منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

تعلق الرؤية به هو الجواهر لا الأعراض.

جوابه : أنه ـ عرفا ـ يقال رأيته ويراد به العرض. فالأعراض من الناحية العرفية مرئية ومحسوسة في الدنيا والآخرة.

والمشهور يقول : إن الأعمال نراها جوهرا ، أي بعد تحولها إلى جوهر. وهو القول بتجسد الأعمال. إلّا أنه لا ضرورة إلى ذلك في حدود الجواب على هذا الإشكال الأخير.

كما يمكن القول : بأن الرؤية في الآخرة بمعنى التذكر للأعمال الموجودة في الدنيا.

فإن قلت : إن التذكر ليس رؤية.

قلت : إن التذكر قد يكون من الوضوح ، بحيث يكون بمنزلة الرؤية ، فكأنه يعيش في الدنيا ، وإن لم يكن كذلك.

سؤال : ما هو المرئي في هذه الرؤية؟

جوابه : فيه عدة احتمالات غير متنافية.

الاحتمال الأول : إن المراد هو العمل المنجز ويكون المرئي هو العمل المنجز نفسه. فمن يصلي يرى صلاته في الدنيا ويراها في الآخرة أيضا.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد بالعمل العمل القلبي ، والرؤية للعمل القلبي أيضا ، فمن يحب أهل البيت عليهم‌السلام ، يرى ذلك في الدنيا والآخرة أيضا.

الاحتمال الثالث : أن يكون المراد بالعمل العمل المنجز ويكون المرئي هو الباطن كما في مرتكزات النفس لدى ظهورها بعد التمحيص والبلاء.

والضمير في (يره) لا يرجع إلى مادة (يعمل) ولا إلى هيئته. فإن كليهما خلاف الظاهر ، بل يرجع إلى المثقال. وفيه نفس هذه الاحتمالات.

سؤال : يتحصل من سياق عبارة الطباطبائي في الميزان (١) ، تخيل المنافاة

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٤٣.

٣٤١

بين ما تدل عليه هاتان الآيتان من عموم الرؤية للأعمال. وبين الآيات الدالة على حبط الأعمال أو الدالة على انتقال الأعمال إلى الآخرين ونحو ذلك.

جوابه : من وجوه :

أولا : إن الفرد الذي يرى عمله قبل التحول ، يراه طرفة عين أو آنا ما. ثم يتحول أو يحبط. فلا تنافي بين الأمرين لأنهما مختلفان رتبة.

ثانيا : ما ذكره صاحب الميزان (١) ، من أن الطائفة الثانية حاكمة على هاتين الآيتين ، لأنه يكون بعد الانتقال لا عمل له ، فلا يراه. ثم إنه قدس‌سره ، أمر بالفهم : (فافهم) دلالة على قابليته للمناقشة. من حيث إنه عند الانتقال والإحباط لا يتغير العامل بل يستحيل ذلك عقلا. وإنما يقع التغير فقط على الثواب والعقاب. إذن ، فبناء على هذا الوجه سوف نحتاج إلى تقدير ، وهو خلاف الأصل.

ثالثا : إن هاتين الآيتين لم يذكر أنه يراه كعمل له. بل لعله يراه كعمل لغيره. فتحصل الرؤية إجمالا بعد الانتقال أو الإحباط.

سؤال : المثقال أكبر من الذرة التي نعرفها ، ملايين المرات ، فكيف تقاس ، كما هو المفهوم من قوله تعالى : مثقال ذرة؟

جوابه : هذا مبني على الفهم الحديث على أن الذرة هي الإلكترونات والبروتونات ونحوها ، وكون المراد من المثقال هو أحد الأوزان القابلة للقسمة عرفا. في حين لم يكن هذا ولا ذاك مفهوما في الزمن الماضي ، في صدر الإسلام ، وفي عصر الصدور.

ولكن مع التنزل عن ذلك ، يمكن أن نجيب بأجوبة أخرى :

أولا : إن مثقال ذرة تعبير عرفي يراد به التقليل للعظيم. مع الالتفات إلى أن الفهم العرفي السابق للمثقال كونه أصغر من الفهم المعاصر.

__________________

(١) المصدر والصفحة.

٣٤٢

ثانيا : يمكن إلغاء معنى المثقال من الآية. لأن المهم هو الأخذ بما يدل على الضآلة وهو الذرة دون المثقال. فيبقى هذا التعبير مجرد تعبير أدبي.

ثالثا : ما ذكره الراغب حين قال (١) : والمثقال ما يوزن به. وهو من الثقل. وذلك اسم لكل سنج (عيار أو صخر) قال تعالى : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ). وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

أقول : وهذا معناه أحد أمرين :

١ ـ إن المثقال معنى عام حتى للأوزان الخفيفة جدا ، بحيث لا مانع من مقايسته بالذرة.

