منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

السيد محمّد الصدر

منّة المنّان في الدفاع عن القرآن

المؤلف:

السيد محمّد الصدر


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

رابعا : الرجوع إلى عالم الروح بعد عالم المادة ، فقد يعبر عرفا ومجازا : أنه من سنخ الله. فيكون الرجوع إليه رجوعا إلى الله.

سؤال : لما ذا استعمل همزة الاستفهام ولم يستعمل هل. في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى؟).

جوابه : همزة الاستفهام لا شك أنها أولى وأبلغ. لأن هل تعطي الاستفهام الحقيقي والهمزة تعطي الاستفهام المجازي. وهو المراد من الآية. والمتكلم هنا ليس بحاجة إلى جواب.

والشواهد على الاستفهام المجازي عديدة وفي القرآن الكريم كثير منها.

قال الشاعر :

اطرب وأنت قنسري

والدهر بالإنسان دواريّ

وقال آخر :

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا مني أذو الشيب يلعب

وقال تعالى : (أَأَسْلَمْتُمْ ـ أَتَعْبُدُونَ ـ أَصَلاتُكَ ـ أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ـ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ). وغيرها.

سؤال : عن الرؤية في قوله : أرأيت. هل هي بصرية فتأخذ مفعولا واحدا أم هي قلبية فتأخذ مفعولين؟

جوابه : أنه كررت ، أرأيت ، ثلاث مرات. ومادة الرؤية متكررة خمس مرات في السورة. ويمكن أن نستنتج بالقياس الاستثنائي أن المراد منها الرؤية البصرية التي تحتاج إلى مفعول واحد. ولا حاجة لجعلها قلبية لكي نبحث لها عن مفعول ثان. ووحدة السياق تدل على ذلك فلو كان المراد منها القلبية لذكر لها مفعولا ثانيا ، وحيث لم يذكر ، إذن فهي ليست قلبية ، وهذا هو مؤدى القياس الاستثنائي.

ونقول : كمقدمة : إن هناك للرؤية انقسامين :

٤٤١

الأول : أن يكون المرئي : إما شخصا كرأيت زيدا أو صفة كرأيت زيدا عالما.

الثاني : إن الرؤية إما أن تكون مادية وإما أن تكون روحية كرؤية الجن والملائكة ، وتسمى بالبصيرة عند أهل المعرفة.

فينتج من التقسيمين أربعة أقسام :

الأول : أن يكون المرئي شخصا برؤية مادية : كرؤية زيد.

الثاني : أن يكون المرئي شخصا برؤية روحية : كرؤية جبرئيل.

الثالث : أن يكون المرئي هو الصفة برؤية مادية كرؤية طول زيد ، في قولك : رأيت زيدا طويلا.

الرابع : أن تكون الصفة المرئية روحية كرؤية علم زيد في قولك : رأيت زيدا عالما.

ويتحصل أن ثلاثة أقسام منها تنصب مفعولا واحدا ، أي أنها رؤية بصرية أو بمنزلتها. وقد أعرب النحويون المنصوب الثاني من قولنا : رأيت زيدا طويلا ، حالا وليس مفعولا ثانيا.

إذن فالرؤية التي تنصب مفعولين هي القسم الرابع فقط. وذلك بأن يجتمع الشرطان : بأن تكون الرؤية روحية وأن يكون المرئي صفة. أو قل : أن يكون المرئي صفة روحية. وإذا تخلف أحد الشرطين فإنها تنصب مفعولا واحدا.

وهنا في الآية : أرأيت الذي ينهى ، يناسب أن تكون الرؤية مادية ، لأن الناهي إن كان فردا معينا ، فرؤيته مادية ، وإن كان كليا. فكذلك ، لأن أفراده كلها مادية ، فأي واحد ينهى فهو جزئي أي مادي.

مضافا إلى أننا إذا تطلبنا جانب المعنى : فإما أن نقول : رأيت نهيه. أو رأيت صفته وهي كونه ناهيا. فإن أخذنا النهي بالمعنى المادي أي سماع الصوت ، فتكون مثل قولك : رأيت زيدا طويلا ، وإن أخذنا النهي من

٤٤٢

الجانب النفسي أي الانزجار وعدم الرغبة في الصلاة ، من قبل الناهي ، فهو معنى معنوي ، أي تكون مثل قولك : رأيت زيدا عالما.

وقوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) ، ليس المراد منه رؤية شكله ووجهه بل رؤية مستواه ، من حيث إنه متدن إلى هذه الدرجة التي ينهى فيها عن الصلاة. ورؤية المستوى هي رؤية قلبية أو روحية. ولكنها مع ذلك تنصب مفعولا واحدا ، لأنها رؤية شخص محدد وليست رؤية صفته. فتندرج في القسم الثاني من الأقسام الأربعة السابقة.

والخطاب في أرأيت يعود أساسا إلى المخاطب الحقيقي ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقلنا مكررا في مباحثنا السابقة : إنه يمكن أن يراد به كل المسلمين بل كل البشر بل كل الخلق.

ولا بد من الإشارة إلى أمر لم يلتفت إليه النحويون والمنطقيون. وهو أنه إذا عاد الضمير إلى كلي كان كليا وإن عاد إلى جزئي كان جزئيا. وكذلك اسم الموصول. كما في قوله تعالى : (الَّذِي يَنْهى).

