منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

أقول : إن هذا لا يتم لعدة أمور :

أولا : عدم ثبوت هذه الرواية سندا.

ثانيا : إنه لا يفسر الارتباط بين النصر ، والاستغفار. فيبقى جواب الشرط غير مرتبط بفعل الشرط. وما خالف ظاهر القرآن الكريم فهو باطل.

ثالثا : إذا كان المراد فتح مكة ، كما عليه مشهور المفسرين ، فهو قد حصل قبل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأربع أو خمس سنين لا بسنتين ظاهرا.

رابعا : يحتمل أنها نزلت قبل فتح مكة ، فتزداد بعدا عن سنة وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وذلك لقرينتين :

أولاهما : نقل ذلك في رواية أخرى (١).

ثانيهما : إن «إذا» استقبالية تقلب معنى الفعل الماضي ـ وهو جاء ـ إلى الاستقبال. فيكون ظاهره التنبؤ بحصول النصر في المستقبل.

خامسا : إنه ليس فردا عاديا لينسى الموت ، كي يكون من الحكمة تذكيره به ، وحثّه على زيادة العمل قبله.

سادسا : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم ، فلا تحتاج وفاته ـ لو صح التعبير ـ إلى مزيد من الاستغفار والتسبيح. ويكفي أن نتذكر أنه قد نص القرآن الكريم على غفران ذنوبه أكثر من مرة. منها قوله تعالى (٢) : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ). وقوله سبحانه (٣) : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ).

ثانيا : من الجواب على الشكل الثاني من الأشكال : أن الفصل بين

__________________

(١) انظر : في ظلال القرآن ، ج ٣٠ ، ص ٢٧٦ عن البخاري.

(٢) الفتح / ٢.

(٣) الانشراح / ٢ ـ ٣.

١٢١

التسبيح والاستغفار فلكل منهما مبرراته.

أما التسبيح ، فله أكثر من وجه :

أولا : إنه مصداق للشكر. فإن للشكر مصاديق كثيرة منها : التسبيح وكذلك للحمد مصاديق كثيرة منها التسبيح ، كما نقول في ذكر الركوع والسجود : سبحانه ربي العظيم وبحمده.

ثانيا : إن النعم المذكورة في السورة آيات عظيمة لله سبحانه ، ويكفي في تصور عظمتها أن فيها تطويعا لهذا المقدار الضخم من الناس. مع ما فيهم من نفوس أمارة وأهداف دنيوية وجهل ديني. وهذا التطويع يدل على عظمته. فإن النفس مهما كانت صعبة المراس ، إلّا أنها خاضعة لتطويعه سبحانه من حيث لا تعلم. فناسب ذلك وجود التسبيح.

ثالثا : أن يكون المراد بالتسبيح ، فهم معناه من حيث إدراك عظمة تلك النعم وأهميتها والتفكير بها. فإنه مصداق من التفكير في خلق الله سبحانه ، المطلوب في القرآن الكريم. قال تعالى (١) : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ).

وأما الاستغفار ، فله أيضا ، أكثر من وجه :

أولا : الاستغفار لأمته ، كما قال الله تعالى (٢) : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً).

ثانيا : الاستغفار للتائبين والداخلين جديدا في الإسلام. وهو مورد الكلام في السورة.

ثالثا : الاستغفار مما قد حصل في مقدمات هذا الفتح من تقصيرات ونحوها.

__________________

(١) آل عمران / ١٩١.

(٢) النساء / ٦٤.

١٢٢

فإن قلت : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله معصوم. والمعصوم لا ذنب له.

قلنا : نعم ، ولكنه كان يشعر بينه وبين ربه بذنوب (دقّيّة) وبعض أشكال التقصير ، المنظور إليه من أعلى. فلا بد من الاستغفار منها.

قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

«كان» هنا للشأنية لا للماضوية. كما ذكرنا في علم الأصول. والقرينة على ذلك أمران :

الأمر الأول : قرينة عامة : وهو أنه سبحانه لا يحتمل تبدل شأنه من حالة إلى أخرى ، فنعلم أنه ثابت في الماضي وفي الحال وفي المستقبل. يعني أنه توجد قرينة عقلية قطعية على استمرار صفاته أزليا ، فلا يصدق في حقه «كان» إذا كان المراد منها الماضي.

الأمر الثاني : وهي أوضح عرفا وعقلائيا ، فإن قوله : (إِذا جاءَ) وقوله : (رَأَيْتَ النَّاسَ) ، وقوله : (فَسَبِّحْ). كلها تدل على الاستقبال. فلا يمكن أن يكون قوله : (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) ، للماضي.