٢ ـ إن القرآن قد استعمله في ذلك ولو مجازا.

سؤال : قاله القاضي عبد الجبار (٢) : أليس ذلك يوجب أن الكافر والفاسق إذا فعلا طاعات يريان ثوابهما. وذلك على خلاف قولكم.

جوابه : إنه أجاب عليه بقوله (٣) : إن الخير المستحق على الطاعة هو الثواب. وإنما يستحقه فاعل الخير إذا لم يكن معه معصية أعظم من الطاعة. فأما إذا كانت معاصيه من باب الكفر والفسق فلن يرى ذلك ، لأن الوعد والوعيد مشروط بما ذكرنا في الثواب والعقاب. أقول : يعني إذا لم يكن معه معصية أعظم من الطاعة ، وأما إذا كان كذلك فلا يراه.

وهذا غير تام لأننا إذا افترضنا في مرحلة من التفكير أن الكفار والفاسقين لديهم طاعات إجمالا ـ كما أقرّ به القاضي عبد الجبار ـ فليس من العدل الإلهي أن لا يثابوا بها ولا يروها. لأن ذلك سوف يكون من الحجة على ربه. وحاشاه.

__________________

(١) المفردات مادة : «ثقل».

(٢) تنزيه القرآن عن المطاعن ص ٤٧٤.

(٣) المصدر والصفحة.

٣٤٣

على أن العبارة على هذا التقدير ، تحتاج إلى تقدير ، وهو خلاف الأصل. في حين لو زال التقدير ، فيكون المرئي هو نفس العمل ، وهو مما يمكن حصوله ، سواء أثيب عليه أم لا.

على أننا يمكن أن نجيب على السؤال بأجوبة أخرى :

منها : أن هؤلاء الذين أشار إليهم القاضي عبد الجبار وهم الكفار والفسقة ، ليس لهم طاعات إطلاقا ، فلا يرونها لأنها غير موجودة. وذلك لأكثر من تقريب.

التقريب الأول : إن الطاعات إنما تقبل في ميزان العدل الإلهي ويجزى عليها بالخير ، وذلك : مع درجة من صفاء النية وطيبة القلب. ولو كانت بدرجة ضئيلة جدا. وإلّا لم يكن العمل مقبولا ، فلا يكون لديه طاعات حقيقة ، وإن تخيل ذلك لنفسه. ويؤيد ذلك ما ورد من (١) : إن الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم.

التقريب الثاني : ما ورد من أنه (٢) : لا تقبل طاعة عبد إلّا بولايتنا أهل البيت. ومعه فإن كانت الولاية موجودة فالطاعة موجودة أو أن العمل طاعة فعلا. وإلّا لم يكن طاعة ، وإن توهم ذلك. ومن تطبيقات ذلك قول الكافر يوم القيامة : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)(٣).

هذا ، ولو أخذنا بالفهم الذي رجحه القاضي عبد الجبار ، وهو حصول النجاة بمجرد أن تثقل كفة الحسنات. فعندئذ يدخل الجنة بغير حساب. حينئذ أمكن أن نقيد الآية الكريمة بذلك. بأن نقول : إنه يرى حسناته إذا لم تثقل سيئاته عليها ويرى سيئاته إذا لم تقل حسناته عليها ، ومن الواضح أن التقييد لا ضير فيه عرفا.

سؤال : ما هو محل خيرا وشرّا من الإعراب؟

__________________

(١) انظر : ص ٢١٧.

(٢) البحار ، ج ٢٧ ، ص ١٦٩.

(٣) النبأ / ٤٠.

٣٤٤

جوابه : قال العكبري (١) : خيرا وشرّا بدلا من مثقال ذرة ويجوز أن يكون تمييزا. والله أعلم.

أقول : وهناك احتمال ثالث قلما يلتفت إليه ، وبالرغم من عدم صحته لا بأس بطرحه هنا لتنمية الذهن. وهو أن يكونا مفعولين ، وإن كان الفعل أساسا يأخذ مفعولا واحدا.

وذلك : أن الفضلات لا تتكرر عادة كحالين متتابعين أو تمييزين أو مضافين أو مفعولين لفعل متعدّ واحد. وكل ذلك عليه المنع في الغالب وبعضها المنع مطلقا. ولكن حسب فهمي فإنه ممكن أحيانا وإن كان خلاف العادة.

فمثلا : يمكن أن نقول : سرج الفرس زيد. بعنوان أن زيد مضاف ابتداء إلى السرج ، كما أن الفرس مضاف إليه نفسه أيضا.

وليس هذا من قبيل الإضافات المتعددة ، وهي الإضافة إلى الإضافة ، يعني المضاف إليه. كقول الشاعر (٢) :

حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي

فأنت بمرأى من سعاد ومسمع

وهنا نقول : مثقال. مفعول به. وشرا وخيرا أيضا مفعول به. أي بتكرر المفعول به لما يأخذ مفعولا واحدا. فكأننا أسقطنا المفعول الأول وأتينا بالثاني ، كأنه الوحيد الموجود.