وليس المراد من قوله : (عَبْداً إِذا صَلَّى) ، النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما عليه فهم المفسرين الضيق. فإنهم فسروا بالمورد ، والمورد لا يخصص الوارد. وهذه قاعدة مجمع عليها في جميع المذاهب الإسلامية. مضافا إلى إخبار الجري. فيتحصل أن له انطباقات عديدة على مدى الأجيال. نعم ، إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل المصاديق لأنه أفضل المصلين ونهيه عن الصلاة أفسد النهي. ولكن المصاديق تبقى مستمرة ما بقيت البشرية.

كما يمكن أن نذكر هنا أطروحة أخرى ، وحاصلها :

أن الصلاة لا دخل لها في النهي ، وإنما ذكرت في الآية لأكثر من سبب :

١ ـ لأنها مصداق خارجي مفهوم.

٢ ـ لأنها أهم فروع الدين كما ورد : «إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سهواها» (١).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، حديث ٦٤٠.

٤٤٣

٣ ـ النسق القرآني : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) إلخ.

وإنما المراد بالنهي : النهي عن كل طاعة سواء كانت في فروع الدين أو في أصوله أو يأمر بالظلم أو ينهى عن شيء من الإنسانية ونحو ذلك. والنهي عن مطلق الطاعة يكون أمرا بالبعد عن الله والقرب من الدنيا. كما لا فرق في ذلك بين النهي بالمطابقة والنهي بالالتزام ، فإن من يأمر بالدنيا يبعد عن الآخرة.

وهنا ينبغي أن نلاحظ أن قوله : اذا صلّى ، جملة شرطية ، جزاؤها محذوف ، تقديره : إذا صلّى ينهاه هذا الناهي. فيعرف الجزاء مما قبله من القرائن.

قال في الميزان (١) : وسياق الآيات ـ على تقدير كون السورة أول ما نزل من القرآن ونزولها دفعة واحدة ، يدل على صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل نزول القرآن. وفيه دلالة على نبوءته قبل رسالته بالقرآن.

أقول : يعني أن الصلاة كانت للنبي بصفته نبيا ، وإن لم يكن مرسلا إلى ذلك الحين.

وأضاف : وأما ما ذكره بعضهم من أنه لم تكن الصلاة مفروضة في أول البعثة ، وإنما شرعت ليلة المعراج على ما في الأخبار. وهو قوله تعالى (٢) : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ).

ففيه : أن المسلم من دلالتها أن الصلوات الخمس إنما فرضت بهيئتها الخاصة ركعتين ليلة المعراج ، ولا دلالة فيها على عدم تشريعها قبل. وقد ورد في كثير من السور المكية ، ومنها السور النازلة قبل سورة الإسراء كالمدثر والمزمل وغيرها ذكر الصلاة ، بتعبيرات مختلفة وإن لم يظهر فيها من كيفيتها ، إلّا أنها كانت مشتملة على تلاوة شيء من القرآن والسجود.

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٢٥.

(٢) الإسراء / ٧٨.

٤٤٤

أقول : إنه مما يدفع وينفي فهمه هذا هو أن أحدا لم يكن ينهاه عن تلك الصلاة ، بل لم يكن أحد يراه ، وهو يصلي في غار حراء. ولم يكن يصلي في مكان آخر. والسياق واضح في مناقشة النهي عن الصلاة. وهو إنما كان بالصلاة أمام الكعبة. إذن ، فلا بد من التنزل عن إحدى المقدمتين : أما نزول السورة في أول البعثة ، أو نزولها دفعة واحدة ، فإن الوارد تاريخيا هو نزول أولها وليس نزول جميعها.

إلّا أن يقال : بأن سياقها واحد ، وآياتها مترابطة ، وبذلك يبعد الظن بوجود الفاصل الزمني ، وهذا دلالة على نزولها الدفعي. فيتعين أنها لم تكن نازلة في أول البعثة. وإن دل على ذلك خبر ، فإنه على خلاف ظاهر القرآن ، فلا يكون حجة.

فإن قلت : إن الدلالة على نزولها أول البعثة بدليلين :

الأول : الخبر التاريخي بذلك ، وهو وإن كان عاميا ، لكن المتشرعة قد تسالموا على صحته وأخذوا به.

الثاني : إن لفظ اقرأ فيه إشعار بذلك. أي اقرأ الرسالة المحمدية ، أو اقرأ ما ترسل به من الآن فصاعدا. وظهور القرآن حجة.

قلت : لا يتم ذلك لأكثر من وجه :

أولا : إنه ليس هناك خبر تسالم المتشرعة على صحته حول ذلك. وإنما سكتوا عنه لمجرد كونه محتمل الصحة ، كما ورد : ما طرق سمعك فذره في ساحة الإمكان حتى يذودك عنه ساطع البرهان.

ثانيا : إن متعلق القراءة ليس بالضرورة الرسالة المحمدية كلها ، بل يراد بها القراءة في الجملة ، بنحو القضية الجزئية التي تصدق على القليل والكثير. أي اقرأ هذه السورة أو اقرأ القرآن ، ونحو ذلك.

فبالإمكان أن نقول : إن السورة لم تنزل في أول البعثة ، بل ظاهرها هكذا. لوجود النهي عن الصلاة فيها. وبذلك نضرب الرواية الدالة على ذلك عرض الجدار. لأنها خلاف ظاهر القرآن ، وكل ما خالفه لم يكن حجة.