مضافا إلى أن إطاعة الأمر لا يمكن أن تكون إلّا استقباله. ولا تكون حالية ، أي في حال الأمر. ولا يمكن اجتماعه مع ما هو ماض ، بطبيعة الحال. فحتى مع فرض التنزل عن القرينة العامة ، فإن السياق الاستقبالي للسورة يعين بالقرينة المتصلة أن المراد بكان : الشأنية.

وقوله : توابا ، صيغة مبالغة ، ويمكن ملاحظتها من جهتين :

الجهة الأولى : من ناحية مادتها وهي التوبة. وتحصل من الطرفين : من العبد وربه. كقوله (١) : من تاب تاب الله عليه ، فتوبة العبد هي التنصل من الذنوب. والتوبة من الله هي الستر على الذنوب واعتبارها كالعدم كما ورد (٢) : التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

__________________

(١) البحار ، ج ٦ ص ٢٨.

(٢) أصول الكافي : ج ٢ ، ص ٤٣٥.

١٢٣

قال الراغب (١) : والتائب يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة فالعبد تائب إلى الله والله تائب على عبده. والتواب : العبد الكثير التوبة وذلك بتركه كل وقت الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركا للجميع. وقد يقال لله تعالى ذلك. لكثرة قبوله توبة العباد حالا بعد حال. أقول : ومنه قوله تعالى (٢) : (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

الجهة الثانية : من ناحية هيئة الكلمة ، من حيث كونها صيغة مبالغة.

وهنا يمكن طرح سؤال : لما ذا استعمل صيغة المبالغة ولم يستعمل صيغة اسم الفاعل. أعني : تائب؟

جوابه : من عدة وجوه :

الوجه الأول : اختلال السياق اللفظي والنسق القرآني ، كما هو واضح.

الثاني : إن فعل المضارع «يتوب» وإن أمكن انطباقه على الجهتين : باذل التوبة وقابلها. إلّا أن اسم الفاعل «تائب» أقل ظهورا في ذلك. بل هو ظاهر بباذل التوبة ، وهو العبد ، إلّا أن يقيد بقرينة. مثل أن يقال : إن الله تائب على عبده. وإلّا فظهوره في العبد مما لا ينكر. في حين أن مقصود المتكلم في القرآن كون الله سبحانه هو التائب. وهذا لا يكون إلّا بصيغة المبالغة.

الثالث : إن صيغة المبالغة تفيد أمرين :

أحدهما : إنه سبحانه سريع التوبة وكثيرها. والمراد أنه يتوب ويغفر وإن كانت الذنوب كثيرة ، وأنه لا بأس من رحمة الله. فليس الله تائبا عن عبده مرة أو مرتين ، بل كثير التوبة عنه والرحمة له.

ثانيهما : الاستقبالية. فلو قال : تائبا ؛ لم يكف ، لأن المراد وقوع الاستغفار لا في الماضي. والسياق كله للاستقبال. كما عرفنا. فتكون الأنسب صيغة المبالغة.

__________________

(١) المفردات : مادة «رغب».

(٢) النصر / ٣.

١٢٤

فإن قلت : إن هذه العبارة مربوطة بالاستغفار فقط ، دون ما قبله.

قلت : ١ ـ نعم ، لا بأس بذلك.

٢ ـ يمكن أن يكون ما قبله كله نحوا من الاستغفار ومصداقا له وهو التسبيح بالحمد. فيكون التواب مربوطا بالجميع.

الوجوه الإعرابية للسورة :

قال أبو البقاء العكبري (١) : قوله تعالى : (يَدْخُلُونَ) حال من الناس و «أفواجا» حال من الفاعل في يدخلون.

أقول : يكون المعنى : ورأيت الناس حال كونهم يدخلون حال كونهم أفواجا.

ونعرض فيما يلي أطروحة في إعراب «يدخلون». بعد الالتفات إلى أن رأى تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر. فلو حذفت «رأيت» كان الناس مبتدأ ويدخلون خبره. فلما ذا لا تعرب الآن على أنها في محل نصب ، مفعولا ثانيا؟

إن قلت : هذا مختص برأى القلبية لا الحسية. فإنها تنصب مفعولا واحدا ، فتعيين الجملة في كونها حالا.

قلت : نعم ، هذا الإشكال وارد إذا كان المراد بالدخول : الدخول (الحسي) ولكن من خطل القول اعتبار دخولهم في دين الله دخولا ماديا أو حسيا. وإن كانت رؤيتهم كذلك ، فتكون هذه صغرى للدخول المعنوي. وتكون «رأيت» صغرى للرؤية القلبية. ومن ثم يتعين أن تنصب مفعولين. فتكون جملة «يدخلون» مفعولها الثاني.