إلّا أن هذا بمجرده لا يتم ، إلّا بعد دمج أحد المفعولين بالآخر ، إما معنويا «بإفناء المثقال بالخير باعتبار أن الثاني هو المقصود الرئيسي» أو بتقييده به. فيتكون منهما مفهوم واحد يكون هو المفعول به الواقعي معنويا. وإن لم يقبل النحويون بذلك.

__________________

(١) ج ٢ ص ١٥٧.

(٢) انظر مختصر المعاني ، للتفتازاني ، ص ١١.

٣٤٥
٣٤٦

سورة البينة

في تسميتها عدة أطروحات :

أولا : سورة البيّنة وهو المشهور.

ثانيا : سورة البريّة ، كما سماها العكبري (١).

ثالثا : سورة الذين كفروا ، كما في بعض الروايات (٢).

رابعا : سورة لم يكن. بتسميتها باللفظ الأول فيها.

خامسا : السورة التي ذكر فيها البريّة أو البيّنة أو الّذين كفروا.

سادسا : إعطاؤها رقمها من القرآن الكريم وهو : ٩٨.

سؤال : ما هو معنى حرف الجر (من) في قوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ)؟

جوابه : يحتمل أمران :

الأمر الأول : أن تكون تبعيضية ، وهو اختيار الميزان (٣). ويكون المعنى : بعضهم من أهل الكتاب وبعضهم من المشركين.

الأمر الثاني : أن تكون بيانية ، فيكون المعنى : الكفار الذين هم أهل الكتاب والمشركون.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٦.

(٢) انظر الوسائل ج ٤. ص ٨٩٢ عن ثواب الأعمال.

(٣) ج ٢٠ ، ص ٣٣٦.

٣٤٧

وحسب الفهم الآتي ، فإن المراد من الآية : أن الكفار والمشركين سوف لن يتغيروا ولن يتوبوا حتى تأتيهم البينة. ولن ينفكوا عن دينهم إلّا بإقامة الحجة. كما سيأتي. وعلى هذا ، فإنه يترجح كون «من» للتبيين لا للتبعيض ـ كما رجح الميزان ـ لأن المراد جنس الكفار لا بعضهم.

سؤال : إن أهل الكتاب أخذوا في الآية في مقابل المشركين ، مما يظهر أنهم ليسوا بمشركين : مع أننا نعلم أنهم مشركون. فكيف صح ذلك؟

جوابه : من وجهين :

الوجه الأول : إنه من عطف العام على الخاص ، حيث اقتضت المصلحة ذكر أهل الكتاب لكي يلتفتوا ، ولكي لا يحصل جدل بينهم. ومعه لا يتعين من التعبير أن لا يكون أهل الكتاب من المشركين.

الوجه الثاني : إنه يمكن القول إنهم ليسوا بمشركين ، فإن كان ظهور الآية بذلك ، فهو ليس أمرا مستنكرا. وتقريب ذلك من وجوه :

أولا : إنهم باعتبار دينهم الأصلي ليسوا بمشركين جزما.

ثانيا : إننا نعدهم غير مشركين احتراما لأنبيائهم كما قربنا ذلك في ما وراء الفقه (١).

ثالثا : إنهم عمليا ليسوا بمشركين بل موحدون. أما اليهود فإنهم وإن كانوا يميلون إلى التجسيم إلّا أن التجسيم لا يتنافى مع التوحيد. وأما النصارى فلأنهم وإن آمنوا بالثالوث المقدس إلّا أنهم يعتبرون الأهم في الثلاثة هو الأب ، فهو الخالق حقيقة ، والباقي مخلوقون. فعاد الأمر إلى نحو من أنحاء التوحيد.

رابعا : إن المشركين اسم لعبدة الأصنام خاصة ، إما مطلقا أو من كان منهم في الجزيرة العربية. لأن المعهود يومئذ هذان القسمان ، فكان مقتضى قاعدة «كلم الناس على قدر عقولهم» هو الإشارة إليهم. وإن كان يمكن التجريد عن الخصوصية من كل تلك النواحي.

__________________

(١) ج ١ ، ق ١ ، ص ١٨٨.

٣٤٨

خامسا : ما ذكره القاضي عبد الجبار قائلا (١) : أنه في أصل اللغة المشرك هو الكافر المخصوص الذي يتخذ مع الله شريكا ، لكن من جهة عرف الشرع أطلق ذلك على كل كافر كما عقل من قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). ومن قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). فلا يمتنع أن يفضل بينهما في بعض المواضع. وهذا كما يقال مثله في المسكين والفقير.