٤٤٥

كما يحتمل أن نستغني عن المقدمة الثانية ، وهي أنها نزلت دفعة واحدة ، بأن نقول : إن قوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) ... إلى آخر السورة نزل متأخرا.

إلّا أن هذا لا يتم لأن هذه الآية وما بعدها نحو جواب عن الآيات التي سبقتها. فتوجد دلالة على أن السورة مترابطة في المعنى والسياق. وآخرها مربوط بأولها. فلا يمكن أن تنزل الآية المذكورة ، بعد سنتين ، وتكون مع ذلك مترابطة ، وجوابا عما قبلها. فهي إذن نازلة دفعة واحدة ، فلا يمكن أن تكون نازلة في أول الوحي.

إن قلت : يمكن أن نؤول الناهي من كونه أحد مشركي العرب كأبي جهل أو أبي لهب ، إلى أمر آخر كالشيطان أو النفس الأمارة بالسوء.

قلت : إننا نتحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو معصوم عن تأثير الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.

إن قلت : إنكم قلتم بأن «عبدا» ، غير متعين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل يراد منه مطلق الناس ، فيناسب أن تكون السورة نازلة في أول البعثة. لأن المقصود غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي لم ينهه أحد عن الصلاة.

قلت : كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينه عن الصلاة ، كذلك لم ينه أحد غيره ، فإنه لم ير أحد قد صلّى لكي ينهون.

فإن قلت : نفهم من الصلاة مطلق الطاعة ، وهي موجودة على طول البشرية ، والنهي عن الطاعة موجود من قبل البشر أو من قبل الشيطان أو من النفس الأمارة ، لأننا الآن نفهم منها معنى كليا لا شخصيا. فلا بأس أن تكون نازلة عند أول الوحي.

قلت : قالوا : إن الطاعة لم تكن موجودة في ذلك الحين ، لأن الأوامر والنواهي إنما تكون في فروع الدين ، والدين في ذلك الحين كان على النصرانية والحنيفية ، وكلاهما في أصول الدين ، لا في فروعه.

فإن قلت : إن الحنيفية فيها فروع من فروع الدين ، فقد ورد أن الحنيفيين

٤٤٦

لم يسرقوا ولم يشربوا الخمر ولم يحلوا سراويلهم على حرام. كحمزة سيّد الشهداء وأبي طالب وغيرهم. وكل ذلك من فروع الدين.

قلت : هناك فرق مفهومي بين النهي عن الطاعة كالصلاة ، والأمر بالمعصية كشرب الخمر. وما تعرضت له الآية الكريمة هو النهي عن الطاعة وليس الأمر بالمعصية. ولم تكن هناك طاعات واجبة عليهم لكي يكون النهي متوجها إليها. وأما الفروع المذكورة ، فإنما كانت من قبيل التروك للحرام لا الفعل للواجب. فلا يتعين أن تكون السورة منزلة في أول الوحي.

سؤال : عن تكرار الفعل : (أَرَأَيْتَ) في الآيتين : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

قال في الميزان (١) : والمفعول الأول لقوله : (أَرَأَيْتَ) الأول : قوله : (الَّذِي يَنْهى). أقول : وهو اسم كان أيضا ، إما بكونه مقدرا أو مضمرا أو مستترا. يعني إن كان هو. والمراد به : الذي رأيته ينهى. وسيأتي الكلام فيما إذا كان بالإمكان التفكيك بينهما.

وقال أيضا : ول أرأيت الثالث ضمير عائد إلى الموصول. أقول : مرجع الضمير في أرأيت الأول والثالث : هو هو. وهو الناهي أيضا.

وأضاف قدّس سره : والمفعول الثاني ل أرأيت في المواضع الثلاثة قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى).

أقول : وهذا واضح الفساد لأكثر من أمر واحد :

أولا : لإمكان حملها جميعا على الرؤية البصرية نحويا. فلا نحتاج إلى مفعول ثان.

ثانيا : إن قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ، جملة وردت مرة واحدة. ولا يمكن أن يعمل فيه عوامل متعددة دفعة واحدة. بل كل واحد يحتاج

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٢٦.

٤٤٧

إلى مفعول مستقل غير صاحبه. فهذه الجملة إن صلحت مفعولا ، فإنما هي للفعل الذي تليه فقط.

فإن قلت : إنه مقدر في الاثنين الآخرين ، من قوله : أرأيت ، مثله.

قلت : إن التقدير يكون مع المتأخر لا مع المتقدم ، وهنا ـ في الآية ـ بالعكس ، فلا يصلح التقدير.

ثالثا : إنه لم يعهد في اللغة أن تكون الجملة مفعولا به. وإن كانت قد تكون حالا أو معطوفة ، إلّا أنها لا تكون مفعولا به أو تمييزا.

نعم ، يصلح أن يكون قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ) جوابا عن أحد أمرين :

أحدهما : أن يكون جوابا ل أرأيت الأخير ، وهو الأقرب إليه لفظا. مع التنبيه على أن أرأيت السابق يشبهه في هذا الصدد.

ثانيهما : كلا الأمرين : النهي عن الصلاة والتكذيب معا. وهو متعد إلى مفعول واحد. ولو كان متعديا إلى مفعولين أمكن تقديرها من القرائن الموجودة : أرأيته ناهيا أو مكذبا أو عاصيا.