أما الكبرى ، وهو الحديث عما ذكره النحويون من أن رأى القلبية تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر. ورأى الحسية تنصب مفعولا واحدا. وإذا كان بعده منصوب. تعين كونه حالا ، وإن كان في الأصل خبرا. فهذه الكبرى قابلة للمناقشة ضمن أمور :

__________________

(١) ج ٢ ص ١٥٩ ...

١٢٥

الأمر الأول : ما المانع من القول : بأن رأى القلبية تنصب مفعولا واحدا؟

المانع عن ذلك في نظرهم المادي : أن الرؤية القلبية متعذرة لشيء معين أو قل لمفعول واحد. فلا يمكن القول : رأيت زيدا ونريد به الرؤية القلبية. في حين أن القرآن قد استعمل ذلك. قال تعالى (١) : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). فينظرون بالحس المادي ولا يبصرون بالحس المعنوي. يعني أنهم لا يفقهون مستوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعقله وحكمته وكونه مدينة العلم. فهم يرونه ولكنهم لا يعرفونه. وعليه فإن رأى القلبية يمكن أن تنصب مفعولا واحدا كالحسية تماما.

الأمر الثاني : ما المانع من التخيير بين المفعول الواحد والمفعولين؟ وكلاهما ممكن. فإذا قصد المتكلم منصوبا واحدا ، أمكنه الاقتصار عليه سواء كانت الرؤية مادية أو معنوية. وإذا قصد المتكلم وجود مفعولين ، يعني إدراك الصفة ، جاء بمفعولين ، سواء كان ذلك الإدراك ماديا أو معنويا فيكون المنصوب الثاني في قولنا : رأيت زيدا طويلا مفعولا ثانيا ، كما في قولنا : رأيت زيدا عالما.

الأمر الثالث : إننا وجدنا أن «رأى» الحسية تأخذ منصوبين. والعرب قد استعملوها هكذا ، ولم يفسروها. فالمنصوب الثاني يمكن أن يكون مفعولا ، كما يمكن أن يكون حالا أو نحوه. وهذا كله معقول بعد ملاحظة هذه المقدمات. فيكون المنصوب الثاني في قولنا : رأيت زيدا عالما ، حالا. كما في قولنا : رأيت زيدا طويلا ...

فإن قلت : إننا حتى لو سلمنا بذلك ، فإن الآية ظاهرة بالحالية.

قلنا : إننا بعد أن رجحنا أن «رأيت» في الآية الكريمة قلبية ، وهي صغرى سبق ذكرها. يتعين أن تكون جملة «يدخلون» مفعولا ثانيا. فإن أعربناها حالا فقدت رأى القلبية مفعولها الثاني.

وعلى أي حال ، فمقتضى القاعدة أن جملة «يدخلون» مفعول ثان

__________________

(١) الأعراف / ١٩٨.

١٢٦

ومقتضى الظهور أنها حال. فأي من الظهورين نقدم؟

وجوابه : إننا إن كنا متمسكين بالقواعد النحوية ، فتقديم المفعولية أولى. وإلا فالظهور أولى. لأن ظهور القرآن حجة. فيتعين أن تكون حالا ، وهذا هو أقرب إلى الوجدان.

هذا بعد ضمّ جانب الكبرى : وهو إمكان أن تنصب رأى القلبية مفعولا واحدا ، كما قلنا ... إلى جانب الصغرى : وهو ظهور الجملة بالحالية.

١٢٧
١٢٨

سورة الكافرون

في تسميتها عدة أطروحات :

الأولى : الكافرون. وبذلك تكون ذات اسم متدني. لأنه منسوب إلى قوم متدنين. ولا يجوز أن نقول سورة الكافرين ، لأن المراد اللفظ لا المعنى. على أن ذلك يفسد المعنى. لأن السورة ضد الكافرين وليست معهم.

وبتعبير آخر : إن انتساب شيء إلى آخر يتحقق بكونه ملكا له أو معلولا له. ولا يمكن القول بذلك تجاه هذه السورة. فإذا قلنا سورة الكافرين فقد نسبناها إليهم بوجه ما ، وهو واضح الفساد.

الأطروحة الثانية : ما فعله الشريف الرضي في كتابه حقائق التأويل من القول إنها : السورة التي ذكر فيها الكافرون. وبذلك يندفع الإشكال المسجل على الأطروحة الأولى.

الأطروحة الثالثة : أن يشار إلى السورة برقمها من المصحف الشريف وهو : ١٠٩.

سؤال : ما هو سبب تكرار الآية : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)؟.

