات. فيفسد السياق ويكون قطعي البطلان.

سؤال : لما ذا استعمل «ما» بدلا عن «من»؟

فإن قلت : إن في ذلك احتقارا له. باعتباره كالحيوانات.

قلت : إن هذا مطعون كبرى وصغرى :

أما كبرى : فلعدم إمكان إعادة الضمير أو اسم الموصول مجازا. فإن هذا غير مقبول لغويا.

وأما الصغرى : فلأننا لو تنزلنا عن ذلك وقبلنا به مجازا. فالقرائن المتحققة بخلافه. لأنه سيصبح اسم الموصول إثباتا. كما ذكرنا. فصونا لكلام الحكيم عن اللغوية ، يتعين أن لا تكون «ما» موصولة. ومعه لا معنى لاستعمال «من» بدلا عنها.

وقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ) ، إما عطف مفرد على مفرد ، فتكون لفظا إفراديا معطوفا على الضمير في سيصلى. أي هو سيصلى ، وإما عطف جملة على جملة ، كما سيأتي بيانه.

وقوله تعالى : (حَمَّالَةَ) فيه قراءتان. بالنصب وهو الأشهر وبالرفع.

فعلى الرفع تكون خبرا لمبتدإ محذوف تقديره هي. وبالنصب تكون حالا من «امرأته». والمعنى أن وصفها وحالها في الدنيا أو في الآخرة ، على هذا الشكل. أي حمالة الحطب.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٩.

١٠٨

أما في الدنيا فواضح. وأما في الآخرة فله وجهان :

الأول : ما ذكره العكبري بقوله (١) : ويقرأ بالنصب على الحال ، أي تصلى النار مقولا لها ذلك. أقول : الظاهر أن مراده ليس النطق بل الصدق.

الثاني : إنها تحشر إلى جهنم ، وقد كانت في الدنيا حمالة الحطب.

وقوله تعالى : (فِي جِيدِها) : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم. وحبل مبتدأ مؤخر. وهي جملة مستقلة بتقدير حرف العطف. أي إنها حمالة الحطب وفي جيدها حبل من مسد. وهذا الواو ، إما أن يكون للعطف أو للحالية.

فإن قلت : إن الجار والمجرور سيتعلق بفعل محذوف تقديره «ستصلى» وهو غير مقبول نحويا. مع العلم أن الجار والمجرور في قولنا : زيد في الدار ، أيضا يتعلق بمحذوف بإجماع النحويين. فلما ذا لا نقبل ذاك المحذوف؟

قلت : إن هذا قابل للمناقشة صغرويا وكبرويا :

أما صغرويا : فإن هناك فرقا بين الجملتين من ناحية التقدير ، فإن التقدير في قولنا : زيد في الدار هو كائن أو مستقر. وهو اسم فاعل إفرادي. بينما التقدير في هذه الجملة من السورة الشريفة ، هو جملة. لأنها «ستصلى» مقدرة. فإذا جاز التقدير في اللفظ الإفرادي ، فإنه لا يعني الجواز في المعنى التركيبي.

وأما كبرويا : فنقول : إنه بالإمكان الاستغناء عن التقدير حتى في الخبر ، كزيد في الدار. فإن الكون والاستقرار مأخوذ بالدلالة الالتزامية من الجار والمجرور. فزيد لا يكون في الدار ، إلّا إذا كان كائنا أو مستقرا فيه. إذن يمكن اعتبار الجار والمجرور بنفسه خبرا بدون تقدير.

__________________

(١) المصدر والصفحة.

١٠٩

فإن قلت : هذا بالنسبة إلى الجملة الاسمية ، ولكنه ينقض بالجملة الفعلية كما في قولنا : صعدت على السطح فإن الجار والمجرور لا بد أن يتعلق بالفعل المنطوق ، وهو صعدت.

وهذا قابل للجواب من وجهين :

أولا : إنه إذا كان الفعل منطوقا فلا بأس أن يتعلق به الجار والمجرور ، وأما إذا كان مقدرا فلا حاجة إلى التعلق به ، لأن التقدير على خلاف الأصل ، وعلى خلاف الفهم العرفي.

ثانيا : إنه لا حاجة حتى إلى التعلق بالفعل المنطوق. فإن (صعدت) لها معنى. والسياق يدلنا إلى أن الصعود كان على السطح ، وكون الجار والمجرور متعلقا بهذا الفعل ، بالمعنى الميكانيكي النحوي. ليس ضروريا البتة.