سؤال : أنه مع التنزل عن كون الرؤية بصرية ، وقلنا إنها قلبية تحتاج إلى مفعولين ، كما أخذ ذلك الطباطبائي مسلما ، فما هو مفعولها الثاني؟

جوابه : نعرف ذلك من حذف المفعول الثاني. لأنها لو كانت قلبية ، لأخذت مفعولا ثانيا ، وحيث إنها لم تأخذه إذن فهي بصرية. وظاهر القرآن أنها بصرية.

ومع التنزل عنه نقول : إن المفعول الثاني مقدر. والتقدير : أرأيته ناهيا أو مهتديا أو آمرا بالتقوى. وكذلك أرأيت الثالثة يكون تقديره فيها : أرأيته مكذبا ومتوليا.

وفي هذا الاحتمال الأخير يمكن أن نقول ـ كأطروحة ـ : إن إن وردت بالكسر في القراءة المشهورة. ولكن قد تكون هناك قراءة بكونها مفتوحة : أن كذب وتولّى. فتسبك مع ما بعدها بمصدر ، وهو بمنزلة المفرد فيكون مفعولا ثانيا.

٤٤٨

ثم قال في الميزان (١) : وقيل : المفعول الأول ل أرأيت في جميع المواضع الثلاث هو الموصول أو الضمير العائد إليه.

أقول : أي إن الرأي بأن أرأيت الأولى مفعولها : الذي وأ رأيت الثالثة مفعولها الضمير العائد إليه. وكلاهما يراد بهما الإنسان الطالح. والمفعول ل أرأيت الثانية يعود إلى الإنسان الصالح.

هذا يخالف وحدة السياق : إذ يقال : إن أرأيت الثلاثة ذات سياق واحد. فهي متشابهة من حيث الأوصاف ما لم يدل دليل على خلافه. إذن فالمراد من مفاعيلها الثلاثة واحد ، وهو الإنسان الطالح لا الصالح. وتقريبه : إن الأولى والثالثة : تعود إلى الإنسان الطالح. وأما الثانية فنشك بعود الضمير إليه ، فنلحقه به باعتبار وحدة السياق. أو قل : نلحقه بالأعم الأغلب ، فتكون كلها تعود إلى الطالح.

إن قلت : ولكن قوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) : فيها صفات تعود إلى الإنسان الصالح. فكيف يناسب أن يكون الضمير عائدا إلى الذي ينهى عن الصلاة وهو موصوف بالتقوى؟! أجاب الطباطبائي (٢) بما محصله : أن المعنى يكون : أرأيت هذا الذي ينهى عن الصلاة إن كان مهتديا ومتقيا ، فكيف ينبغي أن يتصرف. وهل ينهى المصلين عن صلاتهم؟ فيستقيم المعنى. وتكون وحدة السياق مثبتة لوحدة الضمائر ووحدة العائد.

أقول : هذا مطعون صغرى :

أولا : أن ننكر وحدة السياق للبعد اللفظي.

ثانيا : مع التنزل عن ذلك والقبول بوحدة السياق ، فإنها قرينة ظنية. فإذا كان الدليل على خلافها نأخذ به ، وهو موجود في هذا الصدد. أي إن الضمير في أرأيت الثانية لا يعود إلى الطالح بل إلى الصالح ، وهو

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٢٦.

(٢) المصدر والصفحة.

٤٤٩

أنسب مع الظهور القرآني ، فتسقط قرينية وحدة السياق.

سؤال : عن المفعول به لقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى). فإن مادة الرؤية هنا لم يقدر لها أي مفعول. وهي تأخذ مفعولا واحدا على أقل تقدير. وهو محذوف. فضلا عما إذا كانت تأخذ مفعولين.

أما المفعول الأول فهو مما لا بد منه ، وهو مقدر لا مضمر أي يراه. أو قل : يرى عمله. وهذا أكيد.

ولكن يبقى السؤال عن الرؤية ، هل هي بصرية أم قلبية؟

ظاهره أن الله يرانا. فهي إذن بصرية ، ولا تحتاج إلى مفعول ثان. ولكن علماء الكلام لا يقبلون بهذا الجواب. لأنهم يقولون إن الله ليس له جارحة لكي يرى كما نرى. وهذا في نفسه صحيح. ولكن علم الكلام لا ربط له بعلم النحو. فمن حيث كونه مطلبا نحويا نقول : إن يرى تكون في نسبتها إلى كل راء. على حد واحد. أي أنه يرى كما نرى وإلّا لحصل النقض في كثير من الخلق كجبرائيل والجن. لأنهم ليسوا بجسم أيضا.

فالرؤية هنا بصرية أو بمنزلتها. وتأخذ مفعولا واحدا.

ومع التنزل وقبول كونها قلبية ، فلا بد من التقدير أي يراه مكذبا أو عاصيا أو ناهيا عن الصلاة ، ونحو ذلك.

ثم إن متعلق النهي في قوله : ينهى عبدا إذا صلّى هو الصلاة ، وهو وإن كان في اللفظ مطلقا ، إلّا أن إطلاقه غير محتمل.