وبذلك نكون قد بدأنا بأوضح وأهم الاستفسارات في هذه السورة المباركة.

جوابه : من أكثر من وجه واحد :

الوجه الأول : التأكيد. وهو ما ذكرته مصادر المفسرين وأكدت عليه.

١٢٩

ومع ذلك فيمكن أن نقول : إن التكرار يحتاج إلى سبب فما هو؟ ولما ذا بهذا الأسلوب من التأكيد دون غيره؟

ولتوضيح الجواب ، نحتاج إلى ذكر مقدمات :

المقدمة الأولى : إننا قلنا في المقدمة : إن الأعم الأغلب من سور القرآن الكريم ليس لها هدف معين ، أو لا يمكن التعرف على هدفها على الأقل. لكن قلنا إن بعض السور وخاصة القصار منها ، تكون واضحة الهدف. وسورة الكافرون منها. فإن سياقها واحد وبيانها وغرضها واحد.

المقدمة الثانية : في بيان صغرى هذه الكبرى. وهو السؤال عن هدف هذه السورة. فنقول : هو المزايلة والمباينة بين أهل الحق وأهل الباطل. كما ورد في بعض الأخبار «فسطاط إيمان لا كفر فيه ، وفسطاط كفر لا إيمان فيه» فهما منفصلان ومتباينان ، لا يمكن اجتماعهما بحال ، بل بينهما غاية التنافر والخصومة. فهدف السورة لبيان الانفصال التام واللانهائي بين الحق والباطل.

إن قلت : إن قصدنا من المعبود : الله. فهو معبود الجميع. بل هو معبود عبدة الأصنام أيضا ، كما قال الله سبحانه (١) عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى). وإن قصدنا : الهوى والنفس والشيطان. فهو معبود الجميع أيضا ، قوله تعالى (٢) : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) وهو معنى شامل حتى للمسلمين. فليس هناك مباينة ومفارقة بين الطائفتين. فيكون قوله سبحانه (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) مجملا غير واضح المعالم.

قلت : جواب ذلك على مستويين :

المستوى الأول : إن الملحوظ بالدقة القرآنية هما الجانبان المستقطبان. وهما

__________________

(١) الزمر / ٢.

(٢) الجاثية / ٢٣.

١٣٠

الكفر الخالص والإيمان الخالص. وما لدى الأعم الأغلب من المسلمين : إيمان مشوب بكفر. وما لدى الكافرين : كفر مشوب بإيمان. فهنا يعطي القرآن النموذج المثالي ، وهو : الكفر الذي لا إيمان معه والإيمان الذي لا كفر فيه ، وهذان لا يجتمعان أبدا.

المستوى الثاني : أن ننظر إلى الجانب المختلط بين الكفر والإيمان على اختلاف درجاته. ومع ذلك ، فهؤلاء مؤمنون وإن عبدوا الهوى والشيطان. لأن هدفهم عبادة الرحمن. وأولئك كفار وإن عبدوا الله تعالى ، لأن هدفهم الحقيقي هو العصيان والشيطان. فهنا يكون القرآن قد نظر إلى الهدف الأساسي لكلا الفريقين. فالمباينة والمفارقة موجودة. وهدف السورة بيان ذلك.

المقدمة الثالثة : إن التأكيد قد يحصل بالتكرار مرتين إلا أن أقصى التأكيد هو التكرار ثلاث مرات. وبذلك يدهم المخاطب به ، وأما التكرار أكثر من ثلاث مرات فسيكون سمجا عرفا وذوقا. بخلاف المرات الثلاث. فإنها تفيد التركيز الشديد ، مع الموافقة للفصاحة والبلاغة.

والتأكيد في القرآن الكريم قد يكون بالتكرار ، وقد يكون بغيره. وهنا قد اختار الله سبحانه التكرار ، لأجل زيادة التوضيح. وقد ورد ذلك في مواضع أخرى من القرآن كقوله سبحانه (١) : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ). وقوله (٢) : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ). وقوله (٣) : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ).

والتكرار في هذه السورة ثلاث مرات ، لا مرة واحدة كما قد يخطر بالباطل.

فقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ). كرر مرتين بنفس اللفظ.

__________________

(١) التكاثر / ٣ ـ ٤.

(٢) النبأ / ٤ ـ ٥.

(٣) المدثر / ١٩ ـ ٢٠.

١٣١

وقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ). مكرر مع مغايرة اللفظ في قوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ).

وقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). هو بمنزلة التكرار لكل منهما ، فيكون كل وجه مكررا ثلاث مرات.