أقول : إلّا أن هذا الوجه بمجرده واضح الدفع ، لأنه لا يحتمل أن يكون بين الفقير والمسكين إلّا نسبة التساوي أو التباين. في حين أن الآية تجعل النسبة بين الكفار والمشركين العموم المطلق.

سؤال : إن قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) ، دالّ على أن بعض الكفار مشركون ، لا جميعهم. في حين أننا ينبغي أن نعرف أن جميعهم مشركون. فكيف الحال في ذلك؟

جوابه : من وجهين :

الوجه الأول : إن «من» ليست للتبعيض كما سبق. وإنما هي بيانية. ويكون المراد من السياق : التفصيل بعد الإجمال.

الوجه الثاني : إن الأمر يدور بين أن يكون ما قبل «من» ، مقسما ، إلى ما بعده ، كما هو المفهوم عادة ، وبين أن يكون ما بعدها مقسما إلى ما قبله. فلا يتعين المعنى المشهور الذي ابتنى عليه السؤال.

سؤال : ما هو المراد من قوله : منفكين؟

قال الراغب (٢) : الفك التفريج ، وفك الرهن تخليصه. وفك الرقبة عتقها. أقول : وكله بمعنى الفك والانفصال إما ماديا أو معنويا.

قال : وقوله : فك رقبة هو عتق المملوك. وقيل : بل هو عتق الإنسان نفسه من عذاب الله.

__________________

(١) تنزيه القرآن عن المطاعن ، ص ٤٧٢.

(٢) المفردات مادة : «فك».

٣٤٩

وأضاف : والفك انفراج المنكب عن مفصله ضعفا. والفكان ملتقى الشدقين. أقول : بل هما نفس الشدقين ، وإلّا لما صحت تثنيته ، لأنه واحد لا يزيد. وإنما عبر عنه بالفك ، لحصول الانفكاك والانفصال فيه بينهما.

والانفكاك يحتاج إلى طرفين : منفك ومنفك عنه. وأحد الطرفين موجود في الآية وهو الفاعل في قوله منفكين. وأما الطرف الآخر فمحذوف. ومن هنا تحير المفسرون فيه. وهو يكون على وجوه :

الأول : ما فهمه الراغب (١) ، وهو المشهور ، من أن المراد أنهم منفكين عن بعضهم البعض. يعني أن المنفك هو عين المنفك عنه سنخا وإن اختلف عنه فردا. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). فإن أتت البينة أصبحوا مسلمين.

الثاني : ما فهمه صاحب الميزان (٢) ، من عدم انفكاك وانفصال. الهداية عنهم. كأن السنة الإلهية قد أخذتهم ولم تكن تتركهم حتى تأتيهم البينة. ولما أتتهم تركتهم وشأنهم وهذا غريب لوجوه :

١ ـ إن فاعل الانفكاك في الآية هم الكفار والمشركون وليس الهداية كما قال.

ويمكن أن يجاب عليه : أن الانفكاك بما أنه حاصل من طرفين ، فعدم انفكاك أحدهما ملازم لعدم انفكاك الآخر. وهو كما ترى.

٢ ـ لا وجود لذكر الهداية قبل ذكر البينة.

٣ ـ مع التنزل ، كيف تنفك عنه الهداية بعد البينة ، بل هي هي.

الثالث : إنهم منفكون عن صفتهم المذكورة نفسها وهي الكفر والشرك. وإنهم من أهل الكتاب ، إلى الهداية والإسلام. فلا يكون ذلك إلّا بالبينة.

ولعل هذا هو أوضح المحتملات ، ولا يحتاج إلى تأويل ، كما ذكر في الميزان. لأن الاعتماد في هذا الوجه على العناوين التفصيلية المذكورة نفسها.

__________________

(١) المفردات مادة : «فك».

(٢) ج ٢٠ ، ص ٣٣٧.

٣٥٠

الرابع : يوجد في الآية ذكر لصفتين من الناس ، كلاهما متعاضدان ضد الحق والإسلام. كانوا على ذلك ولا زالوا عليه هما أهل الكتاب والمشركون. فهذا التعاضد المنصوص لا ينفك ولا يتبدل حتى تأتيهم البينة.

إعراب هذه الآيات :

قال العكبري (١) : والمشركين هو معطوف على أهل. ومنفكين خبر كان. و (من أهل) حال من الفاعل في كفروا.

أقول : ـ للتوضيح ـ فإن قلت : هذا تفصيل بعد إجمال. ويكون المعنى أن الكفار متصفون بصفتين : كونهم مشركين وأهل كتاب. والتفصيل بعد الإجمال لا يناسب معنى الحال الذي ذكره العكبري.

قلت : هذا وإن كان صحيحا ، إلّا أنه ينافي معنى الحال ، لأن المراد كون حالهم كذلك.

وأضاف العكبري (٢) : رسول هو بدل من البيّنة ، أو خبر مبتدأ محذوف.