ثم إن جواب الشرط لقوله : إن كان على الهدى محذوف نعرفه من السياق : فإن كان المفعول لقوله أرأيت التي قبلها هو العبد المصلي ، فيكون المعنى : لا تنهه عن الصلاة ، أو لما ذا تنهاه؟

وإن كان المفعول هو الناهي : فيكون المعنى ما أشار إليه في الميزان وهو ما ذكرناه من أنه إذا كان مهتديا ومتقيا ، فكيف يجوز له أن ينهى المصلين عن صلاتهم.

٤٥٠

وأما التفكيك بين مفعول أرأيت واسم كان بأن يكون المفعول هو الناهي واسم كان هو المصلي. فهذا غير محتمل ، فإن وحدة السياق هنا قطعية والضمير يرجعان إلى مرجع واحد.

فمن جملة ما يمكن أن نقول : إن اسم كان ضمير راجع إلى الصالح قطعا. وبوحدة السياق رجع مفعول أرأيت إلى الصالح أيضا. وأما أن نقول : إن اسم كان قد لا يعود إلى الرجل الصالح. فنرجع الضميران إلى الطالح معا. وتبقى وحدة السياق.

وقوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى). فيه إرجاع للضمير إلى أي حد. حتى المصلي إذا حصل منه التكذيب بعد ذلك. ولهذا مبررة ، وهو قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) فالناهي كلي والمنهي كلي. أو قل إنه ضمير كلي يعود إلى مرجع كلي. فأي إنسان إن كذب فينبغي أن يعلم بأنه تحت إشراف الله ونظره. وهذا معنى راجع إلى الخلق ، وليس إلى البشر فقط.

وقوله تعالى : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ). جواب لسؤال أو ما هو بمنزلة السؤال. وهو قوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى). جوابه الأول قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى). والجواب الآخر قوله تعالى : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ). أو نقول : إنه جواب الجواب ، أو نقول : إنه صعود في الجواب وتشديد في التهويل ، فالله تعالى لا يراه فقط ، بل ينزّل عليه بلاء وعقوبة في الدنيا والآخرة.

والمعنى لئن لم ينته عن عمله ، وهو نهيه للمصلين ، فسوف نعاقبه ... لنسفعا بالنّاصية.

وهناك نحو من التشابه بين مادتي النهيين ـ قلما يلتفت إليه ـ فهو يجب أن ينتهي عن النهي عن الصلاة. أو عن مطلق العصيان ، بعد التجريد عن الخصوصية في النهي والصلاة معا.

ومتعلق النهي هنا غير مذكور. (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عن أي شيء؟ بل يراد

٤٥١

المقدر. وهو النهي عن الصلاة أو عن عمله الشائن أو عن مطلق الضلال.

سؤال : إن نهى من النهي وانتهى من الانتهاء وهو الوصول إلى النهاية. فهما مادتان مستقلتان لغة. فما ذا يكون معنى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ؟).

جوابه : كلاهما من النهاية : تقول : انتهيت إلى أمرك. أي أطعتك. فالمعنى : لئن لم ينته إلى الأمر الذي نأمره به فله العقوبة الكذائية. أو نقول : ثانيا : إن النهي لأجل الزجر عرفا. والزجر يوجب انتهاء العمل السابق المنهي عنه ، والبداية بالعمل اللاحق.

فإن قلت : إن الأمر ليس كذلك ، وذلك لأن النهي يتعلق بإيجاد العمل ، فيتبدل إلى الترك. لكن الأمر يتعلق بتبديل العدم إلى الوجود. فما الذي ينتهي هنا؟

قلت : هذا له تفسيران :

الأول : إنه كما ينتهي الفعل بالنهي عنه ، كذلك ينتهي الترك بالأمر به.

الثاني : وهو تفسير مجازي وهو أن نتصور أنه يسير على طريق ، فينتهي الطريق به إلى إطاعة الأمر. ولذا يقال : انتهيت إلى أمرك.

وعلى أي حال يكون المعنى : إذا لم ينته عن نهيه عن الصلاة. أو نقول : إذا لم ينته عند نهينا عن نهيه عن الصلاة. وكل ذلك صادق.

ولا بد أن نلتفت : إلى أن هذا السياق يحتوي على عدة تأكيدات على عقوبة العاصي. وهي :

١ ـ التهديد برقابة الله سبحانه. وهو قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى).

٢ ـ التهديد بالعقوبة من شكل آخر. وهو قوله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ).

٣ ـ قوله : كلّا.

٤ ـ لام التأكيد الداخلة على الجملة الشرطية في قوله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ).

٥ ـ لام : لنسفعا. وهي للتأكيد أيضا.

٦ ـ نون التوكيد الخفيفة في قوله : (لَنَسْفَعاً).

٤٥٢

٧ ـ سياق العموم الذي يفيد التهويل. وهو قوله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) ، ولم يقل بناصية. فهو معنى كلي لأجل الإيحاء بالتهويل والشدة. كما أنه يفيد العموم لكل فرد ، ولا يراد به فرد معين.

سؤال : لما ذا كتبت النون في قوله : (لَنَسْفَعاً) بالألف؟

جوابه : الحقيقة أن في كتابة المصحف إجحافا كثيرا. وذلك لأن كتبة القرآن لم يكونوا على معرفة بقواعد الخط ، فكتاباتهم للقرآن إنما هي حسب ما يملكونه من ثقافة واطلاع. ونحن لا ينبغي أن نتعبد بكتابة الخاطئين ، فإنها ـ على أية حال ـ ليست من عمل المعصومين عليهم‌السلام.