هذا كله في الحديث ، على تقدير عطف المفرد على المفرد في قوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ).

وأما إذا كان عطف جملة على جملة ، فما هو مدخول الواو؟

أما حمالة بالنصب ، فامرأته مبتدأ ، وفي جيدها الخبر. أو أن الخبر هو حبل أو هو جملة : حبل من مسد.

وأما حمالة بالرفع : فتكون هي الخبر ، ويكون «في جيدها» إما نعت أو حال.

سؤال : ما الحاجة إلى ذكر قوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ). مع أن الناس كانوا يعلمون ذلك؟

جوابه : من وجوه :

أولا : إن المراد بهذا الخبر هو زيادة الازدراء بأبي لهب ، بأنه يصلى نارا ذات لهب. وهو أيضا متزوج من امرأة حقيرة وحطابة.

ثانيا : إنه هالك في الآخرة ، ومتزوج من امرأة مؤذية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. لأنه كان راضيا بفعلها.

١١٠

ثالثا : إنه سيصلى نارا ذات لهب في الآخرة ، وامرأته أيضا تحشر إلى جهنم على هذه الحال الموصوفة ، أو هي في كلا الدارين كذلك.

وكل هذه المعاني يمكن أن تكون صحيحة.

سؤال : لما ذا قال : (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ). ولم يقل : حبل مسد. مع أنه كاف في بيان المعنى؟

جوابه : إن كلا الأمرين جائز في اللغة ، ولكنه متعين في السياق القرآني ، لأن فيه حفظا له ، وبدونه يكون السياق فاسدا كما هو واضح.

هذا إذا كان المسد بمعنى الليف.

أما إذا كان بمعنى الفتل ، فإنه يجوز كلا الأمرين : وجود (من) وعدمها. نقول : حبل فتل أو حبل من فتل. وتقول : حبل مفتول ، وفي حالة اسم المفعول هذا يتعين حذف من. وحيث إنها مستعملة في الآية الكريمة ، إذن نعرف بالقياس الاستثنائي أن مسد ليست بمعنى المفتول.

نعود إلى فكرة عن عطف الجملة على الجملة في قوله : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

أي وفي جيدها. والواو عاطفة بين الجملتين ، وهي الاستئنافية في اصطلاحهم. فتكون امرأته مبتدأ وحمالة ـ بالرفع ـ خبره. وفي جيدها حبل من مسد. نعت أو حال.

أما إذا نصبنا «حمالة» كما هو المشهور ، فتكون حالا ، ويكون الخبر هو الجار والمجرور. وقوله : حبل من مسد. أي هو حبل من مسد. ولكن ذلك مرجوح.

والأفضل أن يكون حبل من مسد جملة ابتدائية : مبتدأ وخبر تقع خبرا لامرأته فيكون الخبر جملة بدلا أن يكون مفردا.

١١١
١١٢

سورة النصر

في اسمها عدّة أطروحات اتضحت أسبابها مما سبق :

أولا : النصر.

ثانيا : الفتح.

ثالثا : السورة التي ذكر فيها النصر أو التي ذكر فيها الفتح.

رابعا : إذا جاء.

خامسا : رقمها في الترتيب الموجود للقرآن الكريم وهو : ١١٠.

سؤال : ما معنى «جاء» في قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟.

جوابه : معناه : حصل الفتح وحدث ، والمراد إما المجيء في الزمان ، أو بتقدير الزمان ... يعني إذا جاء يوم الفتح أو زمانه. أو يراد به المجيء المعنوي وهو الحصول والتحقيق نفسه. وهو تعبير آخر عن الخلق كما في قوله تعالى (١) : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ). فسمى عملية الخلق بالتنزيل ، أي من العالم الأعلى إلى العالم الأدنى. وكلمة جاء هنا ، متضمنة لنفس هذا المعنى.

سؤال : ما الفرق بين النصر والفتح؟

جوابه : لا شك أنهما مختلفان لغة ومفهوما. وأراد تعالى التنبيه على كلا المفهومين ويمكن تصورهما على عدة مستويات :

__________________

(١) الحديد / ٢٥.

١١٣

الأول : أن يكونا معا في الدنيا ، وهذا هو المنحى التفسيري المشهور أو (المادي) فيكون النصر مقدمة للفتح. وربما خصّوه بفتح مكّة.