أقول : حسب فهمي : إن الأفضل هو معنى البداية. لأن الخبرية تستلزم التقدير. وهو خلاف السياق ، وكذلك أن الضمير لا يعود إلى مرجع محدد في العبارة عندئذ.

فإن قلت : كيف يكون المذكر : رسول ، بدلا من المؤنث : البيّنة؟

قلت : أولا : إنه إبدال مجازي ، وليس حقيقيا ، لعدم صحة حمله عليه حقيقة. بل هو من أسبابه. لإقامة الحجة عليهم بالرسول : فناسب نسبة العلة إلى المعلول مع إسقاط لحاظ التأنيث.

ثانيا : إن التأنيث في البينة لفظي. والتأنيث المجازي بمنزلة المذكر.

وأضاف العكبري (٣) : من الله ، يجوز أن يكون صفة. أقول : يعني : أنه موصوف بأنه من الله.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٦.

(٢) المصدر والصفحة.

(٣) المصدر والصفحة.

٣٥١

قال : أو متعلقا به. لأن رسول مشتق قابل لتعلق الجار والمجرور به.

قال : ويتلو حال من الضمير في الجار. أقول : الجار ليس فيه ضمير والجار والمجرور معا ليس فيهما ضمير أيضا. وكذلك متعلق الجار والمجرور وهو رسول. فأين وجد هذا الضمير؟

قال : أو صفة لرسول. ويجوز أن يكون من الله حالا من صحف أي يتلو صحفا مطهرة منزلة من الله. أقول : صحف من الله. رسول من الله. يتلو من الله. كله محتمل عقلا. إلّا أن تعلقه بيتلو لا يخلو من إشكال لأنه متأخر لفظا عن الجار والمجرور. وإنما يتعلق الجار والمجرور بما هو متقدم.

قال : (فِيها كُتُبٌ) ، الجملة نعت لصحف.

وقال الرازي في هامش العكبري (١) : المراد بالرسول هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا خلاف. فكيف قال تعالى : (يَتْلُوا صُحُفاً) وظاهره يدل على قراءة المكتوب من الكتاب. وهو منتف في حقه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه كان أميا. (قلنا) المراد يتلو ما في الصحف عن ظهر قلب ، لأنه هو المنقول عنه بالتواتر.

أقول : بناء عليه يكون الإسناد إسنادا مجازيا. لأن التلاوة تكون بالمباشرة من المصحف ، وهذا يكون قبل كتابة القرآن في الصحف ، أو المراد بها التشريع أو الهداية لأصول الدين. فإذا كان كذلك كانت التلاوة مجازا ، أو هي تلاوة بالمقدار المناسب لها ، أي الإعراب والإفصاح عنها. وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك.

وقال الرازي أيضا (٢) : فإن قيل : ما الفرق بين الصحف والكتب ، حتى قال : صحفا مطهرة فيها كتب ، قلنا : الصحف القراطيس ، وقوله تعالى : مطهرة أي من الشرك والباطل. وقوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) ، أي مكتوبة مستقيمة ناطقة بالعدل والحق ، يعني الآيات والأحكام.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٤.

(٢) المصدر والصفحة.

٣٥٢

أقول : الكتب يعني : الكتابات أو الكتابة نفسها ، كما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : تعلم كتاب يهود. وكتاب مذكر كتابة ، وهي تكون في القراطيس والصحف. وحملها على المعنوي أوضح من السياق ، لأن القراطيس لا تكون مطهرة من الشرك والباطل. لأنها فيها كالسالبة بانتفاء الموضوع. والكتب قيمة أي مستقيمة بالعدل والحق ، كما قال ، بل بمضامينها ومعناها. فالمراد هو المعنى عموما.

وعلى أي حال ، فالتلاوة تكون بمقدار يناسب الصحف ، فإن كانت القراطيس حقيقية فالتلاوة حقيقية ، وإن كانت مجازية فالتلاوة مجازية ، كما هنا كذلك.

فإن قلت : فإنه في عالم المعنى لا يبقى فرق بين الصحف والكتابة.

قلت : جوابه من عدة وجوه.

أولا : أن نقبل أنهما بمعنى واحد. ويكون قوله : يتلو راجعا إلى كلا اللفظين. وقد وصف المجموع بكلا الوصفين : مطهرة وقيمة. والتفريق بينهما أدبي لأجل تحسين السياق. فإن تنزلنا عن هذا الوجه صرنا إلى الوجوه التالية التي تلحظ الاختلاف في المعنى.

ثانيا : إن الصحف ناظرة إلى مجموع ما يفيد البشر من الأمور المعنوية. والكتب ناظرة إلى الأقسام والحصص ، كأصول الدين وفروعه.