وبعد اجتماع هذه المقدمات الثلاث ، نقول : إن هذه التكرارات الثلاث ، هي أقصى مقدار من التأكيد والتركيز للمفارقة بين معبود المؤمنين ومعبود الكافرين ، أو قل : هدف المؤمنين وهدف الكافرين ، وهو أمر مهم بدرجة عالية جدا ، لا يمكن التقصير فيه أو التغافل عنه.

فإنه لا يوجد هدف أعلى من عبادة الله الواحد الأحد. وأكثر مضادة من الشرك الكامل والصريح.

وبما أن هذه المباينة موجودة ، فهي تستحق التأكيد والتكرار. فيكون هذا الوجه صحيحا ، وإن لم تتم الوجوه الأخرى الآتية.

الوجه الثاني : ما ذكره القاضي عبد الجبار ، حيث قال (١) : إنه لا تكرار في ذلك ، لأن قوله تعالى : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ). المراد به المستقبل. وقوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ). المراد بها الحال. وقوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) ، المراد به المستقبل وفي الحال. أي لا أعبد ما تقدمت عبادتكم له. ومن يعد ذلك تكرارا. فمن قلة معرفته وتدبره لأنه ينظر إلى اللفظ ويعدل عن تأمل المعنى.

أقول : يرد عليه عدة إشكالات :

أول : إن هدف القيود التي ذكرها ، غير ظاهرة من العبارة القرآنية. بل لعل الظاهر القرآن. وهذا ليس كذلك.

ثانيا : إنه لم يعين رجوع الحال والاستقبال إلى أي من المجموعتين. من

__________________

(١) تنزيه القرآن عن المطاعن ، ص ٤٨٤.

١٣٢

حيث إنه هل يعود إلى عبادة واحدة أو إلى العبادتين. أو إن أحدهما للحال والآخر للاستقبال ، أو إن كليهما للحال ، أو كليهما للاستقبال.

ثالثا : إنه لم يجب عن التكرار الآخر. في قوله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ). وهو عين الآية الثانية. فإنه تكرار باللفظ نفسه. فلا يحتمل أن يراد به شيء آخر غير ما قصد بالسابق من الزمان والمكان. ولم يتعرض لها بشيء بالرغم من قوله : ومن يعد ذلك تكرارا ، فمن قلة معرفته وتدبره. لأنه ينظر إلى اللفظ ويعدل عن تأمل المعنى.

وجوابنا : إن المعنى يستفاد من اللفظ. فإذا تكرر اللفظ تكرر المعنى ، لأن اللفظ دال على المعنى وليس مهملا. فإذا تكررت الدوال تكررت المدلولات ، وهي المعاني.

الوجه الثالث : أن ننظر إلى العبادة والمعبود كمعنى مصدري. فهناك عبادتان ومعبودان : الله وعبادته والأصنام وعبادتها. وفي السورة أربع آيات ، خص كل واحد منها بواحدة.

وبيان ذلك يتوقف على مقدمة. وحاصلها : أن «ما» أما موصولة أو مصدرية. فإن كانت موصولة كانت بمعنى المعبود ، أي المعبود الذي تعبدونه. وإن كانت مصدرية كانت بمعنى العبادة أي : لا أعبد عبادتكم ولا أنتم تعبدون عبادتي.

فتوزع المطالب الأربعة على الآيات الأربعة ، ولا يحصل تكرار أصلا.

(يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وهذه مصدرية أي لا أعبد عبادتكم. (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وهي مصدرية أي عبادتي. (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) وهما موصولة بمعنى معبودكم. (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) موصولة بمعنى معبودي.

ويمكن فهم المعنى بالعكس ، بالنسبة إلى المصدرية والموصولة. فنجعل ما موصولة في الآية الأولى والثانية ومصدرية في الثالثة والرابعة.

١٣٣

ويكون قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) مكررا لفظا لا معنى ، فيندفع ما ذكرناه من الإشكال على القاضي عبد الجبار.

إلّا أن هذا الوجه قابل للمناقشة : فإن توزيع ما المصدرية والموصولة ، بهذا الترتيب أو ذاك ، أمر اقتراحي لأجل تصحيح السياق ليس إلّا. ولا توجد قرائن متصلة عليه.

مضافا إلى أن السياق يدل على وحدة المدلول. ووحدة السياق قرينة ظهورية صحيحة في علم الأصول. فأما أن نحمل «ما» على الموصولية في جميع الآيات ، أو نحملها على المصدرية ، فيرجع التكرار في كلتا الحالتين.

فإن قلت : إن التكرار لغو ولا يصدر منه سبحانه.

قلت : إن اللغوية إنما تعين هذا الوجه مع الانحصار به. وليس الأمر كذلك لصحة بعض الوجوه الأخرى غير هذا الوجه ، كما سبق.