الثاني : أن يكونا معا في الآخرة أي النصر المعنوي والفتح المعنوي. ويكون النصر على النفس الأمارة بالسوء. ويكون الفتح بمعنى فتح العقل وإمكانية الفهم وتلقي العلوم ، سواء كان ذلك من الظاهر أو من الباطن. قال تعالى (١) : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ). أي بما فتح الله من علم المعارف والعلوم ، لا بمعنى فتح مكة. وإذا كان الفتح متزايدا وعميقا في العقل ، فهو الفتح المبين. قال الله تعالى (٢) : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

الثالث : أن يكون أحدهما دنيويا والآخر معنويا أو أخرويا. وعلى هذا المستوى يكون المعنى : أن تنتصروا انتصارا دنيويا نفتح لكم فتحا معنويا. إلّا أن وحدة السياق تأبى هذا الوجه ، وتدعم أحد الوجهين السابقين.

والفرق بين النصر والفتح ، هو : إن النصر يتضمن المقدمات بينما الفتح يتضمن النتائج. ولذا قيل : الهدم قبل البناء. كما في هدم العقائد الفاسدة. فإنه ليس بالأمر اليسير بل يتم بالتسديد الإلهي والرحمة الإلهية.

وعلى أي حال ، فكل فتح يحتاج إلى مقدمات ، وأهم مقدماته : النصر وإزالة العوائق. وهذا معنى سار في كل فتح ونصر. سواء كان ماديا أو عسكريا أو عقليا أو نفسيا أو في أي عالم خلقه الله تعالى.

سؤال : هل المراد فتح ونصر معيّن أو كلي؟

جوابه : إن في ذلك عدة أطروحات :

الأطروحة الأولى : أن يراد به فتح مكة. وفي ذلك نقطة ضعف ونقطة قوة :

__________________

(١) البقرة / ٧٦.

(٢) الفتح / ١.

١١٤

أما نقطة ضعفه : فهي مخالفته للرواية (١) على أن هذه السورة نزلت قبل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسنتين. في حين أن فتح مكة وقع قبل ذلك بعدة سنوات. ومن المستبعد أن يكون البعد الزماني كبيرا بين فتح مكة ونزول السورة إذا كانت قاصدة له. ومعه تكون تلك الرواية مخالفة لظاهر القرآن الكريم. فتسقط عن الحجية. لأن ذاك البعد الزماني يكون كالقرينة على أن المقصود معنى آخر ، بالقياس الاستثنائي.

ونقطة القوة فيه : استعمال لفظة «الفتح» الدالة على أن مكة المكرمة كانت محصنة بالسور أو بالقوة الكامنة فيها. ولم يحصل مثل هذا الفتح في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا لمكة. وتكون الألف واللام عهدية. أي إشارة إلى ذلك الفتح الرئيسي. وأما فتح المدينة المنورة فلم يحصل بالقوة بل بالصلح.

وبذلك تندفع تلك الرواية المشار إليها. باعتبارها مخالفة لظاهر القرآن الكريم. ويتعين كون السورة ، بناء على هذه الأطروحة ، نازلة بعد فتح مكة مباشرة.

الأطروحة الثانية : أن يراد الإشارة إلى واقعة مهمة ، ولكنها مجهولة ، تصحيحا للرواية المروية في المصادر العامة (٢) : بأنها نزلت قبل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسنتين.

وهذا في نفسه مستبعد ، لأن تلك الحادثة إذا كانت مهمة حقيقة كانت مروية ومعلومة تاريخيا. ولا يمكن لها عادة أن تكون مجهولة.

الأطروحة الثالثة : أن يراد بالنصر والفتح معناهما الكلي القابل للانطباق على كل نصر وفتح. وهذا معنى جيد. وإن استبعده الطباطبائي (٣).

إن قلت : إن فهم المعنى الكلي مترتب على كلية اللفظ ، كما في الفتح

__________________

(١) تفسير الرازي ج ٣٢ ص ١٥٥.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) ج ٢٠ ص ٣٧٦ ...

١١٥

إن كانت الألف واللام فيه للجنس. ولكن ذلك مفقود في «نصر» فإنها نكرة لا تفيد الشمول.

قلت : إن كلمة «نصر» مضافة إلى معرفة ، فتكون قابلة للشمول والإطلاق. ولعله أوكد من إطلاق الألف واللام ، لأن الألف واللام يحتمل فيه العهدية. ولكن ينعقد سياق واحد من اللفظين على كون «الفتح» أيضا يراد به المعنى العام. فيكون ذلك قرينة على أن الألف واللام جنسية لا عهدية ، بجعل ما هو متيقن قرينة على ما هو مشكوك ، كما هو مقرر في علم الأصول.