ثالثا : إن الصحف ناظرة إلى تعدد العوالم ، وكل عالم منها ذو نظام كوني مستقل. والكتب ناظرة إلى تفاصيل العالم الواحد منها.

رابعا : إن الصحف ناظرة إلى اللوح المحفوظ ، حيث يكتب فيه القلم الأعلى. والكتب ناظرة إلى تفاصيله.

فإن قلت : ولكن الصحف جمع اللوح المحفوظ مفرد.

قلت : إن اللوح المحفوظ وإن كان واحدا ، إلّا أنه يمكن لحاظه متعددا

٣٥٣

بالتحليل. وذلك باعتبار الجوانب التفصيلية فيه. أي التقسيم المكاني والزماني ، وغيره. فإن لكل واحد منها لوحه الخاص به وكتابته الخاصة به. وبهذا اللحاظ يكون متعددا.

فإن قلت : فما معنى التلاوة في اللوح المحفوظ؟

قلت : إن قصد به القضاء والقدر ، فيراد بالتلاوة : التلاوة التكوينية لا القراءة بالمعنى العرفي ، بل إنجاز الأمور تدريجا وتطبيقا مهما تطاول الزمن. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك أي يتلوه ويطبقه.

وإن قصد به التشريع ، فالتلاوة هي الأمر والنهي ، أي إشغال الذمم بالتكاليف. وتبليغه صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس بذلك. سواء كان ذلك من قبيل التلاوة على ورقه أو من القرآن أو أي شيء آخر.

إن قلت : هذا لا ربط له بأهل الكتاب والمشركين. مع أن الآية تذكرهم.

قلت : جوابه من عدة وجوه :

أولا : إن أوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا ضرورة إلى ارتباطها بذلك السياق. وإنما هي أوصاف مستقلة لتعريف فضله وعلو شأنه.

ثانيا : إنها هداية لهم ولغيرهم.

ثالثا : إن حصة منها هداية وحصة تكوين. لأن من جملة الأمور التكوينية وجود الرسالة المحمدية.

رابعا : أن نعترف بالانفصال بتقدير : هو رسول. والارتباط كاف في السياق بمضمون : إنهم سيكونون منفكين بفعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والقوامة على الأول تشريعية وعلى الثاني تكوينية ، وهي إنما هي ثابتة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وليست للكتابة ولا للصحف بعنوانها الاستقلالي.

سؤال : عن معنى الكتاب في قوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ).

٣٥٤

جوابه : إننا إن أخذناها بالمعنى المتعارف فإنه يشمل الكتب السماوية الحقة كلها. ويؤيده ما قلناه من أن البينة الثانية إنما هي نحو ذلك.

إلّا أنه مع ذلك لا يتم : لأن ظاهر الآية : أن الكتب في الصحف ، لا أن الصحف في الكتب. فإذا حملنا الكتب والصحف على المعنى المتعارف ، كانت الصحف في الكتب دون العكس ، فيتعين بالسياق أن يراد بها الكتابة ، كما سبق أن قلنا.

قال في الميزان (١) : وللقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية ومعاني مفرداتها ، حتى قال بعضهم ـ على ما نقل ـ : إن الآية من أصعب الآيات القرآنية نظما وتفسيرا. والذي أوردناه من المعنى هو الذي يلائمه سياقها ، من غير تناقض بين الآيات وتدافع بين الجمل والمفردات.

أقول : لا توجد آية في القرآن الكريم ، لا يمكن التوصل إلى معناها ، باستثناء الحروف المقطعة. وذلك لعدة أسباب مفهومة ، أهمها أن القرآن إنما أنزل إلى الناس لهدايتهم ، ولا تحصل الهداية بغير التفهم.

وعلى أي حال ، فإنه لا يوجد كلام غير مفهوم ، بل لا معنى لذلك البتة. ولكن الخطاب إنما يوجد بمقدار فهم المخاطب ، والله تعالى يعلم بمقدار فهمه. وإذا عرضنا ـ كما سبق ـ عدة أطروحات للفهم ، كفى أن تصح واحدة منها لإقامة المعنى ، أيّا كانت هي منها. وإنما هؤلاء قوم قاصرون وقد أضافوا صفتهم إلى غيرهم ... إلى كتاب الله سبحانه.

سؤال : عن معنى القيمة في قوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ).

جوابه : فيها عدة احتمالات أو أطروحات :

أولا : غلاء الثمن. يعني ثمن الكتب.

ثانيا : علو المعنى والأهمية.

ثالثا : القيمومة. كما قال الله تعالى (٢) : (دِيناً قِيَماً) أي قيما.

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٣٧.

(٢) الأنعام / ١٦١.

٣٥٥

وقال (١) : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ، أي الدين القيم أو دين الجماعة القيمة ، كما سيأتي. فيكون المضمون والقانون المسجل في الكتب هو القيم على البشر تكوينا أو تشريعا.