الوجه الرابع : إن الاشتقاق يختلف. فإذا اختلف اختلف معنى المادة.

فإن أحدهما فعل مضارع وهو (لا أَعْبُدُ) والآخر اسم فاعل وهو قوله (وَلا أَنا عابِدٌ). وباختلاف الاشتقاق ، نحصل على عدة نتائج في مصلحة تغير المعنى وعدم التكرار.

الأولى : الفرق اللغوي واختلاف الانطباع العرفي ، بينهما.

الثانية : إن الفعل المضارع يفيد الاستقبال ، واسم الفاعل يفيد الحال.

الثالثة : إن الفعل المضارع يفيد التأييد بإطلاقه ، يعني لا أعبد إلى الأبد أو الأزل ، وهذا ما لا يفيده اسم الفاعل.

فأي من هذه النتائج أخذنا به ، كان في مصلحة عدم التكرار ، لو لا وجود التكرار اللفظي الكامل في قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ، وهو ما لا يشمله هذا الوجه فلا يكون تاما في نفسه.

الوجه الخامس : إن الاشتقاق هنا يلاحظ بشكل آخر. ف (تعبدون) فعل مضارع يفيد الحال. و (عبدتم) فعل ماض ، ومعناه وانطباعه اللغوي

١٣٤

يختلف ، بطبيعة الحال. فلا يوجد تكرار من هذه الناحية.

ويرد عليه نفس الإشكال السابق ، من أن قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) مكررة بنفس اللفظ والمعنى ، فلا يصلح أن يكون وجها مستقلا.

وهناك بعض الأطروحات للتركيب بين هذه الوجوه السابقة :

الأطروحة الأولى : أن يكون التركيب المقترح كما يلي : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ، لا أَعْبُدُ) (في المستقبل) (ما تَعْبُدُونَ) (الآن) (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) (الآن) (ما أَعْبُدُ) (في المستقبل) (وَلا أَنا عابِدٌ) (الآن) (ما عَبَدْتُّمْ) (في الماضي) (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) (الآن) (ما أَعْبُدُ) (في المستقبل).

إلّا أن هذا بمجرده غير كاف. لأنه تفصيل اقتراحي غير منضبط. بل قد يشوّه السياق. ولا أعتقد أن هذه المضامين مقصودة للحكيم تعالى.

الأطروحة الثانية : إنه لا يراد من شيء من ذلك الماضي والمستقبل. وإنما يراد بها مطلق الشأنية المنسلخة عن الزمان والمكان.

فهذه الألفاظ : عبد ، عابد ، تعبدون ، عبدتم ، ألفاظ لغوية وبيانات تدل على معنى أعمق من سطحها وتفاصيلها العرفية ، وهو معنى الشأنية. ويكون المعنى : إنه ليس من شأنهم أن يعبدوا الله كما ليس من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعبد الأصنام.

وأما التعبير بالماضي أو الحال أو اسم الفاعل ونحو ذلك ، فلا أهمية له. بل المهم المفارقة والمزايلة بين فسطاطين من القلوب ، وليس من شأن أي واحد منهما أن يدخل في الآخر.

فإن أخذنا بنظر الاعتبار أن التكرار ، كان لأجل التأكيد الشديد ، كما قلنا في الوجه الأول ، صحّ ذلك تماما ، وإلّا لم يتم. لأن التكرار بالشأنية سيكون بلا موجب ، واختلاف الزمان لا اعتبار به ، كما مال إليه القاضي عبد الجبار (١). وهنا يمكن أن نلاحظ أمرين :

__________________

(١) يعني أنه مال إلى اعتبار الزمان كما سبق ...

١٣٥

الأمر الأول : إن قوله (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فيه دلالة على أن ما يعبده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واحد. لذا تمّ تكراره باللفظ لعدم وجود دال آخر عليه. بخلاف الطرف الآخر أي الكفار. فإن ما يعبده الكفار متعدد. كالأصنام والنفس. قال تعالى (١) : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). والشيطان قال تعالى (٢) : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ). وغيرها. ولذا ورد بصيغة المضارع تارة ، وبصيغة الماضي تارة أخرى. فإن عبادة كهذه تكون بحسب الشهوة والمصلحة الدنيوية ، فيعبد شيئا في الماضي ، ثمّ يعبد شيئا آخر في المستقبل ، وهكذا.