وبعد ضم ذلك إلى ما قلناه من شمول الانتصارات الدنيوية على مراتبها والفتوحات الأخروية على مراتبها أيضا ، يثبت الشمول لكل ذلك.

وقوله تعالى : (رَأَيْتَ النَّاسَ). يراد به الثبوت لا الإثبات بالخصوص. أو يراد به كلتا المرتبتين معا ، يعني الإثبات المطابق للواقع والموافق للثبوت.

ومفهوم الإثبات هو ظهوره المطابقي. أما مفهوم الثبوت ، فهو دخول الناس في دين الله سواء حصلت الرؤية لهم والتعرف عليهم أم لا.

أو يكون المراد المعنى الشامل للإثبات والثبوت. يعني : إذا (رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) وكانت رؤيتك صادقة (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ).

وهذا نظير قوله تعالى (١) : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). يعني الجمع في شهود الهلال بين الإثبات والثبوت. يعني الرؤية المطابقة للواقع.

سؤال : ما هو محصل قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)؟

جوابه : إن جملة «إذا جاء» جملة شرطية يراد بها جعل أمر في طرف جواب الشرط بذكر الله سبحانه بالتسبيح والحمد والاستغفار.

__________________

(١) البقرة / ١٨٥.

١١٦

ولكن يمكن أن نعقد لها دلالة التزامية على كونها إخبارا عن حصول النصر. وذلك على مستويين :

المستوى الأول : أن يكون إخبارا عن الماضي. أي إن فتح مكة قد حصل. وقد رأيت الناس يدخلون فعلا في دين الله أفواجا. فسبّح ـ إذن ـ بحمد ربك.

المستوى الثاني : أن يكون إخبارا عن المستقبل. أي سوف يحصل ذلك ، وعند ذلك سبح بحمد ربك واستغفره. ونظيره قوله تعالى (١) : (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ).

ولكن هذا ، إذا فهمنا من النصر والفتح ، المعنى الجزئي. سواء كان حاصلا في الماضي أو يحصل في المستقبل. غير أن الأمر ليس ينبغي أن يكون على ذلك. ومن أهم القرائن على نفي ذلك ما يسمى بأخبار الجري. وهو ما ورد (٢) عن المعصومين عليهم‌السلام : إن القرآن حيّ لم يمت ، وإنه يجري كما يجري الليل والنهار ، وكما يجري الشمس والقمر. ويجري على أولنا كما يجري على آخرنا. فمن هنا لا ينبغي لنا أن نفهم من القرآن الكريم في أي موضع معنى جزئيا. بل يتعين فهم المعنى الأوسع والأهم.

فإذا فهمنا المعنى الكلي ، يعني : أي نصر وأي فتح. فكل نصر وفتح حصل في الماضي أو يحصل في المستقبل فهو سبب لانطباق جواب الشرط بذكر الله وحمده واستغفاره.

وهذا من قبيل التنبؤ ، ولكن ليس تنبؤا جزئيا. ومن أوضح مصاديقها وأعظمها ظهور الإمام صاحب الأمر عجّل الله فرجه. وأنه يملأ الأرض

__________________

(١) الروم / ٢ ـ ٥.

(٢) البحار ج ٣٥ ص ٤٠٤.

١١٧

قسطا وعدلا ، كما ملئت ظلما وجورا ، فهو نصر من الله وفتح.

سؤال : ما المراد بدين الله؟

فإنه قد يقال : إن المجتمع المعاصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدخلوا في دين الله الواحد ، أي الواقعي ، لأنهم كانوا غير ممحصين وجهلة. بدليل قوله تعالى (١) : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) ومن يحتمل فيه الضلال لا يمكن أن يكون متكاملا في الإيمان.

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن المراد من دين الله : إظهار الشهادتين ، وهو ما حصل ، فعلا ، عند فتح مكة وبعده ودخل الناس أفواجا في دين الله بهذا المستوى.

الوجه الثاني : المراد منه الدين الذي يوصف بأوصاف محدودة من دون حاجة إلى التقييد بقيود كثيرة. ونريد به إظهار الشهادتين مع شيء من الالتزام بطاعة الله ، وطاعة رسوله. وهذا أيضا قد حصل.

فإن قلت : لكنهم انقلبوا على أعقابهم بعد ذلك.