سؤال : حول قوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). من حيث أن السياق واضح بأن البينة هي السبب للتفرق. فكيف أصبحت كذلك ، مع أنها ينبغي أن تكون سببا لاجتماع الآراء؟

جوابه : إن «تفرق» فيه عدة احتمالات :

أولا : أن نفهم الآية الثانية على ضوء الآية الأولى. فيكون تفرق هنا بمعنى انفك السابقة. فيكون المعنى هنا أنهم انفكوا عن دينهم بالهداية ، سواء كانت هداية الأنبياء السابقين أو الهداية الإسلامية.

إذ يحتمل في البينة هنا أمران :

الامر الأول : أن يكون المراد بها بينة الإسلام. أي بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فيكون المعنى أنهم تركوا اليهودية والنصرانية ، فتفرقوا عن أمثالهم السابقين.

الأمر الثاني : أن نفهم منها مطلق البينة. يعني آية بينة تأتيهم ، سواء كان هو موسى (ع) أو عيسى (ع) أو سليمان (ع) ، أو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وجوابه : أعني هذا الاحتمال الأول : أن الظاهر من السياق هو اختلاف مورد الآية الثانية عن مورد الأولى. وهو على هذا الاحتمال يكون واحدا ، فيكون هذا الاحتمال منفيا بظاهر السياق.

ثانيا : ما ذكره الرازي في هامش العكبري (٢) ، من أنهم كانوا متفقين على نبوة نبينا قبل بعثته. ثم تفرقوا بعدها ، فمنهم من آمن ومنهم من

__________________

(١) البينة / ٥.

(٢) ج ٢ ، ص ١٥٤.

٣٥٦

كفر. والمراد بالبينة عندئذ الإسلام.

وجوابه : أن ظاهر الآية تفرقهم بما هم أهل الكتاب ، لا بعد الإيمان. مضافا إلى أن الانفكاك منفي لا مثبت ، فتأمل.

ثالثا : تفرق أهل الكتاب في البلدان لغرض الهداية للبينة ، والمراد بها هنا دينهم حينما كان حقا. فهم يحملون هذه البينة إلى الناس بهدايتهم إلى دينهم.

وجوابه : إن الظاهر تفرقهم بالرأي ، أي في الدين أو المذهب ، لا بالجسم ، كما هو مقتضى هذا الاحتمال.

رابعا : تفرقهم فيما بينهم بالآراء والمذاهب ، بحيث أصبحوا يكفر بعضهم بعضا ، وانقسموا إلى : كاثوليك وأرثوذوكس ، وسريان وآشور وأرمن وغير ذلك ، ومنهم من لا يعترف بالبابوية. ومنهم من لا يعترف ببعض أجزاء الكتاب ، أعني التوراة والإنجيل المتعارفة. بينما يؤمن الآخرون بها جميعا.

وهذا الاختلاف لم يحصل إلّا بعد البينة. ويراد بها هنا بعثة أنبيائهم.

وهذا المعنى موجود في عدد من آي الكتاب الكريم ، كقوله تعالى (١) : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ). أو قوله سبحانه (٢) : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

لأن هناك نحو ملازمة بين الهداية وحصول الاختلاف عمليا.

فإن قلت : كيف يكون إنزال الكتاب وتبليغ العلم سببا للتفرق.

جوابه : أنه يقول في الآية : (بَغْياً بَيْنَهُمْ). فلا يكون العلم بمجرده سببا

__________________

(١) لآل عمران / ١٩.

(٢) البقرة / ٢١٣.

٣٥٧

للتفرق والاختلاف ، وإنما مع انضمامه إلى المكر وهو البغي. أو قل : إن عندهم آخرة مع الدنيا ، فأطماع الدنيا هي التي توجب البغي.

فإن قلت : إن الله تعالى يستطيع أن ينزل عليهم مقدارا من العلم بما يمنعهم من التفرق والاختلاف. فلما ذا لم ينزل علما غزيرا (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(١)؟

قلت : إن الله لا يكلف نفسا إلّا وسعها ، ولا يكرههم على الإيمان. كما قال سبحانه (٢) : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ).

وإنما ينزل عليهم من العلم ، بمقدار يتصف بصفتين عليا ودنيا :

الصفة العليا : كونه قابلا للهداية ، اقتضاء لا علية.

والصفة الدنيا : أن يكون بمقدار استحقاقهم وتحملهم واحتياجهم ، لا أكثر من ذلك.

فهو علم محدود. بالرغم من تكامله ، لا يمنع تكوينا من استعمال النزوات والشهوات ، لمن يريدها ، فمن حدّه ذاك يتصرف أهل البغي والمنافقون.

خامسا : من احتمالات التفرق : انشعاب أهل الكتاب إلى جماعات دنيوية مضافا إلى الجماعات الدينية ، من حيث انقسامهم اقتصاديا أو اجتماعيا ، أو دوليا أو إيديولوجيا وغير ذلك. وهذا مما حصل فعلا ، وعلى نطاق واسع.