الأمر الثاني : إن قوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ، يعدّ تكرارا بحسب المعنى العام للسورة. ويفيد التأكيد تأكيدا. وبحسب البلاغة ينبغي تغيير العبارة بتغيير اللفظ. فهو بمنزلة النتيجة للمقدمات التي سبقته. يعني : بما أنكم لا تعبدون ما أعبد وبما أني لا أعبد ما تعبدون ، إذن لكم دينكم ولي دين.

وهنا يرد السؤال : إنه قد يستشعر من ذلك إمضاء أديان الكافرين. وسيأتي جوابه عند الحديث عن هذه الآية الكريمة.

هذا كله ، بالنسبة للمضمون العام للسورة ، وهو التكرار ، وندخل الآن في تفاصيل السورة ، ضمن الأسئلة الآتية :

سؤال : لما ذا قال : يا أيها ، ولم يقتصر على حرف النداء ، أو على أحد هذين اللفظين؟

جوابه : حسب فهمي : إن يا للنداء ، أما «أيها» فهي ليست للنداء بل هي وصلة وتسبيب لدخول حرف النداء. فلا تصلح للنداء وحدها. وإن حصلت وحدها كانت بتقدير الحرف قبلها لا محالة.

__________________

(١) الجاثية / ٢٣.

(٢) الأنعام / ١٢١.

١٣٦

فمدخول «يا» هو كل كلمة خالية من الألف واللام. أما المعرف بها ، فلا يمكن أن يكون مدخولا لها ، فتأتي أيها لأجل التوصل إلى ذلك. وهذا بحسب الذوق العربي ، واضح. وبحسب استقراء الاستعمالات القرآنية ، إن أيها لم تأت مفردة ، وإنما جاءت مدخولا لحرف النداء.

إذن ، فلا بد من وجود الاثنين ، ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر.

سؤال : هل إن ظهور القرآن في هذه السورة يدل على الجبر؟

هذه الشبهة مأخوذة من بعض ما قلناه ، وما قاله صاحب الميزان قدس‌سره ، فلا بد من ذكر المقدمات ، لفهم هذه الشبهة. ومن ثم الاجابة عليها.

المقدمة الأولى : الظهور بالشأنية وهذا ما قلناه من أن شأن الكافرين أن لا يؤمنوا وأن لا يعبدوا ما يعبد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو التوحيد. وليس المراد الفعلية والعمل والسلوك. بل المراد من شأنهم حالهم وديدنهم. فإن الحال والديدن من قبيل اللازم الذي يصعب تغييره. وهذا يعطي إشماما بالجبر.

وأوضح منه :

المقدمة الثانية : وهو ما ذكره صاحب الميزان ، وهو من غرائبه قدس‌سره ، حيث قال (١) : «لا أعبد» نفي استقبالي ، فإن «لا» لنفي الاستقبال. كما أن «ما» لنفي الحال. والمعنى لا أعبد أبدا ما تعبدون اليوم من الأصنام.

أقول : فيكون المعنى على هذا التقدير : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سوف لن يعبد ما يعبد الكفار ، وهو صحيح. ولكن العكس لا يصح أي : إن الكفار سوف لن يعبدوا الله تعالى. فظهور «لا» للتأبيد والاستقبالية

__________________

(١) ج ٢٠ ص ٣٧٤.

١٣٧

المؤبدة مشعر بالجبر. فهل هذا صحيح؟

جوابه : إن القرآن غير ظاهر بالجبر ، وذلك على عدة مستويات :

المستوى الأول : إن المراد بالكافرين ، إما الكلي أو الجزئي. لأن الألف واللام إما جنسية أو عهدية. فإن أريد الجنس دل على امتناع دخول كل الكفار في الإسلام. وهو غير محتمل ، بل دخولهم حاصل ، وكل ما هو حاصل ممكن ، كما قيل : أدل دليل على إمكان وقوع الشيء حصوله. فمنشؤه باطل بالقياس الاستثنائي. لأنه لو كان ممتنعا لما حصل ، وقد حصل ، إذن فهو ليس بممتنع ، وإن أريد العهد أي من كان في ذلك الحين ، فهو أيضا غير محتمل ، بنفس التقريب ، لدخول كثير منهم في الإسلام.

وإن أريد الجنس ، المقيد ، كأبي لهب ، فهذا الاختصاص يحتاج إلى قرينة وهي مفقودة.

المستوى الثاني : يعرض كأطروحة ، وهو فهم القضية الحيثية ، وأنها ليست قضية جزمية ، أو قل : إنها قضية اقتضائية لا علية.

يعني أن الكافر من حيث هو كافر وبصفته كافرا لا يعبد الله.

فالكفر مقتضى لعدم عبادة الله وليس علة تامة لذلك. ويشابهه في القضايا الموجهات قولهم : الإنسان متحرك الأصابع ما دام كاتبا. أي بصفته كاتبا.