قلت : إن هذا من الإيمان المستودع ، يزيله الإنسان من سوء أفعاله باختياره. وهذا لا ينافي أنهم قد دخلوا في دين الله بشكل معتد به. وليس بمجرد إظهار الشهادتين.

الوجه الثالث : إن المراد من دين الله : الدين الخالص أو الواقعي. وهؤلاء الذين دخلوا به هم القلة من البشر.

ولكن إذا فهمنا أن المراد هو الأجيال المتعاقبة من أول الإسلام إلى يوم القيامة ، فسوف يدخل في دين الله أفواج من المؤمنين. فيكون ذلك مصداقا كافيا للآية الكريمة.

فإن قلت : إن قوله : ورأيت ظاهر في كونه في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) آل عمران / ١٤٤.

١١٨

وجوابه : أولا : إننا إذا قلنا : إن رأيت مخصوص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتكون بمنزلة القرينة المتصلة على أن المراد بدين الله هو الدين الظاهري ، الذي يناسب مع عامة الناس.

ثانيا : أن يكون المراد به غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن كان هو المخاطب بالمباشرة بنحو قول الشاعر : إياك أعني واسمعي يا جارة. أو إن المراد هو الرسول وغيره.

ثالثا : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى الأمور في كل زمان ومكان باعتبار حقيقته الواقعية وروحه العليا ، التي هي خير الخلق وأشرفه. إذ توجد حيث لا يوجد مكان ولا زمان. فيكون هو المخصوص بالخطاب.

قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ).

ويمكن أن يعرض السؤال عن المناسبة بين النصر والفتح من جهة ، والتسبيح والاستغفار من جهة أخرى ، على شكلين :

الشكل الأول : إن التسبيح والحمد والاستغفار مطلوب على كل حال. فما هي علاقته بالنصر خاصة؟

جوابه : من وجهين :

الوجه الأول : إن الآيات الكونية والحوادث المهمة ، ينبغي زيادة ذكر الله تعالى فيها. لأنها دوالّ على قدرته وعظمته. إذ من المحتمل أنها جاءت للتمحيص أو للعقوبة أو للبلاء. ولذا كرر سبحانه تعالى كثيرا في كتابه الكريم (١)(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) و (٢) (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) وغير ذلك.

وكمصداق لذلك : صلاة الآيات وصلاة الاستسقاء وصلاة الجنائز. فإن هذه الأمور تذكر بوجود الله وبعظمته. قال تعالى (٣) : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي

__________________

(١) آل عمران / ٧٢ ، الأعراف / ١٦٨ ، الروم / ٤١ ، الزخرف / ٤٨.

(٢) البقرة / ٢٢١ ، إبراهيم / ٢٥ ، القصص / ٤٣ ، ٤٦ ، ٥١.

(٣) يونس / ٢٢ ـ ٢٣.

١١٩

الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ. دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ).

وهكذا حال النفس الأمارة بالسوء ، لا تذكر الله إلّا في البلاء. وأما في الرخاء فهي لا تعرفه. والنصر والفتح نحو من البلاء. فلا بد من التسبيح والحمد والذكر ، دفعا لسوء النفس الأمارة ، ولأنها عطاء مباشر من الله سبحانه وفضل منه ونعمة.

الوجه الثاني : ليس المراد إيجاد أصل التسبيح والاستغفار لكونه موجودا حتما لدى المؤمن. وإنما المراد زيادته. وإنما عبر بذلك ، لأنه ينبغي الزيادة في ذلك ، بحيث يكون السابق عليها ملحقا بالعدم فكأنه لم يكن يستغفر أصلا.

الشكل الثاني : لما ذا التسبيح والاستغفار مع العلم أن المحل محل الشكر على النعمة؟

جوابه : لأكثر من وجه واحد :

أولا : ما ذكره الرازي (١) في هامش العكبري : قال : قال ابن عباس (رضي الله عنه) : لما نزلت هذه السورة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه نعيت إليه نفسه. وقال الحسن : أعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قد اقترب أجله ، فأمر بالتسبيح والاستغفار والتوبة ، ليختم له في آخر عمره بالزيادة في العمل الصالح. فكان يكثر من قوله : سبحانك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم. وعن ابن مسعود (رضي الله عنه) : إن هذه السورة تسمى : سورة التوديع. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عاش بعد نزولها سنتين.

__________________

(١) ج ٢ ص ١٥٩.

١٢٠