قال في الميزان (٣) : كانت الآية الأولى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ... إلخ. تشير إلى كفرهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه المتضمن للدعوة الحقة ، وهذه الآية تشير إلى اختلافهم السابق على الدعوة

__________________

(١) الشعراء / ٤.

(٢) البقرة / ٢٥٦.

(٣) ج ٢٠ ، ص ٣٣٨.

٣٥٨

الإسلامية ، ومجيء البينة لهم هو البيان النبوي الذي تبين لهم في كتابهم وأوضحه لهم أنبياؤهم.

أقول : وهو كما ترى ، إذا كان المراد بالبيان النبوي هو خصوص الإسلام ، كما هو المنساق من عبارته. وإنما البينة والعلم هو تعاليم أنبيائهم خاصة. نعم يمكن الحمل على المعاني المشتركة بين كل الأنبياء.

سؤال : ننقل فيه لفظ الطباطبائي في الميزان حيث قال (١) : ما باله تعرض لاختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في مذاهبهم. ولم يتعرض إلى تفرق المشركين وإعراضهم عن دين التوحيد ، وإنكارهم الرسالة.

جوابه : من أكثر من وجه :

أولا : ما أجاب به في الميزان (٢) : من أنه لا يبعد أن تكون الآية شاملة للمشركين ، كما هي شاملة لأهل الكتاب ، يعني بالإطلاق.

أقول : وهذا غير محتمل لأن الآية مقيدة بالذين أوتوا الكتاب لفظا. والمشركون ليسوا مصداقا منهم. إلّا أن يراد الأمة المدعوة لهم لا خصوص الأمة المؤمنة منهم. وهو غير مقصود للمؤلف جزما.

مضافا : إلى أن عالمية الدعوة عندئذ كانت اقتضائية ولم تكن فعلية. والجزيرة العربية (وهي المحل الرئيسي للمشركين يومئذ) لم تكن معهودة بالدعوة المسيحية ، في حياة المسيح ونحو ذلك.

مضافا : إلى أن المشركين ما جاءتهم البينة ولا العلم فإننا إذا فسرناها بالأديان السابقة ، فهؤلاء ليس لهم دين سابق.

ثانيا : من أجوبة السؤال : إن المشركين غير مهمين في نظر القرآن ، في هذه المرحلة من التفكير ، بإزاء الكفار الكتابيين ، لوجود الأنبياء لديهم.

ثالثا : إن المشركين لم يختلفوا لعدم حصول البينة لديهم. فمن هذه

__________________

(١) المصدر والصفحة.

(٢) المصدر والصفحة.

٣٥٩

الناحية أصبحوا خيرا من أهل الكتاب. وليس المراد من البينة الرسالة المحمدية ، ليكون وصفا مشتركا بين الفريقين.

إن قلت : ولكن المشركين اختلفوا أيضا في أديانهم إلى أقسام كثيرة. كالبوذية والهندوسية والبراهمة والسيك والمعطلة وغيرهم.

قلت : هذا له أحد جوابين :

الجواب الأول : إنه لوحظ الكفر والشرك ملة واحدة. فلم يختلفوا في عنوانه.

ولكن قد يقال فيه : إن المسيحيين اختلفوا في دينهم ، فلم لم يلحظهم الآن ملة واحدة. مع أنهم كذلك بالعنوان العام.

وجوابه : يمكن أن يكون الاختلاف المشار إليه ، هو الاختلاف بين أديانهم الرئيسية. كما هو بين اليهودية والمسيحية.

الجواب الثاني : إن الاختلاف بين المشركين ، وإن حصل ، ولكنه لم يصل إلى القتال الديني ، وإنما اختلفوا وتقاتلوا على أمور دنيوية محضة ، ولم يسجل التاريخ أنهم تقاتلوا في الدين. في حين أن المسلمين والمسيحيين واليهود تقاتلوا في دينهم. وهو مراد القرآن الكريم هنا.

رابعا : من الأجوبة على السؤال الرئيسي هنا : أن المشركين لوحظوا مشركي الجزيرة العربية. وهم لم يختلفوا عقائديا ، من ناحية اتفاقهم على عبادة الأصنام ، وأهل الكتاب معروفون عند المجتمع ، وهم مختلفون.

فإن قلت : فإن وحدة السياق تعين الإسلام ، في معنى البينة ، لأن المراد منها أولا هو ذلك ، بنص الآية ، فكذلك المراد من الثاني. فرجع إشكال الميزان.

قلت : جوابه لأكثر من وجه :

أولا : إمكان الطعن بالمعنى الأول : إذ لا يتعين أن يكون المراد به هو الإسلام. بل هو العلم الحق ، من أي مصدر كان.

٣٦٠