فإن قلت : إنها تكون عندئذ بمنزلة القضية بشرط المحمول. كما لو قلنا : يا أيها الكافرون أنتم لا تعبدون الله بصفتكم كافرين. فتصبح الجملة منحلة إلى عدة قضايا بشرط المحمول مثل قولنا : يا أيها الكافرون أنتم كافرون. يا من لا تعبدون الله أنتم لا تعبدون الله وهكذا.

قلت : إن المحمول يختلف عن الموضوع. لأن الكفر ليس مجرد عدم الإيمان بالله تعالى بذاته. بل هو عقائد مستقلة ، وهو معنى قائم بذاته ، له نواح إثباتية كالإيمان بموسى وعيسى عليهما‌السلام. ونواح سلبية (أو نفي)

١٣٨

كعدم الإيمان بالتوحيد وبالرسالة المحمدية وبالقرآن. وهكذا.

وهذا ما تؤكده السورة ويدل عليه سياقها. والهدف الذي قلنا إنه أنزلت السورة من أجله ، وهو المفارقة والمزايلة بين الحق والباطل.

والسياق مع القرائن المتصلة تدعم تأييد هذا الهدف ، وهو أن الكفار من حيث كونهم كفارا لا يؤمنون بالله ، والمؤمنون من حيث كونهم مؤمنين لا يعبدون الأصنام كائنا ما كان ذاك الصنم. وهو يؤيد ما روي عن «فسطاط إيمان لا كفر فيه وفسطاط كفر لا إيمان فيه».

أما قوله تعالى (١) : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية ، فهو صحيح ، سواء قصد الكلي أو الجزئي. لأن عدم الهداية يكون بمنزلة المعلول أو بمنزلة العقوبة لأفعالهم السابقة ، ومن المعلوم : أن الأكثر هنا لا يراد به ظاهرا أناس معنيون.

وأما قوله تعالى (٢) : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). فيراد به المتعصبون. وهو صادق سواء كان المراد : الجزئي أو الكلي.

فإن قلت : إنه في هذه السورة يراد المتعصبون أيضا.

قلت : يحتاج ذلك إلى قرينة وهي مفقودة.

فإن قلت : إن القرينة هناك أيضا مفقودة.

قلت : إن قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) قرينة عليه.

فإن قيل : إن ظهور «لا» بالاستقبال دال عليه.

قلنا : هذا لا يكفي لأن ظهورها بالاستقبال يكفي فيه يوم واحد. وأما استفادة التأبيد ، فهو غير محرز إلّا بالإطلاق. فنفهم من الإطلاق أمرا عقائديا مهما مخالفا للواقع. فهذا غير ممكن ، بخلاف الآيتين اللتين فيهما قرائن لفظية.

__________________

(١) يس / ٧.

(٢) يس / ١٠.

١٣٩

سؤال : لما ذا قال الله تعالى : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ولم يقل «من» مع أنه القياس؟

جوابه لعدة وجوه :

الوجه الأول : ما اختاره الرازي في هامش العكبري (١) وصاحب الميزان (٢) بما مضمونه : إن ذلك لأجل حفظ السياق اللفظي ، فلو أبدلها ب «من» لاختل السياق.

الوجه الثاني : ما ذكره الرازي (٣) أيضا من أن «ما» مصدرية أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي.

الوجه الثالث : إن قوله : ما أعبد وما تعبدون. لا يتعين فيها شيء واحد وأمر فارد. بل هو أشياء كثيرة. فنحمل العبادة هنا على معنى الطاعة فيكون المطاع عدة أمور من كلا الجانبين.

ففي جانب الكفر ، يكون المطاع : الشيطان والشهوات والأصنام وحب الدنيا والطواغيت. وغيرها.

أما من جانب الحق ، فالمطاع القرآن والوحي والتشريع والمعصومون ونحوها.

ففي كلا الجانبين هناك من يعقل ومن لا يعقل ، والمركب ممن يعقل وما لا يعقل ، لا يعقل ، لأن النتيجة تتبع أخس المقدمتين. ولذا عبر ب «ما» التي هي لمن لا يعقل.

الوجه الرابع : إرجاع الموصول إلى المعبود بصفته معبودا. لا بصفته شخصا. والسؤال إنما يتوجه باعتبار أن ما الموصولة يراد بها الله تعالى أي «عابدون الله». وفي هذا الوجه تعود إلى عنوان المعبود.

__________________

(١) ج ٢ ص ١٥٨.

(٢) ج ٢٠ ، ص ٢٧٤.

(٣) ج ٢ ص ١٥٨.

١٤٠