وهنا قد أصبح في نظر الفرد الاعتيادي أن صوت نون التوكيد الخفيفة في : لنسفعا مثل نون التنوين المنصوب في الأسماء مثل : زيدا وأرضا وسماء. فحسبوها تنوينا فكتبوها مثله. أو حسبوا أن كل نون ساكنة تكتب بالألف. وكلاهما خاطئ.

قال العكبري (١) : قوله تعالى (لَنَسْفَعاً). إذا وقف على هذا النون أبدل منها ألف لسكونها وانفتاح ما قبلها.

أقول : كأن هذا نحو اعتذار عن كتابة المصحف بالألف. ولكنه قابل للمناقشة بأمرين :

الأمر الأول : إنها عندئذ ينبغي أن تكتب نونا وتقرأ ألفا عند الوقف. فالألف إنما هو نطقي وليس كتابيا.

الأمر الثاني : إن الوقف هنا غير مفروض في قراءة الآية. وهناك مواضع كثيرة في الآيات غير قابلة للوقوف عليها ، وإنما هي تقع في الدرج دائما. وهذا منها. وهذا يعني أن الوقوف عليها خطأ عرفا ، إذن فانقلابها إلى ألف خطأ عرفا أيضا.

__________________

(١) ج ٢ ، ص ١٥٦.

٤٥٣

سؤال : عن معنى السفع وعن معنى النّاصية؟

قال الراغب (١) : السفع الأخذ بسفعة الفرس أي سواد ناصيته. قال تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ). وباعتبار السواد قيل للأثافي سفع. وبه سفعة غضب اعتبارا بما يعلو من اللون الدخاني وجه من اشتد به الغضب. وقيل للصقر : أسفع ، لما به من لمع السواد. وامرأة سفعاء اللون (أي سمراء أو شديدة السمرة).

وقال أيضا (٢) : النّاصية قصاص الشعر ، ونصوت فلانا وانتصيته وناصيته أخذت بناصيته وقوله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها). أي متمكن منها. قال تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. ناصِيَةٍ). وحديث عائشة : ما لكم تنصون ميتكم. أي تحدون ناصيته. وفلان ناصية قومه كقولهم : رأسهم وعينهم. وانتصى السفر : طال.

أقول : فلا يراد به في الآية الكريمة قصاص الشعر بالذات أو الشعر بالضبط. بل المراد به ـ مجازا ـ إما الجبهة ، وإما الوجه كله ، وإما الرأس كله ، وإما الإنسان كله.

والسفع هو إيجاد السواد ـ كما عرفنا ـ فيكون معنى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) في عدة أطروحات :

أولا : سواد الشعر النازل على ناصيته أو من ناصيته. وهذا غير محتمل. لسياق الغضب والعقوبة ، وهذا ليس منها.

ثانيا : التهديد بالبلاء الدنيوي من فقر أو مرض أو أية شدة ، فيضعف الجسد ويسود لونه. وهذا يلازم لسواد الوجه عادة.

ثالثا : أن يسود وجهه من الضرب الشديد. أما في الدنيا أو القبر أو في عالم آخر. فهو سفع.

__________________

(١) المفردات مادة : «سفع».

(٢) المصدر مادة : «نصا».

٤٥٤

رابعا : أن يدخل النار ، فيسود وجهه من الاحتراق أو من الدخان.

خامسا : المراد بها حمرة الغضب. فغضب الفاسق يدخله في بلاء لا يرتاح منه ، أو يصبح في صعوبة نفسية إلى حد يصبح في وجهه سفع. وهذا لا يحصل لكل أحد ، بل يحصل لمن ليس له تسليم ورضا بقضاء الله وقدره. وهو دأب الفاسق الفاجر.

سادسا : أن يسود وجهه في الدنيا. فإن المؤمن في وجهه نور الإيمان ، والفاسق في وجهه ظلام وسواد. قال تعالى (١) : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً). وقال (٢) : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

وقال في الميزان (٣) : قال في المجمع : السفع الجذب الشديد. يقال : سفعت بالشيء إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا.

أقول : إنه ـ قدّس سره ـ تمسك بمعنى الأخذ ، وأهمل معنى السواد تماما. وفرقه عن كلام الراغب أمران :

الأول : أننا ينبغي أن نقيد كلام اللغويين بعضه ببعض ، فنقول : هو أخذ مع حصول السواد ، فيكون كلاهما عنصرا في معنى السفع.

الثاني : إننا قلنا في المقدمة ، إننا ينبغي أن نأخذ التفاسير اللغوية التي تكون أسبق رتبة من القرآن الكريم ، يعني الأمور التي ذكرها اللغويون بغض النظر عن الآيات القرآنية. وأما ما كان متأخرا رتبة عن الآية ، فلا نأخذ به ، وإنما يكون الرأي خاصا بصاحبه ، وليس حجة على غيره ، فكذلك الحال في الرأي الذي نقله صاحب الميزان عن المجمع.

وقوله : (ناصية) الثانية من الناصية (الأولى). وقوله : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ

__________________

(١) يونس / ٢٧.

(٢) النور / ٤٠.

(٣) ج ٢٠ ، ص ٣٢٦.

٤٥٥

خاطِئَةٍ) ، بمنزلة بيان التسبيب للعقوبة. أو تعليل للسفع. وقوله : كاذبة : نعت لناصية. وقوله خاطئة : نعت ثان لناصية أو نعت لكاذب.

فإن قلت : بالنسبة إلى تعليل العقوبة ، أليس السبب مبينا في السياق السابق ، فلا حاجة إلى بيان سبب جديد فلما ذا قال : كاذبة خاطئة؟

جوابه : من عدة وجوه :

أولا : التأكيد لما سبق.

ثانيا : بيان أن ما فعله من أمور هي كذب وخطأ.

ثالثا : إن أفعاله إنما تنشأ من النفس الأمارة بالسوء ، فناصيته كاذبة وخاطئة. يعني كله كاذب وخاطئ. حينما تحثّه نفسه على نهي المصلي عن الصلاة.

قال في الميزان (١) : وفي توصيف الناصية بالكذب والخطأ ، وهما وصفا صاحب الناصية ، مجاز.

أقول : لا بد من الإشارة إلى أمرين :

الأمر الأول : فيما يخص لفظ التوصيف. فقد استعملها الكثير من علماء الأصول ، وخاصة من غير العرب ، بالرغم من عدم ورودها في اللغة العربية ، وإنما ورد لفظ : وصف ... بدلها من وصف يصف وصفا. وتوصيف رباعية (أو مزيدة) لا يوجد لها فعل خاص بها.

ولكن الحق معهم ، إلى حد ما ، لأجل التدقيق في التعبير. وذلك : لأن الوصف كاسم مصدر يراد به نفس الصفة الخارجية كاللون. والتوصيف ، كمصدر ، يراد به أحد أمرين :

الأول : جعل الصفة على الموصوف ثبوتا ، كما لو صبغ الثوب باللون الأحمر.

__________________

(١) ج ٢٠ ، ص ٣٢٦.

٤٥٦

الثاني : الوصف الإثباتي ، أي بيان صفته والتعبير عنها.

فالصعوبة إنما تحصل في اللغة العربية ، فيما إذا جاء لفظ الوصف كمصدر ، لأنه يحصل منه الاشتباه بين الأمرين الثبوتي والإثباتي.

فجيء بلفظ : التوصيف ليكون دالا على المعنى الإثباتي. أي بيان الصفة. ويبقى لفظ الوصف للمعنى الثبوتي. وهذا نحو اعتذار لهم.

ولكن ذلك ـ في نفسه ـ لا يصلح ، أن يكون جوابا لهم لأمرين :

أحدهما : لعدم وروده في اللغة. واللغة توقيفية ، كما عليه مبني المشهور ومبناهم.

ثانيهما : إن ظاهر لفظ الوصف ، هو الجانب الإثباتي ، وهو بمعنى التوصيف ، في قصدهم. فقولنا : وصفه. لا يعني : لوّنه بالبياض ، بل بمعنى أنه بيّن أنه أبيض. فالوصف مشعر بالإثبات لا بالثبوت. إذن يكون لفظ الوصف مغنيا عن لفظ التوصيف. مع كونه أفصح منه.

الأمر الثاني : (حول عبارة السيد الطباطبائي) :

إنه قد يرد إشكال من ناحية ظهور القرآن الكريم ، وحاصله : أن الكاذبة والخاطئة أصبحا وصفين للناصية ، وهي لا تكون كذلك لأنها جزء من الإنسان. فما المراد منها حينئذ؟

جوابه : أحد أمرين :

الأول : أن يراد به ذو الناصية ، أي الإنسان ، وتكون النسبة بين الوصف والموصوف مجازية.

الثاني : أن يراد بالناصية الإنسان ابتداء ، حقيقة لا مجازا.

فإن قلت : ولكن هناك قرائن متصلة تدل على أن المراد من الناصية جزء الإنسان لا كله. وهما اثنتان :

الأولى : قوله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) ، أي بالجبهة أو قصاص الشعر ، لا الإنسان كله. فتكون قرينة بوحدة السياق على أن المراد بالناصية الثانية هي

٤٥٧

جزء الإنسان أيضا. وليس كله.

الثانية : وجود التأنيث في قوله : (كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ). لأنه لو أراد الإنسان كله لذكره مذكرا ، لا مؤنثا.

قلت : كلتا القرينتين فاسدتان :

أما القرينة الأولى : فجوابها أحد أمرين :

الأمر الأول : أن نقول : إن الناصية يراد بها كل الإنسان ، وأن السفع والضرب يكون على كل البدن مضافا إلى كونه على الوجه. وكذلك سواد القلب يشمل كل الجسم والنفس ، وليس الوجه فقط. إذن ، فالإنسان كله مسفوع وليس وجهه فقط ، بأي معنى من معاني السفع أخذناه.

الأمر الثاني : أن نقول : إن المراد من الناصية جزء الإنسان ، ولكن ننفي وحدة السياق وهي قرينة ظنية ، فتكون معتبرة ما لم تقم قرينة أخرى على خلافها.

والأمر هنا كذلك ، فإن القرينة على أن المراد بالناصية الثانية الإنسان ، وإن كان المراد من الناصية الأولى جزء الإنسان. وذلك كما قال في الميزان : لتوصيف الناصية بأنها كاذبة وخاطئة. والناصية التي هي جزء الإنسان لا توصف بأنها كاذبة وخاطئة.

فيكون المراد من الناصية الثانية الإنسان ، وإن كان المراد من الناصية الأولى جزء الإنسان ، ولا ملازمة عقلية أو عرفية بينهما.

وبتعبير آخر : إن هناك تعارضا بين قرينتين متصلتين بين قرينة وحدة السياق المنتجة لأن تكون الناصية جزء الإنسان. والقرينة المنتجة بأن الناصية كل الإنسان. فنأخذ بالأهم والأظهر وهي الثانية ، وهي الوصف بكونها : كاذبة خاطئة. وتسقط وحدة السياق. ويكون المراد بالناصية الثانية كل الإنسان ، لا جزأه ، بل قد يراد بالناصية الأولى ذلك أيضا.

وأما (القرينة الثانية) وهي كون التأنيث يدل على جزء الإنسان لا كله.

٤٥٨

ففيها أكثر من جواب :

أولا : إن التأنيث ضروري لأجل تأنيث المرجع أو الموصوف. فإن ناصية مؤنثة فتؤنث صفتها. وأما أن يكون معناها مذكرا ، فهذا خارج عن حدود اللفظ. فإن اللفظ يتبع اللفظ والمعنى يتبع المعنى. ولا ربط أكيد بينهما بحسب التوقع.

ثانيا : إن التذكير والتأنيث بالنسبة إلى المؤنث المجازي ، ينبغي أن يكون بالاختيار ، وليس ثمة شيء حقيقي في اللغة. ولو ثنيت لنا الوسادة لجعلناه خنثى ، كما هو الحال في بعض اللغات (١). فاللغة العربية قاصرة من هذه الناحية. ولفظ الناصية مؤنث مجازي سواء أريد به الجبهة ، أو أريد بها الفرد أو أريد بها كلي الإنسان الخاطئ الفاجر. فيكون عود الضمير المؤنث إليه غير دال على كون مرجعه مؤنثا.

ويمكن القول ، كما قلنا في أمثاله : بأن المراد هو الكلي ، والكلي بمنزلة الجمع. والجمع بالارتكاز العربي أقرب إلى التأنيث. فيكون الأرجح فيه ، بهذا الاعتبار وغيره ، أن نعيد الصفة إليه مؤنثة لا مذكرة.

سؤال : فإذا كان الأمر كذلك ، فهل يكون الإنسان كاذبا خاطئا؟

جوابه : لأكثر من وجه :

الوجه الأول : إن الكذب والخطأ إنما هو صفة الكلام والحديث ، وليس صفة للإنسان ككل. وإنما يرجع إليه مجازا. فهو صحيح على وجه المجاز.

الوجه الثاني : إن الإنسان ككل ، قد يوصف بمثل ذلك ، باعتبار استيعاب سلوكه وحديثه للكذب والخطأ ، وكثرة هذه الصفة له ، فيكون كله كاذبا خاطئا. بحيث تصح النسبة إلى أصل وجوده.

__________________

(١) وهي الألمانية على ما قيل : بأن لديهم ثلاثة أنواع من الضمائر. مذكر للمذكر الحقيقي ومؤنث للمؤنث الحقيقي وقسم ثالث لما لا يكون مذكرا ولا مؤنثا وسميناه هنا بالضمير الخنثى. ولا نعلم ما يقابل اصطلاحهم باللغة العربية.

٤٥٩

سؤال : إن النهي إنشاء والإنشاء لا يتصف بالصدق والكذب ، فلما ذا سمي النهي عن الصلاة كذبا؟

وجوابه : أنه لا بد من التنزل عن إحدى الدلالتين المطابقيتين :

فإما أن نتنزل عن ظهور قوله : ينهى ، في أنه نهي حقيقي إنشائي. بل نحمله على مجرد الزجر عن الصلاة ، بخبر أو إنشاء.

وإما أن نتنزل عن ظهور كاذبة ، ونفسره بشكل قابل للانطباق على الإنشاء ، ولو مجازا. باعتبار أن منشأه وسببه ضلال وباطل. فهو كاذب لأنه غير مطابق للواقع.

مضافا : إلى إمكان المناقشة. يكون الموصوف هو مادة النهي ليرد الإشكال باعتبار كونه إنشاء. بل الموصوف هو الناصية أو الإنسان ، فلا إشكال.

سؤال : عن الفرق بين كاذبة وخاطئة. أو قل : ما وجه الجمع بينهما؟

جوابه : إن الفرق اللغوي والعرفي بينهما واضح ، وهو أن الكذب عند التعمد والخطأ عند عدم التعمد.

فإن قلت : إن ذلك غير مناسب مع السياق ، لأن قوله : الذي ينهى عبدا إذا صلّى أي متعمدا ، فينبغي أن يوصف بالكذب لا بالخطإ.

قلت : جوابه لأكثر من واحد :

فإما أن نقول : إن الخطأ وإن كان ظهوره اللغوي في عدم العمد ، إلّا أننا يمكن أن نعطي له معنى جامعا ، وهو مطلق عدم المطابقة للواقع ، سواء كان عمدا أم سهوا أو نسيانا ونحو ذلك. فيكون كلا المعنيين مناسبين مع سياق الآية ، ويكون تكراره للتأكيد.

وإما أن نقول : إن كاذب هو صفة للرجل الذي ينهى عن الصلاة ، والله تعالى يريد أن يتوسع في مدلول الآية ، لأن الضالين ينقسمون إلى قسمين : كاذب وخاطئ ، أي متعمد ومشتبه أو قاصر ومقصر.

٤٦٠